الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
54 - سورة القمر
وهي سورة مكية، وعدد آياتها (55).
روى مسلم في صحيحه عن عُبيد اللَّه بنِ عبد اللَّه، أنَّ عُمرَ بن الخطاب سأل أبا واقد اللَّيْثي: ما كان يَقْرَأُ به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفِطْر؟ فقال: [كان يقرأ فيهما بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}](1).
موضوع السورة
اقتراب الساعة وحادثة انشقاق القمر وقصة تكذيب الأمم واتهام الحق بالسحر
-
منهاج السورة
-
1 -
التنبيه على اقتراب الساعة، وحادثة انشقاق القمر، ومقابلة المشركين ذلك الحدث بالسحر والتكذيب.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (891)، كتاب صلاة العيدين، وأخرجه مالك (1/ 180)، وأحمد (5/ 217)، وأبو داود (1154)، والترمذي (534)، والنسائي (3/ 183)، وابن ماجة (1282)، وابن حبان (2820) من حديث أبي واقد الليثي.
2 -
تسليةُ اللَّه نبيّه بالإعراض عن المشركين، الذين كذبوا بآية انشقاق القمر وكانوا بها كافرين، والوعيد بنزول الانتقام منهم يوم الدين.
3 -
قصة تكذيب الرسل منذ كذب قوم نوح رسولهم -أول الرسل عليه الصلاة والسلام، فدعا على قومه حين استعصوا فأنزل اللَّه بهم الانتقام. وجعل إهلاكهم آية باقية عبر الزمان.
4 -
قصة تكذيب عاد رسولهم، وإرسال اللَّه عليهم الريح لاستئصالهم.
5 -
قصة تكذيب ثمود رسولهم، وإرسال اللَّه عليهم الصيحة لإهلاكهم.
6 -
قصة تكذيب قوم لوط رسولهم، وتدمير اللَّه قريتهم على رؤوسهم.
7 -
قصة تكذيب آل فرعون رسولهم، وانتقام اللَّه منهم بإغراقهم.
8 -
ليس كفار مكة ببعيد إهلاكهم إن تمادوا بالكفر شأن من سبقهم.
9 -
سوء مصير المجرمين في عذاب الهون في الجحيم، وكل شيء قدّره اللَّه إلى يوم الدين.
10 -
سعادة المؤمنين في روضات جنات النعيم، يتنعمون بالملذات من اللَّه المنعم الكريم.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
5. قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)}.
في هذه الآيات: التنبيهُ على اقتراب الساعة للغافلين، وانشقاق القمر بمكة أمام أعين المشركين، ومقابلتهم ذلك بالتكذيب والاتهام بالسحر شأن الأولين المستكبرين.
فقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} . أي: قربت ودنت الساعة التي تقومِ فيها القيامة. وهو كقوله تعالى: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} [النجم: 57]. وكقوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1]. وكقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]. قال ابن جرير: ({اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}: هذا من اللَّه تعالى ذكره إنذار لعباده بدنوّ القيامة، وقرب فناء الدنيا، وأمر لهم بالاستعداد لأهوال القيامة قبل هجومها عليهم، وهم عنها في غفلة ساهون).
ومن كنوز السنة المطهرة في آفاق هذه الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: [رأيتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لإصبعيه هكذا بالوسطى والتي تلي الإبهام: بُعِثْتُ والساعة كهاتين](1).
الحديث الثاني: أخرج أحمد في المسند على شرط الشيخين عن إسماعيل بن عُبَيد اللَّه قال: قدِم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك، فسأله: ماذا سَمِعْتَ من
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4936)، كتاب التفسير، وأخرجه مسلم (2950)، كتاب الفتن، ورواه أحمد في المسند (5/ 338).
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يذكرُ به السَّاعة؟ فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [أنتم والسَّاعةُ كهاتين](1).
الحديث الثالث: أخرج الحافظ أبو بكر البزار بسند حسن عن قتادة، عن أنس:[أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خَطَبَ أصحابَه ذات يوم، وقد كادت الشَّمسُ أن تَغْرُبَ فلم يَبْقَ منها إلا شِفٌّ يسير، فقال: "والذي نفسي بيده ما بقيَ من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه"، وما نرى من الشَّمس إلا يسيرًا](2). والشف اليسير: الشيء القليل.
وله شاهد عند الإمام أحمد عن ابن عمر قال: [كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم والشمسُ على قُعَيقعانَ بعد العصر، فقال: ما أعمارُكم في أعمار من مَضى إلا كما بَقِيَ من النَّهار فيما مضى](3).
الحديث الرابع: روى مسلم في الصحيح عن خالد بن عُمَيْر العدوي قال: [خطبنا عُتْبَةُ بن غزوانَ، فَحمدَ اللَّه وأثنى عليه ثم قال: أمَّا بَعْدُ، فإن الدنيا قد آذَنَتْ بِصُرْمٍ (4) ووَلّت حَذَّاءَ (5)، ولم يثقَ منها إلا صُبَابَةٌ (6) كَصُبابَةِ الإناء، يَتَصَابُّها صاحِبُها، وإنَّكم مُنْتَقِلون منها إلى دارٍ لا زوال لها، فانْتَقِلُوا بِخَيْرِ ما بِحضرتِكُم، فإنه قد ذُكِرَ لنا أن الحجرَ يُلْقى من شَفَةِ جَهَنَّمَ، فيهوي فيها سبعين عامًا لا يُدْرِكُ لها قَعْرًا، وواللَّه! لتُمْلأَنَّ، أفَعَجِبْتُم؟ ولقد ذُكِرَ لنا أنَ ما بَيْنَ مِصْراعَيْن مِنْ مصاريعِ الجنة مَسيرةُ أربعين سنةً، وليأتِيَنَّ عليها يومٌ وهو كَظِيظٌ من الزِّحَام](7).
وقوله: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} . أي: وانفلق القمر، وذلك أيام كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة. فإنه أمام إلحاح المشركين في رؤية معجزة حسية لتصديق النبوة، استجاب اللَّه تعالى لذلك فأراهم آية انشقاق القمر نصفين حتى رأوا جبل حراء بينهما.
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 223)، وإسناده على شرط البخاري ومسلم، وله شواهد.
(2)
حديث حسن. أخرجه البزار كما في "المجمع"(10/ 311)، وذكره الذهبي في "الميزان" (8858) وقال:(قال ابن عدي: رأيت أحمد بن حنبل صحَّحَ هذه الرواية).
(3)
حديث حسن. أخرجه أحمد (2/ 116)، وإسناده حسن في الشواهد. وقعيقعان: جبل بمكة.
(4)
الصرم: الانقطاع والذهاب.
(5)
حَذّاء: مسرعة الانقطاع.
(6)
صبابة: البقية اليسيرة من الشراب تبقى في أسفل الإناء.
(7)
حديث صحيح. رواه مسلم (2967)، كتاب الزهد، ورواه أحمد في المسند (4/ 174).
فقد أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه: [أن أهل مكة سألوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شِقَّتَين حتى رأوا حراءً بينهما](1).
وقد رواها الإمام البخاري أيضًا عن شاهد عيان وهو عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: [انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمِنى فقال: اشهدوا، فذهبت فرقة نحو الجبل](2).
وقد بَيَّنَ الإمام الترمذي في جامعه ترافق ذلك مع نزول آية القمر، حيث روى عن أنس رضي الله عنه قال:[سأل أهلُ مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر بمكة مرتين فنزلت: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} أي ذاهب](3).
وكذلك فقد روى الترمذي وصفًا بديعًا للحدث عن ابن مسعود قال: [بينما نحن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمنى، فانشق القمر فلقتين: فلقة من وراء الجبل، وفلقة دونه، فقال لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا" يعني: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}](4).
وأخرج الطبراني بسند حسن عن عكرمة، عن ابن عباس قال:[كُسِفَ القمر على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: سُحِرَ القَمَرُ. فنزلت: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} إلى قوله {مُسْتَمِرٌّ}](5).
وقد أورده الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" وقال: (سنده جيد، وفيه أنه كسف تلك الليلة، فلعله حصل له انشقاق في ليلة كسوفه، ولهذا خفي أمره على كثير من أهل الأرض).
وقوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} .
أي: وإن يبصر هؤلاء المشركون دليلًا وحجَّة وبرهانًا ساطعًا لا يقرون بالحق ولا ينقادون له، بل يعرضون ويتكبرون ويتهمون ما رأوه بالسحر الذاهب المضمحل
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (فتح الباري 7/ 182)، وانظر صحيح الترمذي (2619) نحوه.
(2)
حديث صحيح. انظر فتح الباري (6/ 631)، وصحيح مسلم بشرح النووي (7/ 143 - 144).
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح الترمذي (2620)، وصحيح البخاري (3637)، وصحيح مسلم (8/ 133) دون قوله:"فنزلت"، وقال البخاري:"فرقتين" بدل "مرتين"، وهي رواية مسلم.
(4)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (2619)، كتاب التفسير، سورة القمر، وأصله في الصحيحين، وقد مضى نحوه من حديث أنس وابن مسعود.
(5)
حديث حسن. أخرجه الطبراني (11/ 11642)، ورجاله رجال الصحيح، وله شواهد.
الذي لا دوام له. قال مجاهد: ({سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}: ذاهب)، وهو من قولهم: مَرَّ الشيء واستمر إذا ذهب. وقال الضحاك: (محكم قوي شديد)، وهو من المِرَّة وهي القوة. والأول أرجح لورود النص فيه.
أخرج الترمذي بسند صحيح عن جبير بن مطعم قال: [انشق القمر على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتى صار فرقتين، على هذا الجبل، وعلى هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد. فقال بعضهم: لئن كان سحرنا، فما يستطيع أن يسحر الناس كلهم](1).
وأخرج البيهقي فىِ "الدلائل"، والطيالسي بنحوه، عن مسروق، عن عبد اللَّه قال:[انْشَقَّ القمرُ بِمَكَّةَ حتى صار فِرْقَتين، فقال كُفَّار قريش أهل مكة: هذا سِحْرٌ سَحَرَكم به ابنُ أبي كَبْشَةَ، انظروا السُّفَّار فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتُم فَهُوَ سِحْرٌ سَحَرَكُم به. قال: فَسُئِلَ السُّفَّار، قال: وقَدِموا من كل وجهٍ، فقالوا: رأيناه](2).
ولفظ الطيالسي: قال عبد اللَّه بن مسعود: [انشَقَّ القمرُ على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالت قريشٌ: هذا سِحْرُ ابن أبي كبشة. قال: انظروا ما يأتيكم به السُّفَّار، فإن محمدًا لا يستطيعُ أن يسحَرَ الناس كُلَّهم. قال: فجاء السُّفَّار فقالوا ذلك](3).
والخلاصة: لقد علّل المشركون تلك الآية العظيمة بالسحر الذي كانوا عادة يفرون من الحقيقة بالاتهام به، فقد اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم به من قبل، ولكنّ اللَّه حاجَّهم بالمعجزات الحسية شأن الأمم قبلهم، ليحق عليهم ما حقَّ على الأمم الذين كذبوا وعاندوا من قبلهم.
وفي التنزيل: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].
وتأويل الآية: أي كما أن معجزة صالح صلى الله عليه وسلم لم تنفع في جلب ثمود إلى الإيمان، فإن المشركين من قريش لن تنفعهم معجزة يعطيها اللَّه لمحمد عليه الصلاة والسلام،
(1) صحيح الإسناد. انظر صحيح سنن الترمذي (2622)، كتاب التفسير، سورة القمر.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البيهقي في "الدلائل"(2/ 266)، وإسناده على شرط الصحيح. وأخرجه الطبري (32699) من وجه آخر، وإسناده على شرط الشيخين، وله طرق.
(3)
حديث صحيح. أخرجه الطيالسي (295)، وإسناده على شرط البخاري ومسلم.
قياسًا على عبر التاريخ والزمان، وعلى سنة الأولين مع رسلهم عَبْرَ القرون والدهور والأيام.
وقوله تعالى: {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} .
أي: وكذّب هؤلاء المشركون من قريش ما جاءهم من آيات اللَّه، وقد عاينوا القمر وقد انفلق فلقتين، وآثروا اتباع أهواء نفوسهم من التكذيب بما يثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكل أمر وعدهم اللَّه أو قدّره كائن في وقته، وسيثبت ويستقر عند ظهور العقاب والثواب.
وعن قتادة: ({وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ}: أي بأهل الخير الخير، وبأهل الشر الشر). وقال ابن جريج: (مستقر بأهله). وقال مجاهد: ({وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} أي: يوم القيامة). وقال السدي: ({مُسْتَقِرٌّ} أي: واقع).
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} . أي: ولقد جاءهم في هذا القرآن من أخبار الأمم قبلهم وقصص هلاكهم عند تكذيبهم الرسل، ما فيه عظة وعبرة لمن يعتبر. وعن مجاهد:(قوله: {مُزْدَجَرٌ} قال: منتهى).
وقوله: {حِكْمَةٌ بَالِغَة} . فيه أكثر من تأويل يناسب السياق:
1 -
يعني القرآن، وهو بدل من "ما" من قوله:{مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} . حكاه القرطبي.
2 -
هو حكمة، أي خبر لمبتدأ محذوف. {بَالِغَةٌ}: أي حكمة قد بلغت غايتها من الإحكام والتنزه عن الخلل، ومن الاشتمال على البراهين السَاطعة والحجج التي كل منها كالجبل.
3 -
جملة مستأنفة للتعجب من حالهم، مع ما جاءهم مما يقود إلى الإيمان بادئ بدء. -حكاه القاسمي- وقال:(وهو ما يفهم من تأويل ابن كثير. وعبارته {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} أي في هدايته تعالى لمن هداه، وإضلاله لمن أضله).
وقوله: {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} . النذر إما جمع نذير، أو تكون بمعنى الإنذار. وهناك تأويلان حسب موقع "ما" من الإعراب:
أ- "ما" نافية. أي ليست تغني عنهم النذر. قال ابن جرير: (فليست تغني عنهم النذر ولا ينتفعون بها، لإعراضهم عنها وتكذيبهم بها).
2 -
"ما" -بمعنى "أنّى"- استفهام يفيد التوبيخ. قال القرطبي: (أي فأي شيء تغني
النذر عنهم وهم معرضون عنها). وقال ابن كثير: (يعني: أيُّ شيء تغني النذر عَمَّن كتب اللَّه عليه الشقاوة، وختم على قلبه؟ فمن الذي يهديه من بعد اللَّه؟ وهذه الآية كقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]. وكذا قوله تعالى: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]).
6 -
8. قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)}.
في هذه الآيات: أَمْرُ اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن المشركين، وتَرَقُّبِ نزول الانتقام بهم يوم الدين، يوم هم على النار يفتنون.
فقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} . أي: فأعرض عن هؤلاء المشركين من قومك -يا محمد- الذين إن يروا آية يعرضوا ويقولوا: سحر مستمر، وانتظر لهم {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ}. قال ابن كثير:(إلى شيء مُنكَر فَظِيع، وهو موقف الحساب، وما فيه من البلاء، بل والزلازل والأهوال).
وقوله: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} . قال قتادة: (أي ذليلة أبصارهم). قال القرطبي: (الخشوع في البصر الخضوع والذلّة، وأضاف الخشوع إلى الأبصار لأن أثر العزّ والذّل يتبين في ناظر الإنسان، قال اللَّه تعالى: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات: 9]. وقال تعالى: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]).
وقوله: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} . أي من القبور، واحدها جدث.
وقوله: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} . أي: كأنهم في انتشارهم -بعد خروجهم من قبورهم- وسعيهم إلى موقف الحساب جراد منتشر في الآفاق.
وقوله: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} . أي: مسرعين بنظرهم قِبَل داعيهم إلى ذلك الموقف الرهيب، فلا يخالفون ولا يتأخرون. قال قتادة:{مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} : أي عامدين إلى الداع). وقال النسفي: (مسرعين مادي أعناقهم إليه).
وقوله: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} . أي صعب شديد، عبوس قمطرير، كثير الأهوال والشدائد. قال ابن جرير:(وإنما وصفوه بالعسر لشدة أهواله وبلْباله). قال اللَّه
تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 9 - 10].
وفي صحيح مسلم من حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا: [ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال: أيها الناس هلموا إلى ربكم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} ثم يقال: أخرجوا بعث النار، فيقال: كم؟ فيقال: من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين، فيومئذ تبعث الولدان شيبًا، ويومئذ يكشف عن ساق](1).
9 -
17. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)}.
في هذه الآيات: قصة تكذيب الرسل منذ كَذَّبَ قوم نوح نبيهم عليه السلام، فلجأ إلى اللَّه بالدعاء حين استعصوا فجاء الانتقام، وجعل سبحانه قصة إهلاكهم آية تتناقلها الأجيال على مرّ الزمان.
فقوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} . تهديد للمشركين من أهل مكة، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذاهم وتكذيبهم.
وقوله: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} . قال مجاهد: (استطير جنونًا). وقال مجاهد أيضًا: (استعر جنونًا). وقال ابن زيد: (اتهموه وزجروه وأوعدوه لئن لم يفعل ليكوننّ من المرجومين، وقرأ: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116]). وكلا المعنيين متوجه مناسب للسياق.
وقوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: فدعا نوح ربه: إن قومي قد غلبوني، تمرّدًا وعتوًّا، ولا طاقة لي بهم، فانتصر منهم بعقاب من عندك على كفرهم بك).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (2940)، وأخرجه أحمد في المسند (2/ 166) في أثناء حديث طويل.
وقوله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} . قال السدي: (هو الكثير).
والمقصود: فأجبنا نوحًا إذ دعانا مستغيثًا بنا فأرسلنا ماء السماء منهمرًا متدفقًا يحمل للكافرين أهوال فيضان العذاب.
وقوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} . أي: وفجرنا ينابيع الأرض وعيون الماء ليلتقي ماء الأرض مع ماء السماء على أمر قَدْ قدَّره اللَّه وقضاه.
وقوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} . الدُّسر: جمع دسار، والدّسار المسمار.
ومن أقوال المفسرين في ذلك:
1 -
قال القرطبي: (الدّسُر: المسامير). وقال قتادة: (مساميرها التي شدّت بها). وقال ابن زيد: (الدُّسر: المسامير التي دُسرت بها السفينة، ضربت فيها، شدّت بها). واختار هذا المعنى ابن جرير.
2 -
وقال مجاهد: (الدُّسر: أضلاع السفينة).
3 -
وقال عكرمة: (هو صدرُها الذي يُضرب به الموج).
4 -
وقال الضَّحاك: (الدسُر: طرفاها وأصلُها).
5 -
وقال العوفي، عن ابن عباس:(هو كَلْكَلُها، أي صدرها).
قلت: وفي لغة العرب: الدُّسُر: خيوط تُشَدُّ بها ألواح السفينة، وقيل هي المسامير، فيكون المعنى الأول هو الأنسب في التأويل، وهو اختيار شيخ المفسرين الإمام ابن جرير.
وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} . قال سفيان: (بأمرنا). وقال ابن كثير: (أي: بأمرنا بمرأى منا وتحت حِفظنا وكَلَاءتنا).
قلت: ولفظ العين في القرآن قد يفيد الصفة التي لا بد من إثباتها للَّه تعالى، وقد يفيد العناية والرعاية. فقوله تعالى:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] يفيد الأمرين:
1 -
إثبات العين للَّه تعالى.
2 -
مفهوم الرعاية والحفظ والكلاءة. قال أبو نهيك: (ولتعمل على عيني). أي:
فكانت تربية موسى عليه السلام برعاية اللَّه وحفظه. وكذلك قوله تعالى هنا في آية القمر: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} .
وقوله: {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِر} . قال مجاهد: (لمن كان كفر فيه). أو قال: (كفر باللَّه).
والمقصود: إنما غرّقنا قوم نوح ونجينا نوحًا: عقابًا من اللَّه، وثوابًا للذي جُحِد وكُفِر. فكان جزاء لقوم نوح على كفرهم باللَّه، وانتصارًا لنوح صلى الله عليه وسلم في صبره وثباته وجهاده.
وقوله: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} . قال القرطبي: (يريد هذه الفعلة عبرةً. وقيل: أراد السفينة تركها آية لمن بعد قوم نوح يعتبرون بها فلا يكذبون الرسل). قال البخاري: (قال قتادة: أبقى اللَّه سفينة نوحٍ حتى أدركها أوائل هذه الأمة).
وقوله: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} . أي: فهل من خائف مُتَّعِظ معتبر! قال ابن زيد: (المدّكر: الذي يتذكّر). وأصله مُذْتَكِر مُفْتَعِل من الذكر، فثقلت على الألسنة فقلبت التاء دالًا لتوافق الذال في الجهر وأدغمت الذال فيها.
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن الأسود، عن ابن مسعود قال:[أقرأني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فهل من مُدّكر". فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن، مُدَّكِر أو مُذَّكِر؟ قال: أقرأني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مدَّكِر](1).
وفي صحيح البخاري عن الأسود بن يزيد، عن عبد اللَّه قال:[قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم: "فهل من مُذَّكر". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فهل من مُدَّكِر"](2).
وكذلك روى البخاري عن الأسود، عن عبد اللَّه قال:[كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ: "فهل من مدّكر"](3).
وفي الصحيحين عن أبي إسحاق: أنه سمِعَ رجلًا يسأل الأسودَ: "فهل من مدكر"، أو:"مُذَّكر"؟ قال: [سمعت عبد اللَّه يقرأ: "فهل من مدّكر". وقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرؤها: "فهل من مدّكر" دالًا](4).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (1/ 395)، وإسناده على شرط البخاري ومسلم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4874)، كتاب التفسير، سورة اقتربت الساعة.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4870)، كتاب التفسير، وانظر كذلك (3341).
(4)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4871)، ومسلم (823) ح (280)(281)، ورواه أبو داود (3994)، والترمذي (2937)، والنسائي في "التفسير"(575).
وقوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} . قال ابن كثير: (أي: كيف كان عذابي لمن كَفَر بي وكَذَّب رُسُلي ولم يَتَّعِظ بما جاءت به نُذُري؟ وكيف انتصرتُ لهم، وأخذت لهم بالثَّأر؟ ).
وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} . قال البخاري: (قال مجاهد: يَسَّرنا: هَوَّنَّا قِراءَته). وقال السدي: (يَسَّرنا تلاوته على الألسُن). وقال ابن زيد: (يسَّرنا: بَيَّنا). قال ابن عباس: (لولا أن اللَّه يسَّره على لسانِ الآدميين ما استطاعَ أحدٌ من الخلق أن يتكلم بكلام اللَّه عز وجل.
والمقصود: امتنان من اللَّه تعالى على عباده أن سهَّل لفظ القرآن لهم، ويَسَّر فهم معناه، ليكون ذكرى لمن أراد أن يذّكَّر أو أراد شكورًا.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
2 -
وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97].
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: أقرأني جبريلُ عليه السلام على حرف، فراجَعْتُه، فلم أزل أستزيدُهُ فيزيدني، حتى انتهى إلى سبعة أحرف](1).
قال ابن شِهاب: (بلغني أنَّ تلكَ السَّبْعَةَ الأحرف إنما هيَ في الأمرِ الذي يكونُ واحِدًا، لا يخْتَلِفُ في حلالٍ ولا حرامٍ).
وقوله: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} . أي: فهل من متّعظٍ بهذا القرآن متذكر وعده ووعيده؟ ! قال محمد بن كعب القرظي: (فهل من مُنْزَجِرٍ عن المعاصي؟ ). قال البخاري: (وقال مطرٌ الورَّاقُ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قال: هلْ مِنْ طالبِ عِلْمٍ فيعانَ عليه؟ ).
ولقد تكرر في هذه السورة قوله سبحانه: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} للتنبيه والإفهام. قال القرطبي: (وقيل: إنّ اللَّه تعالى اقتص في هذه السورة على هذه الأمة أنباء الأمم وقصص
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (3219)، وأخرجه مسلم في الصحيح (819).
المرسلين، وما عاملتهم به الأمم، وما كان من عقبى أمورهم وأمور المرسلين، فكان في كل قصة ونبأ ذكر للمستمع أن لو ادّكر، وإنما كرّر هذه الآية عند ذكر كل قصة بقوله:{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} لأن "هَلْ" كلمة استفهام تستدعي أفهامهم التي ركبت في أجوافهم وجعلها حجة عليهم، فاللام من "هَلْ" للاستعراض والهاء للاستخراج).
18 -
22. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)}.
في هذه الآيات: إخبار عن عاد قوم هود حين كذبوا رسولهم فأرسل اللَّه عليهم ريحًا صرصرًا -أي باردة شديدة- في يوم نحس عليهم، مستمر عذابه لاتصال عذاب الدنيا بالآخرة. وكانت الريح ترفع أحدهم ثم تنكسه على أم رأسه، وقد جعلها اللَّه آية تتناقلها الأجيال إلى يوم القيامة.
فقوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} . قال ابن جرير: (يقول: فانظروا معشر كفرة قريش باللَّه كيف كان عذابي إياهم، وعقابي لهم على كفرهم باللَّه، وتكذيبهم رسوله هودًا، وإنذاري بفعلي بهم ما فعلت من سلك طرائقهم، وكانوا على مثل ما كانوا عليه من التمادي في الغيّ والضلالة).
وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} . قال ابن عباس: (ريحًا شديدة). وقال قتادة: (والصرصر: الباردة). وقال ابن زيد: (الصرصر: الشديدة).
وقوله: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ} . أي في يوم شرّ وشؤم عليهم. قال قتادة: (النَّحْس: الشؤم). وقال ابن زيد: (النّحْس: الشَّر {فِي يَوْمِ نَحْسٍ} في يوم شرّ).
وقوله: {مُسْتَمِرٍّ} . قال قتادة: (يستمر بهم إلى نار جهنم). والمقصود: لقد نزل بهم العذاب في يوم شؤم فمازال يتتابع البلاء عليهم بعده إلى أن وافوا جهنم.
وقوله تعالى: {تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} . قال القرطبي: ({تَنْزِعُ النَّاسَ} في موضع الصفة للريح أي تَقْلَعهم من مواضعهم. قيل: قلعتهم من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها). والمنقعر: المنقطع من أصله. قال مجاهد: (كانت تقلعهم من الأرض، فترمي بهم على رؤوسهم فتندقّ أعناقهم وتبين رؤوسهم عن أجسادهم).
وقوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} . تهديد ووعيد لكفرة قريش ومن سار على منهاجهم.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} . أي: ولقد سهلنا القرآن للادّكار والاتعاظ بما صرفنا فيه من الوعد والوعيد والمواعظ الكثيرة.
23 -
32. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)}.
في هذه الآيات: إِخْبَارٌ من اللَّه جَلَّ وعزَّ عن تكذيب ثمود نبيهم صالحًا عليه الصلاة والسلام، وتطاولهم على الناقة بعقرها حتى نزل بهم من اللَّه الانتقام، وقد جعل اللَّه قصة إهلاكهم عبرة تتعاقب نقلها الأجيال على مر العصور والأزمان.
فقوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} . قال القرطبي: (هم قوم صالح كذبوا الرسل ونبيهم، أو كذبوا بالآيات التي هي النذر).
وقوله تعالى: {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} . قال ابن كثير: (يقولون: لقد خِبْنا وخَسِرنا إن سَلَّمنا كُلُّنا قيادَنا لواحدٍ منا! ). قال النسفي: ({إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} كأن يقول إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وسعر ونيران -جمع سعير- فعكسوا عليه، فقالوا: إن اتبعناك كنا إذن كما تقول. وقيل: الضلال الخطأ، والبعد عن الصواب. والسعر: الجنون). وقال قتادة: ({إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ}: في عناء وعذاب). أو قال: (في ضلال وعناء).
وقوله: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} . استفهام بمعنى الإنكار. أي: أخُصِّص بالرسالة من بيننا وفي آل ثمود من هو أكثر منه مالًا وأحسن حالًا.
وقوله: {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} . أي بل هو كذاب بطر متكبر، حمله بطره وحرصه
على التعظُّم علينا على ادّعاء ذلك. والأشَرُ في لغة العرب: البَطَر.
وقوله تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} . تهديد لهم ووعيد، على تطاولهم على نبي اللَّه بالاتهام والتكذيب.
وقوله: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ} . أي: إنا مختبروهم بالناقة فمخرجوها لهم من الهضبة كما سألوا امتحانًا لهم. قال ابن كثير: (أخرج اللَّه تعالى لهم ناقةً عظيمة عُشَرَاء من صَخْرَةٍ صَمَّاءَ طِبقَ ما سألوا، لتكون حُجَّة اللَّه عليهم في تصديق صالح عليه السلام فيما جاءهم به).
وقوله: {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} . أمر من اللَّه تعالى لصالح عليه السلام بلزوم الصبر والمصابرة، فإن العاقبة والنصر سيكون له في الدارين. قال النسفي:({فَارْتَقِبْهُمْ} فانتظرهم وتبصر ما هم صانعون {وَاصْطَبِرْ} على أذاهم ولا تعجل حتى يأتيك أمري).
وقوله: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} . أي: يوم لهم ويومٌ للناقة. كقوله تعالى: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155]. وقيل: {بَيْنَهُمْ} لأن العرب إذا أخبرت عن فعل جماعة بني آدم مختلطًا بهم البهائم، غلّبوا فعل بني آدم على فعل البهائم.
وقوله: {كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} . قال مجاهد: (يحضرون بهم إلى الماء إذا غابت، وإذا جاءت حضروا اللبن). والشِّرب: الحظ من الماء. والمقصود: الناقة تحضرُ الماء يوم وردِها، وتغيب عنهم يوم وِردهم. قال ابن عباس:(كان يوم شِربهم لا تشرب الناقة شيئًا من الماء وتسقيهم لبنًا وكانوا في نعيم، وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كلّه فلم تبق لهم شيئًا).
أخرج الإمام أحمد من حديث جابر قال: [لما نزلنا الحجْر في مغزى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تبوك، قال: "أيها الناس لا تسألوا في هذه الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيّهم أن يبعث اللَّه لهم ناقة، فبعث اللَّه عز وجل إليهم الناقة، فكانت ترِدُ من ذلك الفجّ فتشرب ماءهم يوم وردها، ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون يوم غِبِّها"](1).
وقوله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} . أي: فنادى القوم صاحبهم -قدار ابن سالف أحيمر ثمود- فاجترأ على الإقدام على عقرها، وتعاطى الأمر العظيم غير
(1) أخرجه أحمد في المسند (3/ 296)، وصححه ابن كثير في "البداية والنهاية"(5/ 11).
مكترث لعاقبته، كما قال تعالى:{إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس: 12 - 14].
وقوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} . أي: فكيف كان عذابي مقابل تكذيبهم وكفرهم! قال ابن جرير: (يقول جل ثناؤه لقريش: فكيف كان عذابي إياهم معشر قريش حين عذبتهم ألم أهلكهم بالرجفة. ونُذُر: يقول: فكيف كان إنذاري من أنذرت من الأمم بعدهم بما فعلت بهم وأحللت بهم من العقوبة).
وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} . يريد صيحة جبريل عليه السلام التي كان فيها هلاكهم.
وقوله: {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} فيه أكثر من تأويل:
1 -
قال ابن عباس: ({كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} قال: كالعظام المحترقة). وكأن المقصود: تمثيل هؤلاء القوم بعد هلاكهم وبلائهم بالشيء الذي أحرقه محرق في حظيرته.
2 -
قال الضحاك: (المحتظر: الحظيرة تتخذ للغنم فتيبس، فتصير كهشيم المحتظر، قال: هو الشوك الذي تحظر به العرب حول مواشيها من السباع، والهشيم: يابس الشجر الذي فيه شوك ذلك الهشيم).
3 -
قال سفيان: (الهشيم: إذا ضربت الحظيرة بالعصا تهشم ذاك الورق فيسقط. والعرب تسمي كل شيء كان رطبًا فيبس هشيمًا).
قلت: وكلها أقوال مُتقاربة مُتكاملة، يحتملها البيان الإلهي المعجز. قال القاسمي:({فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} أي كالشجر اليابس المتكسّر، الذي يتخذه من يعمل الحظيرة للغنم ونحوها. أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء. وقرئَ بفتح الظاء، اسم مكان. أي كهشيم الحظيرة، أو الشجر المتخذ لها. وهو تشبيه لإهلاكهم وإفنائهم، وأنهم بادوا عن آخرهم، لم تبق منهم باقية، وخمدوا وهمدوا، كما يهمد وييبس الزرع والنبات بعد خضرة ورقه، وحسن نباته).
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} . أي: ولقد سهلنا القرآن للتلاوة والادّكار والاتعاظ بما فيه من قصص ومواعظ وعبر، فهل من متعظ أو معتبر! ؟
33 -
40. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)}.
في هذه الآيات: تكذيب قوم لوط نبيَّهم عليه الصلاة والسلام، وإصرارهم على فاحشتهم وكفرهم حتى نزل بهم من اللَّه أشد الانتقام، وقد جعل اللَّه قصة إهلاكهم آية وعبرة إلى آخر الزمان.
فقوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} . إخبار عن تكذيب قوم لوط نبيّهم، ومخالفته فيما نهاهم عنه من إتيانهم الذكور، وهي الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين.
وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} . قال النّضر: (الحاصب الحصباء في الريح). وقال أبو عبيدة: (الحاصب الحجارة). وفي الصحاح: (والحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء وكذلك الحَصِبة). والمقصود: لقد أهلكهم اللَّه هلاكًا متفردًا كما تفرّدوا بفاحشتهم فسبقوا إليها، وكان إهلاكهم أن أمر تعالى جبريل عليه السلام فرفع مدائنهم ثم قلبها عليهم، وأُتبِعت بحجارة من سجيل منضود، وهي الحاصب الذي أرسله عليهم.
وقوله: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} . قال القرطبي: (يعني من تبعه على دينه ولم يكن إلا بنتاه). والسَّحر هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر. قال الأخفش: ({نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ}: إنما أجراه لأنه نكرة، ولو أراد سَحَر يوم بعينه لما أجراه). وكذا قال الزجاج: ({بِسَحَرٍ} إذا كان نكرة يُراد به سحَر من الأسحار).
وقوله: {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} . قال ابن جرير: (والحاصب الذي حصبناهم به بسحر، بنعمة من عندنا: يقول: نعمة أنعمناها على لوط وآله، وكرامة أكرمناهم بها من عندنا).
وقوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} . أي: كذلك يُثيب اللَّه ويُجازي من أطاع وشكر.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} . أي: ولقد كان -لوط- أنذرهم بأس اللَّه وحلول نقمته قبل نزول العذاب بهم، فما التفتوا إلى إنذاره، بل شكوا بذلك وتماروا فيه.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} . قال ابن كثير: (وذلك ليلة ورَدَ عليه الملائكةُ: جبريلُ، وميكائيل، وإسرافيلُ في صورة شَبَاب مُردٍ حِسَانٍ مِحنةً من اللَّه بهم، فأضافَهُم لوطٌ عليه السلام وبعثتِ امرأتُه العجوزُ السَّوءُ إلى قومها، فأعلمتهُم بأضياف لوط، فأقبلوا يُهْرعون إليه من كل مكان، فأغلقَ لوطٌ دونهم البابَ، فجعلوا يحاوِلونَ كسرَ الباب، وذلك عَشِيّة، ولوطٌ عليه السلام يُدافِعُهم ويُمَانِعُهم دونَ أضيافه، ويقول لهم: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} يعني نِساءهم، {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر: 71]، {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ}، أي: ليس لنا فيهن أرَبٌ، {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79]. فلما اشتد الحالُ وأبَوا إلا الدخول، خرج عليهم جبريلُ عليه السلام فضرب أعينهم بطَرف جناحه، فانطمست أعينُهم. يقال: إنها غارت من وجوههم. وقيل: إنه لم يبقَ لهم عيون بالكُلِّية، فرجعوا على أدبارهم يتحسَّسُون بالحيطانِ، ويتوعَّدُون لوطًا عليه السلام إلى الصباح).
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} . قال قتادة: (يقول: صبحهم عذاب مستقرّ، استقرّ بهم إلى نار جهنم). وقال ابن زيد: (ثم صبّحهم بعد هذا، يعني بعد أن طمس اللَّه أعينهم، فهم في ذلك العذاب إلى يوم القيامة).
وقوله تعالى: {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} . أي: فذوقوا معشر قوم لوط عذاب اللَّه وبأسه الذي أنذركموه رسولكم لوط عليه الصلاة السلام. قال القرطبي: (أي فقلنا لهم ذوقوا، والمراد من هذا الأمر الخبر).
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} . أي: ولقد سهّل اللَّه هذا القرآن سواء للتلاوة أو للاتعاظ، فهل من مُتّعِظ بما فيه من العبر وأخبار الأمم. والخطاب لقريش ثم هو يعمّ كل من جاء بعدهم، ومضى على منهاجهم.
قال النسفي: (وفائدة تكرير {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أن يجدّدوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادكارًا واتعاظًا، وأن يستأنفوا تنبهًا واستيقاظًا إذا سمعوا الحثّ على ذلك والبعث عليه).
41 -
46. قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)}.
في هذه الآيات: تكذيب آل فرعون رسولهم موسى عليه الصلاة والسلام، وتماديهم بالكفر والعناد حتى نزل بهم من اللَّه الانتقام، وما كفار مكة ببعيد إهلاكهم إن أصروا على الكفر والعناد كبقية الأقوام.
فقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} . إخبارٌ من اللَّه عن استيفاء الحجة على آل فرعون، فجاءهم موسى وأخوه هارون بالبشارة إن آمنوا، والنِّذارة إن كفروا، وأيدهم اللَّه تعالى بالآيات والمعجزات الباهرة.
وقوله: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} . قال ابن جرير: (يقول جلّ ثناؤه: كذّب آل فرعون بأدلتنا التي جاءتهم من عندنا، وحججنا التي أتتهم بأنه لا إله إلا اللَّه وحده كلها).
وقوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} . قال قتادة: (يقول: عزيز في نقمته إذا انتقم).
وقوله: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} . أي: أكفاركم -معشر المشركين من قريش- خير من الذين تقدّم ذكر هلاكهم لما كفروا بالكتب وكذبوا الرسل؟ ! ألكم خصوصية تميّزكم منهم فتكفرون وتكذبون ثم تنجون؟ ! .
وقوله: {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} . قال عكرمة: (يعني في الكتب). والمعنى: أم معكم -أيها المشركون- من اللَّه براءة أقرّها في الكتب ألا ينالكم بعذاب ولا انتقام.
وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} . قال ابن كثير: (أي: يعتقدون أنهم يتناصرون، بعضهم بعضًا، وأنَّ جَمْعهم يُغني عنهم مَنْ أرادَهُم بسوءٍ).
وقوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} . إخبارٌ من اللَّه سبحانه وتقريرٌ أنّ كفار قريش سيهزمون ويولون أدبارهم المؤمنين أثناء فرارهم مغلوبين صاغرين.
أخرج البخاري في الصحيح والنسائي في "التفسير" عن عكرمة، عن ابن عباس: [أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال -وهو في قُبَّةٍ يومَ بَدْر-: "اللهم إني أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللهم إنْ تَشَأْ لا تُعْبَدْ بعدَ اليوم". فأخذ أبو بكر بيده فقال: حَسْبُكَ يا رسولَ اللَّه،
أَلْحَحْتَ على رَبِّكَ، وهو يَثِبُ في الدِّرْع، فخرج وهو يقول:" {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} "] (1).
وفي رواية: [فخرج وهو يقول: " {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} "].
وقوله تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} . أي: ليس الأمر كما يزعم المشركون أنْ لا بعث لهم بعد مماتهم، بل إن الساعة موعدهم للبعث والعقاب، وستكون الساعة أدهى وأمرّ عليهم أضعافًا مضاعفة من هزيمة بدر.
أخرج البخاري عن يوسف بن ماهَكَ قال: [إنّي عِنْدَ عائشة أُمِّ المؤمنين قالت: لَقَدْ
أُنْزلَ على مُحَمّد صلى الله عليه وسلم بِمَكّة، وإني لجاريةٌ ألْعَبُ:{بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} ] (2).
47 -
55. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}.
في هذه الآيات: سوء مصير المجرمين في عذاب الهون في الجحيم، فكل شيء قد قدّره اللَّه منذ الأزل إلى يوم الدين، وأما المؤمنون فهم في روضات الجنات يتنعمون في ألوان الملذات والنعيم.
فقوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} . قال قتادة: (في عناء). قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: إن المجرمين في ذهاب عن الحق، وأخذ على غير هدى {وَسُعُرٍ} يقول: في احتراق من شدة العناء والنصب في الباطل). قال ابن كثير: (يخبرنا تعالى
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4875)، (4877)، كتاب التفسير، وأخرجه كذلك برقم (2915)، (3953). ورواه النسائي في "التفسير"(577).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4876)، كتاب التفسير، وانظر كذلك (4993).
عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحق، وسُعُرٍ مما هُم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء، وهذا يشمل كُلَّ من اتّصف بذلك من كافر وَمُبتدع من سائر الفرق).
وقوله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} . تَقْرِيرٌ من اللَّه العظيم لِمَا سيكون من مذلة وإهانة لتلك الوجوه التي أبت أن تسجد للَّه في الدنيا كبرًا وعنادًا.
وقوله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} . أي: ويقال لهم تقريعًا وتوبيخًا: ذوقوا أَلَم جهنم. فَمَسُّها ما يجدون من الألم عند الوقوع فيها. و"سَقَر" اسم من أسماء جهنم لا ينصرف، لأنه اسم مؤنث معرفة، وكذا لَظَى وجهنم.
وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} . إثبات قدر اللَّه السابق لخلقه. كما قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]. وكقوله جل ذكره: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1 - 3].
قال القرطبي: (الذي عليه أهل السنة أن اللَّه سبحانه قَدَّرَ الأشياء، أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا يحدث حدث في العالم العلويّ والسفليّ إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة، وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير اللَّه تعالى وبقدرته وتوفيقه وإلهامه، سبحانه لا إله إلا هو، ولا خالق غيره، كما نص عليه القرآن والسنة، لا كما قالت القَدريّة وغيرهم من أن الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: [جاء مشركُو قريش يخاصمون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في القدر، فنزلت: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}](1).
وله شاهد عند البخاري في "خلق أفعال العباد" من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: [نزلت هذه الآية {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} في أهل القدر].
وفي سنن أبي داود بسند حسن عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[القَدَرِيّة مَجُوسُ هذه الأمة: إنْ مَرِضُوا فلا تعودوهم، وإنْ ماتوا فلا تشهدوهم](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2656)، والترمذي (2157)، (3290)، ورواه ابن ماجة (83)، والواحدي (775). وانظر للشاهد:"خلق أفعال العباد" ص (19).
(2)
حديث حسن. أخرجه أبو داود (4691)، كتاب السنة. انظر صحيح سنن أبي داود (3925).
وفي صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إنّ اللَّه كتبَ مقادير الخلائق قبل أن يخلُق السماوات والأرضَ بخمسين ألف سنة](1).
وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} . تقرير لنفوذ مشيئته سبحانه في خلقه، فإنه إذا أراد أمرًا كَوَّنَهُ بقولة واحدة: كن فيكون، فإذا هو موجود حاصل قائم كسرعة اللمح بالبصر لا يبطِئُ ولا يتأخر.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قال ابن زيد: (أشياعكم من أهل الكفر من الأمم الماضية، يقول: فهل من أحد يتذكر). والمقصود: كان في الأمم السالفة أمثالكم وأشباهكم من المكذبين للرسل فدَمَّرناهم، فهل من معتبر بسنن اللَّه في خلقه.
وقوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} . قال الضحاك: (الكتب). والمقصود: لقد تمّ جمع كل أقوالهم وأعمالهم وتدوينها في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام.
وقوله تعالى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} . قال ابن عباس: (يقول: مكتوب). وقال قتادة: (محفوظ مكتوب). قال القرطبي: (أي كل ذنب كبير وصغير مكتوب على عامله قبل أن يفعله ليجازى به، ومكتوب إذا فعله).
وفي المسند وسنن ابن ماجة وصحيح ابن حبان عن عائشة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول:[يا عائشة! إياك ومُحقِّرات الذنوب فإن لها من اللَّه طالبًا](2).
وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} . قال النسفي: ({وَنَهَرٍ} وأنهار، اكتفى باسم الجنس، وقيل: هو السعة والضياء ومنه النهار).
والمقصود: إخبار من اللَّه تعالى عن حال المتقين يوم القيامة أنهم في ظلال
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2653) ح (16)، والترمذي (2156)، وأحمد (2/ 169).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (6/ 70)، وابن ماجة في السنن (4243)، وأخرجه الدارمي (2/ 303)، وابن حبان (5568)، وإسناده على شرط البخاري.
وبساتين، تتدفق عبرها الجداول والأنهار، ويفوح فيها عبق الأزهار والرياحين. بعكس حال الأشقياء والمجرمين، أهل الضلال والسعر وصلي الجحيم.
وقوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} . أي: في مجلس حق ومنبر نور، لا لغو فيه ولا تأثيم.
وقوله: {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} . أي: عند الملك العظيم، ذي القدرة والجبروت والقوة المتين، سبحانه وتعالى.
وفي صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إنَّ المُقْسِطين، عند اللَّه، على منابِرَ من نُور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكِلْتا يديه يمين، الذين يَعْدِلُون في حُكْمهم وأهليهم وما وَلُوا](1).
وفي المسند للإمام أحمد بسند صحيح عن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قال اللَّه تعالى: حُقَّت محبتي للمتحابين فِيّ، وحقت محبتي للمتواصلين فيّ، وحقت محبتي للمتناصحين فيّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيّ، وحقت محبتي للمتباذلين فيّ. المتحابّون فيّ على منابر من نور، يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء](2).
تم تفسير سورة القمر بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه ظهر الجمعة 13 - شعبان - 1426 هـ الموافق 16 - أيلول - 2005 م
* * *
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1827)، كتاب الإمارة. ورواه أحمد والنسائي وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. رواه أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك. انظر:"تخريج الترغيب"(4/ 47)، وصحيح الجامع الصغير (4197).