الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والجاثية، والأحقاف، والقتال، والفتح، والحجرات. ثم بعد ذلك الحزب المفصل ويبدأ بـ "ق" حتى نهاية المصحف.
موضوع السورة
القرآن هو الكتاب الجامع المجيد لقصة الإنسان والوعد والوعيد
-
منهاج السورة
-
1 -
وصْفُ القرآن بالمجيد، وتوبيخ المشركين في إنكارهم البعث والوعد والوعيد.
2 -
علم اللَّه تعالى بما تنقص الأرض من الأجساد في القبور، والكافرون غافلون ماضون في عتو ونفور.
3 -
تنبيه اللَّه تعالى على آياته البديعة في الخلق، وإنزال الماء والإحياء بعد الموت.
4 -
تهديدُ كفار قريش أن ينزل بهم مصير المكذبين، وتقريع لهم في إنكارهم البعث والحساب يوم الدين.
5 -
إعلامُ اللَّه عن خلقه الإنسان، وعلمه بوساوس نفسه، وقربه تعالى منه وكتابة الملكين.
6 -
إخبار اللَّه تعالى عن قصة النهاية: الموت، فالقبر، فالبعث، فالحساب.
7 -
إحضار القرين الموكل بالإنسان كتاب عمله معه إلى مشهد الحشر، وصدور أمر الجبار عز وجل بإلقاء الكافر في النار، واختصام القرين من الجن مع صاحبه.
8 -
استعداد جهنم لاستقبال الكفار والفجار، واقتراب الجنة من أهلها الأبرار.
9 -
صدور الأمر من اللَّه بدخول المؤمنين الجنة بسلام، لهم فيها ما لذّ وطاب مما أعِدَّ لقوم كرام.
10 -
تنبيه كفار قريش لمصير الأمم قبلهم، وخلق اللَّه السماوات والأرض في ستة أيام، وتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم للصبر والتسبيح والسجود والقيام.
11 -
تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من التكذيب، بذكر مشهد البعث والحشر الرهيب.
12 -
أمر اللَّه تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالتذكير بالقرآن، ففيه الذكرى من أراد النجاة من النيران.
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
5. قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)}.
في هذه الآيات: ثناء اللَّه تعالى على القرآن بوصفه بالمجيد، وتوبيخ المشركين في إنكارهم المعاد وانغماسهم في الضلال البعيد، واللَّه تعالى يعلم ما تنقص الأرض من أجسادهم وعنده كتاب حفيظ.
فقوله: {ق} - هو كأشباهه من الحروف التي ذكرت في أوائل السور.
وقوله: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} . قال سعيد بن جبير: (الكريم). قال القرطبي: ({وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} أي الرفيع القدر).
وجواب القسم هو مضمون الكلام بعد القسم. قال ابن كثير: (وهو إثبات النبوّة، وإثباتُ المعاد، وتقريره وتحقيقُه).
وقوله تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} .
أي: تعجبوا أن أرسل اللَّه إليهم بشرًا منهم من بني آدم، ولم يأتهم ملك برسالة من عند اللَّه، فقالوا هذا شيء عجيب.
وقوله تعالى: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} . تَعَجُّبٌ آخر من الكافرين من المعاد وبعث الأجساد.
قال الضحاك: (قالوا: كيف يحيينا اللَّه، وقد صرنا عظامًا ورفاتًا، وضللنا في الأرض). قال النسفي: ({ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} مستبعد مستنكر).
وقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} . قال ابن عباس: (يقول: ما تأكل الأرض من
لحومهم وأبشارهم وعظامهم وأشعارهم). وقال قتادة: (ما تأكل الأرض منهم إذا ماتوا).
والمقصود: أنَّ اللَّه تعالى قد علم ما تأكل الأرض من لحومهم وعظامهم في قبورهم، وكيف تتفرق أبدانهم كل ساعة حتى يبعثهم.
وقوله: {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} . قال الضحاك: (ما أكلت الأرض منهم ونحن عالمون به، وهم عندي مع علمي فيهم في كتاب حفيظ). وقال أبو السعود: (أي حافظ لتفاصيل الأشياء كلها، أو محفوظ من التغيّر). وفيه تأكيد لعلمه تعالى بدقائق الأشياء وثبوتها في اللوح المحفوظ عنده.
وقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} . أي: بل كذبوا بما هو أكبر من ذلك، النبوّة والقرآن العظيم المعجز. قال الزمخشري:(إضراب أتبع الإضراب الأول، للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو التكذيب بالحق، الذي هو النبوّة الثابتة بالمعجزات، في أول وهلة من غير تفكّر ولا تدبّر. وكونه أفظع، للتصريح بالتكذيب من غير تدبر بعد التعجب منه).
وقوله: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} . قال ابن عباس: (المريج: الشيء المنكر).
أو قال: (يقول: مختلف). وفي رواية: (هم في أمر ضلالة). وقال سعيد بن جبير: (ملتبس). وقال قتادة: (ملتبس عليه أمره).
فالمعنى: فهم في أمر مختلف مضطرب ملتبس منكر عليهم خلاله ونعوته.
6 -
11. قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)}.
في هذه الآيات: تنبيهُ المشركين إلى آيات اللَّه البديعة الدالة على قدرته العجيبة، كخلق السماء والكواكب، ومَدّ الأرض وإرساء الجبال، وخلق الأزواج من النبات،
وإنزال الماء المبارك وإنبات الجنات والحبّ والنخل الباسقات، وإحياء الأرض الميتة وكذلك الخروج للحشر بعد الممات.
فقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} .
أي: أفلم ينظر مكذبو البعث إلى السماء فوقهم كيف أُحكم بناؤها وُزينت بالكواكب والنجوم ومالها من صدوع ولا فتوق. قال مجاهد: ({وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} يعني من شقوق). وقال غيره: (فُتوق). وقال غيره: (صُدوع). والمعنى متقارب. والآية كقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3].
وقوله: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} . أي: بسطناها ودحوناها. {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} ، وهي الجبال. جعلها اللَّه ثوابت رست في الأرض لئلا تميد بأهلها وتضطرب.
وقوله: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} . قال ابن زيد: (هو الحسن المنظر).
والمقصود: وأنبت اللَّه في الأرض من كل صنف من أصناف النبات والزروع والثمار ما يسر الناظرين.
وقوله تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} . قال قتادة: ({تَبْصِرَةً}: نعمة من اللَّه يبصرها العباد {وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أي مقبل بقلبه إلى اللَّه).
وقال مجاهد: ({تَبْصِرَةً}: بصيرة، {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} قال: مجيب).
وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} .
أي: وأنزل اللَّه من السماء مطرًا مباركًا فأنبت به سبحانه بساتين وحدائق والزرع المتصف بالحب المستفاد بادخاره. قال قتادة: ({وَحَبَّ الْحَصِيدِ} هذا البرّ والشعير). وقال مجاهد: (الحنطة). قال القرطبي: (التقدير: وحبّ النبت الحصيد وهو كل ما يحصد. وقيل: كل حبِّ يُحْصَد ويُدّخر ويُقْتات).
وقوله تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} . باسقات: حال، والباسقات: الطوال. قال ابن عباس: ({وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} قال: النخل الطوال، {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} يقول: بعضه على بعض).
والمقصود: وأنبت اللَّه بالماء النخل طوالًا شاهقات {لَهَا طَلْعٌ} -وهو أول ما يخرج من ثمر النخل- متراكب قد نُضِّد بعضه على بعض في شكل بديع.
وقوله: {رِزْقًا لِلْعِبَاد} . قال ابن جرير: (يقول: أنبتنا بهذا الماء الذي أنزلناه من السماء هذه الجنات، والحبّ والنخل قوتًا للعباد، بعضها غذاء، وبعضها فاكهة ومتاعًا).
وقوله: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} . أي: وأحيينا بهذا الماء المبارك النازل من السماء بلدة قد أجدبت وقحطت، فهي هامدة لا زرع فيها ولا نبت.
وقوله: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} . أي: كذلك كما أحيا اللَّه هذه الأرض الميتة فإنه يخرجكم من قبوركم أحياء بعد موتكم وفنائكم.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39].
2 -
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33].
وفي صحيح مسلم ومسند أحمد من حديث عبد اللَّه بن عمرو، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:[ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتًا ورفع ليتًا -أي: أمال صفحة عنقه- وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه -أي: يصلحه ويطينه- فيصعق، ثم لا يبقى أحد إلا صعق، ثم يرسل اللَّه تعالى مطرًا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون](1).
12 -
15. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)}.
في هذه الآيات: تهديدُ اللَّه تعالى كفار قريش أن ينزل بهم ما نزل بأمثالهم من المكذبين، وتقريع لهم في إنكارهم المعاد والبعث للحساب يوم الدين.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2940)، وأحمد في المسند (2/ 166).
فقوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} . أي قبل كفار العرب الذين يكذبون محمدًا صلى الله عليه وسلم. فعذبهم اللَّه تعالى بالغرق العام والطوفان الكبير.
وقوله: {وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} . قال مجاهد: ({الرَّسِّ}: بئر).
والمقصود: أصحاب البئر الذين ذكروا في سورة الفرقان وأهلكهم اللَّه بتكذيبهم.
وقوله: {وَثَمُودُ} . وهم قوم صالح، الذين عقروا الناقة واستكبروا فأهلكوا بالصيحة.
وقوله: {وَعَادٌ} . وهم قوم هود، أهلكوا -لما كذبوا- بالريح الصرصر العاتية.
وقوله: {وَفِرْعَوْنُ} . أي: هو وقومه الذين دكهم اللَّه بالغرق في اليمّ.
وقوله: {وَإِخْوَانُ لُوطٍ} . قال ابن كثير: (وهم أمته الذين بُعِثَ إليهم من أهل سَدُومَ ومعاملتها في الغور، وكيف خسف اللَّه تعالى بهم الأرضَ، وأحالَ أرضَهم بُحَيرةً منتنة خبيثةً، بكفرهم وطغيانهم ومخالفتهم الحقّ).
وقوله: {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} . وهم قوم شعيب عليه السلام. قال قتادة: (والأيكة: الشجر الملتف).
وقوله: {وَقَوْمُ تُبَّعٍ} . أهل أوثان كانوا يعبدونها باليمن، وقد مضى تفصيل خبرهم في سورة الدخان.
وقوله: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} . قال النسفي: (أي كل واحد منهم {كَذَّبَ الرُّسُلَ} لأنَّ من كذّب رسولًا واحدًا فقد كذبّ جميعهم {فَحَقَّ وَعِيدِ} فوجب وحلّ وعيدي، وفيه تسلية لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم).
وقوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} . تقريع لمشركي قريش إذ قالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} . قال ابن عباس: (يقول: لم يعينا الخلق الأول). وقال مجاهد: (أفعيي علينا حين أنشأناكم خلقًا جديدًا فتمتروا بالبعث).
والمقصود: أَفَأَعْجَزنا ابتداء الخلق حتى أنتم تشكون في قدرتنا على الإعادة، والإعادة أسهل عادة من المرة الأولى.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].
2 -
وقال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78 - 79].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [قال اللَّه تعالى: يَشْتِمُني ابنُ آدمَ، وما ينبغي له أن يَشْتِمني، ويكذِّبُني وما ينبغي له. أما شتمُه فقوله: إنّ لي ولدًا، وأما تكذيبه فقوله: ليس يعيدني كما بدأني](1). وفي لفظ: [وليس أوَّلُ الخلق بأهون عليّ من إعادته].
وقوله: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} . قال ابن عباس: (يقول: في شك من البعث).
16 -
22. قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)}.
في هذه الآيات: إعلامُ اللَّه تعالى عن خلقه الإنسان وعلمه بوساوس نفسه، وقربه تعالى منه، وكتابة الملكين دقائق قوله وعمله. وإخبار منه تعالى عن قصة النهاية ابتداءً بسكرة الموت، ثم النفخ في الصور للقيام من القبر، ثم مجيء كل نفس يسوقها الملك إلى أرض المحشر لبدء الحساب.
فقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} . إخبار عن كمال إحاطته تعالى بأحوال الإنسان وتقلبات نفسه. قال ابن جرير: (يقول: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما تحدِّثُ به نفسه فلا يخفى علينا سرائره وضمائر قلبه).
ولكنه من حلمه سبحانه وكرمه فإنه قد تجاوز عن حديث العبد نفسه ما لم يقل أو يعمل.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3193)، كتاب بدء الخلق. وانظر الحديث (4974).
فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ اللَّه تجاوزَ عن أمتي ما حَدَّثت به أنْفُسُها ما لم تَعْمل أو تتكلّم](1).
وفي لفظ: [إن اللَّه تجاوز لأمتي عما وسْوَسَتْ -أو حدَّثتْ- به أنْفُسَها ما لم تعْمل به أو تَكَلَّم].
قال قتادة: (إذا طلّق في نفسه فليس بشيء).
وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} . قال ابن كثير: (يعني ملائكته تعالى أقربُ إلى الإنسان من حبل وريده إليه). والوريد: حبل العاتق الممتد من ناحية الحلق إلى العاتق، وهما وريدان عن يمين وشمال.
وقوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} .
قال مجاهد: ({الْمُتَلَقِّيَانِ} ملكان يتلقيان عملك: أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك). قال الحسن: (حتى إذا متّ طُوِيت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14] عَدَلَ واللَّه عليك من جعلك حسيبَ نفسك).
قال النسفي: (التلقي: التلقن بالحفظ والكتابة، والقعيد: المقاعد، كالجليس بمعنى المجالس، وتقديره: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد من المتلقيين، فترك أحدهما لدلالة الثاني عليه).
والمقصود: يقول جل ذكره -ونحن أقرب إلى الإنسان من وريد حلقه حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يتلفظ به فيجعلانه في صحيفة أعماله-.
وفي معجم الطبراني بسند حسن عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ صاحِبَ الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ، فإن ندمَ واستغفر اللَّه منها ألقاها، وإلا كتبت واحدة](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (5269)، كتاب الطلاق، وكذلك (6664)، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حَنِثَ ناسيًا في الأيمان.
(2)
حديث حسن. رواه الطبراني في "الكبير"(ق 25/ 2)، والبيهقي في "الشعب"(2/ 349/ 1)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 124)، وانظر السلسلة الصحيحة (1209).
وقوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} .
قال ابن عباس: (يكتب كُلَّ ما تَكَلَّم به من خير أو شرٍّ، حتى إنه ليكتُب قوله: أكلتُ، شرِبتُ، ذهبتُ، جِئتُ، رأيتُ، حتى إذا كان يوم الخميس عُرِض قولهُ وعمله، فأقِرَّ منه ما كان فيه من خيرٍ أو شرٍّ، وأُلقي سائره).
وفي "الرقيب" ثلاثة أقوال:
1 -
المتبع للأمور.
2 -
الحافظ - قاله السدّي.
3 -
الشاهد - قاله الضحاك.
وفي "العتيد" قولان:
أ - الحاضر الذي لا يغيب.
ب - الحافظ المُعَدُّ إما للحفظ وإما للشهادة. قلت: وكل هذه المعاني متقاربة، مفادها أن الإنسان ما يلفظ من قول إلا لديه ملك يرقب عمله {عَتِيدٌ} أي حاضر حافظ.
وقوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} . أي: غمرته وشدته. قال القرطبي: (فالإنسان ما دام حَيًّا تكتب عليه أقواله وأفعاله ليحاسب عليها، ثم يجيئه الموت وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان اللَّه تعالى وعده وأوعده).
وفي صحيح البخاري عن عائشة قالت: [إنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان بَيْنَ يديه رَكْوَةٌ -أو عُلْبَةٌ فيها ماء- فجعل يُدْخِلُ يدَهُ في الماء فَيَمْسَحُ بها وَجْهَهُ ويقول: "لا إله إلا اللَّه، إن للموت سَكرات". ثم نَصَبَ يَدَهُ فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى"، حتى قُبِضَ ومالَتْ يَدُه](1).
وقوله: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} . قال ابن جرير: (هذه السكرة التي جاءتك أيها الإنسان بالحق هو الشيء الذي كنت تهرب منه، وعنه تروغ).
و{مَا} في قوله {مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} لها وجهان من التأويل:
1 -
{مَا} موصولة، أي ذلك الذي كنت منه تحيد، أي تبتعد وتهرب.
2 -
{مَا} نافية، والتقدير: ذلك ماهنت تقدر على الفرار منه ولا الحَيْد عنه.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (6510)، كتاب الرقاق، باب سكرات الموت.
وكلا المعنيين حق.
وقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} .
أي: ونفخ في الصور نفخة البعث ليقوم الناس لرب العالمين، ذلك اليوم الذي وعده اللَّه الكفار أن يعذبهم وينتقم منهم فيه.
وقوله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} .
قال ابن عباس: (السائق من الملائكة، والشهيد شاهد عليه من نفسه).
وقال الضحاك. (السائق الملك، والشهيد العمل). وقيل: ملك يسوقُه إلى المحشر، وملك يشهد عليه بأعماله.
وفي صحيح مسلم عن أنس قال: [كنا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: هل تدرون ممَّ أضحك؟ قال: قلنا: اللَّه ورسوله أعلم. قال: من مخاطبة العبد ربَّه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى. فيقول: إني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني. فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، فيخْتَمُ على فيه، ويقال لأركانه انْطقُي، فتنطق بأعماله، ثم يُخَلَّى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدًا لكن وسحقًا فعنكن كنت أناضل](1). أي أجادل وأدافع وأخاصم.
وقوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} .
أي: لقد كنت في غفلة من هذا الذي عايَنْتَ اليوم أيها الإنسان من الأهوال والشدائد، فكشفنا عنك غطاءك فجلينا ذلك لك وأظهرناه لعينيك حتى رأيته وعاينته فزالت الغفلة عنك، فانت اليوم نافذ البصر تبصر بقوة كالحديد، فأنت اليوم في أرض المحشر وقد صار عالم الغيب ذلك أمامك عالم شهادة.
قال ابن عباس: ({فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} قال: الحياة بعد الموت). وقال قتادة: (عاين الآخرة).
23 -
29. قوله تعالى: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 217). كتاب التوبة وقبولها وسعة رحمة اللَّه وغير ذلك. باب: في شهادة أركان العبد يوم القيامة بعمله. وانظر مختصر صحيح مسلم (1933).
عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)}.
في هذه الآيات: إحضار القرين الموكل بالإنسان كتاب عمله معه إلى مشهد الحشر، وصدور الأمر من الجبار عز وجل بإلقاء الكافر في جهنم ذات الشرر، واختصام القرين من الجن مع صاحبه وكلاهما واقع تحت ذلك الأمر.
فقوله: {وَقَالَ قَرِينُهُ} . قال قتادة: (الملك). قال ابن زيد: (هذا سائقه الذي وُكِّلَ به). والراجح أنه الملك الموكل بعمل ابن آدم، فهو القرين الذي لا يفارقه إلا عند الموت، فيأتي يوم القيامة يشهد عليه بما عمل.
وقوله: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} . قال ابن جرير: (هذا الذي هو عندي معدّ محفوظ).
والمقصود: يقول القرين: هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت معه ديوان عمله الذي هو عندي قد كتبت فيه عمله، فهو معدّ محفوظ.
وقوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} . قال ابن كثير: (الظاهر أنها مخاطبة مع السائق والشهيد، فالسائق أحضره إلى عَرْصَةِ الحساب، فلما أدّى الشهيدُ عليه، أمرهما اللَّه تعالى بإلقائه في نار جهنم وبئس المصير. {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ} أي: كثير الكفر والتكذيب بالحق، {عَنِيدٍ}: معانِدٌ للحق، معارض له بالباطل مع علمه بذلك).
وقوله: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} . قال قتادة: (هو الزكاة المفروضة). والراجح أن المعنى أعم من ذلك، فهو مناع للحقوق التي عليه من بِرٍّ وصلة وصدقة، لا يؤدي ما وجب عليه فيها.
وقوله: {مُعْتَدٍ} . قال قتادة: (فى منطقِه وسيرته وأمره). قلت: والاعتداء يشمل الظلم في اللسان والجوارح، فاللسان فيه البذاء والفحش، واليد فيها الإقتار والإسراف والسطوة، والرِّجْلُ فيها المشي في الباطل، إلى غير ذلك من أشكال الاعتداء.
وقوله: {مُرِيبٍ} . قال قتادة: (أي شاك). فهو شاك في أمره ودينه، مريب من نظر في أمره وحاله.
وقوله: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} . أي أشرك باللَّه فعبد معه غيره.
وقوله: {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} . تأكيد للأمر الأول.
أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [يَخْرُجُ عُنُقٌ من النار يوم القيامة له عَيْنان تُبْصِران، وأُذُنان تَسْمعان، ولسانٌ ينطِقُ، يقول: إني وُكِّلْتُ بثلاثة: بكل جَبّارٍ عنيد، وبكل مَنْ دعا مع اللَّه إلهًا آخر، وبالمصوِّرين](1).
وقوله: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} . قال ابن عباس: (قرينه شيطانه).
وقال مجاهد: (الشيطان قُيّضَ به). وقال ابن زيد: (قال قرينه من الجن: ربنا ما أطغيته، تبرأ منه).
والمقصود: يتبرأ شيطان الكافر يوم القيامة من أن يكون هو الذي أضلّه.
وقوله: {وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} . قال النسفي: (أي ما أوقعته في الطغيان ولكنه طغى واختار الضلالة على الهدى).
والآية تشبه الآية الأخرى في سورة إبراهيم: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22].
فالشيطان يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء والمنكر ويوسوس للعبد حتى يقع في الإثم ثم يتبرأ منه يوم القيامة.
أخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا أصبح إبليس بثَّ جنوده، فيقول: مَنْ أضَلَّ اليوم مسلمًا ألبسته التاج، فيخرج هذا فيقول: لم أزل به حتى طلق امرأته فيقول: أوشك أن يتزوج. ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى عقَّ والديه فيقول: يوشك أن يبرَّهما. ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى أشرك،
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن -حديث رقم- (2374). انظر صحيح سنن الترمذي (2083)، أبواب صفة جهنم. باب صفة النار.
فيقول: أنت أنت، ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى قتل، فيقول: أنت أنت ويُلْبِسُه التاج] (1).
وقوله تعالى: {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} .
قال ابن عباس: (إنهم اعتذروا بغير عذر، فأبطل اللَّه حجتهم، وردّ عليهم قولهم).
وقال ابن زيد: (يقول: قد أمرتكم ونهيتكم، قال: هذا ابن آدم وقرينه من الجن).
والمقصود: يردّ اللَّه اعتذار الإنسى وقرينه من الجن عن الكفر والطغيان -فلا يقبل من ذلك شيئًا- يقول: قد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل، وأنزلت الكتب، وقامت عليكم الحجج البينات والبراهين القاطعات، ومضى زمان التوبة والإنابة من الآثام والسيئات.
وقوله: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} . قال مجاهد: (يعني قد قضيت ما أنا قاضٍ).
وقوله: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . أي لا أعاقب إلا من استحق العقاب بذنبه وإصراره.
30 -
35. قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)}.
في هذه الآيات: استعدادُ جهنم لاستقبال الكفار والفجار، واقتراب الجنة من أهلها الأبرار، وصدور الأمر بدخولهم الجنان بسلام، ولهم فيها ما يختارون من الملذات التي أعدت لقوم كرام.
فقوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} .
إِخْبارٌ منه تعالى عن استقبال جهنم يوم القيامة لكل ما يُلقى فيها، وقد وعد تعالى بملئها وهي تقول: هل من مزيد. وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بآفاق هذا المعنى.
الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه -في كتاب التفسير عند هذه الآية- عن
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن حبان (رقم 65)، وإسناده صحيح رجاله كلهم ثقات رجال البخاري. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1280)، وأصل معناه في صحيح مسلم.
أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يُلقى في النار وتقول: هل مِنْ مَزيد، حتى يَضَعَ قَدَمَهُ فتقول: قَطْ قَطْ](1).
ورواه في كتاب التوحيد بلفظ: [لا يزال يُلقى فيها وتقول: هل مِن مَزيدٍ، حتى يَضَعَ فيها ربُّ العالمين قَدَمَهُ فينزوي بعضها إلى بعض، ثم تقول: قَدْ قدْ، بعِزَّتك وكرمِكَ، ولا تزال الجنة تَفْضُلُ حتى ينشِئَ اللَّه لها خَلْقًا فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الجنة](2).
ولفط الترمذي: [لا تزال جهنم تقول: هَلْ مِن مزيدٍ، حتى يضعَ فيها ربُّ العِزَّةِ قَدَمَهُ فتقول: قَطْ، قط، وعِزَّتِكَ، ويُروي بَعْضُها إلى بعض].
الحديث الثاني: أخرج البخاري في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [تحاجَت الجَنَّةُ والنار، فقالت النارُ: أُوثِرتُ بالمتكبِّرين والمُتَجَبِّرِين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخُلني إلا ضُعفاء الناس وسقَطُهم؟ قال اللَّه تبارك وتعالى للجنة: أنتِ رحمتي أرْحَمُ بكِ مَنْ أشاءُ من عبادي، وقال للنار: إنما أنْتِ عذابٌ أُعذِّبُ بكِ مَنْ أشاءُ مِن عبادي، ولكل واحِدَةٍ منهما مِلْؤُها، فأمّا النار: فلا تَمْتَلِئُ حتى يَضَعَ رجْلَهُ فتقول: قَطْ قَطْ قَطْ، فهنالِكَ تمتَلِئُ ويُزوى بَعْضُها إلى بَعْض، ولا يَظْلِمُ اللَّه عز وجل مِنْ خلقِهِ أحدًا. وأما الجنة: فإن اللَّه عز وجل يُنْشِئُ لها خَلْقًا](3).
الحديث الثالث: أخرج مسلم في الصحيح عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [احْتَجَّت الجنة والنارُ، فقالت النار: فيَّ الجبارون والمتكبِّرون. وقالت الجنة: فيَّ ضُعفاء الناس ومساكينهم. فقضى بينهما، فقال للجنة: إنما أنت رحمتي، أرحمُ بك مَنْ أشاء مِن عبادي. وقال للنار: إنما أنت عذابي، أعذِّبُ بكِ من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤُها](4).
وقوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} . قال قتادة: (يقول: وأدنيت).
أي: قُرِّبت من المتقين يوم القيامة مكانًا غير بعيد، أو شيئًا غير بعيد، فكل آتٍ قريب.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4848)، كتاب التفسير، باب قوله:"وتقول هل من مزيد".
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (7384)، كتاب التوحيد، وانظر الحديث (4848). ورواه مسلم بنحوه (2848)، والترمذي (3272)، وأحمد (3/ 134)، (3/ 141).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه -حديث رقم- (4850)، كتاب التفسير.
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2847)، وانظر نحوه مسند أحمد (3/ 13)، (3/ 134).
وقوله تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} . أي: هذا الثواب والإكرام إنما هو خاص لكل رجّاع إلى ذكر اللَّه، حافظ لحدوده، مُعَظِّم لدينه. قال ابن عباس:({لِكُلِّ أَوَّابٍ} قال: لكل مُسَبِّح). وقال مجاهد: (الأواب: المسبّح). وقال الحكم بن عُتَيبة: (هو الذاكر اللَّه في الخلاء). وقال مجاهد في رواية: (الذي يذكر ذنوبه فيستغفر منها). وقال التيمي: (سألت ابن عباس عن الأوّاب الحفيظ قال: حفظ ذنوبه حتى رجع عنها). وقال قتادة: ({حَفِيظٍ}: حفيظ لما استودعه اللَّه من حقه ونعمته). قال ابن جرير: (هو حفيظ لكل ما قَرَّبَهُ إلى ربه من الفرائض والطاعات والذنوب التي سَلَفت منه للتوبة منها والاستغفار).
وقوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} . أي: من خاف اللَّه في سرّه في الدنيا حيث لا يراه أحد إلا اللَّه عز وجل.
وقوله: {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} . قال قتادة: (أي منيب إلى ربه مقبل).
قلت: وبين الخشية والإنابة صلة من النسب. فالإنابة أثر رفيع للخشية، وتعني الرجوع والإحسان. قال الحسن:(عملوا واللَّه بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانًا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنًا).
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -في السبعة الذين يظلهم اللَّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله- قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [ورجلٌ ذكرَ اللَّه خاليًا ففاضت عيناه](1).
وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن ابن عباس قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [عَيْنان لا تَمَسُّهُما النار: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشية اللَّه، وعَيْنٌ باتت تحرس في سبيل اللَّه](2).
ورواه الطبراني من حديث أنس بلفظ: [عَيْنان لا تَرَيان النارَ: عينٌ بَكَتْ وجَلًا من خشية اللَّه، وعينٌ باتت تكلأ في سبيل اللَّه].
وقوله: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} . يعني الجنة. قال قتادة: (سَلِمُوا من عذاب اللَّه عز وجل، وسَلَّم عليهم ملائكة اللَّه).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1423)، كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين، ورواه مسلم.
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (1338)، أبواب فضائل الجهاد، باب فضل الحرس في سبيل اللَّه عز وجل. وانظر صحيح الجامع (3990) لرواية الطبراني.
وقوله: {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} . قال قتادة: (خلدوا واللَّه، فلا يموتون، وأقاموا فلا يظعنون، وَنَعِمُوا فلا يبأسون).
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يُنادي مُنَادٍ: إنَّ لكم أن تَصِحُّوا فلا تَسْقَمُوا أبدًا، وإنَّ لكم أن تَحْيَوا فلا تموتوا أَبَدًا، وإنَّ لكم أن تَشِبُّوا فلا تَهْرموا أبدًا، وإنَّ لكم أن تَنْعموا فلا تَبْأسوا أبدًا](1).
وقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} . أي: من ألوان الملذات وأصناف المسرّات، فمهما طلبوا وجدوا، ومهما خطر في بالهم أحضر بين أيديهم.
وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [المؤمِنُ إذا اشتهى الولَدَ في الجنة، كان حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ وسنُّهُ في ساعةٍ كما يشتهي](2).
وقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} . قال النسفي: (على ما يشتهون، والجمهور على أنه رؤية اللَّه تعالى). وقال القرطبي: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} مِنْ النعم مما لم يخطر على بالهم).
36 -
40. قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)}.
في هذه الآيات: تنبيه كفار قريش إلى مصير الأمم قبلهم ممن أسرف وكذّب، وإثبات اللَّه تعالى خلقه السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام دون تعب أو نصب. وتوجيهه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم إلى الصبر والتسبيح والسجود أطراف النهار وآناء الليل فهو خير له وأطيب.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2837)، كتاب الجنة ونعيمها. باب في دوام نعيم أهل الجنة.
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (2077)، أبواب صفة الجنة. ورواه ابن ماجة في السنن (4338)، والدارمي (2/ 337)، وأبو يعلى (1051).
فقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا} . قال ابن جرير: (يقول: وكثيرًا أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قريش من القرون هم أشد من قريش الذين كذبوا محمدًا).
وقوله: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} . قال ابن عباس: (أثَّروا فيها). وقال مجاهد: (ضربوا في الأرض). وقال قتادة: (فساروا في البلاد). أي ابتغاء الأرزاق والمتاجر والمكاسب أكثر مما طفتم أنتم فيها، والخطاب لقريش.
وقوله: {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} . أي: فهل كان لهم بتنقّبهم في البلاد وضربهم في أرجاء الأرض وجمعهم الأموال والمكاسب من معدل عن الموت، ومنجى من الهلاك، ومفرّ من قضاء اللَّه وقدره الذي حاق بهم نتيجة تكذيبهم الرسل؟ !
والمحيص مصدر حاص عنه يحيص حَيْصًا وحُيوصًا ومَحيصًا ومَحاصًا وحيصانًا، أي: عَدَلَ وحادَ. ويقال: ما عنه محيص أي مَحيد ومَهْرب.
والمقصود: حاصرهم العذاب حين نزل بهم فما استطاعوا الحَيْص والمحيد والمهرب منه.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} . أي: إن فيما ذكر في هذه السورة من الحقائق والأخبار لتذكرة وموعظة.
وقوله: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} . أي: لبٌّ يعَي به. وقال مجاهد: (عَقْلٌ). أي عقل يتدبر به، وقيل: من كان له حياة ونفس مميزة.
قلت: والأولى أن يقال {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي: واع يفقه العبر، ويفهم آفاق موعظة هذا الوحي العظيم، فإن عمى القلب هو أشد العمى كما قال تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . قال قتادة: ({إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي من هذه الأمة، يعني بذلك القلب: القلب الحي). وقال ابن زيد: (قلب يعقل ما قد سمع من الأحاديث التي ضرب اللَّه بها من عصاه من الأمم).
وقوله: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} . أي أصغى إلى المواعظ وقلبه شاهد غير غافل ولا ساه. قال الضحاك: (العرب تقول: ألقى فلان سمعه: إذا استمع بأذنيه وهو شاهد، يقول غير غائب).
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} .
قال ابن عباس: (وما مسنا من نصب). وقال سفيان: (من سآمة).
واللغوب: التعب والإعياء، والآية في تقرير المعاد وإثبات إحياء الموتى وبعثهم بطريق الأولى، كما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33].
وقوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} . قال النسفي: (أي على ما يقول اليهود ويأتون به من الكفر والتشبيه، أو على ما يقول المشركون في أمر البعث، فإن من قدر على خلق العالم قدر على بعثهم والانتقام منهم).
وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} .
قال ابن زيد: (قبل طلوع الشمس: الصبح، وقبل الغروب: العصر).
أخرج البخاري في صحيحه عن جرير قال: [كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة -يعني البَدْرَ- فقال: إنكم سَتَرَون رَبَّكم كما تَرَوْنَ هذا القَمَر، لا تُضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا. ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}](1).
قال ابن كثير: (وكانت الصلاة المفروضة قبل الإسراء، ثنتان قبل طلوع الشمس في وقت الفجر وقبل الغروب في وقت العصر، وقيامُ الليل كان واجبًا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته حَوْلًا، ثُمَّ نُسِخَ في حَقِّ الأمَّةِ وجوبُه. ثم بعد ذلك نسخَ اللَّه تعالى ذلك كُلَّه ليلةَ الإسراء بخمس صلوات، ولكن منهن صلاةُ الصبحِ والعصر، فهما قبل طلوعِ الشمس وقبل الغروب).
قلت: والمقصود تسلية اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من تكذيب المشركين، ليستعين باللَّه عليهم بالتسبيح في هذين الوقتين الكبيرين، فإنهما وقتان ينشغل عنهما كثير من الناس ويغفلون عن أهميتهما.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (554)، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، وكذلك أخرجه برقم (573)، ورواه أحمد (4/ 362)، وابن حبان (7443).
وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} فيه أقوال متكاملة:
1 -
قال أبو الأحوص: (هو تسبيح اللَّه تعالى في الليل).
2 -
قال مجاهد: ({وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ}: من الليل كله). أي صلاة الليل كله.
3 -
عن ابن عباس: (أنها ركعتا الفجر).
4 -
عن ابن زيد: ({وَمِنَ اللَّيْلِ} قال: العتمة). يعني صلاة العشاء الآخرة.
وفي التنزيل نحو ذلك، قوله تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].
وفي صحيح البخاري عن عبادة بن الصاهت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[مَنْ تَعَارَّ من الليل فقال: لا إله إلا اللَّه وحْدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد اللَّه وسبحان اللَّه، ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دَعا استُجيبَ، فإنْ توضأ وصَلّى قُبِلت صَلاتُه](1).
وقوله: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} . قال ابن عباس: (هو التسبيح بعد الصلاة).
وقيل: (هما الركعتان بعد المغرب). روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وأبي هريرة وأبي أمامة، وأثر ذلك عن مجاهد وقتادة. ولا مانع من اجتماع القولين.
وفي الصحيحين عن وَرَّاد مولى المغيرة بن شُعبة قال: كتب المغيرةُ إلى معاوية بن أبي سفيان: [أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول في دُبر كل صلاة إذا سَلَّمَ: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانِعَ لما أعطيتَ، ولا مُعْطي لما مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ](2).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: [جاء فُقراء المهاجرين فقالوا: يا رسول اللَّه ذَهب أهل الدُّثور بالدرجات العُلَا والنَّعيم المقيم. فقال: وما ذاك؟ قالوا: يُصَلّون كما نُصَلّي، ويصومون كما نصومُ، ويتصدَّقون ولا نتصَدَّق،
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1154) كتاب التهجد، ورواه أبو داود (5060)، والترمذي (3411) من حديث عبادة بن الصامت.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6330)، كتاب الدعوات، وأخرجه مسلم (593)، وأحمد (4/ 250)، وأبو داود (1505)، والنسائي (3/ 71). وقوله: "ولا ينفع ذا الجد منك الجد، أي: لا ينفع ذا الغنى منك غنًى، وإنما ينفعه الإيمان والطاعة.
ويُعتقِون ولا نُعتِق! قال: أفلا أُعَلِّمُكُم شيئًا إذا فعلتموه سَبَقْتُم مَنْ بعدكم، ولا يكون أحدٌ أفضلَ منكم إلا مَنْ فَعَلَ مثل ما فعلتم؟ تُسَبِّحُون وتحمدون وتكبرون دُبُرَ كل صلاة ثلاثًا وثلاثين. قال: فقالوا: يا رسولَ اللَّه، سمِعَ إخوانُنا أهلُ الأموالِ بما فعلنا، ففعلوا مثله. قال: ذلك فضلُ اللَّه يؤتيه من يشاء] (1).
41 -
45. قوله تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)}.
في هذه الآيات: تسليةُ اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من تكذيب قومه بذكر ساعة البعث من القبور لمشهد الحشر، ثم القيام بين يدي الجبار لفصل الأمر. وأمره تعالى له بالتذكير بالقرآن ففيه الذكرى من أراد خير المستقر.
فقوله تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} . قال كعب: (ملك قائم على صخرة بيت المقدس ينادي: أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة، إن اللَّه يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء). وقال قتادة: (كنا نحدّث أنه ينادى من بيت المقدس من الصخرة وهي أوسط الأرض).
قلت: والأَوْلى عدم تحديد المكان الذي ينادى منه ما دام لم يقم دليل قوي للاحتجاج. فيكون المعنى كما قال ابن جرير: (واستمع يا محمد صيحة يوم القيامة يوم ينادي بها منادينا من موضع قريب).
وقوله: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} . قال ابن كثير: (يعني النفخة في الصور التي تأتي بالحق الذي كان أكثرهم فيه يمترون).
وقوله: {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} . أي: ذلك يوم خروج أهل القبور من قبورهم.
وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} . أي: هو الذي يحيي الأموات
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (595)، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته. والدثور: واحدها دثر، وهو المال الكثير.
ويميت الأحياء، فله سبحانه بدء الخلق وإعادته، وإليه مصير جميع الخلائق.
وقوله: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} . أي: يوم تصدّع الأرض عنهم فيخرجون منها سراعًا. كما قال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 52]. وكقوله جل ذكره: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر: 8]. فنصبت {سِرَاعًا} على الحال.
وفي صحيح مسلم من حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا: [ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتًا ورفع ليتًا -أي: أمال صفحة عنقه- وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه -أي: يصلحه ويطينه- فيصعق، ثم لا يبقى أحد إلا صعق، ثم يرسل اللَّه تعالى مطرًا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون](1).
وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود -واللفظ لمسلم- عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أنا سَيد ولد آدمَ يوم القيامة، وأول من ينشقّ عنهُ القبر، وأولُ شافع، وأولُ مشفع](2).
ولفظ أبي داود: [أنا سَيِّد ولد آدم، وأوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عنه الأرض، وأَوَّلُ شافع، وأوَّلُ مُشَفَّعٍ].
وقوله: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} . قال القاسمي: (أي ذلك الإخراج لهم جمع في موقف الحساب، علينا سهل بلا كلفة).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان: 28].
2 -
وقال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [قال اللَّه تعالى: كَذَّبني ابنُ آدمَ ولم يكنْ له ذلك، وشتمَني ولم يكنْ له ذلك، فأما تكذيبه إيايَ
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2940)، وأحمد في المسند (2/ 166).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2278)، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق. وأخرجه أبو داود (4673)، كتاب السنة، باب في التخيير بين الأنبياء.
فقوله: لن يُعيدني كما بدأني، وليس أوَّلُ الخلقِ بأَهْوَنَ عليَّ من إعادتِه، وأما شَتْمُه إياي فقوْلُه: اتخذ اللَّه ولدًا، وأنا الأحد الصَّمد، لم ألِدْ ولم أُوْلَد، ولم يُكنْ لي كفُوًا أحَدٌ] (1).
وقوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} . تسلية لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتهديد لمشركي قريش الذين يكذبون بالبعث وينكرون قدرة اللَّه على ذلك، ويفترون الكذب على اللَّه ورسوله.
وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} . أي: وما أنت -يا محمد- بمسلط ومسيطر عليهم لتقهرهم على الإيمان.
وقؤله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} . أي: إنما أنت -يا محمد- منذر، تبلغ رسالة ربك، وتنذر من يخاف وعيد اللَّه الذي أوعد به من تكبر وطغى، فإنه سينتفع بذلك.
تم تفسير سورة "ق" بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه بعد عودتي من العمرة يوم الاثنين 25 - رجب - 1426 هـ الموافق 29 - آب - 2005 م
* * *
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4974)، كتاب التفسير، وانظر كذلك (3193).