المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٧

[مأمون حموش]

فهرس الكتاب

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌40 - سورة غافر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌41 - سورة فصلت

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌42 - سورة الشورى

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌43 - سورة الزخرف

- ‌ما ورد في ذكرها

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌44 - سورة الدخان

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌45 - سورة الجاثية

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌46 - سورة الأحقاف

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌47 - سورة محمد

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌48 - سورة الفتح

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌49 - سورة الحجرات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌50 - سورة ق

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌51 - سورة الذاريات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌52 - سورة الطور

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌53 - سورة النجم

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌54 - سورة القمر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌55 - سورة الرحمن

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌56 - سورة الواقعة

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌57 - سورة الحديد

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌58 - سورة المجادلة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌59 - سورة الحشر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌51 - سورة الذاريات

وهي سورة مكية، وعدد آياتها (60).

‌موضوع السورة

الإقسام بالذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات على إهلاك الطغاة والمجرمين في النار في الدركات

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

إقسام اللَّه تعالى بالرياح والسحب والسفن والملائكة على وقوع المعاد ومشهد الحساب.

2 -

إقسام اللَّه تعالى بالسماء المحبوكة أن المشركين في مذاهب شتى من الهوى والضلال.

3 -

وصف المجرمين وهم أمام النار يفتنون، ويقال لهم ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون.

4 -

نَعْتُ حال المتقين في جنات النعيم، فلقد كانوا أهل جهاد وبذل وقيام، واستغفار بالليل والناس نيام.

5 -

تنبيه اللَّه عباده على آيات في الآفاق والأنفس قَدَّرها، وعلى سنن الرزق التي كتبها.

6 -

ذِكْرُ خبر إبراهيم عليه السلام، مع ضيوفه من الملائكة الكرام.

ص: 428

7 -

قصة إهلاك قوم لوط المجرمين، ونجاة لوط ومن معه من المؤمنين.

8 -

قصة إهلاك الطغاة الآثمين، من قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم من المجرمين.

9 -

قدرة اللَّه العجيبة في الخلق، والشرك أعظم الذنوب، والرسول نذير مبين.

10 -

تشابه سلوك المكذبين، والذكرى تنفع المؤمنين، وغاية الخلق عبادة اللَّه الرزاق ذي القوة المتين، وويل للكفرة من يومهم الذي يوعدون.

* * *

ص: 429

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

14. قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)}.

في هذه الآيات: قَسَمٌ من اللَّه تعالى بالرياح والسحب والسفن والملائكة على وقوع المعاد، ومشهد الحساب. وقَسَمٌ منه تعالى بالسماء المحبوكة الأخّاذة أن المشركين في مذاهب شتى من الهوى والضلال والآثام، مصروفون عن الحق واليقين والإيمان، ملعونون في تكذيبهم بيوم الدين، وقريبًا يكونون أمام نار جهنم يفتنون، ويقال لهم تقريعًا: هذا الذي كنتم به تستعجلون.

فقوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} . قال مجاهد: (الرياح). أي: والرياح التي تذرو التراب ذروًا. وعن خالد بن عُرعرة قال: (قام رجل إلى علي رضي الله عنه فقال: "ما الذاريات ذروًا"؟ فقال: هي الريح). رواه بسنده ابن جرير.

وقوله تعالى: {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} . الوِقْر: كالحمل وزنًا ومعنى. والمقصود: السحب التي تحمل وقرها من الماء. قال القاسمي: ({فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} أي السحب الحاملة للأمطار المنبتة للزروع والأشجار لإفادة الحبوب والثمار).

وقوله تعالى: {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} . قال مجاهد: (السفن). أي: فالسفن التي تجري في البحار جريًا سهلًا يسيرًا.

وقوله تعالى: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} . قال مجاهد: (الملائكة ينزلها بأمره على من يشاء). قال النسفي: (أقسم بالرياح فبالسحاب التي تسوقه فبالفلك التي تجريها بهبوبها

ص: 430

فبالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن اللَّه من الأمطار وتجارات البحر ومنافعها).

فهذه الآيات قسم من اللَّه تعالى على وقوع المعاد، ويؤكد ذلك الآيات التي تليها.

وقوله تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} . جواب القسم، و {ما} موصولة أو مصدرية، والموعود البعث. أي إن أمر البعث بعد الموت للحساب والجزاء لخبر صدق.

وقوله تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} . الدين: الجزاء. قال مجاهد: (الحساب). وقال قتادة: ({إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} وذلك يوم القيامة، يوم يُدان الناس فيه بأعمالهم). أي: إن ذلك الحساب والجزاء كائن يوم القيامة لا محالة.

أخرج الحاكم بسند صحيح عن معاذ بن جبل مرفوعًا: [تعلمون المعادَ إلى اللَّه، ثم إلى الجنة أو إلى النار، وإقامةٌ لا ظعنَ فيه، وخلودٌ لا موت، في أجسادٍ لا تموت](1).

وقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} . الحبيكة في كلام العرب الطريقة في الرّمل ونحوه، وجمع الحِباك "حُبُك". قال الفرَّاء:(الحُبُك: تَكَسُّر كل شيء كالرَّمل إذا مرت به الريح الساكنة، والماء القائم إذا مرّت به الريح). قال الحسن: ({وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ}: حبكت بالخلق الحسن، حبكت بالنجوم). وقال سعيد بن جبير: (ذات الزينة). وعن ابن عباس: (ذات البهاء والجمال والحُسن والاستواء).

قال ابن كثير: (فإنها من حُسنها مرتفعةٌ شفَّافَةٌ صفيقةٌ، شديدةُ البناء، مُتَّسِعة الأرجاء، أنيقَةُ البَهاء، مُكَلَّلةٌ بالنجوم الثوابت والسيَّارات، مُوَشَّحَةٌ بالشمس والقمر والكواكب الزاهرات).

وقال بعض علماء الفلك: (الحبك جمع حبيكة، بمعنى محبوكة، أي: مربوطة. فمعنى {ذَاتِ الْحُبُكِ} ذات المجاميع من الكواكب المربوط بعضها ببعض بحبال من الجاذبية، فإن كل حبيكة مجموعة من الكواكب المتجاذبة. فالآية الشريفة نص على تعدّد المجاميع وعلى الجاذبية التي يزعم الإفرنج أنهم مكتشفوها. وعليه، فهي إحدى معجزات القرآن العلمية).

وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} . قال قتادة: (مصدق بهذا القرآن ومكذب).

(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (1/ 83)، وأورده الهيثمي في "المجمع"(10/ 396) بنحوه، وقال:"رواه الطبراني في الكبير والأوسط بنحوه". وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1668).

ص: 431

وقال ابن زيد: (يتخرصون يقولون هذا سحر، ويقولون هذا أساطير، فبأي قولهم يؤخذ). والمقصود: إنكم أيها المشركون المكذبون للرسل لفي قول متخالف متناقض مضطرب، لا يلتئم ولا يجتمع، يعكس ألوان الهوى من قلوبكم.

وقوله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} . أي: يصرف عن الإيمان والقرآن من صرف اللَّه قلبه عن الحق. قال الحسن البصري: (يصرف عن هذا القرآن من كَذَّبَ به). قال ابن جرير: (يصرف عن الإيمان بهذا القرآن من صرف، ويدفع عنه من يُدْفع، فَيُحْرَمُه).

والمقصود: يؤفك عن القرآن أو الرسول أو الإقرار بأمر القيامة من هو في سابق علم اللَّه مأفوك -مصروف- عن الحق، لتعظيمه الهوى والشهوات.

وقوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} . قال ابن عباس: (لُعن المرتابون)، أو قال:(الكهنة). وقال مجاهد: (الذين يتخرصون الكذب -قال-: الذين يقولون: لا نُبْعث ولا يوقنون). وقال قتادة: (أهل الظنون). وقال ابن زيد: (القوم الذين كانوا يتخرصون الكذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قالت طائفة: إنما هو ساحر، والذي جاء به سحر. وقالت طائفة: إنما هو شاعر، والذي جاء به شعر، وقالت طائفة: إنما هو كاهن، والذي جاء به كهانة، وقالت طائفة: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5] يتخرصون على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم).

وخلاصة المعنى: هلك أهل الغِرَّة والظنون، الذين يتجاوزون دلائل اليقين، إلى الأخذ بالهوى والتخمين.

وقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} . قال ابن عباس: (في غفلة لاهون). وقال أيضًا: (في ضلالتهم يتمادون). وقال قتادة: (في غمرة وشبهة). والغمرة: ما ستر الشيء وغطاه، و {سَاهُونَ}: أي غافلون. فالمعنى: الذين هم في الكفر والشك غارقون، وعن أمر الآخرة لاهون غافلون.

وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} . قال مجاهد: (يقولون متى يوم الدين، أو يكون يوم الدين). أي: فهم يسألون متى يوم الحساب استهزاء واستبعادًا وشكًا في القيامة.

وقوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} . قال ابن عباس ومجاهد: (يُعَذَّبون كما يفتن الذهب على النار). وقال عكرمة وسفيان الثوري: (يفتنون: يُحرقون).

ص: 432

وأصل الفتنة الاختبار، ومنه قولهم: فتنت الذهب أي أحرقته بغية اختباره. ونصب "يومَ" بفعل محذوف تقديره "يقع" - دلّ عليه السؤال.

وقوله تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} .

أي: يقال لهم: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} قال مجاهد: (حريقكم). وقال قتادة: (ذوقوا عذابكم). وقال ابن عباس: (تكذيبكم). قال ابن جرير: ({هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}: هذا العذاب الذي توفونه اليوم هو العذاب الذي كنتم به تستعجلون في الدنيا). وإنما يقال لهم ذلك تقريعًا وتوبيخًا وتحقيرًا وتصغيرًا.

15 -

23. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)}.

في هذه الآيات: نَعْتُ حال المتقين، في جنات النعيم، فلقد كانوا في جهاد وبذل وقيام، واستغفار بالأسحار والناس نيام. وتنبيه اللَّه تعالى عباده على آيات في الآفاق وفي أنفسهم، وسنن الرزق الذي ضمن وصوله إليهم.

فقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} . قال ابن جرير: (إن الذين اتقوا اللَّه بطاعته واجتناب معاصيه في الدنيا في بساتين وعيون ماء في الآخرة).

وقوله: {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} . قال ابن عباس: (أي عاملين بالفرائض). وعن الضحاك: ({آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ}: أي ما أعطاهم من الثواب وأنواع الكرامات). ونصب {آخِذِينَ} على الحال من قوله: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} مما يرجح أن المراد: المتقون في حال كونهم في الجنات والعيون آخذون ما آتاهم ربهم من النعيم والسرور والغبطة. وهو اختيار ابن كثير، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} . قال ابن عباس: (المعنى كانوا قبل أن يفرض عليهم الفرائض محسنين في أعمالهم). وقال القرطبي: ({إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} أي قبل دخولهم الجنة في الدنيا {مُحْسِنِينَ} بالفرائض).

ص: 433

وقوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} فيه تأويلان حسب وقوع {مَا} من الإعراب:

التأويل الأول: {مَا} نافية. فالتقدير: كانوا قليلًا من الليل لا يهجعونه (1). قال ابن عباس: (لم تكن تمضي عليهم ليلةٌ إلا يأخذون منها ولو شيئًا). وقال مطرِّف ابن عبد اللَّه: (قَلَّ ليلةٌ تأتي عليهم لا يُصَلّون فيها للَّه عز وجل، إمّا من أَوَّلها وإمّا من أوسَطِها). وقال مجاهد: (قَلَّ ما يَرقُدون ليلة إلى الصباح لا يتهجّدون). وقال قتادة عن أنس بن مالك: ({كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} قال: يتيقظون يصلون ما بين هاتين الصلاتين، ما بين المغرب والعشاء). وفي لفظ: (كانوا يصلون في ما بين المغرب والعشاء) - ذكره الترمذي. وقال أبو جعفر الباقر: (كانوا لا ينامون حتى يُصَلّون العتمة).

التأويل الثاني: {مَا} مصدرية. والتقدير: كانوا قليلًا من الليل هجوعهم ونومهم. قال الحسن البصري: (كابدوا قيام الليل، فلا ينامون من الليل إلا أقلّه، ونشِطوا فمَدّوا إلى السَّحر، حتى كان الاستغفار بِسَحَر).

قلت: وكلا التأويلين سالك منسجم مع مفهوم قيام الليل، فإن خير القيام هو بعد نوم النصف الأول من الليل، ثم يستيقظ الثلث وينام السدس، فهو نوم قليل لِتَقَطُّعهِ، كما قال تعالى في وصف المؤمنين:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16].

ومن كنوز صحيح السنة في ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري عن عبد اللَّه بن عمرو، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[أحبُّ الصلاةِ إلى اللَّهِ صلاةُ داودَ عليه السلام، وأحَبُّ الصيام إلى اللَّه صيامُ داودَ، وكان ينامُ نِصْفَ الليل، ويقومُ ثُلثه، وينام سُدسه، ويصوم يومًا ويُفطر يومًا](2).

الحديث الثاني: أخرج البخاري في الصحيح عن حفصة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[نِعْمَ الرَّجُل عَبْدُ اللَّه لو كان يُصَلّي من الليل. فكان بَعْدُ لا ينام من الليل إلا قليلًا](3).

الحديث الثالث: أخرج الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن عبد اللَّه بن سلام قال: [لما قدِمَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة انجفَلَ الناسُ إليه، فكنتُ فيمن انجفلَ، فلما رأيتُ

(1) أصل الهجوع النوم ليلًا، و {يَهْجَعُونَ}: أي ينامون. والتَّهْجاع: النومة الخفيفة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (1131) - كتاب التهجد، باب من نام عند السَّحَر.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (1122) - كتاب التهجد، باب فضل قيام الليل.

ص: 434

وجَهه عرفتُ أن وجهَهُ ليس بوجهِ رَجُلٍ كذّاب، فكان أولُ ما سمعته يقول: يا أيها الناس أطعموا الطعامَ، وصِلوا الأرحام، وأفشوا السلام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بِسَلامٍ] (1).

الحديث الرابع: أخرج الترمذي بسند حسن عن علي قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إنَّ في الجنة لَغُرَفًا يُرى ظُهورُها من بُطونها وبطونُها مِنْ ظهورِها. فقام إليه أعرابي فقال: لِمَنْ هي يا نبيَّ اللَّه؟ قال: هيَ لِمَنْ أطابَ الكلامَ، وأطعَمَ الطعامَ، وأدامَ الصيامَ، وصلّى للَّه بالليل والناس نيام](2).

وقوله تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . قال مجاهد: (يصلون). وقال الحسن: (مدّوا في الصلاة ونشِطوا حتى كان الاستغفار). قال ابن زيد: (السَّحَرُ هو السدس الأخير من الليل).

قلت: ولا شك أن أفضل أوقات الاستغفار والدعاء هو في السَّحر في الثلث الآخر من الليل، فإن كان الاستغفار والدعاء في سجود صلاة الليل كان أقرب وأفضل.

ففي الصحيحين والمسند ومعظم السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[يَنزل ربنا تبارك وتعالى كُلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدنيا حين يَبْقى ثلُثُ الليل الآخِرُ يقول: مَنْ يدعوني فأستجيبَ لهُ؟ مَنْ يَسْألني فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرني فأغفِرَ لَهُ؟ ](3). وفي رواية: (حتى يطلعَ الفجر).

وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن عمرو بن عبسة، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:[أقربُ ما يكون الربُّ من العبدِ في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أنْ تكونَ مِمّن يذكر اللَّه في تلك الساعةِ فكن](4).

وقوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} . ثناء عليهم بإقامة أمر الإنفاق والصدقة والزكاة، بعد وصفهم بإقامة الصلاة. ومن أقوال المفسرين في هذه الآية:

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2485)، وابن ماجة (3251)، والحاكم (3/ 13).

(2)

حديث حسن. انظر صحيح سنن الترمذي (2051) - أبواب صفة الجنة - باب ما جاء في صِفة غُرف الجنة. ورواه أحمد وابن حبان من حديث أبي مالك الأشعري، وقد مضى.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (1145) - كتاب التهجد، وكذلك (6321)، (7494)، وأخرجه مسلم (758)، وأبو داود (1315)، والنسائي (480)، وابن ماجة (1366)، وأخرجه أحمد في مسنده (2/ 267)، وابن حبان في صحيحه (920).

(4)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي في أبواب الدعوات. انظر صحيح سنن الترمذي (2833).

ص: 435

1 -

قال ابن عباس: (السائل: الذي يسأل الناس، والمحروم: الذي ليس له في الإسلام سهم وهو محارَف). قال الضحاك: (المحروم: هو المُحارَفُ الذي لا يكون له مال إلا ذهب، قضى اللَّه له ذلك). وقال إبراهيم: (هو المحارَفُ الذي ليس له أحد يعطف عليه أو يعطيه شيئًا).

2 -

قال الزهري: (السائل: الذي يسأل، والمحروم: المتعفف الذي لا يسأل). قال قتادة: (السائل الذي يسأل بكفه، والمحروم المتعفف، ولكليهما عليك حق يا ابن آدم).

3 -

قال ابن زيد: (المحروم: المصاب ثمره وزرعه).

واختار ابن جرير أنه الذي قد حُرم الرزق واحتاج، وفد يكون ذلك بذهاب ماله وثمره، فصار ممن حرمه اللَّه ذلك، وقد يكون بسبب تعففه وتركه المسألة، ويكون بأنه لا سهم له في الغنيمة لغيبته عن الوقعة.

وفي الصحيحين وسنن أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس شيئًا، ولا يَفْطِنونَ به فيعطونه](1).

وفي رواية: [ولكن المسكين المتعفف]. وزاده مسدّد في حديثه: [ليس له ما يستغني به، الذي لا يسأل ولا يعلم بحاجته فيتصدق عليه فذاك المحروم](2).

وقوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} . قال قتادة: (معتبر من اعتبر). وقال: (إذا سار في أرض اللَّه رأى عبرًا وآيات عظامًا).

قال ابن كثير: ({وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} أي: فيها من الآيات الدّالة على عَظَمَةِ خالِقها وقُدرته الباهرة، مما قد ذَرَأَ فيها من صنوف النبات والحيوانات، والمهاد والجبال، والقِفازِ والأنهار والبحار، واختلاف ألسنةِ الناس وألوانِهم، وما جُبِلُوا عليه من الإرادات والقُوى، وما بينهم من التفاوُتِ في العقول والفُهوم والحركاتِ، والسعادة والشقاوة، وما في تركيبهم من الحِكَم في وضعِ كل عضو من أعضائهم في

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4339)، كتاب التفسير، وكذلك (1476) - كتاب الزكاة. وأخرجه مسلم (1039) ح (102) - كتاب الزكاة. وأخرجه أبو داود (1631).

(2)

حديث صحيح - دون قوله: "فذاك المحروم" فإنه مقطوع من كلام الزهري. انظر صحيح سنن أبي داود (1437)، كتاب الزكاة، باب من يعطى من الصدقة؟ وحد الغنى.

ص: 436

المحل الذي هو محتاج إليه فيه، ولهذا قال عز وجل:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ).

وقوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} . قال عبد اللَّه بن الزبير: (سبيل الخلاء والبول). وقال ابن زيد: (فينا آيات كثيرة: هذا السمع والبصر واللسان والقلب، لا يدري أحد ما هو أسود أو أحمر، وهذا الكلام الذي يتلجلج به، وهذا القلب أي شيء هو، إنما هو مضغة في جوفه، يجعل اللَّه فيه العقل، أفيدري أحد ما ذاك العقل، وما صفته، وكيف هو؟ ). وقال قتادة: (من تفكَّر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولُيِّنَت مَفاصِلهُ للعبادة). فيكون المعنى كما قال ابن جرير: (وفي أنفسكم أيضًا أيها الناس آيات وعبر تدلكم على وحدانية صانعكم وأنه لا إله لكم سواه).

وقول: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} فيه أقوال متقاربة ومتكاملة:

1 -

قال الضحاك وسعيد بن جبير: (الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج ينبت به الزرع ويحيا به الخلق). قال سعيد بن جبير: (كل عين قائمة فإنها من الثلج).

2 -

وعن الحسن: أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: (فيه واللَّه رزقكم ولكنكم تُحرَمونه بخطاياكم).

3 -

وقال سفيان الثوري: ({وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} أي عند اللَّه في السماء رزقكم). وقال ابن كيسان: (يعني وعلى ربّ السماء رزقكم، نظيره: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]). وقيل: المعنى وفي السماء تقدير رزقكم، وما فيه لكم مكتوب في أم الكتاب.

4 -

وقال أهل المعاني: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} معناه: وفي المطر رزقكم، سمى المطر سماء لأنه من السماء ينزل.

وقوله: {وَمَا تُوعَدُونَ} فيه أقوال متكاملة:

1 -

قال مجاهد: (يعني من خير وشر). وقال غيره: (من خير خاصة). وقيل: (الشر خاصة).

2 -

قال ابن عباس: ({وَمَا تُوعَدُونَ}: يعني الجنة).

3 -

قال الضحاك: ({وَمَا تُوعَدُونَ} من الجنة والنار).

4 -

قال ابن سيرين: ({وَمَا تُوعَدُونَ} من أمر الساعة).

وقوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} . قال ابن جرير: (يقول: إنّ

ص: 437

الذي قلت لكم أيها الناس: إن في السماء رزقكم وما توعدون لحق، كما حق أنكم تنطقون). وقال القرطبي:(أكَّدَ ما أخبرهم به من البعث وما خلق في السماء من الرزق، وأقسم عليه بأنه لحقٌّ، ثم أكّده بقوله: {مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} وخصّ النطق من بين سائر الحواس، لأن ما سواه من الحواس يدخله التشبيه، كالذي يُرى في المرآة، واستحالة الذوق عند غلبة الصفراء ونحوها، والدويّ والطنين في الأذن، والنطق سالم من ذلك). ثم ذكر قول بعض الحكماء: (كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره).

24 -

30. قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)}.

في هذه الآيات: ذِكْرُ خبر إبراهيم عليه السلام، مع ضيوفه من الملائكة الكرام، وإلقائهم إليه البشرى ولزوجته بقدوم الغلام، وتعجّب الزوجة الفاضلة وهي عجوز عقيم من تلك البشرى ولكنه قضاء اللَّه الذي يعلو كل أمر أو عُرف أو كلام.

فقوله: {هَلْ أَتَاكَ} . قال النسفي: (تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإنما عرفه بالوحي).

وقوله: {حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} . أي من الملائكة. قيل: هم جبريل وإسرافيل وميكائيل قدموا عليه في صورة شباب حِسان، عليهم مهابة عظيمة.

وقوله: {الْمُكْرَمِينَ} . قال مجاهد: (أكرمهم إبراهيم، وأمر أهله لهم بالعجل حينئذ). وقيل: لأن إبراهيم عليه السلام وسارة خدماهم بأنفسهما - ذكره ابن جرير. وقيل: المكرمين عند اللَّه - ذكره القرطبي، وكلا المعنيين حق.

وقوله: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} . أي عليكم سلام، أو أمري سلام، أو ردّي لكم سلام. قال ابن كثير: ({قَالَ سَلَامٌ} الرفع أقوى وأثبتُ من النصب، فَرَدُّهُ

ص: 438

أفضلُ من التسليم، ولهذا قال تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، فالخليل اختار الأفضل).

وقوله: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} . أي غرباء لا نعرفكم. قال أبو العالية: (أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض). وقيل: خافهم، يقال: أنكرته إذا خفته. ورُفِعَ {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} بإضمار أنتم.

وقوله: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} . قال الزجاج: (أي عدل إلى أهله). والمقصود: انسَلَّ إلى أهله ورجع في خِفية مسرعًا ليحضر لهم ضيافة، وهذا من أدب المضيف.

وقوله: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} . أي فجاء ضيفه بعجل مشوي قد أنضجه شيًّا.

وقيل: جاء لهم من خيار ماله. وفي الآية الآخرى: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69]. أي: مشوي على الرّضْف.

وقوله: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} . أي: أدناه منهم ليأكلوا منه فلم يأكلوا.

وقوله: {قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} . قال ابن كثير: (تَلَطُّفٌ في العبارة وعَرْضٌ حَسَنٌ. وهذه الآية انتظمت آداب الضيافة، فإنه جاء بطعام من حيث لا يشعُرون بسرعة، ولم يمتَنَّ أوَّلًا فقال: نأتيكم بطعام؟ . بل جاء به بسُرعَةٍ وخَفاءٍ، وأتى بأفضَل ما وجَدَ من ماله، وهو عِجْلٌ فَتِيُّ سَمين مَشْويٌّ، فقرّبه إليهم، لم يضَعْهُ، وقال اقتربوا، بل وضَعَهُ بين أيديهم، ولم يأمُرهم أمرًا يَشُقُّ على سامِعه بصيغةِ الجَزْمِ، بل قال: {أَلَا تَأْكُلُونَ}، على سبيل العَرْض والتَّلَطُّف، كما يقول القائل اليوم: إن رأيت أن تتفضَّل وتُحسِن وتتصدّق فافعَل).

وقوله: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} . أي: فأضمر منهم مخافة، وأحسّ منهم في نفسه خوفًا حين لم يأكلوا طعامه. وقوله:{قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} . أي: لما رأوا ما بإبراهيم من الخوف أعلموه أنهم ملائكة اللَّه ورسله وبَشَّرُوه بولد يولد له من سارة زوجته. وهذا مبسوط في سورة هود، في قوله تعالى:{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} . أي: فاستبشرت بهلاكهم، لفرط كبرهم وعتوهم وتمردهم على اللَّه تعالى، فعند ذلك زادتها الملائكة بشرى ثانية:{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]. فأضاف البشرى هنا لها، وأضافها في هذه السورة لإبراهيم بقوله: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ

ص: 439

عَلِيمٍ}، ولا شك أن البشارة تشملها لأن الولد منهما، ومع ذلك فكل منهما كما سبق مبشر بغلام عليم: أي يبلغ ويكمل علمه.

وقوله: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} . قال ابن عباس: (في صيحة). وقال قتادة: (أي أقبلت في رنة). والمقصود: أقبلت في صَرْخَة وعَيْطة ورنة من العجب.

وقوله: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} . قال ابن عباس: (لطمت). وقال السدي: (لما بشَّر جبريل سارة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، ضربت جبهتها عجبًا). وقال سفيان: (وضعت يدها على جبهتها تعجبًا). والمقصود: ضربت بيدها على جبينها تعجبًا، كما تتعجَّبُ النساء من الأمر الغريب.

وقوله: {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} . قال الضحاك: (لا تلد). أي: كيف ألد وأنا عجوز، وقد كنت في حال الصِّبا عقيمًا لا أحبَلُ؟ والعقيم: التي لا تلد.

وقوله: {قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} . أي: فلا تشكّي في أمر اللَّه وبشارته.

وقوله: {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} . أي: إنه -تعالى- هو الحكيم في تصريفه شؤون خلقه، العليم بمصالحهم وما تستحقونه أنتم أهل البيت من الكرامة.

31 -

37. قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)}.

في هذه الآيات: قصة إهلاك قوم لوط المجرمين، ونجاة لوط ومن معه من المؤمنين، وجعل اللَّه تعالى ذلك آية للذين يخافون العذاب الأليم.

فقوله تعالى: ({قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ}. أي: فما شأنكم أيها المرسلون. قال النسفي: (أي فما شأنكم وما طلبتكم وفيم أرسلتم {أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} أرسلتم بالبشارة خاصة أو لأمر آخر أو لهما).

وقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} . يعنون قوم لوط، الذين أجرموا لكفرهم باللَّه وإصرارهم على استباحة ما يسخطه.

ص: 440

وقوله تعالى: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً} . أي مُعَلَّمة. قال ابن عباس: (المسوّمة: الحجارة المختومة، يكون الحجر أبيض فيه نقطة سوداء، أو يكون الحجر أسود فيه نقطة بيضاء). قلت: واللَّه تعالى أعلم بتفصيل ذلك.

وقوله: {عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} . قال ابن كثير: (أي: مُكتَتَبةً عنده بأسمائهم، كل حجر عليه اسم صاحبه). والمقصود: أنها حجارة من طين خُصِّصَت للقوم المتعدين حدود اللَّه الكافرين به، ليرميهم بها تعالى من السماء.

وقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . -وهم لوط وأهل بيته إلا امرأته- قال ابن جرير: (فأخرجنا من كان في قرية سدوم، قرية قوم لوط من أهل الإيمان باللَّه، وهم لوط وابنتاه).

وقوله تعالى: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . قال قتادة: (لو كان فيها أكثر من ذلك لأنجاهم اللَّه، ليعلموا أن الإيمان عند اللَّه محفوظ لا ضيعة على أهله).

وقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} . قال القرطبي: (أي عبرة وعلامة لأهل ذلك الزمان ومن بعدهم). وقال ابن كثير: (أي: جعلناها عبرة لما أنزلنا بهم من العذاب والنَّكال وحجارة السِّجِّيل، وجعلنا مَحَلَّتَهُم بُحيرةً منتنةً خبيثةً، ففي ذلك عبرةٌ للمؤمنين، الذين {يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}).

38 -

46. قوله تعالى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)}.

في هذه الآيات: قصةُ إهلاك الطغاة الآثمين، من قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم من المجرمين، وجعل اللَّه تعالى ذلك آية للذين يخافون العذاب الأليم.

فقوله تعالى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} . قال قتادة: (بعذر مبين). قال الفراء: (هو معطوف على قوله: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ} {وَفِي مُوسَى}).

ص: 441

والمقصود: أي وتركنا أيضًا في قصة موسى آية كبيرة، إذ أرسلناه إلى فرعون بحجة بالغة ودليل باهر قاطع، فأصَرَّ على الكفر والكبر، فدكّه وجنوده العذاب.

وقوله: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} . أي أعرض عن الإيمان بجموعه وأجناده وغروره وسطوته. قال مجاهد: ({فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} بعضده وأصحابه). وقال قتادة: (غلب عدو اللَّه على قومه). وقال ابن زيد: (بجموعه التي معه). وأصل الركن الجانب والناحية التي يعتمد عليها ويتقوى بها.

وقوله: {وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} . أي: قال فرعون لموسى معرضًا متكبرًا: لا يخلو أمرك فيما جئتني به من أن تكون ساحرًا أو مجنونًا.

وقوله: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} . أي: فحملناه وجنوده الذين تابعوه على الكفر فألقيناهم في البحر فغرقناهم فيه.

وقوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ} . أي: وفرعون في ذلك مليم، يعني قد أتى ما يُلام عليه من الفعل، وهو الكفر والعناد. قال قتادة:(أي مليم في نعمة اللَّه. مليم في عباد اللَّه).

وقوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} . أي: وكذلك فقد تركنا في قصة عاد عبرة من تدبر وتأمل، إذ أرسلنا عليهم ريح العذاب مقابل عنادهم وإصرارهم على الكفر. قال ابن عباس:(الريح العقيم: الريح الشديدة التي لا تُلقح شيئًا. لا تلقح الشجر ولا تثير السحاب). وقال مجاهد: (ليس فيها رحمة ولا نبات ولا تلقح نباتًا).

وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[نُصِرْت بالصَّبا، وأهلِكَت عادٌ بالدَّبُور](1).

وقوله: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} . أي مما تفسده الريح. {إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} . قال مجاهد: (كالشيء الهالك). وقال ابن عباس: (كالشيء الهالك البالي).

أخرج الترمذي بسند حسن عن أبي وائل، عن رجل من ربيعة قال: [قدمت المدينة، فدخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكرت عنده، وافد عاد. فقلت: أعوذ باللَّه أن أكون مثل وافد عاد. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "وما وافِدُ عادٍ؟ " قال: فقلت: على الخبير بها سقطت: إن عادًا لما أقحطت بعثت قيلًا، فنزل على بكر بن معاوية بن وائل فسقاه

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (3205) - كتاب بدء الخلق، وكذلك (1035)، وكذلك أخرجه (4105)، ورواه مسلم في الصحيح (900)، وقد مضى.

ص: 442

الخمر وغنته الجرادتان، ثم خرج يريد جبال مهرة فقال: اللهم إني لم آتك لمريض فأداويه، ولا لأسير فأفاديه، فاسق عبدك ما كنت مسقيه، واسق معه بكر بن معاوية -يشكر له الخمر الذي سقاه- فرفع له سحابات فقيل له: اختر إحداهن، فاختار السوداء منهن، فقيل له: خذها رمادًا رمددًا، لا تذر من عاد أحدًا، وذكر أنه لم يرسل عليهم من الريح إلا قدر هذه الحلقة -يعني حلقة الخاتم- ثم قرأ:{إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} ] (1).

وقوله: {وَفِي ثَمُودَ} . أي: وكذلك فقد تركنا في قصة ثمود عبرة وآية من يستفيد من الذكرى والآيات والعبر. {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} أي: عيشوا متمتعين بالدنيا إلى وقت الهلاك الذي ضرب عليكم وهو ثلاثة أيام كما في سورة هود: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65]، فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بُكرة النهار.

وقوله: {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} . أي: استكبروا عن امتثاله. قال مجاهد: ("فعتوا": عَلَوْا). وقال ابن زيد: (العاتي: العاصي التارك لأمر اللَّه).

وقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} . أي: العذاب. قال الحسن بن واقد: (كلّ صاعقة في القرآن فهو العذاب). قال النسفي: (وكل عذاب مهلك صاعقة).

وقوله: {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} . أي إليها، فإنها نزلت بهم نهارًا.

وقوله: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ} . أي من نهوض. قال قتادة: (يقول: ما استطاع القوم نهوضًا لعقوبة اللَّه تبارك وتعالى.

وقوله: {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} . أي ممتنعين من العذاب. قال قتادة: (ما كانت عندهم من قوة يمتنعون بها من اللَّه عز وجل.

وقوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} فيه تأويلان:

التأويل الأول: أي وفي قوم نوح كذلك عبرة وآية. وهذا منسجم مع قراءة حمزة والكسائي وأبي عمرو: "وقومِ نوحٍ" بالكسر.

التأويل الثاني: أي وأهلكنا قوم نوح كذلك حين طغوا من قبل. وهذا منسجم مع قراءة أكثر القراء بالنصب: "وقومَ نوح".

(1) حديث حسن. انظر صحيح سنن الترمذي (2611) - كتاب التفسير - سورة الذاريات، آية (42).

ص: 443

وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} . أي: خارجين عن طاعة اللَّه، مخالفين أمره ورسوله.

47 -

51. قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)}.

في هذه الآيات: تنبيه اللَّه تعالى عباده لقدرته العجيبة في الخلق لعلهم يتذكرون، فإن المرجع إليه والحساب بين يديه وإنما الرسول نذير مبين، والشرك أعظم الذنوب عند اللَّه لو كانوا يعلمون.

فقوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} . قال ابن عباس: (بقوة). أي رفعناها وجعلناها سقفًا محفوظًا بقوة.

وقوله: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} . قال ابن جرير: (-أي-: لذو سعة بخلقها وخلق ما شئنا أن نخلقه وقدرة عليه). وقال ابن زيد: (أوسعها جل جلاله.

وقد قرّر علم الفلك الحديث بأن السماء لازالت في اتساع دائم، سواء في تكوين مدن نجومية جديدة باستمرار، أو في تباعد هذه المدن النجومية باستمرار.

وقوله: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} . أي: بسطناها وجعلناها فراشًا للمخلوقات ليتمتعوا بها.

وقوله: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} . أي: فنعم الماهدون نحن لهم. والجمع في اللفظ يفيد التعظيم. والتمهيد: البسط والتسوية والإصلاح.

وقوله: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} . قال ابن كثير: (أي: جميع المخلوقات أزواج: سماءٌ وأرضٌ، وليلٌ ونهارٌ، وشمسٌ وقمرٌ، وبرٌّ وبحرٌ، وضياءٌ وظلامٌ، وإيمانٌ وكفرٌ، وموتٌ وحياةٌ، وشقاءٌ وسعادةٌ، وجنةٌ ونارٌ، حتى الحيوانات والنباتات). وقال القرطبي: ({وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} لتعلموا أنّ خالق الأزواج فرد، فلا يقدّر في صفته حركة ولا سكون، ولا ضياء ولا ظلام، ولا قعود ولا قيام، ولا ابتداء ولا انتهاء، إذ هو عز وجل وتر {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]).

ص: 444

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . أي: لتعلموا أن الخالق تعالى واحد لا شريك له، فيستوجب ذلك عليكم إفراده بالتعظيم والعبادة.

وقوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} . أي: فاهربوا أيها الناس من عقاب اللَّه إلى رحمته، وذلك بالإيمان والعمل الصالح.

وقوله: {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} . أي: إني لكم من اللَّه نذير بيّن النذارة أنذركم عقابه.

وقوله: {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} . أي: فاحذروا أن تشركوا به شيئًا، فإن الشرك مدعاة لعقابه. قال أبو السعود:(وفيه تأكيد لما قبله من الأمر بالفرار من العقاب إليه تعالى، لكن لا بطريق التكرير -كما قيل- بل بالنهي عن سببه، وإيجاب الفرار منه).

وقوله: {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} . أي: قد أبان النذارة وصدقكم التحذير.

52 -

60. قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)}.

لْي هذه الآيات: تشابهُ سلوك الأمم في تكذيب المرسلين، وإنما على الرسول الذكرى والذكرى تنفع المؤمنين، وغاية الخلق الخضوع للَّه والصدق في العبودية واللَّه هو الرزاق ذو القوة المتبن. وويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون.

فقوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} .

تسلية لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من ردّ قومه وتكذيبهم للوحي والنبوة. قال القرطبي: (أي كما كذّبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون، كذّب من قبلهم وقالوا مثل قولهم).

وقوله: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} . أي: فهل أوصى قريشًا بالتكذيب آباؤهم الماضون فقبلوا

ص: 445

ومضوا على طريقة أسلافهم؟ ! . قال قتادة: (أوصى أولاهم أخراهم بالتكذيب؟ ). وفي رواية عنه: (أي: كان الأول قد أوصى الآخر بالتكذيب).

وقوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} . قال ابن كثير: (أي: لكن هم قومٌ طُغاةٌ، تشابهت قلوبُهم، فقال متأخِّرهم كما قال متقدِّمهم).

وقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} . قال مجاهد: (فأعرض عنهم). {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} . قال ابن جرير: (فما أنت يا محمد بملوم، لا يلومك ربك على تفريط كان منك في الإنذار، فقد أنذرت وبلغت ما أرسلت به).

وقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} . قال القاسمي: {وَذَكِّرْ} أي عظهم {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} أي من قذر اللَّه إيمانه، أو الذين آمنوا، فإنهم المقصودون من الخلق، لا مَنْ سواهم، إذ هم العابدون).

وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . فيه بيان سرّ السعادة في الدنيا والآخرة، فإن إفراد اللَّه تعالى بالعبادة هو أصل كل خير وصلاح للعباد في الدارين. وعن ابن عباس:({وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}: إلا ليقروا بالعبودة طوعًا وكرهًا). وقال ابن جريج: (إلا ليعرفون). وقال الربيع: ({إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}: أي: إلا للعبادة). وقال عكرمة: (إلا ليعبدون ويطيعون، فأثيب العابد وأعاقب الجاحد).

وقوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} . إخبار منه تعالى أنه غير محتاج إلى عباده، بل هم الفقراء المحتاجون إلى رحمته ورزقه وفضله. قال النسفي:({مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ}: ما خلقتهم ليرزقوا أنفسهم أو واحدًا من عبادي). وقال ثعلب: ({وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}: أن يطعموا عبادي، وهي إضافة تخصيص).

قلت: والآية تشبه قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]. فربط العبادة بمفهوم الرزق، فإن الشيطان يهمّ بالعبد كلما حاول تفريغ جزء من وقته لأهله، فجاءت الآية تطمئن المؤمن أن الصبر على تعليم الأهل والولد الحق والصلاة وحب اللَّه ورسوله والجهاد في سبيله لا يؤخر من الرزق شيئًا.

وكذلك جاء الربط في آية الذاريات: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} . فربط العبادة مرة أخرى بالرزق، فلا يظن ظان أن تخصيص جُلَّ الوقت لإخلاص العبادة للَّه وطلب العلم

ص: 446

والجهاد يقلل الرزق أو يفوت الفرص، بل هو المطلوب أولًا قبل أمور الدنيا.

ومن كنوز السنة الصحيحة في ذلك أحاديث:

الحديث الأول: يروي الإمام أحمد في المسند، والترمذي في السنن، بسند صحيح عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [لو أنكم توكلون على اللَّه تعالى حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا](1).

الحديث الثاني: أخرج الترمذي في الجامع بسند صحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن اللَّه تعالى يقول: يا ابن آدم تَفَرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسُدَّ فقرك، وإن لا تفعل ملأت يديك شغلًا ولم أَسُدَّ فقرك](2).

الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة وابن حبان بسند صحيح عن زيد بن ثابت مرفوعًا: [من كانت الدنيا همَّه، فرق اللَّه عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع اللَّه له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة](3).

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} . قال ابن عباس: (يقول: الشديد). أي: إن اللَّه هو الرزاق خلقه المتكفل بأرزاقهم وأقوالهم {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} أي الشديد القوي.

أخرج أبو داود بسند صحيح عن عبد اللَّه قال: [أقرأني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إني أنا الرّزاق ذو القوة المتين"](4).

وقوله: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا} . أي نصيبًا من العذاب. قال سعيد بن جبير: (سجلًا من العذاب". وقال الحسن: (دلوًا مثل دلو أصحابهم). وقال قتادة: (عذابًا مثل عذاب أصحابهم). وأصل الذَّنوب في لغة العرب الدَّلو العظيمة، وكانوا يستقون الماء فيقسمون ذلك على الأنصباء، فقيل للذَّنوب نصيب من هذا - حكاه القرطبي.

(1) حديث صحيح. انظر صحيح الترمذي (1911)، وكذلك تخريج المشكاة (23)، ورواه أحمد.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3/ 308)، وابن ماجة (2/ 525)، وابن حبان (2477)، وأحمد (2/ 358)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1359).

(3)

أخرجه ابن ماجة (2/ 524 - 525)، وابن حبان (72)، وإسناده صحيح رجاله ثقات.

(4)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (3993)، والترمذي (2940). انظر صحيح أبي داود (3377)، وصحيح الترمذي (2343)، وهذه قراءة شاذة.

ص: 447

وقوله: {مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ} . أي: فلا يستعجلوا وقوعه بهم، فإنه واقع بهم يومًا لا محالة. قال ابن عباس:(يقول: للذين ظلموا عذابًا مثل عذاب أصحابهم فلا يستعجلون).

وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} . تهديد ووعيد، وتقريب لما هو آت وكل آت قريب. قال القاسمي:(أي أوعدوا فيه نزول العذاب بهم، ماذا يلقون فيه من البلاء والجهد. و"اليوم" إما يوم القيامة، أو يوم بدر).

تم تفسير سورة الذاريات بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه صبيحة السبت 30 - رجب - 1426 هـ الموافق 3 - أيلول - 2005 م

* * *

ص: 448