الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
42 - سورة الشورى
وهي سورة مكية، وعدد آياتها (53).
موضوع السورة
البشرى للمؤمنين، والخذلان للطغاة الظالمين والشورى ركن من أركان السياسة الشرعية عند المسلمين
-
منهاج السورة
-
1 -
انتصار اللَّه لهذا القرآن العظيم، أنزله على رسوله الكريم.
2 -
الملائكة يسبحون للَّه لا يفترون، وللمؤمنين يستغفرون، والمشركون لا يفلحون.
3 -
تشريف اللَّه نبيّه بهذ القرآن العربي المبين، لينذر أهل مكة ومن حولهم يوم الحشر العظيم، وأن اللَّه لو شاء لهداهم أجمعين، ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين.
4 -
اللَّه تعالى هو الحكَمُ، والحكمُ إليه والتقدير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
5 -
تبيانُ اللَّه منهاج الدين الحق للمرسلين، الذي ثقل وكبر على المشركين، وما حصل التفرق إلا بسبب الاستكبار عن طاعة رب العالمين، واللَّه يجمع الخلق ليوم الحشر ثم يفصل بينهم وهو خير الفاصلين.
6 -
ذمُّ اللَّه أهل الجدال بالباطل وتوعدهم العذاب الأليم، فاللَّه تعالى أنزل الكتاب والميزان لفهم هذا الدين القويم، والمشركون مستهترون بأمر الساعة والمؤمنون مشفقون من هول ذاك اليوم العظيم.
7 -
لُطْفُ اللَّه تعالى بعباده ورزقه لهم رغم معاصيهم، وتوضيحه لهم السبيلين: سبيل سعادتهم وسبيل شقوتهم.
8 -
بثُّ اللَّه تعالى البشرى لعباده المؤمنين ليزدادوا إقبالًا عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يبتغي الأجر بدعوته إلا من اللَّه الذي يعلم صدقه وإخلاصه إليه.
9 -
امتنان اللَّه تعالى على عباده قبول توبة التائبين، وتجاوزه عن المستغفرين.
10 -
المؤمنون يقبلون على ربهم ويستجيبون، والكافرون ينفرون ويستكبرون.
11 -
بَسْطُ اللَّه الرزق لعباده بحكمته، وإنزال الغيث لهم بفضله ورحمته.
12 -
إثباتُ الخلق كله للَّه، والمصائب هي عقوبات للمذنبين من اللَّه.
13 -
آيات البر والبحر دلالات للمستدلين، ولا نجاة من العذاب إذا نزل بالقوم الظالمين.
14 -
فناء زينة هذه الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير وأبقى للمؤمنين المتوكلين، المجتنبين الكبائر والفواحش والمعظمين أوامر ربهم وإذا أصابهم البغي كانوا من المنتصرين، فمن عفا وغفر وصبر فله أجر المحسنين.
15 -
ضياعُ من أضلَّه اللَّه ولم يوفِّقه للهداية، والخاسرون هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم وحُرموا الشفاعة والولاية.
16 -
أمْرُ اللَّه عباده المسارعة بالاستجابة له قبل مجيء يوم الأهوال فلا ملجأ ولا نصير، وفرحُ الإنسان بالنعمة فإن مسّه الشر فيؤوس كفور.
17 -
إثبات الملك كله للَّه وخلق الإناث والذكور، أو التنويع فيهم وهو العليم القدير.
18 -
تأكيد أمر الوحي للَّه العظيم، يخاطب به من اصطفى وهو العلي الحكيم.
19 -
امتنانُ اللَّه تعالى على رسوله الكريم، بالإيمان وبهذا الكتاب العظيم.
20 -
إثبات أمر الهداية للَّه العزيز الحكيم، وأمر البلاغ لرسوله الكريم.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
6. قوله تعالى: {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)}.
في هذه الآيات: انتصارٌ من اللَّه الملك العظيم، لهذا الوحي الكريم، أنزله على رسوله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، والملائكة للَّه يسبحون لا يفترون، وللمؤمنين يستغفرون، والذين أشركوا باللَّه لا يفلحون.
فقوله تعالى: {حم (1) عسق} . تقدم الكلام على أمثال ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور، وأن أهم ما تفيد هو الإعجاز والتحدي.
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . انتصار لهذا القرآن العظيم. قال ابن جرير: (هكذا يوحي إليك يا محمد وإلى الذين من قبلك من أنبيائه {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} في انتقامه من أعدائه {الْحَكِيمُ} في تدبيره خلقه).
وقوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} .
أي جميع ما في السماوات وما في الأرض تحت قهره وتصريفه، فالكل عبيدٌ له وملك له، وهو الشريف الرفيع الكبير المتعال. والتعالي: الارتفاع.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]. والعظيم: هو الكبير. وتعظَّم: تكبَّر.
2 -
وقال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62].
3 -
وقال تعالى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12].
وفي صحيح سنن ابن ماجة عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [مَنْ تعارَّ من الليل، فقال حين يستيقظ: لا إله إلا اللَّه وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم. ثم دعا ربه: رب اغفر لي، غفر له](1).
وفي جامع الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ما من عبد مسلم يعود مريضًا لم يحضُرْ أجلُهُ فيقول سبعَ مرات: أسأل اللَّه العظيم ربَّ العرش العظيم أن يشفيك إلا عوفِيَ](2).
وقوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} . قال قتادة: (أي من عظمة اللَّه وجلاله). قال السدي: ({يَتَفَطَّرْنَ}: يتشققن). وقال الضحاك: (يتصدعن من عظمة اللَّه).
وقوله: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . قال ابن عباس: (والملائكة يسبحون له من عظمته). وقال السدي: ({وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} قال: للمؤمنين. يقول اللَّه عز وجل: ألا إن اللَّه هو الغفور لذنوب مؤمني عباده، الرحيم بهم أن يعاقبهم بعد توبتهم منها). قال بعض العلماء: (هَيَّبَ وعظَّم جل وعز في الابتداء، وألطف وبشَّر في الانتهاء). وهذه الآية كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].
وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} . قال النسفي: (أي جعلوا له شركاء وأندادًا {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} رقيب على أقوالهم وأعمالهم لا يفوته منها شيء فيجازيهم عليها).
وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} . أي: وما أنت -يا محمد- بموكل عليهم
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (3878) - كتاب الدعاء. انظر صحيح سنن ابن ماجة (3128)، باب ما يدعو به إذا انتبه من الليل، ورواه البخاري بنحوه.
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (2/ 1698)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 391 - 392) في تفصيل معاني الأسماء والصفات.
ولا مفوض إليك إحصاء أعمالهم، وإنما أنت منذر فبلغهم ما أرسلت به إليهم.
7 -
9. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)}.
في هذه الآيات: تشريف اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن العربي المبين، لينذر به أهل مكة ومن حولهم يوم الحشر العظيم، ولو شاء اللَّه لهداهم أجمعين، ولكن حقت كلمة الخزي والذل على الظالمين.
فقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} . قال ابن كثير: (يقول تعالى: وكما أوحينا إلى الأنبياء قبلك {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}، أي: واضحًا جليًا بَيِّنًا).
وقوله: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} . قال السدي: (مكة). وقال النسفي: (أي مكة لأن الأرض دحيت من تحتها، أو لأنها أشرف البقاع والمراد أهل أم القرى).
قلت: وفي لغة العرب - أم كل شيء أصله ومركزه، فسميت مكة أم القرى لأنها توسطت الأرض، فجمعت بين الوسطية والمكانة والشرف.
أخرج ابن ماجة والترمذي بسند صحيح عن محمد بن مسلم، أنه قال: إن أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أخبره، أن عبد اللَّه بن عدي بن الحمراء قال له: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو على ناقته، واقف بالحَزْوَرَة يقول:[واللَّه! إنَّك لَخَيْرُ أرضِ اللَّه، وأحَبُّ أَرْضِ اللَّه إليَّ. واللَّه! لولا أنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ، ما خرجْتُ](1).
وفي صحيح البخاري وسنن ابن ماجة عن صفيَّةَ بنت شيبة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح، فقال: [يا أيها الناسُ! إنَّ اللَّه حَرَّمَ مَكَّةَ يومَ خلقَ السماوات
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (3108) - باب فضل مكة. انظر صحيح سنن ابن ماجة (2523). ورواه الترمذي في الجامع (3923)، وأحمد في المسند (4/ 305)، وابن حبان (3708)، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
والأرض. فهي حرامٌ إلى يوم القيامة. لا يُعْضَدُ شَجَرُها، ولا يُنَفَّرُ صَيْدُها، ولا يأخُذُ لُقَطَتَها إلا منشِدٌ] (1).
وقوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا} . قال ابن جرير: (ومن حول أم القرى من سائر الناس). وقوله: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} . أي يوم القيامة. يوم يجمع اللَّه الأولين والآخرين في صعيد واحد. وقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} . أي: لا شك في حدوثه ووقوعه.
وقوله: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} . قال القاسمي: (أي منهم فريق في الجنة، وهم الذين آمنوا باللَّه، واتبعوا ما جاءهم به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وفريق في السعير، أي النار الموقدة المسعورة على أهلها. وهم الذين كفروا باللَّه وخالفوا ما جاءهم به رسوله).
أخرج الإمام أحمد والنسائي والترمذي بسند حسن عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما قال: [خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال أتدرون ما هذان الكتابان؟ قال: قلنا لا إلّا أن تُخْبِرَنا يا رسول اللَّه، فقال للذي في يده اليمنى، هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أُجْمِلَ على آخرهم، فلا يُزاد فيهم ولا يُنْقَصُ منهم أبدًا. ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أُجْمِلَ على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقصِ منهم أبدًا. فقال أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: فلأي شيء إذن نعملُ إن كان هذا أمْرًا قد فُرِغَ منه؟ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال بيده فقبضَها، ثم قال: فرغ ربكم عز وجل من العباد، ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال: فريق في الجنة، ونبذ باليسرى فقال: فريق في السعير](2).
وفي صحيح مسلم من حديث علي مرفوعًا: [ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب اللَّه مكانها من الجنة والنار، وإلا وقد كتبت شقيةً أو سعيدةً. فقال رجل: يا رسول اللَّه أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، فقال: اعملوا فكل مُيَسَّرٌ، أما أهل السعادة فيُيَسَّرون لعمل أهل السعادة،
(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح البخاري (1/ 317)، وصحيح سن ابن ماجة (2524).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2141)، والنسائي في "الكبرى"(11473)، وأحمد (2/ 167). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (46)، وصحيح الجامع الصغير (88).
وأما أهل الشقاوة فييسَّرون لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} ] (1).
وفي مسند أبي يعلى بإسناد حسن عن أنس مرفوعًا: [إنَّ اللَّه عز وجل قبض قبضة فقال: في الجنة برحمتي، وقبض قبضة فقال: في النار ولا أبالي](2).
وفي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي -وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا: [إنَّ اللَّه عز وجل خلق آدم، ثم أخذ الخلق من ظهره، وقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي، فقال قائل: يا رسول اللَّه فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر](3).
وقد بسطت هذا المفهوم وأنواع الكتابة في اللوح المحفوظ في أبحاث القدر في كتابي: أصل الدين والإيمان -عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان- فلله الحمد والمنة.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} . قال الضحاك: (أهل دين واحد، أهل ضلالة أو أهل هدى).
وقوله: {وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} . قال أنس بن مالك: (في الإسلام). وقوله: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} . أي يدخل خلقه كلهم الجنة إلا ما لا خير فيهم: {وَالظَّالِمُونَ} أي: الكافرون، {مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ} أي: شافع، {وَلَا نَصِيرٍ} أي: دافع.
وقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} . إنكار من اللَّه تعالى على المشركين اتخاذهم آلهة من دون اللَّه، وإخبارٌ أنه سبحانه هو الولي الحق الذي لا يستحق أحد العبادة غيره.
وقوله: {وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . أي: وهو القادر على إحياء خلقه بعد موتهم، وهو القادر على كل شيء فلا يعجزه شيء.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 46 - 47)، وانظر مختصر صحيح مسلم (1844).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(2/ 171)، وابن عدي في "الكامل"(66/ 2)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (47).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 186)، وابن حبان (1806)، ورواه الحاكم (1/ 31) وقال: صحيح. ووافقه الذهبي. وأقره الألباني في "الصحيحة"(48).
10 -
12. قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)}.
في هذه الآيات: إنَّ اللَّه تعالى هو الحَكَمُ وإليه الحُكْم والتقدير، فاطر السماوات والأرض خالق الأزواج من البشر والأنعام ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وبأمره تصريف الأقدار والأرزاق وهو على كل شيء قدير.
فعن مجاهد: ({وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}. قال مجاهد: فهو يحكم فيه). أي: له الحكم فيه سبحانه في كتابهِ وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن الدين قد اكتمل بهما، وأحكام الشريعة قد بُنِيَت جميعها على هذين الأصلين العظيمين.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
2 -
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
3 -
وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65].
وفي جامع الترمذي وسنن ابن ماجة عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [ألا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الحديثُ عَنِّي وهو مُتَّكِئٌ على أريكتِه، فيقول: بَيْنَنَا وبينكم كِتابُ اللَّه، فما وجدنا فيه حلالًا اسْتَحْلَلْناه، وما وجدنا فيه حرامًا حَرَّمناه، وإن ما حَرَّمَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما حَرَّم اللَّه](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي -أبواب العلم-. انظر صحيح الترمذي (2146)، ورواه ابن ماجة في السنن (12)، وانظر كذلك الحديث (13) منه.
وقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي} . أي: هو الحكم سبحانه في كل شيء.
وفي صحيح سنن أبي داود من حديث هانئ مرفوعًا: [إنّ اللَّه هو الحكم، وإليه الحكم](1).
وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} . قال ابن جرير: ({عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في أموري وإليه فوضت أسبابي وبه وثقت. {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}: وإليه أرجع في أموري وأتوب من ذنوبي).
وقوله: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . قال السدي: (خالق -السماوات والأرض-).
وقوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} . قال مجاهد: (نسْلًا بعد نسل). قال القرطبي: (وإنما قال {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} لأنه خلق حوّاء من ضلع آدم). وقال القاسمي: ({جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي من جنسكم {أَزْوَاجًا} أي نساء).
وقوله: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} . أي أصنافًا مختلفة، من الإبل والبقر والغنم وغيرها، ذكورًا وإناثًا.
وقوله: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} . أي يخلقكم فيه -على تلك الصفة من الذكران والإناث- خلقًا بعد خلق، وجيلًا بعد جيل. قال مجاهد:(نسل بعد نسل من الناس والأنعام). وقال السدي: ({يَذْرَؤُكُمْ}: يخلقكم). وقال ابن عباس: (يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها)، قال النسفي:({يَذْرَؤُكُمْ} يكثركم، يقال: ذرأ اللَّه الخلق بثهم وكثرهم {فِيهِ} في هذا التدبير، وهو أن يجعل الناس والأنعام أزواجًا حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل).
وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . قال الواسطيّ: (ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، ولا كصفته صفة إلا من جهة موافقة اللفظ).
قلت: وأدخل المثل في الكلام توكيدًا للكلام، وكذلك بالكاف، وهما بمعنى واحد. وذهب بعضهم إلى أن الكاف في قوله:{كَمِثْلِهِ} صلة زيدت للتوكيد. فيكون مثله خبر ليس واسمها شيء، وهذا وجه قوي تعرفه العرب.
ثم إن صفات اللَّه عز وجل تثبت على التفصيل وتنفى على وجه الإجمال. فالإثبات المفصل كإثبات السمع والبصر وسائر الصفات، والنفي المجمل كنفي المثلية في قوله
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4955). انظر: صحيح سنن أبي داود (4145).
تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وقوله:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} .
وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . رد على المعطلة، كما إن قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ردٌّ على المشبهة. قال ابن جرير: ({وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}: السميع لما تنطق به خلقه من قول، البصير لأعمالهم).
قوله: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . قال مجاهد: (مفاتيح بالفارسية). وقال السدي: (خزائن السماوات والأرض). قال النحاس: (والذي يملك المفاتيح يملك الخزائن). ويقال للمفتاح: إقليد، وجمعه على غير قياس، كمحاسن والواحد حسن - حكاه القرطبي.
والخلاصة: مفاتيح خزائن السماوات والأرض بيده سبحانه، وهي نوعان: مفاتيح الخير والشر، ومغاليق الخير والشر. فما يفتح من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده.
وقوله: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} . قال القاسمي: (أي يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه ويغنيه، ويقتّرُ على آخرين).
وقوله: {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . أي في التوسيع والتقتير، وفيما يصلح لخلقه وما يفسد، وفي كل شيء غير ذلك، فله كمال العلم والحكمة والعدل جل ثناؤه.
13 -
15. قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)}.
في هذه الآيات: تبيانُ اللَّه منهاج الدين الحق للمرسلين، الذي ثقل وكبر على
المشركين، وما حصل التفرق والتمزق إلا بسبب الاستكبار عن طاعة رب العالمين، واللَّه يجمع الخلق ليوم الحشر ثم يفصل بينهم وهو خير الفاصلين.
شرع: أي نهج وأوضح وسَن وَبيَّن المسالك. قال مجاهد: (قوله: {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}: ما أوصاك به وأنبياءه كلهم دين واحد). وعن السدي قال: (هو الدين كله). وقال: ({أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ}: اعملوا به). قال قتادة: (بعث نوح حين بعث بالشريعة بتحليل الحلال، وتحريم الحرام {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى}).
قال ابن جرير: ({شَرَعَ لَكُمْ} ربكم أيها الناس من الدين ما وصينا به نوحًا أن يعمله {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يا محمد. قال: شرع لكم من الدين أن أقيموا الدين). قال: (فمعلوم أن الذي أوصى به جميع هؤلاء الأنبياء وصية واحدة وهي إقامة الدين الحق ولا تتفرقوا فيه). قال القرطبي: ({أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} وهو توحيد اللَّه وطاعته، والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء، وبسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلمًا. ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسن أحوالها، فإنها مختلفة متفاوتة، قال اللَّه تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]).
وقوله: {وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} . قال قتادة: (تعلّموا أن الفرقة هلكة وأن الجماعة ثقة).
وقال التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
2 -
وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ} [الروم: 31 - 32].
ومن صحيح السنة العطرة في ذلك أحاديث، منها:
الحديث الأول: يروي الترمذي بسند صحيح عن عبد اللَّه بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن اللَّه تعالى لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد اللَّه على الجماعة](1).
الحديث الثاني: يروي أبو نعيم في "الحلية" بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: قال
(1) حديث صحيح. انظر تخريج "مشكاة المصابيح"(173)، وصحيح الجامع الصغير (1844).
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [آمركم بثلاث وأنهاكم عن ثلاث، آمركم أن تعبدوا اللَّه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل اللَّه جميعًا ولا تفرقوا، وتسمعوا وتطيعوا لمن ولاه اللَّه أمركم. وأنهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال](1).
الحديث الثالث: يروي عبد اللَّه بن أحمد في زوائد المسند بسند حسن عن النعمان بن بشير قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر اللَّه، والتحدث بنعمة اللَّه شكر وتركها كفر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب](2).
وقوله: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} . أي كبر على مشركي قومك يا محمد، ومن سيمضي على منهاجهم في الكفر والكبر، ما تدعوهم إليه من إخلاص العبادة للَّه وإفراده بالألوهية والتعظيم، والبراءة مما سواه من الآلهة والأنداد والطواغيت.
وعن قتادة: ({كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} قال: أنكرها المشركون، وكبر عليهم شهادة أن لا إله إلا اللَّه، فصادمها إبليس وجنوده، فأبى اللَّه تبارك وتعالى إلا أن يمضيها وينصرها ويفلجها ويظهرها على من ناوأها).
وقوله: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} . قال مجاهد: (يقول: ويوفق للعمل بطاعته واتباع ما بعث به نبيه عليه الصلاة والسلام مِنَ الحق مَنْ أقبل إلى طاعته وراجع التوبة من معاصيه). وعن السدي: ({وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}: من يُقبل إلى طاعة اللَّه).
وقوله: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} . قال معمر عن قتادة: (إياكم والفرقة فإنها هلكة {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} يقول: بغيًا من بعضكم على بعض، وحسدًا وعداوة على طلب الدنيا).
قال النسفي: ({وَمَا تَفَرَّقُوا} أي أهل الكتاب بعد أنبيائهم {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلال وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء عليهم السلام {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} حسدًا وطلبًا للرياسة والاستطالة بغير حق).
(1) حديث صحيح. انظر صحيح الجامع -حديث رقم- (12)، وبعض أجزاء الحديث في الصحيحين.
(2)
حديث حسن. انظر مسند أحمد (5/ 211 - 212)، وسنن أبي داود (2/ 290)، ومسند الطيالسي (2491)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (417).
وقوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . قال السدي: (يوم القيامة). أي: ولولا ما سبق في قضاء ربك يا محمد أن لا يعاجلهم بالعذاب بل يؤخره إلى يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: لأهلكوا حين تفرقوا لعظم ما اقترفوا.
وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} . قال السدي: (اليهود والنصارى). قال ابن كثير: (يعني: الجيل المتأخِّر بعد القرن الأول المكذِّب للحق {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} أي: ليسُوا على يقين من أمرهِم، وإنما هم مُقلِّدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا بُرهان، وهُم في حيرةٍ من أمرهم وشك مريب، وشقاق بعيد).
وقوله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} . أي: فإلى ذلك الدين الحق الذي شرع لكم ووصّى به نوحًا وأوحاه إليك يا محمد فادع عباد اللَّه واستقم على العمل به، ولا تتبع سبل الذين عاشوا على الشك والتكذيب وتعظيم الجاهلية وأهواء النفوس من بقية الأمم السابقة.
وقوله: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} . أي بكل كتاب ثبت تنزيله من اللَّه توراة كان أو إنجيلًا أو زبورًا أو صحف إبراهيم أو قرآنًا، فإن المتفرقين كانوا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
وقوله: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} . قال قتادة: (أمر نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يعدل، فعدل حتى مات صلوات اللَّه وسلامه عليه، والعدل ميزان اللَّه في الأرض، به يأخذ للمظلوم من الظالم، وللضعيف من الشديد، وبالعدل يصدّق اللَّه الصادق، ويكذّب الكاذب، وبالعدل يردّ المعتدي ويوبّخه).
أخرج البزار والبيهقي بسند حسن عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ثلاثٌ مهلكات، وثلاثٌ منجياتٌ، فقال: ثلاثٌ مهلكاتٌ: شحٌّ مطاع، وهوى مُتَّبَعٌ، وإعجاب المرء بنفسه. وثلاث مُنْجيات: خشيةُ اللَّه في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، والعدل في الغضب والرضا](1).
وقوله: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} . قال ابن عباس ومجاهد: (الخطاب لليهود، أي لنا ديننا ولكم دينكم).
(1) حديث حسن. أخرجه البزار (رقم - 80)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 343)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(2/ 382/ 1)، من حديث أبي هريرة. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1802).
والمعنى: إنه لا معبود بحق إلا اللَّه لا إله غيره، نقر له بالألوهية ونسجد له اختيارًا، ومن أبى منكم فليعلم أن من أهمل السجود له باختياره سجد له إجبارًا، ونحن برآء من عملكم ومنهاجكم. كما قال تعالى:{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41].
وكقوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} -إلى قوله-: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} . وهي سورة الولاء والبراء يصف اللَّه بها منهاج المؤمنين في براءتهم من منهاج أهل الكفر والمشركين. وقد استدل الإمام أبو عبد اللَّه الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} على أن الكفر كله ملة واحدة.
وقوله: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} . قال مجاهد وابن زيد: (لا خصومة بيننا وبينكم).
قال القاسمي: (أي لا خصومة ولا محاجة بعد هذا، لأن الحق قد ظهر، ولم يبق للمحاجة حاجة، ولا للمخالفة محل سوى المكابرة).
وقوله: {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . أي: يجمع اللَّه بيننا يوم القيامة فيقضي بالحق فيما اختلفنا فيه، فإنه إليه المعاد والمآل والمرجع لنوال الثواب أو نكال العقاب.
16 -
18. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)}.
في هذه الآيات: ذمُّ اللَّه تعالى أهل الضلالة الذين يجادلون من استجابوا للحق وتوعُّدُهم العذاب الأليم، فاللَّه تعالى أنزل الكتاب والميزان لفهم هذا الدين القويم، فالمشركون مستخفّون بأمر الساعة والمؤمنون مشفقون من هول ذاك اليوم العظيم.
فعن ابن عباس: (قوله: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} . قال: هم أهل الكتاب كانوا يجادلون
المسلمين، ويصدونهم عن الهدى من بعد ما استجابوا للَّه. وقال: هم أهل الضلالة كان استجيب لهم على ضلالتهم وهم يتربصون بأن تأتيهم الجاهلية).
وعن مجاهد: ({وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ}، قال: طمع رجال بأن تعود الجاهلية، بعدما دخل الناس في الإسلام). قال قتادة: (هم اليهود والنصارى حاجّوا أصحاب نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبيّنا قبل نبيّكم، ونحن أولى باللَّه منكم). وفي رواية: (ونحن خير منكم).
والآية توعّدٌ للذين يصدون عن سبيل اللَّه بعد ظهور حجة الوحي البالغة بإبطال حججهم عند اللَّه وأليم العذاب يوم القيامة.
وقوله: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} . قال قتادة: (الميزان: العدل فيما أمر به ونهى عنه). أي: اللَّه تعالى أنزل القرآن وسائر الكتب المنزلة {بِالْحَقِّ} أي بالصدق {وَالْمِيزَانَ} أي بالعدل.
قال القرطبي: (والعدل يسمى ميزانًا، لأن الميزان آلة الإنصاف والعدل. وقيل: الميزان ما بيّن في الكتب مما يجب على الإنسان أن يعمل به. وقيل: هو الجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب. وقيل: إنه الميزان نفسه الذي يوزن به، أنزله من السماء وعلّم العباد الوزن به، لئلا يكون بينهم تظالم وتباخس).
قلت: والأقوال السابقة متقاربة متكاملة، مفادها أن اللَّه تعالى أنزل الميزان الذي هو مقياس العدل الذي يوزن به الحقوق ويسوّى به الخلاف سواء في الدنيا أو في الآخرة.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].
2 -
وقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7 - 9].
3 -
وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
4 -
وقال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8 - 9].
وفي صحيح الحاكم عن سلمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت. فتقول الملائكة: يا رب، لِمَنْ يزن هذا؟ فيقول اللَّه تعالى: لمن شئت من خلقي. فتقول الملائكة: سبحانكَ ما عبدناك حق عبادتك](1).
وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} . قال ابن كثير: (فيه ترغيب فيها، وترهيب منها، وتزهيدٌ في الدنيا).
وقوله: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} . قال النسفي: (استهزاء). وهو إلحاحهم بالقول: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} تنطعًا واستكبارًا، وتكذيبًا واستبعادًا.
وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} . أي: خائفون وجلون عند ذكرها لاستقصار حيلتهم وثقتهم بعملهم، مع ما يبذلونه من الجهد في الطاعة والاجتهاد في العبادة. كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]، {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} الذي لا شك فيه.
وقوله: {أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ألا إن الذين يخاصمون في قيام الساعة ويجادلون فيه {لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} يقول: لفي جور عن طريق الهدى، وزيغ عن سبيل الحق والرشاد، بعيد من الصواب).
19 -
22. قوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا
(1) إسناده جيد. أخرجه الحاكم (4/ 586)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (941).
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)}.
في هذه الآيات: لُطف اللَّه تعالى بعباده ورزقه لهم رغم معاصيهم، وتوضيحه السبيلين لهم: فمن أراد الحق وإعزاز الدين ذلّل له طريق ذلك، ومن أراد الدنيا وشهواتها أعطاه منها، فالمؤمنون في روضات الجنات يوم القيامة يتلذذون في ألوان النعيم، والكافرون في دركات النار يقاسون في عذاب الجحيم.
فقوله: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} . قال ابن عباس: (حَفِيّ بهم). وقال عكرمة: (بارٌّ بهم). وقال السدّيّ: (رفيق بهم). وقال مقاتل: (لطيف بالبرّ والفاجر، حيث لم يقتلهم جوعًا بمعاصيهم). وقال القرظي: (لطيف بهم في العرض والمحاسبة. قال:
غدًا عند مَوْلى الخلق للخلق موقف
…
يسائلهم فيه الجليل ويلطف).
وقال جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين: (يلطف بهم في الرزق من وجهين: أحدهما -أنه جعل رزقك من الطيبات، والثاني- أنه لم يدفعه إليك مرة واحدة فتبذره). وقال الحسين بن الفضل: (لطيف بهم في القرآن وتفصيله وتفسيره). وقال الجُنيد: (لطيف بأوليائه حتى عرفوه، ولو لطف بأعدائه لما جحدوه). وقيل: لطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا يئس من الخلق توكل عليه ورجع إليه، فإنه يقبله ويقبل عليه.
قلت: وجميع ما سبق داخل في آفاق لطفه سبحانه بعباده، وفي مفهوم اسمه {اللَّطِيفُ} فتبارك اللَّه اللطيف الخبير.
وقوله: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} . أي: يوسع رزق من شاء، ويَحْرِم بحكمته من يشاء. وقوله:{وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} . قال النسفي: ({الْقَوِيُّ} الباهر القدرة الغالب على كل شيء {الْعَزِيزُ} المنيع الذي لا يغلب).
وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} . الحرث: العمل والكسب. ومنه قول عبد اللَّه بن عمرو: (احرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا). قال السدي: (من كان يريد عمل الآخرة نزد له في عمله). قال القرطبي: (والمعنى: أي من طلب بما رزقناه حرثًا لآخرته، فأدَّى حقوق اللَّه وأنفق في إعزاز الدِّين، فمانما نعطيه ثواب ذلك للواحد عشرًا إلى سبع مئة فأكثر. {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا} أي طلب بالمال الذي آتاه اللَّه رياسة الدنيا والتوصل إلى المحظورات، فإنا
لا نحرمه الرزق أصلًا، ولكن لا حظّ له في الآخرة من ماله).
وعن ابن عباس: ({وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} قال: يقول: من كان إنما يعمل للدنيا نؤته منها). قال قتادة: (من آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيبًا في الآخرة إلا النار، ولم نزده بذلك من الدنيا شيئًا إلا رزقًا قد فرغ منه وقسم له).
وقوله: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} . قال السدي: (للكافر عذاب أليم).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18 - 19].
وقال تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20].
ومن كنوز السنة الصحيحة في آفاق ذلك أحاديث، منها:
الحديث الأول: أخرج الترمذي وابن حبان وابن ماجة -واللفظ للترمذي- عن أنس مرفوعًا: [من كانت الآخرة هَمَّهُ جعل اللَّه غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت الدنيا همَّهُ جعل اللَّه فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له](1).
ولفظ ابن ماجة وابن حبان إنما هو من حديث زيد بن ثابت مرفوعًا: [من كانت الدنيا همَّهُ، فرق اللَّه عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له. ومن كانت الآخرة نيّته، جمع اللَّه له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة](2).
الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة بإسناد حسن عن عبد اللَّه: سمعت نبيّكم صلى الله عليه وسلم يقول: [مَنْ جَعَل الهُمومَ هَمًّا واحِدًا، هَمَّ المعادِ، كفاه اللَّه هَمَّ دُنْيَاهُ. وَمَنْ تَشَعَّبَتْ به
(1) أخرجه الترمذي (2/ 76)، وابن عدي في "الكامل"(ق 8/ 2)، (129/ 1)، ورواه البزار (زوائد البزار - ص 322). وانظر السلسلة الصحيحة (949).
(2)
أخرجه ابن ماجة (2/ 524 - 525)، وابن حبان (72) وإسناده صحيح رجاله ثقات.
الهمومُ في أحوال الدنيا، لم يُبالِ اللَّه في أيِّ أوديتِه هَلَكَ] (1).
الحديث الثالث: أخرج أحمد وابن ماجة والترمذي وابن حبان بسند صحيح لشواهده عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن اللَّه يقول: يا ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسُدَّ فقرك، وإن لا تفعل ملأت يديك شغلًا، ولم أسُدَّ فقرك](2).
وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . أي: أم لهؤلاء المشركين شركاء ابتدعوا لهم من الدين ما لم يبحه اللَّه.
وقوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ولولا السابق من اللَّه في أنه لا يعجل لهم العذاب في الدنيا، وأنه مضى من قيله أنهم مؤخرون بالعقوبة إلى قيام الساعة، لفرغ من الحكم بينكم وبينهم بتعجيلنا العذاب لهم فى الدنيا، ولكن لهم في الآخرة من العذاب الأليم كما قال جل ثناؤه: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يقول: وإن للكافرين باللَّه لهم يوم القيامة عذاب مؤلم مُوجع).
وقوله: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} . أي: ترى الكافرين -يا محمد- وجلين خائفين في أرض المحشر يخشون خبائث أعمالهم، وهذا الذي يخافونه من صليهم سوء العذاب واقع بهم لا محالة.
وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} . قال ابن عباس: (في رياض الجنة ونعيمها).
وقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} . أي: مما تشتهيه أنفسهم، وتلذه أعينهم. فهم اليوم في شغل فاكهون في ألوان المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناظر والمناكح والملاذ.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 55 - 58].
(1) حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (4106) - كتاب الزهد. انظر صحيح ابن ماجة (3314).
(2)
أخرجه الترمذي (3/ 308)، وابن ماجة (2/ 525)، وابن حبان (2477)، وأحمد (2/ 358)، وله شاهد عند الحاكم (4/ 326) بإسناد صحيح، وانظر صحيح سنن ابن ماجة (3315).
2 -
وقال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
3 -
وقال تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 70 - 71].
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قال اللَّه عز وجل: أَعْدَدْت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطَرَ على قلب بشر](1).
وقوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} . أي الظفر العظيم، والنعيم الكريم، وكمال المنّ والسعة.
23 -
24. قوله تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)}.
في هذه الآيات: بثُّ اللَّه تعالى البشرى لعباده المؤمنين ليزدادوا إقبالًا عليه سبحانه وطاعة له، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يبتغي بدعوته الأجر من الناس بل من اللَّه الغفور الشكور، وهو تعالى يعلم صدق رسوله ويعلم ما في الصدور.
فقوله: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . قال النسفي: ({ذَلِكَ} أي الفضل الكبير). قال القرطبي: (أي يبشر اللَّه به عباده المؤمنين ليتعجلوا السرور ويزدادوا منه وجدًا في الطاعة).
وقوله: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . الخطاب لقريش خاصة. أي: قل يا محمد لا أسألكم على تبليغ الرسالة جعلًا، إلا أن تودُّوني لقرابتي فتحفظوني. قال ابن كثير: (أي: قُل -يا محمد- لهؤلاء المشركين من كفار قريش: لا أسألكم علىِ هذا البلاغ والنُّصح لكم مالًا تُعطُونِيه، وإنما أطلبُ منكم أن تَكُفُّوا شَرَّكم عني، وتَذَرُوني
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2824) - كتاب الجنة، وصفة نعيمها وأهلها.
أبلِّغ رسالة ربي، إن لم تنصُروني فلا تُؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة).
أخرج البخاري في صحيحه والترمذي في جامعه عن عبد الملك بن مَيْسَرة قال: [سمعت طاووسًا عن ابن عباس: أنه سُئِل عن قوله تعالى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فقال سعيد بن جبير: قُربى آل محمدٍ. فقال ابن عباس: عَجِلْتَ، إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكُنْ بطنٌ من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تَصِلُوا ما بيني وبينكم من القرابة](1).
ورواه أحمد والطبري عن طاووس قال: سأل رجل ابن عباس المعنى عن قول اللَّه عز وجل: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فقال سعيد بن جبير: قربى محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: عجلت. إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة، فنزلت:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم. وفي لفظ الطبري: (إلا القرابة التي بيني وبينكم أن تصلوها).
وقوله: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} . الاقتراف: العمل. قال ابن زيد: (من يعمل خيرًا نزد له). قال القاسمي: ({وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} أي يكتسب طاعة {نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} أي بمضاعفته).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} . أي غفورٌ لمن تاب ورجع خائفًا من ربه، شكور للسعي الصادق بمضاعفة الحسنات والثواب. قال ابن زيد:(غفر لهم الذنوب، وشكر لهم نعمًا هو أعطاهم إياها، وجعلها فيهم).
وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} . قال السدي: (يطبع). وقال قتادة: (فينسيك القرآن). والمعنى: أم يقول هؤلاء المشركون إن محمدًا افترى كذبًا، ولو افتريت كذبًا كما يزعم هؤلاء الجاهلون لطبع اللَّه على قلبك وسلبك ما كان آتاك من القرآن.
كما قال اللَّه تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44 - 47]. أي لانتقمنا منه أشد الانتقام، ولما استطاع أحد أن يمنع عنه أو يدفع العقاب.
وقوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} . قال القاسمي: (استئناف مقرر لنفي
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3497)، والترمذي (3251)، والنسائي في "التفسير"(494). ورواه ابن جرير في "التفسير"(30663).
الافتراء عما يقوله عليه الصلاة والسلام، بأنه لو كان مفترى لمحقه. إذ من سنته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه).
وقوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . أي: إنه تعالى يعلم ما في صدور خلقه وما تنطوي عليه ضمائرهم، ولا يخفى عليه من أحوالهم شيء.
25 -
28. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)}.
في هذه الآيات: امتنانُ اللَّه تعالى على عباده بقبول توبة تائبهم وتجاوزه عن مستغفرهم فهو العليم بافعالهم. فالمؤمنون يقبلون على ربهم ويستجيبون، والكافرون ينفرون ويستكبرون، واللَّه يبسط الرزق بحكمته، وينزل الغيث وينشر رحمته، وهو الولي الحميد.
فقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} . قال ابن عباس: (أي عن أوليائه وأهل طاعته). وحقيقة التوبة الرجوع إلى اللَّه سبحانه، مع معاينة الحسرة في القلب على ما كان من الزلل، ورد الحقوق إلى أهلها، والعزم على ألا يعود إلى ما كان سببًا في المعصية. قال محمد بن كعب القرظي:(يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سَيِّئ الإخوان).
قال ابن القيم رحمه الله: (وأول معاني التوبة: أن تنظر إلى ما كان من انخلاعك عن الاعتصام باللَّه حين إتيان الذنب وأن اللَّه منع عصمته عنك، وأن تنظر إلى ما كان من فرحك عند ظفرك بذلك الذنب. قال: فما خلّى اللَّه بينك وبين الذنب إلا بعد أن خذلك وخلى بينك وبين نفسك ولو عصمك ووفقك لما وجد الذنب إليك سبيلًا. قال: وتشتد الغفلة على مقارف الذنب حتى يفرح عند ظفره بشهوته المحرمة. . . وفرحه بها أشد ضررًا عليه من مواقعتها، والمؤمن لا تتم له لذة بمعصية أبدًا، ولا يكمل بها فرحه بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه. قال: ومتى خلي قلبه من هذا الحزن واشتدت
غبطته وسروره فليتّهم إيمانه وليبْكِ على موتِ قلبه).
وفي معجم الطبراني بسند حسن عن أبي سعيد الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الندم توبة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له](1).
وفي صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُ أَشدُّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحَدِكم كان على راحلته بأرضٍ فلاة، فانفلتَتْ منه، وعَلَيْها طعامُه وشرابُه، فأَيسَ منها، فأتى شجرةً، فاضْطَجَعَ في ظلِّها، قَدْ أَيسَ من راحلتِه، فبَيْنا هو كذلك إذ هُوَ بها، قائمةً عندَهُ، فأخذَ بخِطَامِها، ثم قال من شِدَّةِ الفرح: اللهم! أنت عبدي وأنا ربُّكَ، أَخْطَأ من شِدَّةِ الفرَح](2).
وقوله: {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} . قال النسفي: (وهو ما دون الشرك، يعفو لمن يشاء بلا توبة). وقال القرطبي: {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} أي عن الشرك قبل الإسلام). قال ابن كثير: (أي: يقبل التوبة في المستقبل، ويعفو عن السيئات في الماضي).
وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} . أي من الخير والشر، من الأقوال والأعمال.
وقوله: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . قال ابن عباس: (يشفّعهم في إخوانهم). وقال السدي: (يعني يستجيب لهم). أي يستجيب سبحانه الدعاء لأهل الإيمان والعمل الصالح ولأصحابهم وإخوانهم.
وقوله: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} . قال ابن عباس: (يشفّعهم في إخوان إخوانهم). وقيل: يعطيهم ما لم يسألوه. وقيل: يزيدهم على ما سألوه.
وقوله: {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} . أي: والكافرون في عذاب مؤلم موجع يوم معادهم.
أخرج ابن جرير في "التفسير" والطبراني ورجاله رجال الصحيح عن أبي هانئ قال: سمعت عمرو بن حريث وغيره يقولون: [إنما نزلت هذه الآية في أصحاب الصفة {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} ذلك بأنهم قالوا لو أن
(1) حديث حسن. أخرجه الطبراني وأبو نعيم في "الحلية". انظر صحيح الجامع (6679).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6309)، ومسلم (2747)، وأحمد (3/ 213)، وغيرهم.
لنا فتمنوا] (1). وفي لفظ الطبراني: (لأنهم تمنوا الدنيا).
وعن قتادة: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} قال: (كان يقال: خير الرزق ما لا يُطغيكَ ولا يُلهيك).
وقوله {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} . قال ابن جرير: (إن اللَّه بما يصلح عباده ويفسدهم من غنى وفقر وسعة وإقتار. . . ذو خبرة وعلم، بصير بتدبيرهم وصرفهم فيما فيه صلاحهم).
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} . قال مجاهد: (يئسوا). والمقصود: وهو سبحانه الذي يكرم عباده بنزول المطر من بعد إياسهم، فينزل عليهم في وقت حاجتهم إليه. والآية كقوله تعالى:{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم: 49].
وقوله: {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} . قال السدي: (المطر). وقيل: ظهور الشمس بعد المطر - ذكره المهدوي. وقال قتادة: (ذُكِرَ لنا أن رجلًا أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! قحط المطر وقنط الناس. قال: مُطِرْتُم (وفي رواية: مطروا إذن) ثم قرأ: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} ).
قال النسفي: ({وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} أي بركات الغيث ومنافعه، وما يحصل به من الخصب).
وقوله: {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} . أي هو المتصرف لخلقه بما فيه اجتماع مصالحهم فيليهم بإحسانه وفضله، {الْحَمِيدُ} أي المحمود بأياديه عندهم ونعمه فيهم وبجميع ما يقدّره ويفعله.
29 -
35. قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن جرير في "التفسير"(30697)، ورواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. ورواه الحاكم وصححه وأشار الذهبي أنه على شرط الشيخين. وانظر:"الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - سورة الشورى - آية (27).
وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)}.
في هذه الآيات: إثباتُ الخلق كله للَّه، والمصائب عقوبات للمذنبين من اللَّه، والجميع تحت حكمه سبحانه، ويريهم آياته في البر والبحر ليعلموا أنه الحق وأن ما يجادلون فيه هو الباطل، ولا نجاة ولا مفر للمشركين إذا نزل العذاب وجاء أمر اللَّه.
فقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} . قال مجاهد: (الناس والملائكة). قلت: بل يشمل ذلك الملائكة والجن والإنس وسائر الحيوانات على اختلاف ألوانهم وأشكالهم ولغاتهم وطبائعهم وتوزعهم في أرجاء السموات والأرض. فَخَلْقُ جميع ذلك يدل أنه تعالى القادر على إحيائكم -أيها الناس- بعد فنائكم.
وقوله: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} . قال ابن جرير: (فكذلك هو القادر على جمع خلقه بحشر يوم القيامة بعد تفرق أوصالهم في القبور).
وقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} . قال ابن عباس: (يعجل للمؤمنين عقوبتهم بذنوبهم ولا يؤاخذون بها في الآخرة).
وقال قتادة: (ذكر لنا أن نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا يُصيب ابنَ آدمَ خَدْشُ عُودٍ، ولا عَثْرَةُ قَدَم، ولا اختِلاجُ عِرْقٍ إلا بذنب، وما يعفو عنه أكثر).
قلت: والذي ذكر قتادة جاء نحوه بإسناد صحيح. فقد أخرج الطبراني في "المعجم الصغير" بسند حسن عن البراء بن عازب مرفوعًا: [ما اخْتَلَجَ عرْقٌ ولا عَيْنٌ إلا بذَنْبٍ، وما يدفَعُ اللَّه أكثر](1).
وقوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} . أي حيثما كنتم فإنكم في سلطانه وقبضته تعالى. وقوله: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} . أي ما لكم من دونه سبحانه متول بالرحمة ولا ناصر يدفع عنكم عذابه إذا نزل بكم، فاحذروا أيها الناس سخطه.
(1) حديث حسن. رواه الطبراني في "المعجم الصغير"(1053)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان"(2/ 247). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2215).
وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} . الجواري: جمع جارية، وهي السائرة في البحر. قال مجاهد والسدي:(الجواري: السفن). وعن مجاهد: ({كَالْأَعْلَامِ} قال: كالجبال).
وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} . قال قتادة: (سفن هذا البحر تجري بالريح، فإن أمسكت عنها الريح ركدت). قال ابن عباس: ({فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} يقول وقوفًا). وقال السدي: (لا تجري).
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} . أي: إن في جري هذه السفن في البحر بقدرة اللَّه وتسخيره الريح لعبرة وحجة تدل على وجوب تعظيمه تعالى وحده لا شريك له، وإنما يستفيد من ذلك كل ذي صبر على طاعة اللَّه، {شَكُورٍ} لنعمه وأياديه عنده.
وقوله: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} . قال ابن عباس: ({أَوْ يُوبِقْهُنَّ} يقول: يهلكهن). قال قتادة: ({بِمَا كَسَبُوا} أي بذنوب أهلها). والمقصود: يهلكهن بالغرق. وجزم {يُوبِقْهُنَّ} عطفًا على {يُسْكِنِ الرِّيحَ} . والمعنى: أو يهلك هذه السفن بإغراقها وأهلها بما كسبت ركبانها من الذنوب، واجترحوا من الآثام.
وقوله: {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} . أي: وإنما يصفح تعالى ويتجاوز بعفوه وكرمه عن كثير من ذنوبكم فلا يعاقب عليها.
وقوله تعالى: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} . قال السدي: (ما لهم من ملجأ). أي: ويعلم الذين يخاصمون رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم من المشركين في حججه وآياته ووحيه العزيز أن لا محيدَ لهم عن بأسنا ونقمتنا، فإنهم مقهورون بقدرتنا، ما لهم من ملجأ يلجؤون إليه إذا حَلَّ بهم عذابنا.
وقوله: {مَحِيصٍ} مأخوذ من قولهم: فلان يحيص عن الحق أي يميل عنه. وحاص به البعير حيصة إذا رمى به. قال الرازي: (حاص عنه: عدل وحاد. يقال ما عنه {مَحِيصٍ} أي محيد ومَهْرب).
وقرأ قراء المدينة: {وَيَعْلَمَ} بالرفع على الاستئناف. في حين قرأها قراء الكوفة والبصرة {وَيَعْلَمَ} بالنصب على العطف على تعليل مقدر، أو على إضمار "أن". والتقدير: وليعلم أو لأن يعلم. واللَّه تعالى أعلم.
36 -
43. قوله تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)}.
في هذه الآيات: فناءُ زينة هذه الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند اللَّه وأبقى للمؤمنين المتوكلين، المجتنبين الكبائر والفواحش والمعظمين أوامر ربهم وإذا أصابهم البغي كانوا من المنتصرين، فمن صبر وعفا وغفر كان من المحسنين.
فقوله: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . قال القرطبي: ({فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} يريد من الغنى والسعة في الدنيا. {فَمَتَاعُ} أي فإنما هو متاع في أيام قليلة تنقضي وتذهب، فلا ينبغي أن يتفاخر به. والخطاب للمشركين).
وقوله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . قال القاسمي: ({وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} أي من ثوابه الأخروي {خَيْرٌ وَأَبْقَى} وذلك لخلوصه عن الشوائب ودوامه {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي في أمورهم وقيامهم بأسبابهم).
وقوله: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} . قال ابن عباس: (كبير الإثم هو الشرك). وقال السدي: (الفواحش: الزنى). قال النسفي: {وَالْفَوَاحِشَ} قيل ما عظم قبحه فهو فاحشة كالزنا).
وقوله: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} . أي يتجاوزون ويحلمون عمن ظلمهم أو أساء إليهم. وقوله: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} . أي أجابوا ربهم حين دعاهم إلى توحيده والبراءة مما يعبد من دونه. قال عبد الرحمن بن زيد: (هم الأنصار بالمدينة، استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيبًا منهم قبل الهجرة).
وقوله: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} . أي أدّوها لمواقيتها بشروطها وهيئاتها.
وقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} . أي إذا حزبهم أمر تشاوروا بينهم.
يقول "سيد" في "الظلال"(5/ 3160): (وهنا في هذه الآيات يصور خصائص هذه الأمة التي تطبعها وتميزها، ومع أن هذه الآيات مكية نزلت قبل قيام الدولة المسلمة في المدينة، فإننا نجد فيها أن من صفة هذه الجماعة المسلمة {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} ما يوحي بأن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن يكون نظامًا سياسيًا للدولة، فهو طابع أساسي للجماعة كلها يقوم عليه أمرها كجماعة، ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة).
قال البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة -من صحيحه- باب قول اللَّه تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]. قال: (وإنَّ المشاورة قبل العزم والتبيّن لقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] فإذا عزم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لبشر التقدم على اللَّه ورسوله. وشاور النبي أصحابه يوم أُحُدٍ في المُقام والخُروج، فرأوا له الخروج، فلما لبِسَ لأْمَتَهُ وعزم قالوا: أقِمْ، فلم يَمِل إليهم بعد العَزْمِ وقال: "لا ينبغي لِنبيّ يَلْبَسُ لأمَتَهُ فيضَعُها حتى يحكم اللَّه". وشاور عليًا وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة، فسمعَ منهما حتى نزل القرآن فجلدَ الرّامين، ولم يلتفِت إلى تنازُعِهم ولكنْ حكم بما أمره اللَّه).
فالشورى: هي استطلاع الرأي من ذوي الخبرة فيه للتوصل إلى أقرب الأمور للحق. قال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]. أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: (قد علم اللَّه أنه ما به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده)(1).
وقال الضحاك بن مزاحم: (ما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشورة إلا لما علم فيها من الفضل).
وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن اللَّه تعالى لا يجمع أمتي على ضلالة، ويدُ اللَّه على الجماعة](2).
وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} . أي: ومما أعطيناهم يتصدقون.
(1) أورده في فتح الباري (13/ 340) - وقال ابن حجر: إسناده حسن. وانظر لأثر الضحاك بعده تفسير الإمام الطبري (7/ 345).
(2)
حديث صحيح. انظر تخريج "السنة" -لابن أبي عاصم- (80)، وانظر كذلك: صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (1844).
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} . قال ابن كثير: (أي: فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم، ليسوا بعاجزين ولا أذلة، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا).
وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} . قال القاسمي: (أي وجزاء سيئة المسيء ما ماثلها. إذ النقصان حيف والزيادة ظلم). قال النسفي: (فالأولى سيئة حقيقية والثانية لا، وإنما سميت سيئة لأنها مجازاة السوء، أو لأنها تسوء من تنزل به، ولأنه لو لم تكن الأولى لكانت الثانية سيئة لأنها إضرار، وإنما صارت حسنة لغيرها، أو في تسمية الثانية سيئة إشارة إلى أن العفو مندوب إليه).
وقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} . قال ابن عباس: (من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو). وقال مقاتل: (فكان العفو من الأعمال الصالحة).
وفي جامع الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري مرفوعًا: [ولا ظُلم عبدٌ مظلمة صبر عليها إلا زاده اللَّه عز وجل عِزًا](1). وفي لفظ لأحمد: [فاعفوا يزدكم اللَّه عزًا].
وقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} . قال سعيد بن جبير: (أي مَنْ بدأ بالظلم). وقال ابن عيسى: (لا يحبّ مَن يتعدى في الاقتصاص ويجاوز الحدّ).
وقوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} .
قال القرطبي: (دليلٌ على أن له أن يستوفي ذلك بنفسه). وقال القاسمي: ({فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} أي للمعاقب، ولا للعاتب والعائب. لأنهم انتصروا منهم بحق. ومن أخذ حقه ممن وجب ذلك له عليه، ولم يتعد ولم يظلم، فكيف يكون عليه سبيل؟ ).
أي: إنما السبيل على الذين يبدؤون الناس بالظلم والإضرار، أو يعتدون في الانتقام، {وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ}: يتكبرون فيها ويشيعون الفساد.
وقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . أي: مقابل ظلمهم وعتوهم وبغيهم وإفسادهم. وقوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .
(1) أخرجه أحمد في المسند، والترمذي (2325) في السنن، وانظر صحيح سنن الترمذي (1894)، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (3022).
قال سعيد بن جبير: (يعني لمن حَقِّ الأمور التي أمر اللَّه بها). أي: لمن الأمور المشكورة والأفعال الحميدة التي عليها ثواب جزيل وثناءٌ جميل.
والمعنى: ولمن صَبَرَ على الأذى وسَتَرَ السيئة، {وَغَفَرَ}: أي تَرَكَ الانتصار لوجه اللَّه تعالى، فإن ذلك من معالي الأمور ورفيع الأعمال التي يحبها اللَّه سبحانه ويجزي بها الأضعاف المضاعفة. وهذا فيمن ظلمه مسلم.
أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه: [أنَّ رجلًا شتَم أبا بكر والنبيُّ صلى الله عليه وسلم جالسٌ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يَعْجَبُ ويَتَبَسَّم، فلما أكثر رَدّ عليه بعضَ قوله، فغضِبَ النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فَلَحِقَهُ أبو بكر فقال: يا رسول اللَّه، إنه كانَ يشتُمني وأنت جالسٌ، فلما رددتُ عليه بعضَ قوله غَضِبْتَ وقُمْتَ! قال: إنه كان معك مَلَكٌ يَرُدُّ عنك، فلما رَدَدت عليه بعضَ قولِه حَضَرَ الشيطانُ، فلم أكُنْ لأقْعُدَ مع الشيطان. ثم قال: "يا أبا بكر، ثلاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ، ما من عبد ظُلِمَ بمظلمة فيُغْضِي عنها للَّه إلا أَعَزَّ اللَّه بها نَصْرَهُ، وما فَتَحَ رَجُلٌ باب عَطِيَّةٍ يُريد بها صلةً إلا زاده اللَّه بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرةً إلا زاده اللَّه بها قِلَّةً"](1).
وفي مسند أحمد والبزار بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن عوف مرفوعًا: [ثلاثٌ أقسِمُ عليهن: ما نقَصَ مالٌ قطُّ من صَدَقة، فتصدّقوا، ولا عفا رجُلٌ عن مظلمةٍ ظُلِمَها إلا زاده اللَّه تعالى بها عِزًّا، فاعفُوِا يزدْكُم اللَّهُ عِزًّا، ولا فتحَ رجُلٌ على نفسه بابَ مسألةٍ يسألُ الناس إلا فتَحَ اللَّه عليه بابَ فقْر](2).
44 -
46. قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا
(1) حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (2/ 436)، وإسناده حسن لأجل ابن عجلان.
(2)
حديث صحيح. أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الغضب". انظر تخريج الترغيب (2/ 8)، وأخرجه أحمد والبزار. انظر صحيح الجامع الصغير (3022).
أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)}.
في هذه الآيات: ضياعُ مَنْ أضَلَّه اللَّه ولم يوفقه للهداية، وشقاءُ الكفار عند رؤية نار جهنم يوم القيامة، والخاسرون الذين خسروا أنفسهم وأهليهم وحُرموا الشفاعة والنصرة من اللَّه والولاية.
فقوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} . قال ابن جرير: (يقول: ومن خذله اللَّه عن الرشاد، فليس له من ولي يليه، فيهديه لسبيل الصواب، ويسدده من بعد إضلال اللَّه إياه).
وقوله: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} .
قال السدي: (يقول: إلى الدنيا). أي: وترى الكافرين باللَّه يا محمد يوم القيامة لما عاينوا عذاب اللَّه المحدق بهم يطلبون من ربهم أن يُرَدُّوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة اللَّه فلا يجابون إلى طلبهم.
وقوله: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} . قال السدي: ({خَاشِعِينَ}: خاضعين من الذل). وقال ابن زيد: (قد أذلهم الخوف الذي نزل بهم وخشعوا له).
وقوله: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} . قال ابن عباس: (يعني بالخفي الذليل). وقال: (بطرف ذابل ذليل). وقال قتادة: (يسارقون النظر من شدة الخوف). قال ابن جرير: (ينظرون إلى النار من طرف ذليل، وصفه اللَّه جل ثناؤه بالخفاء للذلة التي قد ركبتهم، حتى كادت أعينهم أن تغور، فتذهب). وقيل: أي يفزعون أن ينظروا إليها بجميع أبصارهم لما يرون من أصناف العذاب.
وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال السدي: (غبنوا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة). قال القرطبي: (أي يقول المؤمنون في الجنة لما عاينوا ما حَلَّ بالكفار: إن الخسران في الحقيقة ما صار إليه هؤلاء، فإنهم خسروا أنفسهم لأنهم في العذاب المخلّد، وخسروا أهليهم لأن الأهل إن كانوا في النار فلا انتفاع بهم، وإن كانوا في الجنة فقد حيل بينه وبينهم).
وقوله: {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} . أي دائم سرمدي لا يحول ولا يزول.
وقوله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . أي: ولم يجدوا من يمنهم من اللَّه وحلول نقمته وصِلِيّ عذابه.
وقوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} . أي: ومن يخذله اللَّه عن طريق الحق فلا نجاة له.
47 -
48. قوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)}.
في هذه الآيات: أمْرُ اللَّه تعالى عباده المسارعة بالاستجابة له قبل مجيء يوم الأهوال فلا ملجأ ولا نصير، وفرحُ الإنسان بالنعمة فإن مسّه الشر فيؤوس كفور.
فقوله: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} . تحذير بعد تصوير، وأمر بالاستعداد ليوم القيامة بعد ذِكْرِ ما فيه من الأهوال على الكافرين والتعسير. قال ابن كثير:({مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ}، أي: إذا أمر بكونه فإنه كَلَمْحِ البَصَر يكون، وليس له دافع ولا مانع).
وقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} . وقال مجاهد: ({مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ}: من مَحْرَز). أي: تلجؤون إليه. وعن السدي: ({وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} يقول: من عزّ تعتزون). وقال مجاهد: (ناصر ينصركم). والمعنى: ما لكم من حِصْن يومئد تتحصّنون فيه، ولا مكان يستركم وتتنكّرون فيه، فتغيبون عن بَصَرِهِ تبارك وتعالى. أو ما لكم من قدرة على إنكار شيء مما اقترفتموه ودُوِّنَ في صحائفكم.
وقوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} . أي: فإن أعرض هؤلاء المشركون -يا محمد- عن الحق الذي معك فدعهم، فلم نرسلك رقيبًا عليهم تحفظ أعمالهم وتحصيها، بل عليك بلاغ الرسالة.
وقوله {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} . أي: فإنا إذا أغنينا الإنسان بسعة وعافية ورخاء ونعمة سُرَّ بالغنى وما أعطيناه من العافية وكثرة المال، وإن أصابتهم فاقة وفقر وضيق عيش أو مرض
عقوبة على معاصيهم أيس من الخير، فالإنسان جحود لنعم اللَّه، يعدّد المصائب وينسى النعم.
قال ابن جرير: (وإنما قال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} فأخرج الهاء والميم مخرج كناية جمع الذكور، وقد ذكر الإنسان قبل ذلك بمعنى الواحد، لأنه بمعنى الجمع).
قلت: وإنما يَسْلَمُ من هذه الصفة المذمومة المؤمن، فإنه يحمد اللَّه في السراء والضراء، ويتذكر نعم اللَّه عليه في الرخاء والشدة.
ففي صحيح مسلم من حديث صهيب مرفوعًا: [عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمرهُ كُلَّهُ له خَيْرٌ، وليسَ ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سَرَّاء شَكَر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صَبَرَ، فكان خيرًا له](1).
وفي مسند أحمد وسنن الدارمي بإسناد على شرط مسلم عن صهيب قال: [بينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قاعد مع أصحابه إذ ضحك، فقال؟ ألا تسألوني مم أضحك؟ قال: عجبت لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابه ما يحب حمد اللَّه وكان له خير، وإن أصابه ما يكره فصبر كان له خير، وليس كل أحد أمره كله خير إلا المؤمن](2).
49 -
50. قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)}.
في هذه الآيات: إثباتُ الملك كله للَّه وخلق الإناث والذكور، أو تنويعهم لبعض عباده وقد يجعل من يشاء عقيمًا إنه عليم قدير.
فقوله: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} . أي: هو سبحانه الخالق المالك المتصرف وحده في عوالم السماوات والأرض، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وما شاء أعطى، وما شاء منع.
وقوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} . قال مجاهد والحسن: (يهب
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2999) - كتاب الزهد، باب المؤمن أمره كله خير.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 16)، والدارمي (2/ 318)، وإسناده صحيح على شرط مسلم. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (147).
لمن يشاء إناثًا لا ذكور معهنّ، ويهب لمن يشاء ذكورًا لا إناث معهم).
وقوله: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} . قال مجاهد: (يخلط بينهم، يقول: التزويج: أن تلد المرأة غلامًا، ثم تلد جارية، ثم تلد غلامًا، ثم تلد جارية). وقال ابن زيد: (أو يجعل في الواحد ذكرًا وأنثى توأمًا). قال القتبيّ: (التزويج هاهنا هو الجمع بين البنين والبنات، تقول العرب: زوّجت إبلي إذا جمعت بين الكبار والصغار).
وقوله: {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} . قال قتادة: (لا يولد له). وقال ابن عباس: (يقول: لا يُلقِح). وأصل العقم في لغة العرب القطع، يقال: مُلْك عقيم: أي تقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق خوفًا على الملك. وريح عقيم: أي لا تلقح سحابًا ولا شجرًا. قال الرازي: (ويوم القيامة يومٌ عقيم لأنه لا يومَ بعدَه).
قال البَغَويُّ: ({يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} : ومنهم لوط عليه السلام {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} : كإبراهيم الخليل عليه السلام لم يولد له أنثى. {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} : كمحمد عليه الصلاة والسلام {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} : كيحيى وعيسى عليهما السلام.
وقوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} . أي: إنه تعالى {عَلِيمٌ} بما يناسب أحوال عباده في حياتهم أو ابتلائهم، {قَدِيرٌ}: على إحداث هذا التفاوت في طبيعة النسل الذي رزقهم، بل هو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير.
51 -
53. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}.
في هذه الآيات: تأكيدُ أمر الوحي للَّه العظيم، وامتنانُه تعالى بالكتاب والإيمان على رسوله الكريم، وإثباتهُ تعالى أمر الهداية له والبلاع لنبيه يدعو العباد إلى الصراط المستقيم.
فقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} . بيان لبعض مقامات الوحي بالنسبة لجناب اللَّه عز وجل.
فإن أقسام الوحي كما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة كما يأتي:
القسم الأول: الرؤيا الصادقة في النوم.
فقد كانت بداية الوحي كذلك، فكانت البشائر ترد على نفس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أثناء نومه، لتجيء الرؤيا كما رآها مثل فلق الصبح.
فقد خرّج البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: [أوّلُ ما بُدئَ به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الوحْي الرؤيا الصالحةُ في النَّوْم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مِثْلَ فَلَقِ الصُّبح](1).
القسم الثاني: هو ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه عليه الصلاة والسلام دون أن يراه. فإن اللَّه تبارك وتعالى تارة يقذف في رُوع النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا لا يُتَمارى فيه أنه من اللَّه عز وجل.
فقد أخرج أبو نعيم في "الحلية" بسند حسن عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ رُوحَ القدس نفثَ في رُوعي، أنّ نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا اللَّه وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدَكم استبطاءُ الرزق أن يطلبه بمعصية اللَّه، فإن اللَّه تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته](2).
القسم الثالث: هو تمثّل الملك رجلًا يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعي عنه ما يقول له. وهذا القسم قد تكرر حتى رآه بعض الصحابة عيانًا، وسمعوا منه أمام النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جبريل الذي هو في الصحيح وبعض السنن.
ففي صحيح مسلم عن عمر قال: [بَيْنَا نحن عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد. . . .](3). وفي لفظ ابن ماجة من حديث أبي هريرة: [كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا بارزًا للناس فأتاه رجل. وفيه قال عمر: فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث فقال: أتدري من الرجل؟
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3) - كتاب بدء الوحي، في أول حديث طويل.
(2)
حديث صحيح. انظر تخريج: "مشكاة المصابيح"(15)، وصحيح الجامع الصغير (2081).
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (8) - (9) كتاب الإيمان، وصحيح ابن ماجة (53 - 54).
قلت: اللَّه ورسوله أعلم. قال: ذلك جبريل أتاكم يُعلمكم معالم دينكم].
القسم الرابع: مجيء الوحي أحيانًا بشكل قاس كصلصلة الجرس.
يروي البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: [أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه! كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا فيكلمني فأعي ما يقول](1).
القسم الخامس: مجيء الملك أحيانًا في صورته الحقيقية التي خلقه اللَّه بها.
ففي صحيح مسلم من حديث عائشة مرفوعًا: [{وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ}، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}: إنما هو جبريل عليه السلام، لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته مُنْهبِطًا من السماء سادًّا عِظَمُ خلقِه ما بين السماء إلى الأرض](2).
القسم السادس: كلام اللَّه لنبيّه مباشرة دون واسطة.
وقد حدث ذلك ليلة المعراج بعد أن غادر جبريل في السماء السابعة وتابع نبينا صلى الله عليه وسلم رقيًا إلى سدرة المنتهى، فخاطبه ربه سبحانه هناك. كما في صحيح مسلم من حديث أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [فأوحى اللَّه إليّ ما أوحى، ففرض عليَّ خمسين صلاة. ثم قال له بعد التخفيف: يا محمد إنهن خمس صلوات كلَّ يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة](3).
القسم السابع: كلام اللَّه لنبيّه مباشرة أثناء النوم.
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح عن ابن عباس مرفوعًا: [أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال يا محمدُ هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا، فوضع يده بين كتِفَيَّ، حتى وجدت بردها بين ثدييّ، فعلمت ما في السماوات وما في الأرض](4).
القسم الثامن: مجيء ملك غير جبريل يكلم النبي وهو يراه.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه -حديث رقم- (2)، كتاب بدء الوحي.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (177) - كتاب الإيمان، في أثناء حديث طويل.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (162) - كتاب الإيمان.
(4)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (2580)، وصحيح الجامع الصغير (59).
ففي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان عن أبي زُرعة عن أبي هريرة قال: [جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال له جبريل: هذا الملكُ ما نزل منذ خُلِقَ قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك: أمَلِكًا أجعلك أم عبدًا رسولًا؟ قال له جبريل: تواضع لربك يا محمد! فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا، بل عبدًا رسولًا](1).
وأما قوله: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ، فهو كما كُلِّم موسى عليه السلام فإنه سأل الرؤية بعد التكليم، فحُجِبَ عنها.
وفي جامع الترمذي وسنن ابن ماجة عن جابر قال: [لقيني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا جابر ما لي أراك منكسرًا؟ فقلت: يا رسول اللَّه! استشهد أبي وترك عيالًا ودينًا. فقال: ألا أبشرك بما لقي اللَّهُ به أباكَ؟ قال: بلى يا رسول اللَّه، قال: ما يكلم اللَّه أحدًا قط إلا من وراء حجابه، وأحيا أباك فكلمه كفاحًا (2). فقال: تمنّ عليّ أعطيكَ] الحديث (3). وفي لفظ ابن ماجة: [ما كلم اللَّه أحدًا إلا من وراء حجاب. وكلم أباك كِفاحًا].
قال ابن كثير: (ولكن هذا في عالم البرزخ، والآية إنما هي في الدار الدنيا).
وقوله: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} . أي: كما ينزل جبريل وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم السلام. قال السدي: (جبرائيل يأتي بالوحي).
وقوله: {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} قال ابن جرير: {إِنَّهُ} يعني نفسه جل ثناؤه: ذو علوّ على كل شيء وارتفاع عليه واقتدار. {حَكِيمٌ} يقول: ذو حكمة في تدبيره خلقه).
وقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} . يعني القرآن، أوحيناه إليك يا محمد، وحيًا وَرَحْمَة من أمرنا. فعن قتادة، عن الحسن، في قوله:{رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} قال: (رحمة من أمرنا). وقال السدي: (وحيًا من أمرنا). وإنما سمّاه روحًا لأنه تحيا به القلوب الميتة. قال الشهاب: (فهو استعارة أو مجاز مرسل، لما فيه من الهداية والعلم الذي هو كالحياة).
(1) حديث صحيح. رواه أحمد في المسند (2/ 231)، وابن حبان بسند صحيح. انظر:"سلسلة الأحاديث الصحيحة"(1002).
(2)
كفاحًا: أي مواجهة.
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجة (2258)، وصحيح سنن الترمذي (2408).
وقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} . أي على التفصيل الذي شرع لك ربك بعد ذلك وبَيَّنَ لك آفاقه ومعالمه. وقيل: عنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل، وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي - حكاه النسفي.
وقوله: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} . أي: ولكن جعلنا هذا القرآن العظيم ضياء للناس، باشتماله على منهاج السعادة في الدارين.
وقوله: {نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} . قال السدي: (يعني القرآن). قال القرطبي: (أي من نختاره للنبوّة، كقوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 74]).
قلت: بل الآية تعم كل من أصابه نور هذا الوحي فأبصر به منهاج النجاة، كما قال تعالى:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]. والهداية هنا هي هداية التوفيق والإلهام.
وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . هذه هداية الدلالة والإرشاد. وهي هداية الرسل، والمعنى: وإنك لتدعو يا محمد إلى منهاج قويم وطريق مستقيم. قال السدي: (تدعو إلى دين مستقيم). وقال قتادة: (لكل قوم هاد). وقوله: {صِرَاطِ اللَّهِ} . -صراط- بدل، ترجمة عن الصراط الأول. قال ابن كثير:({صِرَاطِ اللَّهِ}، أي: شرعه الذي أمَر به اللَّه).
وقوله: {الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . قال القاسمي: (أي خلقًا وملكًا). وقوله: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} . قال ابن جرير: (ألا إلى اللَّه أيها الناس تصير أموركم في الآخرة فيقضي بينكم بالعدل).
فإن قيل: أوليست أمورهم في الدنيا إليه؟ قيل: هي وإن كان إليه تدبير جميع ذلك، فإن لهم حكامًا وولاة ينظرون بينهم، وليس لهم يوم القيامة حاكم ولا سلطان غيره.
فيكون المعنى: إن مآل الأمور للفصل والجزاء إليه سبحانه في الآخرة، فهو يحكم ولا معقب لحكمه، وهو أحكم الحاكمين.
أخرج أبو داود والنسائي بسند صحيح من حديث هانئ مرفوعًا: [إن اللَّه هو الحَكَمُ، وإليه الحُكْم](1).
تم تفسير سورة الشورى بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منه وكرمه
* * *
.