المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌موضوع السورة الإقسام بالطور والكتاب وبديع المخلوقات أن عذاب اللَّه واقع - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٧

[مأمون حموش]

فهرس الكتاب

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌40 - سورة غافر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌41 - سورة فصلت

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌42 - سورة الشورى

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌43 - سورة الزخرف

- ‌ما ورد في ذكرها

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌44 - سورة الدخان

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌45 - سورة الجاثية

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌46 - سورة الأحقاف

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌47 - سورة محمد

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌48 - سورة الفتح

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌49 - سورة الحجرات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌50 - سورة ق

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌51 - سورة الذاريات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌52 - سورة الطور

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌53 - سورة النجم

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌54 - سورة القمر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌55 - سورة الرحمن

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌56 - سورة الواقعة

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌57 - سورة الحديد

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌58 - سورة المجادلة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌59 - سورة الحشر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

الفصل: ‌ ‌موضوع السورة الإقسام بالطور والكتاب وبديع المخلوقات أن عذاب اللَّه واقع

‌موضوع السورة

الإقسام بالطور والكتاب وبديع المخلوقات أن عذاب اللَّه واقع بالكافرين أصحاب الموبقات

‌منهاج السورة

1 -

إقسامُ اللَّه تعالى ببديع مخلوقاته الدالة على عظمته أن عذابه واقع بالكافرين.

2 -

نَعْتُ أهوال يوم الحساب، وإحضار جهنم أمام أعين المجرمين لبدء العقاب.

3 -

الصبر وعدمه على المشركين في النار سواء، ليذوقوا يومئذ سوء العقاب.

4 -

نَعْتُ حال المتقين في جنات النعيم، وتذكرهم نعمة اللَّه عليهم أن وقاهم عذاب الجحيم.

5 -

الأمر بالبلاغ المبين، والانتصار للرسول الكريم، والتوبيخ لسلوك المعاندين.

6 -

التقريع من اللَّه على المشركين، وفضح مكر أهل النفاق أعداء الدين.

7 -

كشف طغيان المشركين، وتكذيبهم بحقائق الأمور واليقين، وانقلاب المكر على الماكرين.

8 -

حث اللَّه تعالى رسوله الكريم، على التزام الصبر والاستعانة بالتسبيح وصلاة الليل حتى يأتي نصر اللَّه المبين.

ص: 451

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

16. قوله تعالى: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)}.

في هذه الآيات: يُقسم اللَّه تعالى ببديع مخلوقاته الدالة على عظمته وقدرته وجبروته أن عذابه واقع بالكافرين، يوم تمور السماء وتسير الجبال وتُحضر جهنم أمام أبصار المجرمين، فيقال لهم: اصلوها فالصبر وعدمه سواء إنما هذا جزاء المستكبرين.

فقوله تعالى: {وَالطُّورِ} . قال مجاهد: (الجبل بالسريانية). قال ابن كثير: (فالطُّور هو: الجبلُ الذين يكونُ فيه أشجارٌ، مثل الذي كَلَّمَ اللَّه عليه موسى، وأرسل منه عيسى. وما لم يكن فيه شجرٌ لا يسمى طورًا، إنما يقال له: جبلٌ).

وقوله تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} . قال مجاهد: (صحف). وقال قتادة: (المسطور: المكتوب).

قال القرطبي: ({وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} أي مكتوب، يعني القرآن يقرؤه المؤمنون من المصاحف، ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77 - 78]. وقيل: يعني سائر الكتب المنزلة على الأنبياء).

وقوله تعالى: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} . قال مجاهد: (الرقّ: الصحيفة). والمنشور:

ص: 452

المبسوط. قال القاسمي: (أي: وكتاب سطِّر في ورق منشور يقرأ على الناس جهارًا. و"الرقّ" الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه).

وقوله تعالى: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} . أي الذي يعمر بكثرة غاشيته من الملائكة، وقد صحّ الخبر عن رسول اللَّه أنه في السماء السابعة.

ففي الصحيحين من حديث قتادة عن أنس بن مالك، عن مالكِ بن صَعْصَعة -في حديث الإسراء- قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:[فأتينا السماء السابعة، قيل: مَنْ هذا؟ قيل: جِبْريل، قيل: من معك؟ قيل: محمّدٌ، قيل: وقد أُرسل إليه؟ مَرْحبًا به ولنِعْمَ المجيءُ جاءَ، فأتيتُ على إبراهيم فَسَلَّمْتُ عليه فقال: مَرْحَبًا بك من ابنٍ ونبيّ، فَرُفِعَ لي البيتُ المعمورُ فسألتُ جبريلَ فقال: هذا البَيْتُ المَعْمورُ يُصَلّي فيه كُلَّ يومٍ سبعونَ ألفَ ملكٍ إذا خرجوا لمْ يعودوا إليه آخِرَ ما عليهم](1). وفي وراية: [ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه].

وعن ابن عباس: ({وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ}: هو بيت في السماء حِيالَ الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم يخرجون منه فلا يعودون إليه).

والمقصود: أنه بيت في السماء السابعة يطوف به الملائكة كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم، فهو كعبةُ أهل السماء السابعة. قال ابن كثير:(ولهذا وُجِدَ إبراهيم الخليل عليه السلام مُسْنِدًا ظهره إلى البيت المعمور، لأنه باني الكعبة الأرضيّة، والجزاء من جنس العمل، وهو بحيال الكعبة، وفي كل سماءٍ بيتٌ يتعبَّدُ فيه أهلُها، ويُصلّون إليه، والذي في السماء الدنيا يقال له: بيتُ العزّة، واللَّه أعلم).

وقوله تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} . قال سماك عن خالد بن عُرْعُرة عن علي رضي الله عنه سأله رجل عن السقف المرفوع؟ - فقال: (السماء) - رواه ابن جرير. وقال ابن زيد: (سقف السماء). وفي التنزيل: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 32]. وقال الربيع بن أنس: (هو العرش). يعني أنه سقف لجميع المخلوقات، والبيان يحتمله.

وقوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} . قيل المُوقد، وقيل المملوء.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (3207) - كتاب بدء الخلق، وأخرجه مسلم (1/ 148) وكذلك (164/ 264) من حديث قتادة عن أنس به.

ص: 453

قال مجاهد: ({وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} الموقد). وكذلك قال ابن زيد وقرأ: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} قال: (أوقدت). وقال قتادة: ({وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} الممتلئ). وبالجمع بين القولين: هو ممتلئ اليوم وسيسجر -أي يوقد- يوم القيامة نارًا.

وقوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} جواب القسم. فالواو الأولى للقسم والبواقي للعطف، وهذا جواب القسم -أي: إن عذاب ربك -يا محمد- لنازل حالّ بالكافرين به يوم القيامة.

وقوله تعالى: {مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} . أي: ليس لهم من دافع يدفع عنهم ذلك العذاب إذا نزل بهم، أو ينقذهم منه.

وقوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} . المَوْرُ: التحرك. قال ابن عباس: (تتحرك تحريكًا). وقال: (هو تَشَقُّقها). وقال مجاهد: (تدور دورًا). وقال الضحاك: (يموج بعضها في بعض). والمقصود: استدارتها وتحريكُها لأمر اللَّه، وموج بعضها في بعض.

وقوله تعالى: {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} . أي: تسير كسير السحاب اليوم في الدنيا، فتذهب فتصير هباء مُنْبَثًا، وتُنْسَفُ نسفًا. كما قال تعالى:{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88]. وكقوله جل ذكره: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة: 4 - 6].

وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} . أي: فويل للمكذبين في ذلك اليوم من بأس اللَّه وغضبه وعذابه الذي سينزل بهم. والوَيْل: كلمة تقال للهالِكِ تنذره بالهلاك.

وقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} -أي في غفلة ولهو واستهزاء بالدين-. قال ابن جرير: (الذين هم في فتنة واختلاط في الدنيا يلعبون غافلين عما هم صائرون إليه من عذاب اللَّه في الآخرة).

وقوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} . أي يدفعون إليها ويساقون لها مهانين. قال ابن عباس: (يدفع في أعناقهم حتى يردوا النار). وقال: (يدفعون فيها دفعًا). وقال قتادة: (يزعجون إليها إزعاجًا). قال الضحاك: (الدعّ: الدفع والإرهاق).

وقوله تعالى: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} . أي: تقول لهم الزبانية تقريعًا وتوبيخًا: هذه النار التي كنتم تجحدون أمرها وتنكرون صِليّها، فهي الآن على مرأى أعينكم قريبة من أجسامكم.

ص: 454

وقوله تعالى: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} . توبيخ لا استفهام. أي: يقال لهم: هل هذا الذي وردتموه سحر أم أنتم لا تعاينونه ولا تبصرونه! ؟

وقوله: {اصْلَوْهَا} . أي: ادخلوها لتغمركم فذوقوا حرّها وألمها على أجسادكم.

وقوله: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} . أي: إنما الصبر وعدمه عليكم سواء، فلا محيدَ لكم عنها ولا نجاة ولا خلاص.

وقوله: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . تعليل الخلود فيها وتجزع سعيرها. أي: ما تجزون إلا أعمالكم، وما قدّمتم لأنفسكم من التكذيب بالوحي والنبوة وتعظيم الهوى والشهوات.

17 -

28. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)}.

في هذه الآيات: نَعْتُ حال المتقين في جنات النعيم، فهم في الطعام والشراب والنكاح والملذات والتكريم، ويطوف عليهم غلمان في الخدمة كأنهم اللؤلؤ المكنون، وهم في اللقاء يتذكرون نعمة اللَّه عليهم فيحمدونه أن وقاهم من عذاب الجحيم.

فقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} . عَطْفٌ بذكر حال السعداء، بعد ذكر مآل الأشقياء. فهؤلاء في الروضات وبساتين النعيم، في الوقت الذي صُرف فيه أهل الشقوة إلى صِليّ الجحيم.

ص: 455

وقوله: {فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} . قال ابن جرير: (عندهم فاكهة كثيرة). يقال: رجل فاكه أي ذو فاكهة، ورجل تامر أي عنده تمر. وقرأ الحسن وغيره:"فَكِهين" بغير ألف، ومعناه: معجبين ناعمين. يقال: فِكهَ الرجلُ فهو فَكِهٌ إذا كان طيب النفس مزاحًا. قال ابن كثير: ({فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ}، أي: يتفكَّهون بما آتاهم اللَّه من النعيم، من أصناف الملاذ، من مآكِلَ ومشارِبَ وملابسَ ومساكِنَ ومراكِبَ وغير ذلك).

وقوله: {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} . أي: ويضاف إلى ذلك التفكه في ألوان النعيم، نعمة جليلة عظيمة وهي زحزحته إياهم عن دخول الجحيم، فإن ذلك من الفوز العظيم.

وقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . قال القرطبي: (الهنيء ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر). أي: ويقال لهم: كلوا واشربوا لا تخافون فيما تأكلون وتشربون أذى ولا غائلة، ولا تجدون ما يعكّر أو ينغِّصُ، فهذا جزاء رفيع أعمالكم وحسن امتثالكم لأوامر ربكم عز وجل.

وقوله: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} . أي: متكئين على نمارق سرر موصولة بعضها إلى بعض. و {سُرُرٍ} جمع سرير. والآية وصف بديع لاطمئنان أهل الجنة في منازلهم.

وقوله: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} . أي: وقرناهم بالحور عظام الأعين حسانها.

وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} .

أخرج البزار وابن عدي بسند صحيح عن ابن عباس رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: [إنّ اللَّه لَيَرْفَعُ ذُرِّيةَ المؤمن إليه في درجته، وإنْ كانوا دونَه في العمل، لِتَقَرَّ بهم عَيْنُهُ، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} الآية، ثم قال: وما نَقَصْنا الآباء بما أعْطَيْنا البنين](1).

قلت: وهذا تفضّل لطيف من الباري عز وجل على عبده الصالح، أنْ لَمَّ له شَمْلَ أسرته فجمعهم إليه في مستقره في الآخرة وإن كانوا دونه في العمل، ليأنس بهم ويسعد

(1) حديث صحيح. أخرجه البزار (ص 221)، وابن عدي (ق 270/ 1)، والبغوي في "التفسير"(8/ 82 - منار)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2490).

ص: 456

بحضورهم حوله، وهذا لا ينقصه من تضاعف أجره لقاء رفيع أعماله شيئًا.

وفي مسند الإمام أحمد بسند حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إن اللَّه ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا ربِّ، أنَّى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك](1). وفي لفظ: [إنّ الرجل لترفعُ درجته في الجنة، فيقول: أنّى لي هذا. فيقال: باستغفار ولدك لك].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[إذا مات ابنُ آدمَ انقطعَ عملُه إلا من ثلاثٍ: صَدَقةٍ جاريةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له](2).

وقوله: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} . إخبار عن مقام العدل بعد مقام الإحسان.

قال القاسمي: ({كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} أي بما عمل من خير أو شر مرتهن به، لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، وإنما يعاقب بذنب نفسه).

وقوله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} . أي: وزدناهم على ما هم فيه من جميل المقام ما لَذّ وطاب من ألوان الفاكهة واللحوم.

وقوله تعالى: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} .

أي: ويتعاطون -إضافة لما سبق من الملذات- كأسًا من الخمر الذي لا يصدر عن صاحبه هذيان أو فاحش من القول أو الفعل -كما هو حال شربة الخمر في الدنيا-.

قال ابن عباس: ({لَا لَغْوٌ فِيهَا} يقول: لا باطل فيها). وقال مجاهد: (لا يستبّون).

وقال قتادة: (لا لغو فيها ولا باطل، إنما كان الباطل في الدنيا مع الشيطان).

قال ابن جرير: ({وَلَا تَأْثِيمٌ}: ولا فعل فيها يُؤثم صاحبه).

فنزّه اللَّه خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وما يصدر عنها من أذى: كصداع الرأس، وذهاب العقل، ووجع البطن، ونهوض إلى الفواحش والآثام.

ففي معجم الطبراني "الكبير" و"الأوسط" بسند حسن عن ابن عباس مرفوعًا:

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 509)، وابن ماجة (3660)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(12/ 44/ 1)، وإسناده حسن. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1598).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1631) - كتاب الوصية. باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.

ص: 457

[الخمر أمّ الفواحش، وأكبرُ الكبائر، مَنْ شربها وقعَ على أمِّه وخالتِه وعمّته](1). فانتفى عن خمر الآخرة كل هذه الآثار الشيطانية، وبقيت المتعة واللذة في صورتها البديعة.

وقوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} . الغلمان: الخدم من الأطفال. والمكنون: المصون. والمقصود: إخبار عن الخدم والحشم لأهل الجنة أنهم في الحسن والبياض كاللؤلؤ المكنون -المصون- في الصدف، لشدة حسنهم وبهائهم ونظافتهم وروعة مظهرهم ولباسهم.

وقوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} . قال ابن كثير: (أي: أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، وهذا كما يتحادثُ أهلُ الشراب على شرابهم إذا أخذ فيهم الشراب بما كان من أمرهم).

وقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} . قال ابن جرير: (قال بعضهم لبعض: إنا أيها القوم كنا في أهلنا في الدنيا مشفقين خائفين من عذاب اللَّه وجلين أن يعذبنا ربنا اليوم).

وقوله تعالى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} . قال ابن زيد: (عذاب النار). أي: فامتن اللَّه علينا أن نجانا من عذاب النار وأدخلنا الجنة برحمته وفضله.

وقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} .

قال ابن عباس: (البر: اللطيف). قال النسفي: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ} من قبل لقاء اللَّه تعالى والمصير إليه -يعنون في الدنيا- {نَدْعُوهُ} نعبده ولا نعبد غيره، ونسأله الوقاية {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ} المحسن {الرَّحِيمُ} العظيم الرحمة الذي إذا عُبد أثاب وإذا سئل أجاب).

29 -

34. قوله تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ

(1) حديث حسن. أخرجه الطبراني (رقم 11372)، (11498)، ورواه في "الأوسط"(3285)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1853).

ص: 458

تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)}.

في هذه الآيات: الأمر بالبلاغ المبين، والانتصار من اللَّه تعالى لرسوله الكريم، والتوبيخ لسلوك المنافقين والمعاندين.

فقوله تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} . أَمْرٌ مِنَ اللَّه نبيّه صلى الله عليه وسلم بالبلاغ والبيان، وتبرئة له من اتهام أهل الكفر والفجور والبهتان. والكاهن: الذي يتصل بالجان الذي يسترق الكلمة من خبر السماء، والمجنون: الذي يتخبطه الشيطان من المَسّ فالمعنى كما قال ابن جرير: (فلست بنعمة اللَّه عليك بكاهن تتكهن، ولا مجنون له رئيّ يخبر عنه قومه ما أخبره به، ولكنك رسول اللَّه واللَّه لا يخذلك).

وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} . أي: بل يقول لك المشركون يا محمد: هو شاعر ننتظر أن تنزل به حادثة متلفة من حوادث الدهر المهلكة، فنتخلص منه بموت أو مصيبة. قال مجاهد:({رَيْبَ الْمَنُونِ}: حوادث الدهر). وقال ابن عباس: (يتربصون به الموت). والمنون: الموت.

وعن قتادة: (قال ذلك قائلون من الناس: تربصوا بمحمد -رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الموت يكفيكموه، كما كفاكم شاعر بني فلان، وشاعر بني فلان).

وقوله تعالى: {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} . أي: قل لهم -يا محمد-: انتظروا وترقبوا فإني منتظر معكم، وستعلمون من سيكون له النصر والعاقبة في الدنيا والآخرة.

وقوله: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا} . أي: أتأمر عقول المشركين وأحلامهم -وكانوا يعدون في الجاهلية أهل الأحلام- أن يقولوا لمحمد صلى الله عليه وسلم ما يقولون من رميه بالسحر والشعر والجنون؟ ! إن هذا لشيء عجيب، إذ يقولون ما يعلمون أنه كذب وزور.

وقوله: {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} . قال مجاهد: (بل هم قوم طاغون). أي: ولكنهم في حقيقة الأمر قوم معاندون متكبرون ما حملهم على ما قالوه إلا الكبر والطغيان.

وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} . أي: أم يقول هؤلاء المشركون: إنّ محمدًا تقوّل هذا القرآن من عند نفسه واختلقه؟ !

ص: 459

وقوله: {بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} . تكذيب لدعواهم. أي: إنما حملهم على ذلك القول كفرهم بالحق الذي جاءهم من عند ربهم.

وقوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} . أي: فليأتوا بقرآن يشبهه من تلقاء أنفسهم إن كانوا صادقين في دعواهم أن محمدًا افتراه، فهم أهل الفصاحة والإتقان للعربية وفنونها! ! . إنهم لن يستطيعوا ذلك ولو اجتمع لهم فصحاء الجن والإنس، بل لن يستطيعوا أن يأتوا بعشر سور مثله، ولا بسورة من مثله.

35 -

43. قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)}.

في هذه الآيات: تتابع التقريع من اللَّه تعالى على المشركين، في كشف تناقضات طريقهم واتباع الهوى والشياطين، وفضح مكرهم وما هم عليه من العداء لهذا الحق المبين.

فقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} . إثبات للربوبية ومطالبة بمقتضاها: توحيد الألوهية. قال ابن جرير: (أخُلِقَ هؤلاء المشركون من غير شيء، أي من غير آباء ولا أمهات فهم كالجماد لا يعقلون ولا يفهمون للَّه حجة. -وقيل: المعنى: أم خلقوا لغير شيء- أم هم الخالقون هذا الخلق، فهم لذلك لا يأتمرون لأمر اللَّه ولا ينتهون عما نهوا عنه لأن للخالق الأمر والنهي).

وقوله تعالى: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} . إنكار على المشركين شركهم بالألوهية، مع إقرارهم للَّه بالربوبية. قال النسفي:({أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فلا يعبدون خالقهما {بَلْ لَا يُوقِنُونَ} أي لا يتدبرون في الآيات فيعلموا خالقهم وخالق السماوات والأرض). وقال القاسمي: ({بَلْ لَا يُوقِنُونَ} أي بوعيد اللَّه، وما أعد لأهل الكفر به من العذاب في الآخرة، فلذلك فعلوا ما فعلوا).

ص: 460

وقوله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} . أي: أم بأيديهم خزائن رزقه فهم لاستغنائهم معرضون؟ ! أم هم الجبابرة المتسلطون فهم لذلك على اللَّه يستكبرون!

أخرج البخاري في الصحيح عن محمد بن جُبَيْر بن مُطْعم عن أبيه رضي الله عنه قال: [سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطُّور، فلما بلغَ هذه الآية: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} كاد قلبي أن يطير](1).

وكان جُبير بن مطعم قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداءِ الأسارى، وكان إذ ذاك مشركًا، فكان سماعه لهذه الآيات من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك.

وقوله: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} . أي: أم لهم مرقاة إلى السماء إلى الملأ الأعلى فيرتقون يستمعون من الوحي، دهم متمسكون بما حصل من الإقرار لهم على منهاجهم! ؟

وقوله: {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} . أي: فليأت الذي يستمع لهم بحجّة تبين أنها حق، يُثبت فيها ما يدّعون.

وقوله تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} . قال القرطبي: (سَفَّهَ أحلامهم توبيخًا لهم وتقريعًا. أي أتضيفون إلى اللَّه البنات مع أنفتكم منهن، ومن كان عقله هكذا فلا يُستبعد منه إنكار البعث).

والآية إنكار على المشركين نسبهم البنات إلى اللَّه وجعلهم الملائكة إناثًا عبدوهم مع اللَّه، واختيارهم الذكور لأنفسهم أنفة وكبرًا.

وقوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} . قال قتادة: (يقول: هل سألت هؤلاء القوم أجرًا يُجْهدهم فلا يستطيعون الإسلام). وقال ابن زيد: (أسألتهم على هذا أجرًا فأثقلهم الذي يُبْتَغى أخذه منهم).

وقوله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} . أي: أم عندهم علم الغيب فهم يكتبون منه ويخبرون الناس بما لهم وما عليهم، وما كان وما يكون وما هو كائن؟ ! أي: ليس

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4854) - كتاب التفسير، وكذلك أخرجه (765)، (3030)، وانظر صحيح مسلم (463).

ص: 461

الأمر كذلك، فلا يعلم الغيب إلا اللَّه الذي وجب على العباد الخضوع لأمره وتعظيمه وحده لا شريك له.

وقوله تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} . أي: بل يريد هؤلاء -يا محمد- الكيد والمكر بك وبدينك، والحال أنهم هم المكيدون الممكور بهم فأحكم ثقتك باللَّه وتوكلك عليه.

وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . تأكيد الإنكار على المشركين عبادتهم غير اللَّه، ثم تنزيه اللَّه نفسه عن الند والشريك سبحانه وتعالى عما يشركون.

44 -

49. قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)}.

في هذه الآيات: كَشْفُ شِدَّة طغيان المشركين، فهم يكذبون بحقائق الأمور واليقين، وسينقلب المكر عليهم من حيث لا يشعرون. وحَثٌّ من اللَّه تعالى لرسوله بالتزام الصبر والاستعانة بالتسبيح وصلاة الليل حتى يأتي نصر اللَّه المبين.

فقوله: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا} . قال ابن عباس: (يقول: قطعًا). والكسف: جمع كِسْفة. وقوله: {مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} . أي: عليهم. {يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} . قال النسفي: (يريد أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم لو أسقطناه عليهم لقالوا هذا سحاب {مَرْكُومٌ} قد ركم أي جمع بعضه على بعض يمطرنا، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب).

وقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} . أي: فدع هؤلاء المشركين -يا محمد- حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يهلكون، وهو يوم القيامة.

وقوله تعالى: {يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} . أي: يوم لا يجدي الكيد والمكر الذي استخدموه في الدنيا لبغيهم وكفرهم وشهواتهم، ولا هم ينصرهم ناصر فيستقيد لهم ممن عذّبهم وعاقبهم.

وقوله تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . توعد لهم بعذاب

ص: 462

في دار الدنيا قبل عذاب الآخرة. قال ابن زيد: (دون الآخرة في هذه الدنيا ما يعذبهم به من ذهاب الأموال والأولاد). وعن مجاهد: ({عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} قال: الجوع). وعن البراء: ({عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} قال: عذاب القبر). وعن قتادة أن ابن عباس كان يقول: (إنكم لتجدون عذاب القبر في كتاب اللَّه {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ}).

وعموم هذه الآية كقوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]. قال ابن كثير: ({وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}، أي: نُعَذِّبهم في الدنيا، ونبتليهم فيها بالمصائب، لعلهم يرجعون وينيبون فلا يفهمون ما يُراد بهم، بل إذا جَلَّى عنهم مما كانوا فيه عادوا إلى أسوأ ما كانوا عليه).

وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} . أي: فاصبر -يا محمد- لحكم ربك وأمره وما يلحقك من أذى قومك ولا تبالهم، فإنك تحت كلاءتنا ورعايتنا وحفظنا. قال ابن جرير:({فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}: فإنك بمرأى منا نراك ونرى عملك ونحن نحوطك ونحفظك فلا يصل إليك من أرادك بسوء من المشركين).

وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} . فيه أقوال متكاملة:

القول الأول: حين قيامك من كل نوم. فعن أبي الأحوص: ({وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} قال: سبحان اللَّه وبحمده. {حِينَ تَقُومُ} قال: من كل منامة، يقول حين يريد أن يقوم: سبحانك وبحمدك). واختار ابن جرير بأن المعنى: (وصل بحمد ربك حين تقوم من منامك وذلك نوم القائلة، وإنما عنى صلاة الظهر).

القول الثاني: حين القيام لصلاة الليل أو النهار. قال ابن زيد: ({وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ}: إذا قام لصلاة من ليل أو نهار. وقرأ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} قال من نوم). وعن الضحاك قال: (إذا قام إلى الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك ولا إله غيرك).

القول الثالث: حين القيام لمغادرة المجلس. فعن مجاهد: ({وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قال: من كل مجلس). وقال الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص:({وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قال: إذا أراد الرجلُ أن يقوم من مجلسه قال: سبحانك اللهم وبحمدك).

قال عطاء: (يقول: حين تقومُ من كل مجلس، إن كنت أحسنت ازددتَ خيرًا، وإن كان غيرَ ذلك كان هذا كفارةً له).

ص: 463

قلت: ولا مانع من تعميم القيام سواء كان من نوم أو مجلس أو لصلاة في الليل أو النهار، وقد ورد في السنة الصحيحة ما يؤيد ذلك في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا اللَّه، وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. سبحانَ اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه، ثم قال: ربِّ اغفر لي -أو قال: ثم دَعَا- استُجِيب له، فإن عزَمَ فتوضأ ثم صلّى تُقبلت صلاتُه](1).

الحديث الثاني: أخرج أبو داود والنسائي ورجاله ثقات عن أبي بَرْزَةَ الأسلمي قال: [كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول بأخَرَةٍ إذا أراد أن يقوم من المجلس: "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنتَ، أستغفرك وأتوب إليك". فقال رجل: يا رسول اللَّه، إنك لتقولُ قولًا ما كنتَ تقولُه فيما مضى؟ ! قال: "كفارة لما يكون في المجلس"](2).

الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [مَنْ جَلَسَ في مَجْلِسٍ فكَثُرَ فيه لَغَطُهُ فقال قبل أن يقوم من مَجْلِسِه ذلك: سُبْحانك اللهم وبحمدك، أشهدُ أن لا إله إلا أنْتَ، أستغفرك وأتوبُ إليك. إلا غُفِرَ له ما كان في مجلسِه ذلك](3).

الحديث الرابع: أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: [كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذا قام من الليل كبَّر ثم يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك" ثم يقول: "لا إله إلا اللَّه" ثلاثًا، ثم يقول: "اللَّه أكبر كبيرًا" ثلاثًا "أعوذ باللَّه السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" ثم يقرأ](4).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1154)، وأبو داود (5060)، والترمذي (3414)، وأخرجه النسائي (861)، وابن ماجة (3878)، ورواه أحمد.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4859)، والنسائي (10259) - ورجاله ثقات.

(3)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3433) - أبواب الدعوات، باب ما يقول إذا قام من مجلسه. انظر صحيح الترمذي (2730)، ورواه ابن حبان (594)، والحاكم (1/ 536).

(4)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (775) - في الصلاة. انظر صحيح سنن أبي داود (701).

ص: 464

وقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} . أي ومن الليل فعظم ربك -يا محمد- بالتلاوة والصلاة والعبادة. كما قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].

وفي سنن أبي داود عن عاصم بن حميد قال: [سألت عائشة: بأي شيء كان يفتتح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قيام الليل؟ فقالت: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبْلك، كان إذا قام كبّر عَشْرًا، وحمد اللَّه عشرًا، وسَبَّحَ عشرًا، وهَلَّلَ عَشْرًا، واستغفر عشرًا، وقال: "اللهم اغفر لي، واهدني، وارزقني، وعافني" ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة](1).

وقوله: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} . الراجح هما الركعتان قبل صلاة الفجر توافقان جنوح النجوم للغيبوبة، أو فريضة الفجر.

قال ابن عباس: (هما السجدتان قبل صلاة الغداة).

وقال ابن زيد: (يعني حين تدبر النجوم للأفول عند إقبال النهار). وعن الضحاك: ({وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} قال: صلاة الغداة) -يعني صلاة الصبح المكتوبة- واختاره ابن جرير.

قال الزمخشري: (وقرئ "وأَدْبار" بالفتح، بمعنى في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت).

وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: [لمْ يَكُنِ النبي صلى الله عليه وسلم على شيْءٍ من النَّوافِل أشَدَّ مِنْهُ تعاهُدًا على ركعتي الفَجْر](2).

وفي صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ركعتا الفجر خَيْرٌ من الدنيا وما فيها](3).

وفي رواية عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فى شأن الركعتين عند طلوع الفجر: [لَهُما أحَبُّ إليَّ من الدنيا جميعًا].

(1) حسن صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (766). وانظر صحيح أبي داود (693).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (1169) - كتاب التهجد، ورواه مسلم (723) ح (94).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (725) ح (96)، (97) - كتاب صلاة المسافرين.

ص: 465

وفي صحيح مسلم أيضًا عنها قالت: [ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في شيء من النوافل، أسْرَعَ مِنْه إلى الركعتين قبل الفجر](1).

تم تفسير سورة الطور بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه الثلاثاء 3 - شعبان - 1426 هـ الموافق 6 - أيلول - 2005 م

* * *

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (724) ح (95)، الكتاب السابق. باب استحباب ركعتي سنة الفجر، والحث عليهما وتخفيفهما والمحافظة عليهما.

ص: 466