الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
57 - سورة الحديد
وهي سورة مدنية، وعدد آياتها (29).
أخرج أبو داود والترمذي وأحمد والنسائي بسند حسن عن خالد بن مَعْدان، عن ابن أبي بلال، عَنْ عِرْباض بن سارية أنه حدّثهم:[أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المُسَبِّحات قبل أن يرقد، وقال: إنَّ فيهنَّ آيةً خيرٌ مِنْ ألفِ آية](1).
قال القرطبي: (يعني بالمسبِّحات: "الحديد" و"الحشر" و"الصَّف" و"الجمعة" و"التغابن").
قِال ابن كثير: (والآية المشارُ إليها في الحديث هي -واللَّه أعلم- قولُهُ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}).
موضوع السورة
نصر اللَّه الأكيد، بمنهاج النبوة والحديد
-
منهاج السورة
-
1 -
اشتراك جميع الكائنات بالتسبيح للَّه العظيم، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.
(1) حديث حسن. أخرجه أبو داود (5057)، والترمذي (3089)، وأحمد (4/ 128)، والنسائي في "اليوم والليلة"(713)، (714)، وانظر صحيح سنن الترمذي (2333).
2 -
الدعوة إلى الإيمان باللَّه والإنفاق في سبيله، وبيان الفرق بين السابقين إلى الإيمان والتابعين لهم بإحسان.
3 -
نَعْتُ مشهد النجاة يوم القيامة للمؤمنين، ومشهد الذل والخزي والهوان على المنافقين.
4 -
استبطاءُ اللَّه تعالى الخشية في قلوب المؤمنين، واللَّه هو المحيي القلوب والأرض الميتة وهو أعلم بالمتقين.
5 -
ثناء اللَّه على الصدق والصديقين، وبيان مصير الكفار والمكذبين.
6 -
ذمُّ اللَّه الدنيا واللهو واللعب وتفاخر الناس بالزائل الفانى، وحثّه تعالى عباده على التسابق إلى طلب المغفرة ومنازل أهل المعالي.
7 -
تقدير اللَّه المصائب والآلام، ومآل أهل البخل إلى الخزي والخسران.
8 -
إرسال اللَّه تعالى الرسل الكرام، بالبينات والكتب والميزان، ووعده تعالى بالنصر والتأييد لأوليائه الصالحين الكرام
9 -
إرسال اللَّه نوحًا وإبراهيم عليهما السلام، وجعل النبوة والكتاب في سلالتهما للمصطفين الكرام.
10 -
ثناؤه تعالى على عيسى بن مريم وأتباعه الصادقين، وذم أهل الابتداع والتنطع في الدين. وأمرُه تعالى عباده المؤمنين أن يَصْدُقُوه التقوى ومتابعة منهج رسوله الكريم، فالفضل بيد اللَّه وهو ولي الأتقياء المخبتين.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
6. قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)}.
في هذه الآيات: تسبيحُ جميع الكائنات للَّه الملك العزيز الحكيم، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.
فقوله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . إِخْبَارٌ من اللَّه تعالى عن اشتراك جميع ما في السماوات والأرض من الكائنات والحيوانات والنباتات في تنزيهه وتقديسه وتعظيمه. قال ابن عباس: ({سَبَّحَ لِلَّهِ}: صلّى للَّه {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} ممن خلق من الملائكة {وَالْأَرْضِ} من شيء فيه رُوح أو لا رُوحَ فيه).
وفي التنزيل: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].
أخرج البخاري في "الأدب المفرد"، وأحمد في المسند، بإسناد صحيح من حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا -في ذكره صلى الله عليه وسلم وصية نوح عليه الصلاة والسلام لابنه-: [آمرك بـ "لا إله إلا اللَّه"، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ووضعت "لا إله إلا اللَّه" في كفة، رجحت بهن "لا إله إلا اللَّه"، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة قصمتهن "لا إله إلا اللَّه". و"سبحان اللَّه
وبحمده" فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق الخلق] (1).
وقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . أي: وهو العزيز الذي قد عزّ وغَلَب كل شيء، وقد خضع له كل شيء، {الْحَكِيمُ} في شأنه كله: في خلقه وقدره وقوله وفعله وشرعه.
وقوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
أي: هو المالك -سبحانه- المتصرف بجميع خلقه في السماوات والأرض، وعنده خزائن المطر والنبات وسائر الرزق، يميت الأحياء في الدنيا ويحيي الأموات للبعث، بل كل موت وحياة بإذنه وأمره، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وقؤله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} .
{الْأَوَّلُ} : أي السابق للأشياء كلها. {وَالْآخِرُ} : أي الباقي بعد الأشياء كلها. {وَالظَّاهِرُ} : هو الذي ظهر فوق كل شيء وعلاه. {وَالْبَاطِنُ} : هو المحتجبُ عن أبصار الخلائق. قال البخاري: (قال يحيى: الظاهر على كل شيء علمًا، والباطن على كل شيء علمًا).
وفي صحيح مسلم عن سهيل قال: [كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول: اللهم رب السماوات ورب الأرض وربّ العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل ذي شرّ أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدَّين، وأغننا من الفقر. وكان يروي ذلك عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم](2).
ورواه أحمد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم:[اللهم رب. . .] وذكره.
وقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . قال القاسمي: (أي تام العلم، فلا يخفى عليه شيء).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(548)، وأحمد (2/ 169 - 170)، وكذلك (2/ 225)، والبيهقي في "الأسماء"(79). وانظر السلسلة الصحيحة (134).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2713)، ورواه أحمد في المسند (2/ 404)، وإسناد صحيح.
وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} .
إخبار عن خلقه تعالى السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم علوه على العرش بعد خلقهن.
ففي صحيح مسلم ومسند أحمد عن أبي هريرة قال: أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: [خلق اللَّه التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدوابّ يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة، في آخِر الخلق، في آخر ساعةٍ من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل](1).
قال شيخ المفسرين -الإمام ابن جرير- رحمه الله: ({هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} يقول تعالى ذكره: هو الذي أنشأ السماوات السبع والأرضين، فدبّرهن وما فيهنّ، {ثُمَّ اسْتَوَى} على عرشه، فارتفع عليه وعلا).
وقوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} . أي: عدد ما يدخل فيها من حبٍّ وقَطْر، {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي: من زرع ونبات وثمار. {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} أي: من البَرَدِ والأمطار، والثلوج والأقدار، وجميع الأحكام والأوامر والقضاء مع الملائكة الأبرار. {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي من الأعمال مع الملائكة الأخيار.
في التنزيل:
1 -
2 -
وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 15].
3 -
وقال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى قال: [قام فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بِخَمْسِ كلماتٍ فقال: إن اللَّه عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يَخْفِضُ القِسْطَ ويَرْفَعُه،
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2789) كتاب صفات المنافقين، باب ابتداء الخلق، وخلق آدم عليه السلام. ورواه أحمد، وأبو يعلى في المسند (1/ 288).
يُرْفَعُ إليه عَمَلُ الليل قبل عملِ النهار، وعملُ النهارِ قَبْلَ عَمَلِ الليل، حجابه النور، لو كشَفَهُ لأحرقت سبحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خَلْقِه] (1).
وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . أي: بصفاته: بسمعه وبصره وعلمه. ويؤكد ذلك آخر الآية: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ففيه تفسير صفة المعية. قال ابن كثير: (أي: رقيبٌ عليكم، شهيدٌ على أعمالكم حيث أنتم، وأين كنتُم، من برّ أو بحر، في ليلٍ أو نَهار، في البيوت أو القِفار، الجميعُ في علمه على السَّواء، وتحت بصره وسَمْعِه، فيَسْمَعُ كلامَكُم، ويرى مكانكم، ويعلم سرَّكم ونجواكم، كما قال: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5]. وقال: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10]. فلا إله غيره ولا ربَّ سواه).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. معية الرعاية والنصر والتأييد.
2 -
وقال تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 15]. معية العلم والاطلاع.
3 -
وقال تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]. معية صفتي السمع والبصر.
4 -
وقال تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]. قال الإمام البغوي الشافعي: (أي إلا هو رابعهم بالعلم).
وفي صحيح مسلم من حديث عمر -لما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان- قال: [أن تعبد اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك](2).
وقوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} . تأكيد لما سبق، فله سبحانه سلطان السماوات والأرض وما فيهن، وأمره تعالى نافذ بهن، وإليه مصير أمور جميع خلقه، وإليه مآلهم وحسابهم وثوابهم وعقابهم.
وقوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} . أي: يدخل هذا في هذا، ويطيل
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (179) - كتاب الإيمان. وفي لفظ: "حجابه النار".
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (8) - كتاب الإيمان، وكذلك (9) - من حديث أبي هريرة.
أحدهما ويقصر الآخر. قال إبراهيم: ({يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}: دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل). وقال عكرمة: (قصر هذا في طول هذا، وطول هذا في قصر هذا). وقال الأعمش عن إبراهيم: (قصر أيام الشتاء في طول ليله، وقصر ليل الصيف في طول نهاره).
وقوله: {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} هو. أي: وهو ذو علم بسرائر عباده وما تضمره صدورهم، وما تحدثهم به أنفسهم من خير أو شر، فلا يخفى عليه خافية.
7 -
11. قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)}.
في هذه الآيات: دعوة اللَّه عباده للإيمان به والإنفاق في سبيله، فهو الذي ينزل على عبده الآيات البينات ليخرج العباد من الظلمات إلى النور بأذنه. وبيان الفرق في الأجر بين من آمن وأنفق من بعد الفتح وبين من سبق إلى البذل والإيمان، ومضى مبكرًا في سبيل أهل الدرجات والإحسان.
فقوله: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: آمنوا باللَّه أيها الناس، فأقرّوا بوحدانيته وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم فصدقوه فيما جاءكم به من عند اللَّه واتبعوه).
وقوله: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} . حثٌّ على الإنفاق في سبيل اللَّه، الذي هو من الدلائل على صدق الإيمان، ويشمل ذلك القربات إضافة إلى الزكوات.
قال الحسن: ({مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} بوراثتكم إياه عمن كان قبلكم). قال القرطبي: (وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة النوّاب
والوكلاء، فاغتنموا الفرصة فيها بإقامة الحق قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم).
وفى صحيح مسلم عن مطرِّفٍ، عن أبيه قال:[أتَيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال: يقول ابنُ آدم: مالي، مالي. قال: وهَلْ لكَ، يا ابْنَ آدمَ! مِن مالِكَ إلا ما أكَلْتَ فأفْنَيْتَ، أو لَبِسْتَ فأبْلَيْتَ، أو تَصدَّقْتَ فأمْضَيْتَ](1).
وقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} . ترغيب بالإيمان وحثّ على الإنفاق لما يعقب ذلك من الثواب الجزيل.
وقوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} . قال ابن كثير: (أي: وأيُّ شيءٍ يمنعكم الإيمان والرسولُ بين أظهركم، يدعوكم إلى ذلك، ويبيّن لكم الحُجَج والبراهين على صحّةِ ما جاءكم به؟ ).
والآية فيها حالان متداخلان: الأول - حال من معنى الفعل في {وَمَا لَكُمْ} والتقدير: وما لكم كافرين باللَّه. الثاني - واو الحال في قوله: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} فيكون المعنى. وأيّ عذر لكم في ألا تؤمنوا وقد أزيحت العلل ببلاغ الرسول. قال القرطبي: ({وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} بيَّن بهذا أنه لا حكم قبل ورود الشرائع).
أخرج أحمد وأبو يعلى بسند حسن عن ابن مُحَيْريز قال: قلت لأبي جمعة: حَدّثنا حديثًا سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قال: نعم. أحدّثك حديثًا جيّدًا: [تَغَذَّينا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجَرّاح، فقال: يا رسول اللَّه، هل أحدٌ خيرٌ منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال: نعم، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني](2).
وله شاهد رواه الحسن بن عرفة العبدي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: [قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أى الخَلْق أعجبُ إليكم إيمانًا؟ قالوا: الملائكة. قال: وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟ قالوا: فالنبيون. قال: وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟ قالوا: فنحن. قال: وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ قال: فقال
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2958) - كتاب الزهد والرقائق. ورواه أحمد (4/ 24).
(2)
حسن الإسناد. أخرجه أحمد (4/ 106)، وأبو يعلى (1559)، والطبرانى (3537)، وصححه الحاكم (6992/ 4)، وكذا الذهبي. وله شواهد.
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. ألا إنَّ أعجب الخلق إليَّ إيمانًا لَقَوْمٌ يكونون من بعدكم يجدون صحفًا فيها كتاب يؤمنون بما فيها] (1).
وقوله: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} . قال مجاهد: (هو الميثاق الأول الذي كان وهم في ظهر آدم بأن اللَّه ربكم لا إله لكم سواه). وقيل: الميثاق هنا بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة: 7]. وقيل: أخذ اللَّه ميثاقكم بما أودع فيكم من العقول، وأقام عليكم الدلائل والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول - واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . قال القاشاني: (أي إن بقي نور الفطرة والإيمان الأزليّ فيكم). وقال ابن جرير: (يقول: إن كنتم تريدون أن تؤمنوا باللَّه يومًا من الأيام، فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لتتابع الحجج عليكم بالرسول وإعلامه ودعائه إياكم إلى ما قد تقرّرت صحته عندكم بالأعلام والأدلة والميثاق المأخوذ عليكم).
قال مجاهد: (من الضلالة إلى الهدى). أي: هو الذي ينزل على رسوله القرآن المشتمل على الحجج الواضحات والدلائل الباهرات والبراهين القاطعات، ليخرجكم بهذه الآيات والمعجزات من ظلمات الهوى والجاهلية والكفر إلى نور الحق واليقين والإيمان.
وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} . أي: وإن اللَّه تعالى رؤوف بعباده بإنزاله الكتب وإرساله الرسل لإنارة الطريق وإزاحة العلل وإزالة الشكوك والشبهات.
وقوله: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . توبيخ على ترك الإنفاق في سبيل اللَّه. قال الشهاب: (هذا من أبلغ ما يكون في الحث على الإنفاق، لأنه قرنه بالإيمان أولًا لما أمرهم به، ثم وبّخَهم على ترك الإيمان، مع سطوع براهينه، وعلى ترك الإنفاق في سبيل من أعطاه لهم، مع أنهم على شرف الموت، وعدم بقائه لهم إن لم ينفقوه. وسبيل اللَّه كل خير يوصلهم إليه، أعم من الجهاد وغيره. وقصر بعضهم إياه على الجهاد، لأنه فرده الأكمل، وجزؤه الأفضل، من باب قصر العام على أهم أفراده وأشملها، ولا سيما وسبب النزول كان لذلك).
(1) حسن لشواهده. انظر رواية البزار (3839) - "كشف"، والحاكم (2/ 85)، وأبي يعلى (160)، من حديث عمر، وتفسير ابن كثير (370) - تحقيق المهدي.
والمقصود في الآية: أيّ شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل اللَّه، وهذا الذي بين أيديكم من المال وغيره لا يدوم لكم ولا يبقى، بل يرثه اللَّه وكل شيء في السماوات والأرض، فما أجدر والحال هذه أن ينفق العبد في حياته، ويتخذه ذخرًا يجده في صحيفته بعد مماته.
وقوله: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} . قال مجاهد: (آمن فأنفق، يقول: من هاجر ليس كمن لم يهاجر).
وعن قتادة: ({مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} قال: فتح مكة). وقال عامر الشعبي: (فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية، يقول تعالى ذكره: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الآية). والجمهور على أن المراد بالفتح فتح مكة.
وقوله: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} . قال قتادة: (كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك). وفي الكلام حذف والتقدير: لا يستوي من أنفق قبل الفتح وقاتل مع من أنفق من بعد الفتح وقاتل. قال القرطبي: (وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة الناس كانت أكثر لضعف الإسلام، وفِعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشقّ، والأجر على قدر النَّصب، واللَّه أعلم).
وقال الإمام مالك: (ينبغي أن يُقَدَّمَ أهل الفضل والعزم، وقد قال اللَّه تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ}).
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أنس قال: [كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلامٌ، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتُمونا بها؟ فبلغَنا أنّ ذلك ذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثلَ أحُدٍ -أو: مثلَ الجبالِ- ذهبًا، ما بلغتم أعمالهم](1).
وهذه المشاجرة كانت أثناء غزو بني جَذيمة بعد فتح مكة، وذلك في شهر شوال سنة 8 هـ حين بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سرية يقودها خالد بن الوليد فيها ثلاث مئة وخمسون رجلًا من المهاجرين والأنصار إلى بني جذيمة في يلملم جنوب مكة، يدعوهم إلى الإسلام، فلما وصل أرضهم ودعاهم إلى الدين الحق جعلوا يقولون صبأنا ويعنون
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 266)، وإسناده على شرط البخاري.
أسلمنا إذ لم يكن يحسنون أن يعبروا بمصطلحات الإسلام، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ويظن أنهم يخدعونه بقولهم صبأنا. فكان بين خالد وعبد الرحمن كلامٌ وشرٌّ في ذلك، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأنَّبَ خالدًا بعدما تبرأ من فعله بقوله -كما روى البخاري عن سالم عن أبيه-:[اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالدٌ مرتين](1). ولكنه لم يعزله ولم يعاقبه إذ كان متأولًا.
وقوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} . قال قتادة: (الجنة). ونصب "كُلًّا" على إيقاع الفعل عليه، والتقدير:(وعد اللَّه كلًا الحسنى). يعني المنفقين قبل الفتح وبعده، وإن كانوا يتفاوتون في الثواب.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [المؤمن القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللَّه من المؤمن الضعيف، وفي كل خير](2). فعطف بمدح الآخر حتى لا يظن ظان أنه مذموم، وإنما سبقه الأول بالعمل والثواب والتفضيل.
وفي سنن النسائي وصحيح ابن حبان بسند حسن من حديث أبي ذر، وأبي هريرة مرفوعًا:[سَبَقَ درهمٌ مئة ألف دِرهم: رجلٌ له دِرْهمَان أخذَ أحدَهما فتصدَّق به، ورجلٌ له مالٌ كثير فأخذ منْ عُرضِه مئة ألف فتصدّق بها](3).
وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . قال ابن كثير: (أي: فلخِبْرَتِه فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذاكَ إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام، وإنفاقه في حال الجَهْدِ والقلة والضيق).
وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} . قال زيد بن أسلم: (هو النفقة على الأهل). وقال عمر بن الخطاب: (هو الإنفاق في سبيل اللَّه). والآية عامة في كل إنفاق
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (4339) - كتاب المغازي. وانظر كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (1321) لتفصيل البحث.
(2)
حديث صحيح. رواه مسلم (2664)، وأحمد (2/ 366)، وابن ماجة (79)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(623)، (624)، وابن حبان (5721)، (5722)، وغيرهم.
(3)
حديث حسن، أخرجه النسائي (5/ 59)، وابن خزيمة (2443)، ورواه ابن حبان (3347).
خالص لوجه اللَّه في أيّ وجه من وجوه البر والخيرات. والعرب تقول لكل من فعل فعلًا حسنًا: قد أقرض، وسمي القرض قرضًا، لأن القرض أخرج لاسترداد البدل. والبدل هنا الأضعاف الكثيرة، كما قال تعالى:{فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} أي: ما بين السبع إلى سبع مئة إلى ما شاء اللَّه من الأضعاف. قال القشيري: (والقرض الحسن أن يكون المتصدق صادق النية طيب النفس، يبتغي به وجه اللَّه دون الرياء والسُّمعة، وأن يكون من الحلال).
ومن كنوز السنة العطرة في ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه! أيُّ الصَّدقةِ أعْظَمُ أجْرًا؟ قال: أنْ تَصَدَّق وأنت صحيح شحيحٌ تَخْشى الفَقْرَ، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحُلقوم، قُلْتَ: لفلانٍ كذا ولِفلانٍ كذا، وقد كان لفلان](1).
الحديث الثاني: أخرج أحمد وابن حبان والطبراني والحاكم بسند صحيح عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك:[أن رجلًا قال: يا رسول اللَّه! إنّ لفلان نخلة، وأنا أقيم نخلي بها، فمره أن يعطيني إياها حتى أقيم حائطي بها. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أعطها إياه بنخلة في الجنة". فأبى، وأتاه أبو الدحداح فقال: بِعْني نَخْلَكَ بِحائطي. قال: ففعل. قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه! إني قد ابتعتُ النخلة بحائطي، فاجعلها له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كم من عَذْق دَوّاح لأبي الدحداح في الجنة" - مرارًا. فأتى امرأته فقال: يا أم الدحداح! اخرجي من الحائط، فإني بعته بنخلة في الجنة. فقالت: قد ربحت البيع. أو كلمة نحوها](2).
والعَذْق: النخلة. والدوّاح: العظيم الشديد العلو، وكل شجرة عظيمة: دوحة. وفي رواية للحديث عند ابن سعد من حديث عبد اللَّه بن مسعود بلفظ: [ربَّ عَذْقٍ مُذَلّلٍ لابن الدَّحداحة في الجنة].
وفي رواية لمسلم عن جابر بن سمرة قال: [صَلّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ابن الدَّحْداح،
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1419) كتاب الزكاة. وأخرجه مسلم (1032)، وأبو داود (2865)، والنسائي (5/ 86)، وابن ماجة (2706)، وأحمد (2/ 231).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 146)، وابن حبان (2271 - موارد)، والطبراني في "المعجم الكبير"(22/ 300/ 763)، والحاكم (2/ 20) بإسناد صحيح على شرط مسلم. وانظر لرواية ابن سعد:"صحيح الجامع"(3484). ولرواية مسلم: صحيح مسلم (965) - كتاب الجنائز.
ثم أُتِيَ بفرس عُرْي فَعَقَلَهُ -أي حبسه- رجُلٌ فَركِبَهُ، فجعل يتوقَّصُ - أي يتوثب به، ونحن نَتَّبِعُه نَسْعى خَلْفَهُ قال: فقال رجلٌ من القوم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كمْ من عِذْقٍ مُعَلَّقٍ -أو مُدَلّى- في الجنة لابن الدَّحْداح -أو قال شعبة-: "لأبي الدحداح"].
وللحديث شاهد من رواية عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم قال: [لما نزلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا. .} جاء ابن الدحداح. .](1). وشاهد آخر عند ابن أبي حاتم عن عبد اللَّه بن الحارث، عن عبد اللَّه بن مسعود قال:[لما نزلت هذه الآية: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ}، قال أبو الدّحداح الأنصاري: يا رسول اللَّه! وإنَّ اللَّه ليريد منَّا القرضَ؟ قال: نعم، يا أبا الدّحداح! قال: أرِنِي يدَكَ يا رسول اللَّه! فناولَه يدَه، قال: فإني قد أقرضتُ ربي حائِطي - وله حائط فيه ستُّ مئة نخلة، وأمُّ الدَّحداح فيه وعيالُها، قال: فجاء أبو الدَّحداح فناداها: يا أمَّ الدَّحداح! قالت: لبيك. فقال: اخرُجي، قد أقرضْتُهُ ربي عز وجل. وفي رواية أنها قالت له: ربح بَيْعُكَ يا أبا الدَّحداح! ونَقَلت منه متاعَها وصِبيانَها].
وقد ثبت كذلك في صحيح الترمذي عن أنس قال: [لما نزلت هذه الآية {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] أو {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الحديد: 11]، قال أبو طلحة، وكان له حائط: يا رسول اللَّه حائطي للَّه، ولو استطعت أن أسِرَّه لم أعلنه، فقال:"اجعله في قرابتك، أو أقْرَبيك"].
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [ما مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبادُ فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدُهما: اللهم! أعْطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم! أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا](2).
ورواه ابن حبان في صحيحه بلفظ: [إنَّ مَلَكًا ببابٍ من أبواب الجنة يقول: مَنْ يُقْرِضِ اليوم يُجْزَ غدًا. ومَلَكٌ بباب آخر يقول: اللهم أعط منفقًا خلَفًا، وأعط ممسكًا
(1) انظر: "المصنف"(5/ 406 - 407)، و"المعجم الأوسط" للطبراني (1/ 101/ 1/ 2052)، وكذلك "تخريج مشكلة الفقر"(76 - 120)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (2964)، وتفسير ابن كثير -حديث رقم- (6622)، لرواية ابن أبي حاتم، وصحيح الترمذي (2396) لحديث أنس.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (1442) - كتاب الزكاة، وأخرجه مسلم (1010) - كتاب الزكاة، باب في المنفق والممسك. ورواه الطبراني وابن حبان بلفظ مشابه. انظر صحيح الترغيب (1/ 905) - كتاب الصدقات.
تلَفًا]. ورواه الطبراني مثل ابن حبان، إلا أنه قال:"بباب من أبواب السماء".
قال النووي في شرح مسلم: (قال العلماء: هذا في الإنفاق في الطاعات ومكارم الأخلاق وعلى العيال والضيفان والصدقات ونحو ذلك، بحيث لا يذم، ولا يسمى سرفًا، والإمساك المذموم هو الإمساك عن هذا).
وقوله: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} . أي: يعطيه ثوابه أضعافًا مضاعفة، قد تتجاوز سبع مئة الضعف.
وقوله: {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} . قال القاسمي: (أي: جزاء شريف جميل. والجملة حالية، أو معطوفة مشيرة إلى أن الأجر كما زاد كَمُّهُ، زاد كيفُهُ).
12 -
15. قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)}.
في هذه الآيات: مشهدُ النجاة للمؤمنين والمؤمنات والفوز العظيم، ومشهد الذل والخزي والهوان على المنافقين والمنافقات يوم الدين.
فقوله: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} . أي: قدّامهم. قال الحسن: (يعني على الصراط). وقال عبد اللَّه بن مسعود: (على قَدْر أعمالهم يمرّون على الصِّراط، مِنهم مَنْ نورُه مثل الجبل، ومنهم مَنْ نورُهُ مثل النخلة، ومِنهم مَنْ نورُه مثلُ الرجل القائم، وأدناهم نورًا مَنْ نورُه في إبهامه يَتَّقِدُ مرَّةً ويَطْفَأُ مرَّة). رواه ابن جرير في "التفسير".
قلت: والآية تعمّ النور على الصراط وفي عموم الموقف في المحشر يوم القيامة. فقد أخرج الإمام أحمد في المسند، ونعيم بن حماد في "زوائد الزهد" بسند صحيح لغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: [قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أَنا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ له بالسجود يومَ القيامة، وأنا أوَّلُ من يرفع رأسَه، فأنْظُر بين يَدَيَّ، فأعرفُ أمتي من بين
الأمم، ومن خَلْفي مِثْلُ ذلك، وعن يميني مِثلُ ذلك، وعن شِمالي مِثلُ ذلك". فقال: رجل: كيف تَعرف أمتَك يا رسول اللَّه من بين الأمم، فيما بين نوحٍ إلى أمّتك؟ قال: هم غُرٌّ مُحَجَّلون، مِنْ أثَرِ الوُضوء، ليس لأحد ذلك غيرهم، وأعرفُهم أنهم يؤتون كُتبهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذُرِّيَتُهم] (1).
وفي رواية عند ابن أبي حاتم والحاكم: [أعرِفهم، مُحَجَّلُون من أثر الوضوء، ولا يكونُ لأحد من الأمم غيرهم، وأعرفهم يُؤتون كُتُبهم بأيمانهم، وأعرفُهم بسيماهم في وجُوههم، وأعرِفُهم بنُورهم يسعى بين أيديهم وذرِّيتهم].
وفي رواية عند ابن المبارك ويحيى بن إسحاق: [وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم].
وقوله: {وَبِأَيْمَانِهِمْ} . قال الضحاك: (أي: وبأيمانهم كتبهم، يقول اللَّه: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}، وأما نورهم فهداهم). وقال الفراء: (الباء بمعنى "في"، أي: في أيمانهم. أو بمعنى "عن" أي: عن أيمانهم). قال مقاتل: (ليكون دليلًا لهم إلى الجنة).
قال النسفي: ({يَسْعَى} يمضي {نُورُهُمْ} نور التوحيد والطاعات، وإنما قال: {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم، فيجعل النور في الجهتين شعارًا لهم وآية، لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا، وبصحائفهم البيض أفلحوا، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على الصراط يسعون، سعى بسعيهم ذلك النور).
يروي الحاكم والبيهقي بسنده عن مسروق عن عبد اللَّه قال: (يجمع اللَّه الناس يوم القيامة، إلى أن قال: فَيُعْطَوْن نورهم على قدر أعمالهم، وقال: فمنهم من يعطى نورَه مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يُعْطى نوره مثلَ النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه حتى يكون آخر من يعطى نوره على إبهام قدمه، يضيء مرة ويطفأ مرة، إذا أضاء قدَّم قدمه، وإذا طفئ قام. قال: فيمر ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف، دَحْضٌ، مزَلة، فيقال لهم: امضوا
(1) صحيح لغيره. أخرجه أحمد (5/ 199)، ونعيم بن حماد في "زوائد الزهد"(112/ 376) ورواه الحاكم (2/ 478) وصحّحه، وبَيّض له الذهبي. وأقوى الروايات رواية عبد اللَّه بن المبارك ويحيى بن إسحاق فهي الأصح، والباقي لا يخلو من تخاليط ابن لهيعة كما أفاد الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(1/ 180) - كتاب الطهارة ص (188).
على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشدِّ الرَّجل، يَرْمُلُ رَمَلًا، فيمرون على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تخرُّ يدٌ، وتعلق يد، وتخرّ رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فيخلصون فإذا خلصوا قالوا: الحمد للَّه الذي نجَّانا منك بعد أن أراناك، لقد أعطانا اللَّه ما لم يُعطَ أحدٌ) (1).
ويروي ابن جرير بسند مرسل جيد عن قتادة قال: (ذكر لنا أن نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن من المؤمنين من يضيء نوره كما بين المدينة وعدنٍ أو ما بين المدينة وصنعاء، ودون ذلك، حتى يكون منهم من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه")(2).
وقوله: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} .
أي: ويقال لهم: بشراكم اليوم دخول جنات الخلود تجري من تحتها الأنهار، ماكثين فيها أبدًا {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
انظرونا: من النظر وهو الانتظار، أي: أمهلونا وأخرونا لنستضيء من نوركم. قال ابن عباس وأبو أمامة: (يغشى الناس يوم القيامة ظلمة، ثم يعطون نورًا يمشون فيه). وقال ابن عباس: (بينما الناس في ظلمة، إذ بعث اللَّه نورًا، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور دليلًا من اللَّه إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا، تبعوهم، فأظلم اللَّه على المنافقين، فقالوا حينئذٍ: انظرونا نقتبس من نوركم، فإنا كنا معكم في الدنيا. قال المؤمنون: ارجعوا من حيث جئتم من الظلمة، فالتمسوا هنالك النور).
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عَبْدَة بن سُلَيمان، حدثنا ابن المبارك، حدثنا صفوان بن عمرو، حدثني سُلَيم بن عامر قال: (خرجنا على جنازة في باب دِمَشْقَ، ومعنا أبو أمامةَ الباهلي، فلما صُلِّيَ على الجنازة وأخذوا في دفنِها، قال أبو أمامة: أيها الناس! إنكم قد أصبحتُم وأمسيتُم في منزلٍ تَقتَسِمُون فيه الحسناتِ
(1) رواه الحاكم والبيهقي بطوله. ورواه ابن جرير في "التفسير"(33616) - مختصرًا. وهو موقوف على ابن مسعود، ولكن مثل هذا التفصيل عادة يكون في حكم المرفوع.
(2)
مرسل. أخرجه الطبري (33614) بسند جيد عن قتادة، وكرره (33615) عنه به.
والسيئات، وتُوشِكونَ أن تظعَنُوا منه إلى منزلٍ آخر، وهو هذا -يُشير إلى القبر- بيتِ الوحدةِ، وبيتِ الظلمةِ وبيتِ الدُّود، وبيتِ الضيق، إلا ما وسَّع اللَّه، ثم تنتقِلُون منه إلى مواطنِ يوم القيامة، فإنكم في بعض تلكَ المواطِن حين يغشى الناسَ أمرٌ من اللَّه، فَتَبْيَضُّ وجوه وتَسْوَدُّ وجوهٌ، ثم تنتقلون منه إلى منزلٍ آخرَ فتغشى الناسَ ظلمةٌ شديدةٌ، ثم يُقْسَمُ النورُ فيُعطى المؤمن نورًا، ويُتْرَكُ الكافرُ والمنافق فلا يُعْطيان شيئًا. وهو المثل الذي ضربه اللَّه في كتابه، قال:{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} . . إلى قوله: {فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} ، فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضي الأعمى بنور البصير، ويقول المنافقون للذين آمنوا:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} ، وهي خدعة اللَّه التي خَدَعَ بها المنافقين حيث قال:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]. فيرجعون إلى المكان الذي قُسِم فيه النورُ، فلا يجدون شيئًا فينصرفون إليهم وقد ضُرِبَ بينهم بسور له بابٌ، {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}. . الآية. يقول سُلَيم بن عامر: فما يزال المنافق مغترًّا حتى يُقسم النُّور، ويُميِّز اللَّه بين المؤمن والمنافق) - ذكره ابن كثير.
وقوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} . قال مجاهد: (كالحجاب في الأعراف). وقال قتادة: (السور: حائط بين الجنة والنار).
وقوله: {بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} . قال ابن زيد: (الجنة وما فيها). وقوله: {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} . قال قتادة: (أي النار). قال النسفي: ({فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ} بين المؤمنين والمنافقين {بِسُورٍ} بحائط حائك بين شق الجنة وشق النار. {لَهُ} لذلك السور {بَابٌ} لأهل الجنة يدخلون منه {بَاطِنُهُ} باطن السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة {فِيهِ الرَّحْمَةُ} أي: النور أو الجنة {وَظَاهِرُهُ} ما ظهر لأهل النار {مِنْ قِبَلِهِ} من عنده ومن جهته {الْعَذَابُ} أي: الظلمة أو النار).
وقوله: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} . أي: نشهد معكم الصلوات، ونحضر الجمعات، ونقف معكم بعرفات، ونسهم جميعًا بالغزوات؟ ! قال القرطبي:(أي ينادي المنافقون المؤمنين {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} في الدنيا، يعني نصلي مثل ما تصلون، ونغزو مثل ما تغزون، ونفعل مثل ما تفعلون).
وقوله: {قَالُوا بَلَى} . أي: فأجابهم المؤمنون {بَلَى} قد كنتم معنا في الظاهر.
وقوله: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} . قال مجاهد: (النفاق، وكان المنافقون مع
المؤمنين أحياء يناكحونهم، ويغشَوْنهم، ويعاشرونهم، وكانوا معهم أمواتًا، ويُعْطَوْنَ النور جميعًا يوم القيامة، فيطفأُ النور من المنافقين إذا بلغوا السور، ويُمازُ بينهم حينئذ). وقال بعض السَّلف:(أي: فتنتُم أنفسكم باللذات والمعاصي والشهوات).
وقوله: {وَتَرَبَّصْتُمْ} . أي: بالمؤمنين الدوائر. قال قتادة: (يقول: تربَّصُوا بالحق وأهله). وقيل: أخّرتم التوبة وسوّفتم فيها.
وقوله: {وَارْتَبْتُمْ} . أي: شككتم في التوحيد والوحي والنبوة والبعث بعد الموت. قال قتادة: (يقول: وشككتم في توحيد اللَّه، وفي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم).
وقوله: {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} أي: الأباطيل والآمال الكاذبة الواهية. قال ابن عباس: (الدنيا). وقال قتادة: (كانوا على خدعة من الشيطان، واللَّه ما زالوا عليها حتى قذفهم اللَّه في النار). وقال أبو سنان: (هو قولهم سيُغْفَرُ لنا). وقيل: غرّهم طول الأمل. وقيل: هو ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين ونزول الدوائر بهم. وقال بلال بن سعد: (ذكرك حسناتِك ونسيانك سيئاتك غِرّة).
وقوله: {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} . يعني حتى نزل بكم الموت. وقيل: حتى جاء نصر اللَّه لنبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وقال قتادة: ({حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ}: إلقاؤهم في النار).
وقوله: {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} . قال مجاهد: (أي الشيطان). وقرأ أبو حَيوة {الْغَرُورُ} بضم الغين يعني الأباطيل، وهو مصدر. والقراءة بالفتح أشهر. قال ابن جرير:(يقول: وخدعكم باللَّه الشيطان، فأطمعكم بالنجاة من عقوبته، والسلامة من عذابه).
أخرج البخاري في صحيحه عن عبد اللَّه رضي الله عنه قال: [خَطَّ النبي صلى الله عليه وسلم خَطًّا مُرَبَّعًا، وخَطَ خَطًّا في الوسَط خارِجًا مِنْهُ، وخَطَّ خُطُطًا صِغارًا إلى هذا الذي في الوسَطِ مِنْ جانِبه الذي في الوسط، فقال: "هذا الإنسانُ، وهذا أجَلُه محيطٌ به -أو قد أحاط به- وهذا الذي هو خارجٌ أمَلُهُ، وهذه الخُطَطُ الصّغارُ الأعراضُ، فإنْ أخْطأه هذا نَهَشَهُ هذا، وإنْ أخطأه هذا نهشَه هذا"](1).
وأخرج أحمد في المسند عن علي بن زيد: حدثني من سمع أبا هريرة يقول: قال
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (6417) - كتاب الرقاق، وانظر كذلك (6418).
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [يا ابن آدم! اعمل كأنك ترى، وعُدَّ نفسك مع الموتى، وإياك ودعوة المظلوم](1).
وفي صحيح البخاري عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما قال: [أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل](2). وكان ابن عمر يقول: [إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك].
وقوله: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} . قال قتادة: (يعني المنافقين، ولا من الذين كفروا). أي: لو افتدى أحدهم من العذاب بملء الأرض ذهبًا ما نفعه. قال القرطبي: (أيأسهم من النجاة).
وقوله: {مَأْوَاكُمُ النَّارُ} . أي: مئواكم ومسكنكم الذي خُصِّص لمستقركم يوم القيامة النار.
وقوله: {هِيَ مَوْلَاكُمْ} . أي: هي أولى بكم من كل منزل، فهي تناسب إصراركم على الكفر والنفاق والارتياب. والمولى في كلام العرب: من يتولى مصالح الإنسان، ثم استعمل فيمن كان ملازمًا للشيء.
وقوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . أي: ساءت مرجعًا ومستقرًا ومصيرًا. قال ابن جرير: (يقول: وبئس مصير من صار إلى النار).
16 -
17. قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)}.
في هذه الآيات: استبطاءُ اللَّه تعالى الخشية في قلوب المؤمنين، إنه تعالى هو المحيي القلوب والأرض الميتة وهو أعلم بالمتقين.
(1) حديث حسن في الشواهد. أخرجه أحمد في المسند (2/ 343)، وانظر "الحلية"(3/ 301).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (11/ 195)، وأحمد نحوه (2/ 24)، (2/ 41)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 301)، وابن عدي في "الكامل"(73/ 2).
فقوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} . قال ابن عباس: (تطيع قلوبهم).
قال ابن كثير: (يقول تعالى: أما آنَ للمؤمنين أن تخشع قلوبُهم لذكر اللَّه، أي: تلينُ عند الذِّكر والموعظة وسَمَاع القرآن، فتفهَمُه وتنقادُ له وتسمعُ له وتُطيعُه).
يروي ابن أبي حاتم بسنده عن عبد اللَّه بن المبارك قال: حدثنا صالح المرّي، عن قتادة، عن ابن عباس أنه قال:(إن اللَّه استبطأ قُلوب المهاجرين فعاتبَهُم على رأس ثلاثَ عشرةَ من نزول القرآن، فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} الآية).
وفي صحيح مسلم عن عونِ بن عبد اللَّه، عن أبيه، أنَّ ابن مسعود رضي الله عنه قال:[ما كان بَيْنَ إسْلامنا وبَيْن أنْ عاتَبَنا اللَّه بهذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} إلا أرْبَعُ سِنينَ](1).
ورواه ابن ماجة عن أبي حازم، أن عامر بن عبد اللَّه بن الزبير أخبره، أنّ أباه أخبره:[أنَّهُ لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية، يعاتبهم اللَّه بها إلا أربع سنين {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}](2).
وفي معجم الطبراني بسند صحيح عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أولُ شيء يُرفَعُ منْ هذه الأمة الخشوع، حتى لا ترى فيها خاشعًا](3).
وقوله: {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} . قال ابن جرير: (هو هذا القرآن الذي نزله على رسوله صلى الله عليه وسلم).
قال مجاهد: (الأمد: الدهر). قال ابن مسعود: (إنّ بني إسرائيل لما طال عليهم
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (3027) - كتاب التفسير، عند هذه الآية [الحديد: 16].
(2)
حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (4192) - كتاب الزهد. انظر صحيح سنن ابن ماجة (3380).
(3)
حديث صحيح. أخرجه الطبراني كما في "المجمع"(2813)، وقال الهيثمي: إسناده حسن. وفي الباب عن عوف بن مالك، أخرجه أحمد (6/ 26 - 27) ح (23470) بإسناد لا بأس به.
الأمد قست قلوبهم، فاخترعوا كتابًا من عند أنفسهم استحلَّته أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب اللَّه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون).
قال النسفي: (ويجوز أن يكون نهيًا لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وُبِّخُوا، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا للَّه ورقت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره).
وقوله: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} . أي: وكثير من هؤلاء الذين أوتوا الكتاب من قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم خارجون عن دينهم، نابذون لما في كتابهم.
قلت: وفي الآية تحذير لهذه الأمة من التشبه بالذين حملوا الكتاب من قبلهم حملًا هزيلًا، فلما طال عليهم الأجل والإمهال والاستدراج قست قلوبهم لزوال الخشية والروعة التي كانت تنبعث لهم من الكتابين، فاشتروا بآيات اللَّه ثمنًا قليلًا، وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين اللَّه، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون اللَّه، فصار الدين المحرّف يماشي الأهواء والشهوات، ويبرّر ركوب المعاصي والموبقات، حتى وصلوا إلى هيئة من الأعراف المخالفة للشريعة يعظمونها فيما بينهم، وهم في ما تعارفوا عليه نابذون لشرع اللَّه خارجون عن ميزانه وضوابطه.
أخرج الإمام أحمد في المسند بإسناد صحيح عن أبي عامر (عبد اللَّه بن يحيى) قال: [حَجَجْنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: إنّ أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة -وهي الجماعة- وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، واللَّه يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيّكم صلى الله عليه وسلم، لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به](1).
(1) حديث صحيح. انظر مسند أحمد (4/ 102)، (2/ 332)، وسنن أبي داود (2/ 503 - 504) واللالكائي في "شرح السنة"(1/ 23/ 1)، ورواه بنحوه الحاكم (1/ 128)، والدارمي (2/ 241)، والآجري في "الشريعة " (18). وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (204).
قال ابن القيم: (وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدًا غريبة بين اثنين وسبعين فرقة ذات أتباع ورئاسات، ومناصب وولايات، ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول؟ فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم وما هم عليه من الشبهات والبدع التي هي منتهى فضيلتهم وعملهم، والشهوات التي هي غاية مقاصدهم وإرادتهم؟ ).
وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} . أي: يحيي الأرض اليابسة بعد موتها بالمطر. وقال صالح المري: (المعنى يلين القلوب بعد قساوتها). وقال جعفر بن محمد: (يحييها بالعدل بعد الجور). وقيل: المعنى فكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد موته بالكفر والضلالة. قال ابن كثير: (وقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}: فيه إشارة إلى أنه -تعالى- يُلينُ القلوبَ بعد قسوتها، ويَهدِي الحَيَارى بعد ضَلَّتِها، ويُفَرِّجُ الكروب بعد شِدَّتِها، فكما يُحيي الأرض الميِّتة المُجْدبة الهامِدة بالغيث الهَتَّان، كذلك يَهدي القلوبَ القاسِية ببراهين القُرآن والدَّلائل، ويُولجُ إليها النُّور بعدما كانت مُقْفَلةً لا يَصِلُ إليها الواصِل، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الإضلال، والمُضِلّ لمن أراد بعد الكَمَال، الذي هو لما يشاءُ فَعَّالٌ، وهو الحَكَمُ العدلُ في جميع الفعَال، اللطيف الخبير الكبيرُ المتعال).
وقوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . قال القاسمي: ({قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ} أي الحجج وضروب الأمثال {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: لتثوبوا إلى عقولكم ومراشدكم).
18 -
19. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)}.
في هذه الآيات: ثناءُ اللَّه تعالى على المصدقين والمصدقات والوعد لهم بالأجر الكريم، وبيانُ أنَّ الصدق في الإيمان باللَّه ورسله يوصل إلى مرتبة الصديقين. والشهداء منازلهم خاصة بهم وأما الكفار فهم أصحاب الجحيم.
فقوله: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} . قال القرطبي: (أي المتصدقين والمتصدقات، فأدغِمت التاء في الصاد. قال: وهو حثٌّ على الصدقات).
وقوله: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} . قال الحسن: (كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع). وقيل: هو العمل الصالح من الصدقة وغيرها محتسبًا صادقًا.
قلت: والأشهر أن القرض الحسن يكون في مفهوم النفقة والإعانة في سبيل اللَّه. قال ابن جرير: ({وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا} يعني بالنفقة في سبيله، وفيما أمر بالنفقة فيه، أو فيما ندب إليه).
وقوله: {يُضَاعَفُ لَهُمْ} . أي: يضاعف اللَّه لهم ثواب تلك القروض الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
أخرج الإمام أحمد بسند رجاله ثقات عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن السَّلف يجري مجرى شطر الصَّدَقة](1). والسَّلَفُ: هو القرض الذي لا منفعة للمقرض فيه.
وأخرج ابن حبان بسند حسن في الشواهد عن الأسود بن يزيد عن عبد اللَّه بن مسعود مرفوعًا: [من أقرض مرتين كان له مثلُ أجر أحدهما لو تصدَّق به](2).
وقوله: {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} . أي: ولهم مآل كريم، ومستقر رفيع في الجنة.
وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} . فيه أقوال حسب تأويل موقع "الشهداء" من العطف أو الاستئناف.
1 -
قال ابن عباس: ({وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} قال: هذه مفصولة {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ}). وقال أبو الضُّحَا: ({أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ}، ثم استأنف الكلام فقال: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ}).
2 -
قال مسروق، عن عبد اللَّه في قوله تعالى:{أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال: (هم ثلاثة أصناف: يعني المصدِّقين، والصدّيقين، والشهداء).
3 -
قال مجاهد: ({هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال: بالإيمان على أنفسهم باللَّه). قيل: فأخبر عن المؤمنين باللَّه ورسله بأنهم صديقون وشهداء.
(1) أخرجه أحمد (1/ 412)، وأبو يعلى (3/ 1298)، ورجاله ثقات. انظر:"سلسلة الأحاديث الصحيحة"(1553) - فضل القرض الحسن وأنه يعدل التصدق بنصفه.
(2)
أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(1155)، والطبراني في "المعجم الكبير"(3/ 68/ 1) بسند لا بأس به في المتابعات، وأخرجه ابن عدي (212/ 2)، وغيرهم.
قلت: والآية فيها من بديع الإعجاز الكثير ما يحتمل جَمْعَ هذه المعاني الطيبة المختلفة:
أ- مقام الصديقية أعلى من مقام الشهادة:
فإن الطائفة المنصورة حملة لواء هذا الدين من المؤمنين باللَّه ورسوله هم الصديقون الذين يتلون الأنبياء، والشهداء هم الذين يتلون الصدّيقين، والصالحون يتلون الشهداء، كما قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]. ففرّق بين الصديقين والشهداء، فهما صنفان متمايزان، ومقام الصديقيّة أعلى من مقام الشهادة.
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إنَّ أهل الجنة ليتراءَوْنَ أهل الغرف من فوقهم، كما تراءَون الكوكب الدُّرِّيَّ الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول اللَّه، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده، ورجال آمنوا باللَّه وصدّقوا المرسلين](1).
ب- مقام الجهاد والشهادة في سبيل اللَّه في الذِّروة العليا مِن مراتب الإسلام ومنازل الجنان.
أخرج البخاري وأحمد من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إنّ في الجنة لمئة درجة، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض، أعدّها اللَّه للمجاهدين في سبيله](2).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: [أنّ رجلًا قال: يا رسول اللَّه، أخبرني بشيء يعدل الجهاد في سبيل اللَّه؟ قال: لا تستطيع. قال: أخبرني؟ قال: هل تستطيع إذا خرج
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3256)، ومسلم (2831)، وابن حبان (7393).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6/ 9)، (6/ 10)، في الجهاد، وأخرجه أحمد (2/ 335).
المجاهدُ أن تصومَ لا تُفطر، وتقوم لا تفتر؟ قال: لا. قال: فذلك الذي يعدل الجهاد] (1).
وفي المسند ومستدرك الحاكم بسند حسن عن ابن عباس مرفوعًا: [الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، في قُبّةٍ خضراء، يخرج عليهم رزقُهم من الجنة بُكرةً وعشيًا](2).
ج- أهل الصدق في الإيمان -من هذه الأمة- هم أهل الشهادة على الناس يوم القيامة. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
أخرج الإمام أحمد والبخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: [يجيء النبيّ يوم القيامة ومعه الرجل، والنبيّ ومعه الرجلان، والنبيّ ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك، فيُقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيُدعى قومُه، فيقال لهم: هل بَلَّغَكُم هذا؟ فيقولون: لا، فيُقال له: مَنْ يَشْهَدُ لكَ؟ فيقول: محمد وأمتُه، فيُدعى محمد وأمتُه، فيُقال لهم: هل بَلَّغَ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيُقال: وما عِلْمُكم بذلك؟ فيقولون: جاءَنا نبيُّنا، فأخبرنا أن الرسل قد بَلَّغوا فصدَّقناه، فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}](3).
وقوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} . قال القرطبي: (أي لهم أجر أنفسهم ونور أنفسهم).
والمقصود: لهم يومئذ الأجر الجزيل والنور العظيم الذي يسعى بين أيديهم حسب تفاوت أعمالهم.
وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .
هو ذكر حال الأشقياء، بعد تفصيل أصناف السعداء. فإن أهل الكفر باللَّه والتكذيب بالوحي والنبوة والمعجزات لا أجر ولا نور لهم، وإنما النار مثوى لهم.
20 -
21. قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُر
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (6/ 35)، ورواه الترمذي في السنن. انظر صحيح سنن الترمذى (1320) - أبواب فضائل الجهاد.
(2)
حديث حسن. أخرجه أحمد والطبراني والحاكم بسند حسن. انظر صحيح الجامع (3636).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6/ 286)، وأحمد (2/ 32)، وانظر صحيح الجامع (7889).
بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)}.
في هذه الآيات: ذمُّ اللَّه تعالى الدنيا وفساد مناهج أهلها أهل اللهو واللعب والزينة والتفاخر بالزائل الفاني. وحثُّ اللَّه تعالى عباده على التسابق في طلب المغفرة والجنة ومنازل أهل المعالي.
فقوله: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} . - توهين وتحقير لشأن الدنيا وزينتها الفانية وغرورها الزائل. قال قتادة: ({لَعِبٌ وَلَهْوٌ}: أكل وشرب). وقال مجاهد: (كل لعب لهو). وقيل: اللعب ما رغَّب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الآخرة. وقيل: اللعب الاقتناء، واللهو النساء.
قال القاسمي: ({لَعِبٌ} أي تفريح نفس {وَلَهْوٌ} هو أي باطل {وَزِينَةٌ} أي منظر حسن {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} أي: في الحسب والنسب). وقال النسفي: ({لَعِبٌ} كلعب الصبيان {وَلَهْوٌ} كلهو الفتيان {وَزِينَةٌ} كزينة النسوان {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} كتفاخر الأقران {وَتَكَاثُرٌ} كتكاثر الدهقان (1){فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} أي مباهاة بهما، والتكاثر ادعاء الاستكثار). وقال القرطبي:({وَزِينَةٌ} الزينة ما يتزين به، فالكافر يتزين بالدنيا ولا يعمل للآخرة، وكذلك من تزين في غير طاعة اللَّه. {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} هو أي يفخر بعضكم على بعض بها. وقيل: بالخلقة والقوة. وقيل: بالأنساب على عادة العرب في المفاخرة بالآباء. قال: وجه الاتصال -يعني في الآية وما قبلها- أن الإنسان قد يترك الجهاد خوفًا على نفسه من القتل، وخوفًا من لزوم الموت، فبين أن الحياة الدنيا منقضِية فلا ينبغي أن يترك أمر اللَّه محافظة على ما لا يبقى. و {وَمَا} صلة، تقديره: اعلموا أنّ الحياة الدنيا لعب باطل ولهو فرح ثم ينقضي).
قلت: وهذه الآية خير تعريف لحقيقة هذه الحياة الدنيا في أمثل تشبيه.
(1) الدهقان: التاجر. فارسي معرب.
وفي التنزيل: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].
وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر في الأحساب، والطعن فى الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة](1).
وفي صحيح مسلم -أيضًا- عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطبهم فقال: [إنَّ اللَّه أوحى إليَّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد](2).
وفي سنن ابن ماجة بسند حسن عن أبي الدرداء قال: [خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: آلفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده لَتُصَبَّنَّ عليكم الدنيا صبًّا، حتى لا يُزيغَ قلب أحدكم إزاغة إلا هِيَهْ، وايم اللَّه لقد تركتم على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء](3).
وفي صحيح ابن حبان ومسند أحمد عن أبي هريرة مرفوعًا: [ما أخشى عليكم الفقر، ولكني أخشى عليكم التكاثر، وما أخشى عليكم الخطأ، ولكني أخشى عليكم التعمُّد](4).
وقوله: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} . أي: مطر. {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} . الكفار هنا: الزرّاع، وأصل ذلك من الكفر وهو التغطية، فهم يغطّون البذر. وقيل: الكفار هنا الكافرون باللَّه عز وجل، لأنهم أشد إعجابًا بزينة الدنيا من المؤمنين، فهم يعظمونها حرصًا على شهواتهم ومصالحهم. قال ابن كثير:({أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ}، أي: يُعجِبُ الزُرَّاعَ نباتُ ذلك الزرع الذي نبتَ بالغيث، وكما يُعْجِبُ الزرَّاع ذلك كذلك تُعْجِبُ الحياة الدنيا الكفار، فإنهم أحرصُ شيءٍ عليها وأمْيَلُ الناس إليها).
وقوله: {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} . أي: ثم يجف بعد خضرته ويتغيّر من النضرة إلى
(1) حديث صحيح. رواه مسلم (3/ 45)، والبيهقي (4/ 63)، وغيرهما.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 160)، ورواه أبو داود وابن ماجة - في أثناء حديث طويل.
(3)
حديث حسن. أخرجه ابن ماجة في السنن (5)، وإسناده حسن، رجاله كلهم ثقات.
(4)
حديث صحيح. أخرجه ابن حبان (2479)، والحاكم (2/ 534)، وأحمد (2/ 308)، وإسناده صحيح على شرط مسلم. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2216).
الصفرة. قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ثم ييبسُ ذلك النبات {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} بعد أن كان أخضر نضرًا).
وقوله: {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} . أي: ثم يصير يابسًا متحطمًا. والمقصود: إنما مثل الحياة الدنيا كذلك: شباب فاكتهال فعجز وشيخوخة. فالشباب مليء بالجمال والقوة، والكهولة مرحلة متوسطة تنفدُ فيها بعض قوى الشباب وتتغير بعض الطباع، والشيخوخة ضعف في الهمة والحركة. كما قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54].
أخرج الحاكم والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتكَ قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك](1).
فإذا وهبك اللَّه عقلًا سديدًا فأشغله بالعلم والقرآن، وإذا وهبك قوة وسلامة في البدن والجوارح فبادر إلى الطاعات والصدقات والقيام، وخذ من الليل إن استطعت قبل أن لا تستطيع القيام، واعلم أن اللَّه قد يخذل من استطاع وضيَّعَ العمر باللهو وارتكاب الحرام، فلا يوفقه للنطق بالشهادة عند الاحتضار في لحظات الختام، ويحرمه من لذة النظر إلى وجهه يوم القيامة كما يحرمه نعمة الأمن هناك والأمان.
كما خرَّج البخاري في صحيحه من حديث جرير رضي الله عنه قال: [كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة فقال: إنكم سترون ربَّكم، كما ترون هذا القمر، لا تُضَامونَ في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغْلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا. ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]] (2).
وقوله: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} . قال قتادة: (صار الناس إلى هذين الحرفين في الآخرة). أي: ليس في الآخرة إلا هذا أو هذا: عذاب شديد مهين، أو مغفرة ورضوان ونعيم مقيم.
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد عن عمرو بن ميمون مرسلًا. والحاكم والبيهقي عن ابن عباس مرفوعًا. انظر: صحيح الجامع (1088)، وتخريج أحاديث "اقتضاء العلم"(170).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (554) - كتاب مواقيت الصلاة. باب فضل صلاة العصر.
وقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} . قال القرطبي: (هذا تأكيد ما سبق، أي تغرّ الكفار، فأما المؤمن فالدنيا له متاع بلاغ إلى الجنة. وقيل: العمل للحياة الدنيا متاع الغرور تزهيدًا في العمل للدنيا، وترغيبًا في العمل للآخرة).
وفي صحيح مسلم من حديث المستورد بن شداد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [واللَّه! ما الدنيا في الآخرة إلا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أحدكُم إِصْبَعَهُ هذه -وأشار يحيى بالسّبابة- في اليَمّ، فينظر أحدُكم بِمَ تَرْجِعُ؟ ](1).
وقوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} . حثٌّ على المبادرة إلى الخيرات، وفعل الطاعات وترك المحرمات، وما يكون فيه غفران الزلات والعثرات.
وقوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} . قال السدي: (كعرض سبع السماوات وسبع الأرضين). وقال الحسن: (يعني جميع السماوات والأرضين مبسوطتان كل واحدة إلى صاحبتها). قلت: والعرض أقل من الطول، ومن عادة العرب التعبير عن سعة الشيء بعرضه دون طوله، ومنْ ثمّ فإذا كان عرض جنة النعيم بهذه السعة فتأمّل كيف يكون مقدار طولها! ! وتفسير الحسن والسدي منسجم مع الآية الأخرى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
وقوله: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} . أي: هي قد خُصِّصَت لأهل الصدق في الإيمان، ومتابعة الرسل عليهم الصلاة والسلام. والآية دليل على أنها مخلوقة.
وقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} . قال النسفي: (وهم المؤمنون، وفيه دليل على أنه لا يدخل أحدٌ الجنة إلا بفضل اللَّه).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: [إنّ فقراءَ المهاجرين أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد ذهب أهل الدُّثور (2) بالدرجات العُلا، والنعيم المقيم. فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلونَ كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويُعتقون ولا نُعتقُ. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أفلا أُعلّمكم شيئًا تُدركون به من سبقكم، وتسبقون به مَنْ بَعدكم، ولا يكونُ أحدٌ أفضلَ مِنكم، إلا مَنْ صنعَ مثلَ ما صنعتُم؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه! قال: تُسبِّحون، وتكبِّرون، وتحمدون دُبُرَ كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين مرّة.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2858) - كتاب الجنة ونعيمها. وأخرجه أحمد (4/ 228).
(2)
الدثور: جمع دَثْر، وهو المال الكثير.
قال أبو صالح (1): فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: سمع إخوانُنا أهلُ الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء] (2).
وفي الصحيحين، وسنن ابن ماجة -واللفظ له- عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [قاربوا وسَدِّدوا. فإنه ليس أحدٌ منكم بِمُنْجيهِ عَمَلهُ. قالوا: ولا أنت؟ يا رسول اللَّه! قال: ولا أنا. إلا أن يتغمَّدَني اللَّه برحمةٍ منه وفضل](3).
وقوله: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . قال ابن جرير: (وهو ذو الفضل العظيم عليهم، بما بسط لهم من الرزق في الدنيا، ووهب لهم من النِّعم وعرَّفهم موضع الشكر، ثم جزاهم في الآخرة على الطاعة ما وصف أنه أعَدَّه لهم).
22 -
24. قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)}.
في هذه الآيات: تقديرُ اللَّه تعالى المصائب والآلام، وكل شيء قد قَدَّره سبحانه قبل خلق الأنام، لكيلا تأسوا على ما فاتكم عبر الأيام، وأهل البخل والإعراض مآلهم إلى الخزي والخسران.
قال ابن عباس: (هو شيء قد فرغ منه من قبل أن نبرأ النفس). وعن قتادة: ({مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ} أما مصيبة الأرض: فالسنون. وأما في أنفسكم: فهذه الأمراض والأوصاب {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}: من قبل أن نخلقها).
(1) هو راوي الحديث عن أبي هريرة، واسمه ذكوان السمان، ثقة ثبت، توفي سنة (101).
(2)
حديث صحيح. رواه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (595) - كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته.
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (4/ 48)، ومسلم (8/ 140)، وسنن ابن ماجة (4201).
وقال ابن زيد: (المصائب والرزق والأشياء كلها مما تحبّ وتكره فرغ اللَّه من ذلك كله قبل أن يبرأ النفوس ويخلقها). فالضمير في {نَبْرَأَهَا} يعود على النفوس أو على المصيبة، والأحسن عوده على الخليقة والبرية.
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [كَتَبَ اللَّه مقاديرَ الخلائق قبلَ أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. قال: وَعَرْشُه على الماء](1).
وفي لفظ أحمد: [قدّر اللَّه المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألفِ سنة].
قلت: والآية ردٌّ على القدرية الذين يقولون لا قدر، وعلى الذين يخوضون في القدر دون علم ولا يثبتون العلم السابق للَّه. فإن كل نازلة مكتوبة، وكل مصيبة بذنب، وما يدفع اللَّه أكثر.
ففي التنزيل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
وفي معجم الطبراني "الصغير" بسند حسن عن البراء بن عازب مرفوعًا: [ما اخْتَلَجَ عِرْقٌ ولا عَيْنٌ إلا بِذَنْبٍ، وما يَدْفَعُ اللَّه عنه أكثر](2).
وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . قال ابن كثير: (أي: إنَّ علمه تعالى الأشياء قَبْل كَونِها وكتابَتِه لها طِبْقَ ما يُوجَدُ في حينها سَهْلٌ على اللَّه عز وجل لأنه يعلمُ ما كان وما يكونُ، وما لم يكنْ لو كان كيف كان يكون).
وقوله: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} . أي: أعْلَمناكم بسبق عِلْمِنا وتَقَدُّم كتابتنا، فإنَّ ما أصابكم أيها الناس من مصيبة في أموالكم أو أنفسكم فإنه مكتوب عليكم قبل خلقكم، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فلم تدركوه منها، ولا تفرحوا بما آتاكم منها فَمَلَّككُم وخَوَّلَكُم.
قال ابن عباس: ({لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} قال: الصبر عند المصيبة، والشكر
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (2653) كتاب القدر، وأخرجه أحمد (2/ 69)، والترمذي (2156)، ورواه ابن حبان (6138).
(2)
حديث حسن. رواه الطبراني في "المعجم الصغير"(1053)، وانظر السلسلة الصحيحة (2215).
عند النعمة). وقال: (ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرًا، وغنيمته شكرًا). وقال ابن زيد: (لا تأسوا على ما فاتكم من الدنيا، ولا تفرحوا بما آتاكم منها). وقال سعيد بن جبير: ({وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}: من العافية والخصب).
وقراءة العامة {آتَاكُمْ} أي: أعطاكم من الدنيا، وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو {آتَاكُمْ} أي: جاءكم. وهما قراءتان صحيحتان، والمدّ أشهر، واختاره ابن جرير.
وخلاص المعنى: المؤمن يوقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فهو يتقلب بين منزلتي الصبر والشكر، ويعلم أنّ اللَّه قد فَرَغ من كتابة كل شيء وَعَلِمَهُ.
أخرج الإمام أحمد في المسند، والترمذي في الجامع، بسند صحيح عن عبادة بن الوليد بن عبادة قال:[حدثني أبي قال: دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي، فقال: أجلسوني، فلما أجلسوه قال: يا بني إنك لم تطعم الإيمان ولم تبلغ حق حقيقة العلم باللَّه حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: إن أوَّلَ ما خلقَ اللَّه القلم، ثم قال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. يا بني إن مت ولست على ذلك دَخلت النار](1).
وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} . أي: لا تتخذوا نعمة اللَّه عليكم أشرًا وبطرًا، تفخرون بها على الناس. قال القرطبي:(والحزن والفرح المنهيّ عنهما هما اللذان يتعدّى فيهما إلى ما لا يجوز، قال اللَّه تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي متكبّر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37].
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (5/ 317)، والترمذي في "التفسير"(2/ 232).
2 -
وقال تعالى -في وصية لقمان لابنه-: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].
وفي الصحيحين عن حارثة بن وهب قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [ألا أخبركم بأهل النار؟ كلّ عُتُلٍّ جوّاظ مستكبر](1).
وفي الصحيحين أيضًا من حديث أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[بينما رجل يمشي في حلّة تُعْجِبُهُ نفسُه، مُرَجِّلٌ رأسَه، يختال في مِشْيَتهِ، إذ خسف اللَّه به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة](2).
وقوله: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} . قال سعيد بن جبير: ({الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} يعني بالعلم {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أي: بألا يعلِّموا الناس شيئًا). وقال زيد بن أسلم. (إنه البخل بأداء حق اللَّه عز وجل. وقيل: إنه البخل بالصدقة والحقوق -قاله: عامر بن عبد اللَّه الأشعري-. وقال طوس: (إنه البخل بما فيه يديه).
وهذه الأقوال متقاربة في المعنى. والمقصودُ: ذمّ الذين يفعلون المنكر ويحضّون عليه.
قال النسفى: ({الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} خبر مبتدأ محذوف، أو بدل من {كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور} كأنه قال: لا يحب الذين يبخلون -يريد الذين يفرحون الفرح المطغي إذا رزقوا مالًا وحظًا من الدنيا، فلحبّهم له وعزّته عندهم يزوونه عن حقوق اللَّه ويبخلون به- {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}: ويحضون غيرهم على البخل ويرغبونهم في الإمساك).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 8 - 11].
2 -
وقال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16].
وفي صحيح مسلم عن جابر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [اتقوا الظلم، فإن الظلم
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاوي (8/ 507 - 508)، (10/ 408)، ومسلم (2853).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (10/ 221)، (10/ 222)، وأخرجه مسلم (2088).
ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشُّحَ، فإن الشّحَ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم] (1).
وقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} . أي: ومن يعرض عن طاعة ربه وتعظيم أوامره فإن اللَّه هو الغني عن عباده، الحميد إلى جميع خلقه بوفير نعمه عليهم. قال ابن جرير:(يقول تعالى ذكره: ومن يدبر معرضًا عن عظة اللَّه، تاركًا العمل بما دعاه إليه من الإنفاق في سبيله، فرحًا بما أوتي مختالًا به فخورًا بخيلًا، فإن اللَّه هو الغني عن ماله ونفقته، وعن غيره من سائر خلقه، الحميد إلى خلقه بما أنعم به عليهم من نعمه).
25.
في هذه الآية: إرسالُ اللَّه تعالى الرسل الكرام، بالبينات والكتب والميزان، واللَّه تعالى وعد بالنصر لأوليائه الصالحين الكرام.
فقوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} . أي: بالمعجزات الواضحات، والحجج القاطعات، والشرائع الظاهرة ذات الدلائل الباهرة.
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} . أي: الكتب، فيها النقل الصدق والخبر الصحيح. قال النسفي:({وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} أي: الوحي).
وقوله: {وَالْمِيزَانَ} . قال قتادة: (الميزان: العدل). وقال ابن زيد: ({وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} بالحق، قال: الميزانْ ما يعمل الناس، ويتعاطون عليه في الدنيا من معايشهم التي يأخذون ويعطون، يأخذون بميزان، ويعطون بميزان، يعرف ما يأخذ وما يعطي. قال: والكتاب فيه دين الناس الذي يعملون ويتركون، فالكتاب للآخرة، والميزان للدنيا).
فالميزان: أداة الضبط وآلة التمييز، وهو الحق الذي فطر اللَّه القلوب والعقول
(1) حديث صحيح. رواه مسلم في صحيحه -حديث رقم- (2578) - كتاب البر والصلة.
عليه، فبه يتميز الحق من الباطل، وبه تقاس الأمور وتُحاكَم، وبه يُنْصَف المظلوم.
وفي التنزيل: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7 - 9].
وفي صحيح مسلم عن جابر، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشّح فإن الشّح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم](1).
وفيه أيضًا من حديث أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقادَ للشاة الجلحاء من الشاة القرناء](2).
وقوله: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} . أي: ليعمل الناس بينهم بالعدل - في معاملاتهم وعلاقاتهم، وليُحَكِّمُوا الشرع الحنيف الذي يقوم على الحق والعدل.
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} .
الحديد يُخلق في المعادن، والمعادن إنما تكون في الجبال، فالحديد ينزله اللَّه من معادنه التي في الجبال، لينتفع به بنو آدم.
وقوله: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} . يعني فيه قوة شديدة. قال ابن تيمية: (أخبر أنه أنزل الحديد، فكان المقصود الأكبر بذكر الحديد هو اتخاذ آلات الجهاد منه، الذي به يُنْصر اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم).
فائدة: الجمع في الآية بين الكتاب والميزان والحديد منسجم غاية الانسجام، فالكتاب فيه الوحي العظيم، الذي يضمن لمن اهتدى بهديه سعادة الدارين. والميزان فيه قواعد الشريعة وأصول الحكم ورفع المظالم والفصل بين المتخاصمين. والحديد فيه ردعٌ لمن اختار الفساد والباطل والظلم، فيكون في بأسه وقوته حراسة للحق والعدل والدين.
أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [بُعثت بين يدي الساعةِ بالسيف، حتى يُعبَد اللَّه وحده لا شريك له، وَجُعل رزقي
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه -حديث رقم- (2578) - كتاب البر والصلة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم -حديث رقم- (2582) - الباب السابق. والجلحاء: التي لا قرن لها.
تحت ظلِّ رمحي، وجعلت الذلَّة والصَّغار على من خالف أمري، ومن تَشَبَّهُ بقوم فهو منهم] (1).
وأخرج النسائي وابن ماجة بسند حسن، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [حَدٌّ يُعْمَلُ به في الأرض، خَيْرٌ لأهل الأرض مِنْ أَنْ يُمطروا أربعين صباحًا](2).
قال شيخ الإسلام رحمه الله -معلقًا على هذا الحديث-: (وهذا لأن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو، كما يدل عليه الكتاب والسنة، فإذا أقيمت الحدود ظهرت طاعة اللَّه ونقصت معصية اللَّه تعالى، فحصل الرزق والنصر)(3).
قلت: فإن حمل الناس على الوقوف عند حدود اللَّه وتعظيم حرمات اللَّه هو من مقاصد الحكم في الإسلام، ومن ثمّ فإن تشريع الحدود إنما جاء لتحقيق هذا الهدف النبيل، وإنما تحمل العقوبات الشرعية الخير للناس في دنياهم وأخراهم. وبعض الناس لا يصلح إلا بالقوة، وبعضهم لا يصلحه إلا اللين والسماحة، وبين الفئتين قوم ينفع معهم تحكيم الميزان. فكان في الكتاب والميزان والحديد ما يغطي أحوال الناس وطبائعهم وسلوكهم.
وقوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} . قال ابن كثير: (أي: في معايشهم كالسِّكة والفَأس والقَدوم، والمِنشار، والإزْميل، والمجْرفة، والآلات التي يُستعان بها في الحِراثة والحِياكة والطبخ والخَبْز، وما لا قَوام للناس بدونه، وغير ذلك).
وقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} . اختبار اللَّه تعالى عباده في غاية حمل السلاح. والآية عطف على محذوفٍ دلّ عليه ما قبله. والتقدير: أنزل اللَّه سبحانه الحديد لينتفعوا به، ويستعملوه في الجهاد، وليعلم اللَّه من يصدق نصر اللَّه ورسله عند البأس. أو يكون التقدير: أنزل اللَّه تعالى الكتاب والميزان والحديد اختبارًا لعباده في حراسة الدين وسياسة الدنيا به.
(1) حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (2/ 50)، (2/ 92)، والطحاوي في "المشكل"(231)، وابن أبي شيبة (5/ 313)، وله شواهد.
(2)
حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (2/ 111)، والنسائي (2/ 257)، وأحمد (2/ 402)، وأخرجه أبو يعلى في "مسنده"(287/ 1). وانظر السلسلة الصحيحة (231).
(3)
انظر: "السياسة الشرعية" -ابن تيمية- ص (68). وكتابي: "السياسة الشرعية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة"(166 - 168).
وعن ابن عباس: ({يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} قال: ينصرونهم لا يكذبونهم، ويؤمنون بهم {بِالْغَيْبِ} أي: وهم لا يرونهم). وقيل: {بِالْغَيْبِ} أي: بالإخلاص.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} . أي: إن اللَّه قوي على نصر دينه ورسله وأوليائه، {عَزِيزٌ} أي: منيع غالب قاهر لأعدائه، وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضكم أيها الناس ببعض، وهو -تعالى- غير محتاج إلى من ينصره أو ينصر دينه.
قال ابن جرير: ({إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} يقول تعالى ذكره: إن اللَّه قوي على الانتصار ممن بارزه بالمعاداة، وخالف أمره ونهيه، عزيز في انتقامه منهم، لا يقدر أحد على الانتصار منه مما أحل به من العقوبة). وقال النسفي: ({إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته {عَزِيزٌ} يربط بعزته جأش من يتعرض لنصرته).
26 -
27. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)}.
في هذه الآيات: إرسالُ اللَّه تعالى نوحًا وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وجعلُ النبوة والكتاب في سلالتهما للمصطفين الكرام، وثناؤه تعالى على عيسى بن مريم وأتباعه الصادقين أهل الإحسان، وذمّ أهل الابتداع في الدين والتنطع وأهل الفسق اللئام.
إخبار من اللَّه تعالى أنه منذ بعث نوحًا وإبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- لم ينزل كتابًا أو يرسل رسولًا أو يوحي لبشر إلا من سلالتهما حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى بن مريم الذي بشر من بعده بنبينا محمد صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين. قال القرطبي: ({وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} أي: جعلنا بعض ذريتهما
الأنبياء، وبعضهم أممًا يتلون الكتب المنزلة من السماء: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان). وقال ابن عباس: (الكتاب الخط بالقلم).
وقوله: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ} . أي: فمن ذرية إبراهيم ونوح مهتد إلى الحق مستبصر سبيل الرشاد والنجاة. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: كافرون خارجون عن الطاعة.
وقوله: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا} . أي: ثم أتبعنا على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم في أقوامهم: كموسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم.
وقوله: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ} . أي: وأتبعنا بعيسى -فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه- وآتيناه الإنجيل: وهو الكتاب الذي أوحيناه إليه.
وقوله: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} . {رَأْفَةً} أي: رقة وخشية ومودة ولينًا. {وَرَحْمَةً} تعطفًا على إخوانهم، كما قال في صفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} .
وقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً} . قال النسفي: (هي ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين مخلصين أنفسهم للعبادة، وهي الفعلة المنسوبة إلى الرهبان، وهو الخائف فعلان من رهب كخشيان من خشي، وانتصابها بفعل مضمر يفسّره الظاهر، تقديره: وابتدعوا رهبانية).
وقوله: {ابْتَدَعُوهَا} . أي: ابتدعها أمة النصارى، فأخرجوها من عند أنفسهم ونذروها.
وقوله: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} . أي: ما شرعناها لهم، وإنما هم ألزموا بها أنفسهم.
وقوله: {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} . فيه تفسيران متكاملان:
التفسير الأول: إنهم قصدوا بذلك رضوان اللَّه. قال قتادة: (لم تكتب عليهم، ابتدعوها ابتغاء رضوان اللَّه). وقال ابن زيد: (ابتدعوها ابتغاء رضوان اللَّه تطوعًا، فما رَعَوْها حق رعايتها).
التفسير الثاني: ما كتبنا عليهم ذلك السلوك في العبادة، إنما كتبنا عليهم ما كان ابتغاء رضوان اللَّه -أي على منهاج النبوة.
وقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} . قال ابن كثير: (أي: فما قاموا بما التزموه حقَّ
القيام. وهذا ذمٌّ لهم من وجهين، أحدهما: في الابتداع في دين اللَّه ما لم يَأمُر به اللَّه. والثاني: في عدم قيامهم بما التزمُوه مما زعموا أنه قُرْبَةٌ يُقَرِّبهم إلى اللَّه عز وجل.
قلت: فالآية دليل على ذم الابتداع في الدين، حتى في أمم الأقدمين، فإن الإحداث في الدين واختراع الطرق في العبادة خروج عن منهاج النبوة واتهامٌ لدين اللَّه بالنقص وفتح لباب الهوى. وكان ابن مسعود يقول:(اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم).
وفي التنزيل الحكيم:
1 -
قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
2 -
وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80].
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: [صَنَعَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرًا فتَرَخَّصَ فيه، فبلغَ ذلك ناسًا من أصحابه، فكأنهم كَرِهوه وتَنَزَّهوا عنه، فبلغَهُ ذلك، فقام خطيبًا فقال: ما بالُ رجالٍ بَلَغهُم عني أمرٌ تَرَخَّصْتُ فيه، فكرهوه وتنزهوا عنه، فواللَّه! لأنا أعلمهم باللَّه وأشدُّهُم له خَشْيةً](1).
وذكر الإمام الشاطبي في "الاعتصام": (أن الزبير بن بكار قال: سمعت مالكًا بن أنس -وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد اللَّه من أين أحرم؟ - قال: من ذي الحليفة حيث أحرم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد. فقال: لا تفعل. قال: فإني أريد أن أُحْرِمَ من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. فقال: وأي فتنة هذه؟ إنما هي أميال أزيدها، قال الإمام مالك: وأيّ فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصّر عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إني سمعت اللَّه يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]).
وصح عن الشافعي أنه قال: (ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول، أو أصَّلْتُ من أصل، فيه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خلافُ ما قلتُ، فالقولُ ما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو قولي)(2).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم- (2356) - كتاب الفضائل، باب علمه صلى الله عليه وسلم باللَّه تعالى وشدة خشيته.
(2)
رواه الحاكم بسنده المتصل إلى الشافعي. وانظر كذلك: ابن عساكر (15/ 1/ 2).
وذكر ابن عبد البر في "الانتقاء"(ص 145) قول أبي حنيفة: (حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي، فإننا بشر، نقول القول اليوم ونرجع عنه غدًا). وكان يقول: (إذا صحّ الحديث فهو مذهبي)(1).
ومضى على ذلك المنهاج الأصيل الإمام أحمد بن حنبل وكان يقول: (لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا أبا حنيفة ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري رحمهم اللَّه تعالى، وخذ من حيث أخذوا، من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال)(2).
وأما "الرهبانية" فهي في مفهومها الصحيح عكس ما في أذهان جهلة الزهاد والعباد، إنها الجهاد في سبيل اللَّه، وقد صحّ في ذلك الخبر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
فقد أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: [أنّ رجلًا جاءه فقال: أوصني. فقال: سألتَ عما سألتُ عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من قبلك، أوصيك بتقوى اللَّه تعالى فإنه رأسُ كلِّ شيء، وعليكَ بالجهاد، فإنه رهبانيَّةُ الإسلام، وعليك بذكر اللَّه تعالى، وتلاوة القرآنِ، فإنه رَوْحُكَ في السماء، وذِكرُك في الأرض](3).
وله شاهد عنده من حديث أنس بلفظ: [لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل اللَّه].
وقوله: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} . قال ابن زيد: (الذين رعوا ذلك الحق).
وقوله: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} . أي. وكثير منهم مبتدع في الدين، خارج عن طاعة اللَّه وطاعة رسوله، منقاد وراء الأهواء والشهوات.
28 -
29. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا
(1) انظر: ابن عابدين في "الحاشية"(1 - 63). وكتابي: (السيرة النبوية)(1/ 17 - 18).
(2)
انظر: ابن القيم في "أعلام الموقعين"(2/ 302)، والمرجع السابق ص (18).
(3)
حديث حسن. أخرجه أحمد (3/ 82)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (555). وانظر للشاهد بعده مسند أحمد (3/ 266)، ومسند أبي يعلى (4204).
يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}.
في هذه الآيات: أمْرُ اللَّه تعالى عباده المؤمنين أن يَصْدُقوهُ التقوى والإيمان، ومتابعة رسوله عليه الصلاة والسلام، فإن الفضل كله بيد اللَّه وهو ولي الأتقياء الكرام.
فقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} في توجيهه تأويلان:
التأويل الأول: قيل الخطاب لمؤمني أهل الكتاب. قال ابن عباس: ({يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} يعني الذين آمنوا من أهل الكتاب). واختاره ابن جرير.
التأويل الثاني: قيل بل الظاهر أن لفظ الآية أعم، وأن المقصود بها حثّ كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم على الثبات في الإيمان والرسوخ فيه، والانصياع لأوامره.
وهذا التأويل أرجح عندي وأشمل، وقد اختاره العلامة القاسمي رحمه الله، وقال:(ومنه ما حرض عليه في الآيات قبلها من الإنفاق في سبيله، وسخاوة النفس فيه. وأنّ لهم في مقابلة ذلك أجرًا وافرًا، كما قال في أول السورة: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} فآخر السورة، فيه رجوع لأوائلها بتذكير ما أمرت به، وما سبق نزولها لأجله).
وقوله: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} . أي: يؤتكم نصيبين من الأجر والثواب.
وأصل الكفل: الحَظّ، وأصله ما يكتفل به الراكب فيحبسه ويحفظه عن السقوط.
وفي توجيهه كذلك تأويلان: التأويل الأول: الضمير في {يُؤْتِكُمْ} يعود على مؤمني أهل الكتاب.
قال ابن عباس: ({يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} قال: أجرين، لإيمانهم بعيسى صلى الله عليه وسلم، وتصديقهم بالتوراة والإنجيل، وإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتصديقهم به). وقال أيضًا: ({يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} قال: ضعفين). فوجّه ابن عباس الآية هنا إلى مؤمني أهل الكتاب الذين صدقوا محمدًا صلى الله عليه وسلم وتابعوه، وهذا تفسير سالك مؤيد بالأحاديث الصحيحة، منها:
الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي،
ورجل مملوك أدى حق اللَّه وحق مواليه، ورجل أدَّب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران] (1).
الحديث الثاني: أخرج الروياني في "مسنده"، وأحمد كذلك نحوه، بسند حسن عن أبي أمامة الباهلي قال:[كنت تحت راحلة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال قولًا حسنًا، فقال فيما قال: مَنْ أَسْلَم مِنْ أهل الكتاب فله أجره مرتين، وله مثل الذي لنا، وعليه مثل الذي علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره، وله مثل الذي لنا، وعليه مثل الذي علينا](2).
التأويل الثاني: الضمير في {يُؤْتِكُمْ} يعم المؤمنين من هذه الأمة.
فإن توجيه الآية لعموم المؤمنين الصادقين في تقواهم وحفظهم هذا الدين -من هذه الأمة- يؤيده ما رواه ابن جرير بسنده عن سعيد بن جبير قال: (لما افتخر أهلُ الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرَّتين أنزل اللَّه هذه الآية في حق هذه الأمة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ}، أي: ضِعْفين، وزادهم: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}، يعني: هُدى يتبَصَّرُ به من العمى والجهالة، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ}. ففضلهم بالنور والمغفرة).
وكذلك يؤيده من السنة الصحيحة أحاديث، منها:
الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مثلُ المسلمين واليهود والنصارى كمثلِ رجُلٍ استأجر قومًا يعملون له عملًا يومًا إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا إلى نصف النهار فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجْرِك الذي شَرَطْتَ لنا، وما عَمِلْنا باطلٌ. فقال لهم: لا تَفْعَلوا، أكمِلوا بقية عَمَلِكم وخُذُوا أجركم كاملًا، فأَبَوْا وترَكُوا. واستأجر آخرِين بعدهم فقال: أكْمِلوا بقيَّةَ يومِكم هذا، ولكم الذي شرطْتُ لهم من الأجر، فَعَمِلُوا حتى إذا كان حينَ صلاة العَصْرِ قالوا: لَكَ ما عَمِلْنا باطِلٌ ولكَ الأجْرُ الذي جَعَلْتَ لنا فيه، فقال لهم: أكملوا بَقِيَّة عملِكم فإن ما بَقِيَ من النهار شيءٌ يسيرٌ، فأبَوْا، فاستأجَرَ قومًا أن يَعْمَلُوا له بَقِيَّةَ يَوْمِهم فَعَمِلوا بقيَّةَ
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (154) - كتاب الإيمان، وأخرجه البخاري كذلك، وقد تقدم.
(2)
حديث حسن أخرجه الروياني في "مسنده"(30/ 220/ 1)، وأحمد في المسند (5/ 259) وفيه عنده "يوم الفتح" بدل "حجة الوداع" - والأول أصح. وانظر السلسلة الصحيحة (304).
يَوْمِهم حتى غابت الشَّمْسُ واستكمَلُوا أجْرَ الفريقين كِليهما، فذلك مَثَلُهُم ومثلُ ما قَبِلوا من هذا النُّور] (1).
الحديث الثاني: أخرج أحمد والبخاري والترمذي عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُكُم ومثلُ اليهودِ والنصارى كمثلِ رَجُلٍ استعملَ عُمّالًا، فقال: مَنْ يعملُ لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراطٍ قيراطٍ؟ ألا فعملت اليهودُ. ثم قال: مَن يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراطٍ قيراطٍ؟ ألا فعملت النصارى. ثم قال: من يعمَلُ لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين عملتم. فغضبت النصارى واليهودُ، وقالوا: نحن أكثرُ عملًا وأقلُّ عطاءً. قال: هل ظلمتكم من أجركم شيئًا؟ قالوا: لا. قال: فإنما هو فَضْلي أُوتيه من أشاء](2).
وقوله: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} . قال ابن عباس: (الفرقان، واتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم). وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس:({وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} قال: القرآن). وعن مجاهد: ({تَمْشُونَ بِهِ} قال: هدى). قال القاسمي: ("النور" هو ما يبصر من عمى الجهالة والضلالة، ويكشف الحق لقاصده، كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]).
وقوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . أي: ويصفح لكم عن ذنوبكم فيسترها عليكم واللَّه واسع المغفرة والرحمة.
وقوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} .
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب: يفعل بكم ربكم هذا لكي يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل اللَّه الذي آتاكم وخصّكم به. لأنهم كانوا يرون أن اللَّه قد فضَّلهم على جميع الخلق، فأعلمهم اللَّه جل ثناؤه أنه قد آتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل والكرامة ما لم يؤتهم). وقال القرطبي: ({لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} أي: ليعلم، و"أن لا" صلة زائدة مؤكدة، قاله الأخفش.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (558) - كتاب مواقيت الصلاة. وكذلك (2271) - كتاب الإجارة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (2/ 6)، والبخاري في الصحيح (3459)، والترمذي في الجامع (2871)، وابن حبان في صحيحه (6639).
وقال الفراء: معناه لأن يعلم و"لا" صلة زائدة في كل كلام دخل عليه جَحْد).
وقد ذكر أن في قراءة عبد اللَّه {لكي يعلم} - ذكره الطبري. قال القاسمي: (ليعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل اللَّه، فضلًا عن أن يتصرفوا في أعظمه، وهو النبوة، فيخصوا بها من أرادوا).
وقوله: {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
إعلام اللَّه تعالى أهل الكتاب -الذين زيَّنَ لهم الشيطان أنهم أفضل الخلق- أنه قد آتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل والكرامة ما لم يؤتهم لأن الفضل بيده -سبحانه- دونهم، ودون غيرهم من الخلق، يؤتيه من يشاء من عباده {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
تم تفسير سورة الحديد بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه الاثنين 7 رمضان 1426 هـ الموافق 15/ تشرين الأول/ 2005 م
* * *