الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ» ..
فلتذهب هذه الحياة غير مأسوف عليها.. فإن لنا حياة أخرى، أفضل، وأكرم.. إنها حياتنا الآخرة.. والآخرة خير وأبقى..!
«إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ» ..
إننا بإيماننا هذا نفتح طريقا من النور وسط هذا الظلام الكثيف، فيهتدى بنا الضالون الحائرون.. وبهذا نطمع في مغفرة ربنا، لما كان لنا من خطايا في السير معك على طريق الضلال..
ثم ينتهى هذا المشهد، ويخيل للمشاهد أن المعركة قد انتهت.. وأن فرعون قد جمع وجوده الممزّق، وجرّ وراءه فلّه المهزوم.. ولكن الأحداث تتصل، وتأخذ مسرحا آخر غير هذا المسرح.. كما سنرى في الآيات التالية..
الآيات: (52- 68)[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
قالَ كَلَاّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
التفسير:
لم تكن تلك المعركة التي أقامها فرعون بين موسى والسحرة، والتي انتهت بتلك الهزيمة المنكرة للسحر والساحرين- لم تكن هذه المعركة، لتحسم الموقف بين موسى وفرعون، فما زاد فرعون بعدها إلا كفرا، وكبرا، واستعلاء، وإلا ضراوة وبغيا وعدوانا على بني إسرائيل..!
وإذا لم يكن في هذه الحرب السافرة، وفي الآية الكبرى التي رآها فرعون رأى العين، ما يقيم له دليلا على أن موسى مرسل من ربّ العالمين، وأن سلطان هذا الربّ سلطان عظيم، يخضع له كل ذى سلطان- فقد قامت من وراء هذه الحرب حرب خفية، لا يرى الناس مشاهدها، ولكن يشهدون آثارها..
إنهم لا يرون سيوفا تسلّ، ولا حرابا تشرع، ولكن يرون رءوسا تقطع، وجراحا تفور، ودماء تسيل، وأشلاء تتمزق وتتطاير..!
فلقد سلّط الله على فرعون وملائه ألوانا من البلاء، وصب عليهم مرسلات من النقم، وأخذهم بها حالا بعد حال، وواحدة بعد أخرى.. فما استكانوا، وما تضرّعوا، وما لانت منهم القلوب، ولا استنارت البصائر.. وفي هذا يقول الله تعالى: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ. فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ»
. (130- 133: الأعراف) ..
وكان فرعون كلّما نزلت به نازلة طلب إلى موسى أن يدعو إلهه بأن يرفع هذا البلاء، وفي مقابل هذا سيؤمن به فرعون، ويرسل معه بني إسرائيل..
وفي هذا يقول الله تعالى: «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى: ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ» (134: الأعراف) .
ولكن ما إن يرفع البلاء، وتسكن العاصفة، حتى يعود فرعون إلى سيرته الأولى، فيصب على بني إسرائيل نقمته ويزيد في قهرهم وإذلالهم، ضراوة وقسوة.. «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» (135: الأعراف) .
فيشتد بهذا البلاء على بني إسرائيل، وتزداد محنتهم، كما يقول الله تعالى على لسانهم إلى موسى:«قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» (129: الأعراف) .
وفي ضوء هذا نستطيع أن نفهم قوله تعالى:
«وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» .. وأن هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى إلى موسى، لم يكن بعد التقاء السحرة بموسى
وإيمانهم به مباشرة. وإنما كان ذلك بعد زمن، رأى فيه فرعون هذه الآيات من النقم والبلايا. حتى إذا بلغ الكتاب أجله، أمر الله موسى أن يسرى بقومه ليلا وأن يخرج بهم من مصر.
- وفي قوله تعالى: «إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» إشارة إلى أن يأخذ موسى وقومه حذرهم، وأن يخرجوا من مصر في خفية وحذر، فإن عيون فرعون ترقبهم، ولهذا جاء الأمر بأن يكون خروجهم ليلا، من غير أن يراهم أحد..
قوله تعالى:
لقد كان فرعون في أثناء هذه البلايا التي صبت عليه- يعدّ العدة ليضرب بني إسرائيل ضربة قاضية، فأرسل رسله في البلاد يغرون الناس ببني إسرائيل، ويحذرونهم الشر الذي ينجم عن وجودهم بينهم، وأن هذه الجماعة، وإن كانت شرذمة، أي جماعة مفرقة، متناثرة هنا وهنا- إلا أنه يجب الحذر منها، والانتباه إلى خطرها..
قوله تعالى:
يكاد يجمع المفسرون هنا على أن إخراج فرعون وقومه من هذه الجنات والعيون، إنما كان بغرقهم وهلاكهم، حين تبعوا بني إسرائيل، وعبروا وراءهم البحر، فأطبق عليهم وأغرقهم.. ثم يقولون: إن بني إسرائيل قد عادوا إلى مصر مرة أخرى، بعد أن رأوا ما حلّ بفرعون وقومه، وأنهم ورثوا ما كان في يد فرعون وقومه!
وهذا، مخالف لصريح آيات القرآن الكريم، التي تحدثت في أكثر من موضع عن حياة موسى وبني إسرائيل في الصحراء، وتيههم في الصحراء أربعين سنة، بعد أن أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة، فأبوا، وخافوا أن يدخلوها على أهلها، وقالوا:«يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ» (22: المائدة) وقالوا «إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» (24: المائدة) .
ثم كيف يكون مع بني إسرائيل من المشاعر ما يلفتهم إلى مصر مرة أخرى، وقد لبسهم فيها الذل والهوان، وسكن إلى كيانهم الرعب والفزع؟
ذلك بعيد بعيد!! وهل إذا غرق فرعون وجنوده.. هل خلت مصر من أهلها؟
وهل خلت البلاد من الجنود؟
ثم إن التاريخ يؤيد هذا، ويشهد بصدق القرآن الكريم، وأنه لم تكن لبني إسرائيل عودة إلى مصر، بعد أن خرجوا منها فارين مذعورين..
- أما قوله تعالى: «فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ» فهو- والله أعلم- ما كان من نقم الله التي حلّت بفرعون وملائه.. من جدب، ونقص في الثمرات، ومن طوفان، وجراد وفمّل.. فهذه النقم قد سلبت القوم ما كان في أيديهم من نعم، فأحالت الخصب جدبا، والنعيم والرفه بلاء وكربا.. وبهذا كان خروجهم مما كانوا فيه من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم.. على حين أن بني إسرائيل لم يمسهم شىء من هذا البلاء، وهم يعايشون المصريين، ويحيون معهم، فكأنهم بهذا، قد ورثوا ما كان في أيدى المصريين، من هذه النعم والكنوز! إذ كانوا هم الذين يأخذون بحظّهم منها، على حين حرمها فرعون والملأ الذين معه..
ولهذا جاء ذكر خروج بني إسرائيل من مصر بعد هذا الميراث لا قبله، كما ترى ذلك في قوله تعالى بعد هذا:
«فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ» .. أي متجهين جهة الشرق..
«فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ» .. أي فلما رأى الجمعان- جمع فرعون، وجمع بني إسرائيل- بعضهم بعضا.. قال أصحاب موسى: إنا لمدركون.
«قالَ كَلَّا.. إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ..
«وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ..» أي جذبناهم إلى البحر، وأغرقناهم، «ثمّ» أي هناك و «الآخرين» فرعون وقومه، إذ كانوا في المؤخرة من القوم.
«وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ» .
وهكذا تختتم القصّة، فيغرق فرعون وجنوده، وينجو موسى ومن معه ولا تذكر لبني إسرائيل عودة إلى مصر، ولو كان ذلك لما غفل القرآن الكريم عن ذكره، إذ أن ذلك لا يكون إلا بعد أن يضرب موسى بعصاه البحر مرة أخرى، فينفلق.. ويكون ذلك آية لا يغفل القرآن ذكرها..
هذا، وقد جاء في أكثر من موضع من القرآن الكريم، ذكر ميراث بني إسرائيل، لما ورثهم الله إياه، سابقا لخروجهم من مصر، ونجاتهم من يد فرعون.
ففى سورة الأعراف يجىء قوله تعالى: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا، وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ» .. ثم يجىء بعد ذلك مباشرة قوله تعالى: «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ» (الآيتان: 137- 138) .. وفي سورة الدخان.. يقول الله تعالى:
عن فرعون وملائه: «كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ» .. ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ» الآيات: (25- 31) ..
فالميراث الذي تتحدث عنه الآيات في هذه المواضع، كان ميراث ما في أيدى المصريين من خيرات مصر، التي سلط الله عليها آفات تحرمهم الانتفاع بها، على حين كان ينتفع بها بنو إسرائيل، إلى أن خرجوا من مصر.. وتلك آية من آيات الله، حيث تجتمع النعمة والنقمة في الشيء الواحد.. تتناوله يد، فيتحول فيها إلى نقمة، وتمسك به يد أخرى، فإذا هو نعمة! ولا يدفع هذا، ما وصفت به الأرض في قوله تعالى «الَّتِي بارَكْنا فِيها» إذ قد يقع في بعض الأفهام أن «البركة» تعنى أرضا مخصوصة، هى الأرض المقدسة.. وفي رأينا أنه إذا اجتمع للأرض المقدسة، القداسة والبركة، فإنه لا ينفى أن يشاركها غيرها بعض صفاتها، فقد وصف البيت الحرام بأنه مبارك وهدى للعالمين، كما يقول تعالى:«إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ» (96: آل عمران) . ومصر بلد مبارك، لا شك في هذا.. فقد ربى في حجره، النبيان الكريمان موسى وعيسى عليهما السلام..
حتى إذ طلعت شمس الإسلام كان مصر البلد المبارك الذي سبق إلى الإسلام، وأمدّ بخيراته المسلمين، وأعزّ برجاله جيوش المجاهدين.. ثم كان بعد هذا حمى الإسلام وملاذه في الشدائد والمحن، كما كان- ولا يزال- الحفيظ الأمين على شريعته ولغته، حيث ينشر علوم الشريعة في آفاق الإسلام، ويفد إليه طلاب علوم الدين واللغة من كل قطر، فينهلون من المعارف، ثم يعودون إلى أقوامهم أساتذة معلمين، وهداة مرشدين..