المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٧

[مأمون حموش]

فهرس الكتاب

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌40 - سورة غافر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌41 - سورة فصلت

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌42 - سورة الشورى

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌43 - سورة الزخرف

- ‌ما ورد في ذكرها

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌44 - سورة الدخان

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌45 - سورة الجاثية

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌46 - سورة الأحقاف

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌47 - سورة محمد

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌48 - سورة الفتح

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌49 - سورة الحجرات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌50 - سورة ق

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌51 - سورة الذاريات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌52 - سورة الطور

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌53 - سورة النجم

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌54 - سورة القمر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌55 - سورة الرحمن

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌56 - سورة الواقعة

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌57 - سورة الحديد

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌58 - سورة المجادلة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌59 - سورة الحشر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌47 - سورة محمد

وهي سورة مدنية، وتسمى سورة القتال، وعدد آياتها (38).

‌موضوع السورة

انتصار للمؤمنين أتباع محمد عليه الصلاة والسلام ووعيد شديد للمنافقين والكافرين أعداء محمد اللئام

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

تهديد لكفار مكة الذين يصدون عن الدين الحق بالغرق في العمى والضلالات. ووعد للمؤمنين المتبعين رسولهم بتكفير السيئات ورفع الدرجات.

2 -

الحث على الإجهاز على العدو في المعركة، والوعد الجميل للذين قتلوا في سبيل اللَّه.

3 -

تأكيد سنة اللَّه بنصر المؤمنين الصادقين، وخذلان الكافرين المعاندين.

4 -

تنبيه الكافرين لرؤية مصير أمثالهم عبر الزمان، واللَّه تعالى عدو للكافرين وهو ولي أهل الإيمان، وقد وعدهم الحياة الرغدة الناعمة في الجنان.

5 -

الكفار يتمتعون ويأكلون كالأنعام، ومصيرهم إلى الشقاء والحرمان والعذاب بالنيران.

ص: 297

6 -

كما لا يستوي أهل البصيرة واليقين مع أهل الهوى وتزيين الشياطين، كذلك لا يستوي أصحاب الجنة في روضات النعيم مع أصحاب النار في دركات الجحيم.

7 -

نَعْتُ المنافقين بقسوة قلوبهم واتباع أهوائهم، والثناء على المؤمنين بحسن إسلامهم وزيادة إيمانهم.

8 -

تأكيد اقتراب الساعة فقد ظهر بعض أشراطها، والأمر بالعلم بلا إله إلا اللَّه سر النجاة وسعادة الدارين.

9 -

تمني المؤمنين نزول تشريع الجهاد، وجبن بعضهم عند نزول فرض القتال.

10 -

التحذير من التولي وما يعقبه من الفتنة في الدين وتقطيع الأرحام، والضلوع في الظلم والآثام.

11 -

الأمر بتدبر القرآن، وفهم ما فيه من المعاني والأحكام.

12 -

نَعْتُ حال المجرمين عند النزع والملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، ذلك بما أسخطوا اللَّه وكرهوا رضوانه فأخزاهم وأحبط أعمالهم.

13 -

مَكْرُ اللَّه تعالى بالمنافقين وفضحهم، وسنة اللَّه في ابتلاء المؤمنين وتمحيصهم.

14 -

تهديدٌ للكافرين، ووعد لهم بالخذلان والحرمان. وحث للمؤمنين على طاعة اللَّه ورسوله، ووعد لهم بالنصر والإكرام.

15 -

تنبيهُ المؤمنين إلى غرور هذه الحياة الدنيا التي تشغل عن الإيمان، والجهاد والإنفاق والإحسان. والتلميح بالعقاب والاستبدال، إن تولى أو ضعف الرجال.

* * *

ص: 298

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

3. قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)}.

في هذه الآيات: تهديدٌ شديد لكفار مكة الذين يصدون عن الدين الحق بالغرق في الضلالات. ووعدٌ أكيد للمؤمنين المتبعين رسولهم بتكفير السيئات ورفع الدرجات.

فقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . قال ابن عباس: (نزلت في أهل مكة). أي: كفروا بآيات اللَّه وجحدوا نبوة رسوله، وحالوا دون اختيار الناس الإيمان باللَّه ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم فصدوهم ووقفوا في طريقهم وبسطوا أيديهم نحوهم بالأذى.

وقوله: {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} . أي جعل أعمالهم ضلالًا على غير هدى وغير رشاد. قال ابن كثير: (أبْطَلها وأَذْهَبَها ولم يَجْعَل لها ثوابًا ولا جزاءً، كقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]).

وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . قال ابن عباس: (الأنصار). قلت: بل الآية بعمومها تشمل المهاجرين والأنصار ومن مضى على منهاجهم في الإيمان والامتثال.

وقوله: {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} . قال سفيان الثوري: (لم يخالفوه في شيء). والآية من باب عطف الخاص على العام، وفيها دليل أنه لا يستقيم الإيمان دون إقامة مفهوم شهادة: أن محمدًا رسول اللَّه. قال النسفي: ({وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} وهو

ص: 299

القرآن، وتخصيص الإيمان بالمنزل على رسوله من بين ما يجب الإيمان به لتعظيم شأنه).

وقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} . جملة اعتراضية مؤكدة أن القرآن المنزل على محمد هو الحق، أو أن دين محمد هو الحق الناسخ لجميع الأديان قبله.

وقوله: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} . أي ما مضى من ذنوبهم وخطاياهم قبل الإيمان.

وقوله: {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} . قال ابن عباس: (أمرهم). وقال مجاهد: (شأنهم). وقال قتادة: (أصلح حالهم). وكلها متقاربة. والبال: كالمصدر مثل الشأن لا يعرف منه فعل، ولا جمع له إلا لضرورة الشعر فيقال:(بالات).

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا عَطَسَ أحَدُكُم فليقل: الحمدُ للَّه، وليقل له أخوه -أو صاحِبُهُ-: يرحَمُكَ اللَّه، فإذا قال له: يرحَمُكَ اللَّه، فليقل: يهديكم اللَّه ويُصْلِحُ بالكم](1).

وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} .

أي: ذلك الإضلال والهدى، وإبطال أعمال الكفار، والتجاوز عن سيئات الأبرار، إنما يرجع إلى سوء اختيار أهل الضلال، وحسن امتثال المؤمنين الأخيار. قال مجاهد:(الباطل: الشيطان). وقيل: (الباطل: الشرك، والحق: التوحيد والإيمان). قال ابن جرير: (أما الكافرون فأضللنا أعمالهم، وجعلناها على غير استقامة وهدى، بأنهم اتبعوا الشيطان فأطاعوه، وهو الباطل. وأما المؤمنون فكفرنا عنهم سيئاتهم وأصلحنا لهم حالهم بأنهم اتبعوا الحق الذي جاءهم من ربهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم).

وقوله: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} . قال القرطبي: (أي كهذا البيان الذي بُيّن يبيِّنُ اللَّه للناس أمر الحسنات والسيئات).

قال الزمخشري: (فإن قلت: أين ضرب الأمثال؟ قلت: في أن جعل اتباع الباطل مثلًا لعمل الكفار، واتباع الحق مثلًا لعمل المؤمنين. أو في أن جعل الإضلال مثلًا لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلًا لفوز المؤمنين).

والمقصود: يشبه اللَّه للناس في هذا القرآن الأشباه، فيلحق بكل قوم من الأمثال أشكالًا، وبكل سبيل ووجهة يوليها الناس أوصافًا وأحوالًا.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6224) - كتاب الأدب، باب: إذا عطسَ كيفَ يُشَمَّتُ؟ .

ص: 300

4 -

9. قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)}.

في هذه الآيات: الحثُّ على إتقان الضرب والإجهاز على العدو في القتال والتقييد المحكم للأسرى، والوعد بجميل الأجر والعطاء للمجاهدين الذين قتلوا في سبيل اللَّه، وتأكيد سنة اللَّه بنصر المؤمنين الصادقين، وخذلان الكافرين المعاندين للوحي والمرسلين.

قال ابن جرير: ({فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} باللَّه ورسوله من أهل الحرب فاضربوا أعناقهم {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}: حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم فصاروا في أيديكم أسرى {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} فشدوهم في الوثاق كيلا يقتلوكم فيهربوا منكم. فإذا أسرتموهم بعد الإثخان فإما أن تَمُنُّوا عليهم بعد ذلك بإطلاقكم إياهم من الأسر، وتحرروهم بغير عوض ولا فدية، وإما أن يفادوكم فداء بأن يعطوكم من أنفسهم عوضًا حتى تطلقوهم، وتخلوا لهم السبيل).

وقد ادّعى بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة براءة: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5].

قلت: والحق أنها محكمة غير منسوخة لإمكان اجتماع حكميهما من جهة، ولا دليل يصرح بالنسخ من جهة أخرى.

فإن كان الحال نهوضًا من غوبة وضعف إلى عز وشوكة، كان الأَوْلى قتل أئمة الكفر الذين يقعون في الأسر، كما جاء الدرس في ذلك يوم بدر، حيث قال تعالى معاتبًا:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67]. وأما إن كان الحال

ص: 301

فتحًا ونصرًا، واستمرارًا على قهر الأعداء وعزًا، فللحاكم النظر في المصلحة الشرعية في أمر من وقع في الأسر.

قال الشافعي: (الإمام مُخَيَّرٌ بين قتله أو المن عليه، أو مفاداته أو استرقاقه أيضًا). وإليه ذهب مالك والثوري والأوزاعي وغيرهم من التابعين، وهو مذهب ابن عمر وابن عباس وفعل الخلفاء الراشدين.

وأصل ذلك من هدي وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة، منها:

الموقف الأول: إطلاقه ثُمامة بن أُثال الحنفي.

ففي الصحيحين -واللفظ لمسلم- عن أبي هريرة قال: [بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خَيْلًا قِبلَ نَجْدٍ، فجاءت بِرَجُلٍ مِنْ بني حَنيفةَ يُقالُ له: ثُمَامَةُ بن أُثَال، سَيِّدُ أهل اليمامة، فرَبطوه بسارِيَةٍ من سَواري المسجد، فخرج إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عِندك يا ثُمامة؟ ! فقال: عندي يا محمدُ! خَيْرٌ، إنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذا دَم، وإنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ على شاكِرٍ، وإنْ كنتَ تريدُ المال فَسَلْ تُعْطَ منه ما شئت، فتركه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتى كان بَعْدَ الغَدِ، فقال: ما عِندك يا ثمامَةُ؟ ! قال: ما قُلْتُ لك: إنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ على شاكر، وإن تَقْتُل تَقْتُل ذا دمٍ، وإن كنت تريدُ المال فسل تُعْطَ منه ما شئت؟ فتركه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغَدِ، فقال: ماذا عِندك يا ثمامَةُ؟ ! فقال: عِندي ما قُلْتُ لكَ: إن تُنْعِمْ تُنْعِم على شاكرِ، وإن تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذا دَمٍ، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تُعْطَ منه ما شئت، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أطْلِقوا ثُمامة". فانطلق إلى نَخْلٍ قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، يا محمدُ! واللَّه! ما كان على الأرض وَجْهٌ أبغضَ إليَّ مِنْ وجهك، فقد أصبح وجْهُكَ أحَبَّ الوجوه كُلِّها إلي، واللَّه! ما كان مِنْ دِينٍ أبغَضَ إليَّ من دينك، فأصبح دينُك أحبَّ الدين كلِّه إليَّ. . .] الحديث (1).

الموقف الثاني: قتله صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط يوم بدر بعد أسرهما. فقد كان النضر بن الحارث حامل لواء المشركين يوم بدر، وكان من أشد الناس إيذاء لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة، ومن أشد الناس كيدًا للإسلام والمسلمين، ومن أكابر المجرمين في ذلك الزمان، فتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من معركة بدر في

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (469)، ومسلم (1764)، وأبو داود (2679)، وأخرجه النسائي (1/ 109 - 110)، وأحمد (2/ 453)، وابن حبان (1239).

ص: 302

الصفراء وأمر بالنضر بن الحارث فأخرج من بين الأسرى، ثم أمر عليًا رضي الله عنه فتقدم وضرب عنقه.

ثم مضى عليه الصلاة والسلام، حتى إذا بلغ عرق الظبية توقف وأمر بعقبة بن أبي مُعيط فَسُحِبَ من بين الأسرى، -وهو الذي انبعث ليلقي سلاة الشاة على رأس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم كان يصلي عند الكعبة، وانبعث مرة أخرى فحاول خنق النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فجاء أبو بكر وهو يبكي فرده عنه، وانبعث مرة ثالثة بأمر أبي بن خلف ليشتم النبي صلى الله عليه وسلم ويبصق في وجهه بمجلسه -فأمر النبي عاصم بن ثابت الأنصاري فضرب عنقه.

وفي سنن أبي داود بسند جيد عن مسروق: [عن عبد اللَّه بن مسعود -أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد قتل عقبة بن أبي معيط قال: من للصبية؟ قال: النار](1).

الموقف الثالث: إطلاقه لثمانين من رجال قريش حاولوا الغدر أثناء كتابته عقد الحديبية.

ففي صحيح مسلم عن أنس قال: [لما كان يوم الحديبية هبط على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلًا من أهل مكة بالسلاح، من قِبَل جبل التنعيم، يريدون غرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم فأخذوا: قال عفان: فعفا عنهم، ونزلت هذه الآية: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24]] (2).

ومواقف كثيرة أخرى، كأخذه صلى الله عليه وسلم من سلمة بن الأكوع جارية فدى بها أناسًا من المسلمين، ومنّه عليه الصلاة والسلام على سَبْي هوازن، وغير ذلك من المواقف التي حفلت بها سيرته العطرة ومنهاجه في السياسة الشرعية.

وقوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} . قال النسفي: (أثقالها وآلاتها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع، وقيل: أوزارها آثامها، يعني حتى يترك أهل الحرب وهم المشركون شركهم بأن يسلموا، وحتى لا يخلو من أن يتعلق بالضرب والشد أو بالمن والفداء، فالمعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي رحمه الله أنهم لا يزالون على ذلك أبدًا إلى أن لا يكون حرب مع المشركين وذلك إذا لم يبق لهم شوكة).

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2686) - كتاب الجهاد، في أثناء حديث أطول.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1808) - كتاب الجهاد والسير. وانظر تفصيل ذلك في كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (2/ 1008).

ص: 303

وعن مجاهد: ({حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} قال: حتى يخرج عيسى بن مريم فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة، وتأمن الشاة من الذئب، ولا تقرض فأرة جِرابًا، وتذهب العداوة بين الأشياء كلها، ذلك ظهور الإسلام على الدين كله).

وعن قتادة: (حتى لا يكون شرك). وهو كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]. وكل ما سبق من المعاني يحتمله البيان الإلهي.

وقوله: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} . قال قتادة: (إي واللَّه بجنوده الكثيرة، كلّ خلقه له جند، ولو سلط أضعف خلقه لكان جندًا).

و{ذَلِكَ} خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: أي الأمر ذلك فلو شاء تعالى لانتقم منهم بعقوبة عاجلة، وكفاكم ذلك كله.

وقوله: {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} . أي: ولكنه تعالى شرع فرض الجهاد لقتال الأعداء ليختبر صدقكم وثباتكم في حراسة هذا الدين.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].

2 -

وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: 16].

3 -

وقال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 14 - 15].

أخرج الحاكم بسند جيد عن عبادة بن الصامت مرفوعًا: [عليكم بالجهاد في سبيل اللَّه تبارك وتعالى، فإنه باب من أبواب الجنة، يُذْهِبُ اللَّه به الهَمَّ والغَمَّ](1).

ورواه عبد اللَّه بن أحمد بلفظ: [وجاهدوا في اللَّه القريب والبعيد، في الحضر

(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 74 - 75)، وانظر مسند أحمد (5/ 326)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (1941)، وانظر ما بعده.

ص: 304

والسفر، فإن الجهاد باب من الجنة، إنه ينجي صاحبه من الهم والغم] (1).

وقوله: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} . أي: والذين استشهدوا في سبيل اللَّه فلن يذهب أعمالهم، بل يضاعفها وينميها ويبارك فيها، وربما استمر أجر بعضها إلى يوم القيامة. وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن سلمان قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [رِباطُ يَوْمٍ وليلةٍ خَيْرٌ من صيامِ شَهْرٍ وقيامه، وإنْ مات، جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمِنَ الفَتّان](2).

الحديث الثاني: أخرج مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[يُغفر للشهيد كلُّ ذنب، إلا الدَّين](3).

وفي رواية: [القتل في سبيل اللَّه يُكَفِّر كُلَّ شيء، إلا الدَّين].

الحديث الثالث: أخرج أحمد والترمذي وابن ماجة بسند حسن عن المِقدام بن مَعدِيَكرِب الكندي قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [للشهيد عند اللَّه سَبْعُ خصال: يُغْفَرُ له في أَوَّل دَفْعَةٍ من دمه، ويرى مَقعدَهُ من الجنة، ويُحلَّى حُلَّةَ الإيمان، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويُجار من عذاب القبر، ويأمَن من الفزعِ الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويَشْفَعُ في سبعين إنسانًا من أهلِ بيتِهِ](4).

وقوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} . أي: سيهديهم إلى الجنة ويصلح شأنهم ويسعد أحوالهم. وهذه هي المرتبة الرابعة من مراتب الهداية كما جاء في القرآن والسنة. فإن مراتب الهداية أربع:

1 -

هداية عامة للخلق.

(1) أخرجه عبد اللَّه بن أحمد (5/ 330)، وانظر مسند أحمد (5/ 316)، وابن عساكر (8/ 428/ 1)، وكذلك سلسلة الأحاديث الصحيحة (1942)، وإسناده جيد.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1913) - كتاب الإمارة. باب فضل الرباط في سبيل اللَّه عز وجل.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1886) - كتاب الإمارة. باب من قتل في سبيل اللَّه كفرت خطاياه، إلا الدين. وانظر للرواية الأخرى (1886) ح (120).

(4)

حديث حسن. أخرجه أحمد (4/ 131)، والترمذي (1663)، وابن ماجة (2799) - لكن بلفظ "ست خصال" بدل "سبع خصال". وانظر صحيح الجامع (5058).

ص: 305

2 -

هداية الدلالة والإرشاد.

3 -

هداية التوفيق والإلهام.

4 -

هداية إلى الجنة في الآخرة.

ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9]. وقوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24].

وعن مجاهد: ({سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} قال: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها أحدًا).

وقال ابن عباس: (هم أعرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم).

يروي البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن نبيَّ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [إذا خَلَصَ المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، يتقاصُّونَ مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبُوا وَنُفُّوا أذن لهم بدخول الجنة، والذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أدل منه بمسكنه كان في الدنيا](1).

وله شاهد في المسند من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [والذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف بأحوالكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم إذا دخلوا الجنة](2).

وقوله: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} . قال مجاهد: (يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم اللَّه لهم لا يخطئون، كأنهم سكانها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها أحدًا). وقال ابن زيد: (بلغنا عن غير واحد قال: يدخل أهل الجنة الجنة، ولهم أعرف بمنازلهم فيها من منازلهم في الدنيا التي يختلفون إليها في عمر الدنيا. قال: فتلك قول اللَّه جل ثناؤه: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}).

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} . سنة عظيمة يمضي عليها أهل حراسة الدين، فينعمون بتأييد اللَّه لهم وتثبيت أقدامهم وقهر أعدائهم. والمعنى: إن تنصروا دين اللَّه ينصركم على الكفار، ويثبت أقدامكم عند

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2440) - كتاب المظالم. باب قصاص المظالم.

(2)

حديث صحيح. انظر مسند أحمد (3/ 13)، وكذلك (3/ 74)، ورواه البخاري بنحوه.

ص: 306

القتال، وعلى الإسلام، وعلى الصراط. كما قال تعالى:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]. فإن الجزاء من جنس العمل: الصبر على الجهاد وإقامة الدين، يعقبه النصر والتأييد والتمكين.

أخرج الخطيب في "التاريخ" بسند رجاله ثقات عن أنس مرفوعًا: [النَّصْرُ مع الصَّبْر، والفَرَجُ مع الكَرْبِ، وإنَّ مع العُسْر يُسرًا، وإنَّ مع العُسْرِ يُسْرًا](1).

وعن قتادة: ({إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} لأنه حق على اللَّه أن يعطي من سأله، وينصر من نصره).

وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ} . قال ابن زيد: (شقاء لهم).

وقوله: {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} . أي: أحبطها وأبطلها. قال ابن جرير: (جعل أعمالهم معمولة على غير هدى ولا استقامة، لأنها عملت في طاعة الشيطان لا في طاعة الرحمن).

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [تَعِسَ عبد الدينار والدرهم والقَطيفة والخَميصة، إنْ أُعطي رضي، وإن لم يُعْطَ لم يَرْضَ](2). وفي رواية: [تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش].

وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} . أي: هذا الإضلال وذلك الإتعاس إنما كان مقابل كراهيتهم لما أنزل اللَّه من الكتب والشرائع، وتعظيمهم للأوثان والطواغيت والشهوات، فقابلهم اللَّه بإبطال وإحباط جميع الأعمال. قال القاسمي:({ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أي من الحق، وشايعوا ما ألفوه من الباطل. {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} كعبادتهم لأوثانهم، حيث لم تنفعهم، بل أوبقهم بها فأصلاهم سعيرًا).

قلت: بل إن جميع أعمال الكافر تحبط يوم القيامة حتى ما كان منها في وجوه الخيرات، ما دام لم يكن يريدُ تعظيم أمر اللَّه وإقامته.

ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللَّه لا يَظْلم مؤمنًا حسنةً، يُعْطِي بها في الدنيا ويَجْزي بها في الآخرة، وأمّا الكافر فَيُطْعَمُ بحسنات

(1) حديث صحيح. أخرجه الخطيب في "التاريخ"(10/ 287)، والديلمي (4/ 111 - 112)، وانظر مسند أحمد (1/ 307)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (2382).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (2886)، (2887) - كتاب الجهاد والسير، وله تتمة.

ص: 307

ما عمِلَ بها للَّه في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يجزى بها] (1).

وقوله: "ما عمل بها للَّه في الدنيا" -أي ما كان يظهر أنها من أعمال البر والمعروف والخير، ولكنه مع كفره باللَّه وكراهيته لشرعه وأمره لم تنفعه إلا في الدنيا، فقد حَمَلَهُ على فِعْلها دوافع الرياسة والظهور أو العطف والإنسانية، فجازاه اللَّه بمثل نِيَّتِهِ من زينة هذه الحياة الفانية، وأما الآخرة فهي عند اللَّه للمؤمنين المخبتين.

10 -

13. قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)}.

في هذه الآيات: تنبيهُ الكافرين لرؤية مصير أمثالهم عبر الزمان، فاللَّه تعالى عدو للكافرين وهو ولي أهل الإيمان، وقد وعدهم الحياة الرغدة الناعمة في الجنان، وأما الكافرون فيتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، ومصيرهم في الدنيا إلى الخزي والخذلان، وفي الآخرة إلى العذاب في النيران.

فقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} . وعيد وتهديد. أي: أولم يسر هؤلاء المنكرون المكذبون في الأرض سفرًا فيروا ما نزل بمن مضى ممن كفر، فكانوا يسافرون إلى الشام فيرون نقمة اللَّه بأهل حجر ثمود، ويسافرون إلى اليمن فيبصرون ما حلّ بسيأ، فإنهم إن لم يتعظوا فالدمار قادم، شأن من سبقهم، فلهم أمثالها.

وقوله: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} . قال مجاهد: (مثل ما دُمرت به القرون الأولى وعيد من اللَّه لهم).

وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} . أي: ذلك بأن اللَّه

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2808)، كتاب صفات المنافقين، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة، وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا.

ص: 308

وليّ المؤمنين وناصرهم، وأن الكافرين لا ينصرهم أحد من اللَّه.

وفي صحيح البخاري من حديث البراء -في أواخر معركة أحد حين قال أبو سفيان: اعْل هبل- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: اللَّه أعلى وأجَلُّ. قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزَّى لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. قالوا: ما نقول؟ قال: [قولوا: اللَّهُ مولانا ولا مولى لكم](1).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} .

بشائر النصر للمؤمنين في الآخرة، بعد تحقيق وعد النصر لهم في الدنيا. فلهم في الدنيا الشوكة والنصر والتمكين، وهم في الآخرة في بساتين التكرمة والنعيم، تجري تحت أشجارها وبيوتها الأنهار.

وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} . قال القرطبي: ({وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ} في الدنيا كأنهم أنعام، ليس لهم همّة إلا بطونهم وفروجهم، ساهون عما في غدِهم. وقيل: المؤمن في الدنيا يتزوّد، والمنافق يتزين، والكافر يتمتّع).

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [يأكل المسلم في مِعًى واحد، والكافر يأكُلُ في سَبْعَةِ أمعاءٍ](2).

وقوله: {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} . أي: والنار مقام لهم ومنزل يوم جَزائِهم.

وقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} . يعني مكة. قال النسفي: (أي: وكم من قرية أشد قوة من قومك الذين أخرجوك أي كانوا سبب خروجك {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} أي فلم يكن لهم من ينصرهم ويدفع العذاب عنهم).

أخرج ابن جرير بسنده إلى ابن عباس: [لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: اللهم أنتِ أحبّ البلاد إلى اللَّه، وأنت أحبّ البلاد إليّ، ولولا المشركون أهْلُك أخرجوني لما خرجت منك](3).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4043) - كتاب المغازي. باب غزوة أحد.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5396) - كتاب الأطعمة، وابن ماجة (3256) من حديث أبي هريرة، وأخرجه مسلم (2062) من حديث أبي موسى.

(3)

أخرجه الطبري (31372) عن ابن عباس، وفي إسناده ضعيف هو حسين بن قيس، وفي المتن:"فنزلت الآية". وأما أصل المتن فصحيح دون ذكر سبب النزول.

ص: 309

14 -

15. قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)}.

في هذه الآيات: لا يستوي أهل البصيرة واليقين، وأهل الهوى وتزيين الشياطين. وكذلك لا يستوي أصحاب الجنة ذات المياه واللبن والعسل والخمر والنعيم، وأصحاب النار ذات الحميم والجحيم.

فقوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} . قال ابن كثير: (أي: على بصيرة ويقين في أمر اللَّه ودينه، بما أنزل في كتابه من الهُدى والعلم، وبما جَبَله اللَّه عليه من الفطرة المستقيمة).

وقوله: {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} . أي: كمن أراه الشيطان عمله حسنًا، فهو مقيم عليه. قال القرطبي:({وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} أي ما اشتهوا. وهذا التزيين من جهة اللَّه خلقًا. ويجوز أن يكون من الشيطان دعاءً ووسوسة. ويجوز أن يكون من الكافر، أي زيّن لنفسه سوء عمله وأصرّ على الكفر).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19].

2 -

وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18].

3 -

وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].

أخرج الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[إنَّ اللَّه تعالى خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضَلّ](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 176)، (2/ 197)، وابن حبان (1812)، والحاكم (1/ 30)، والترمذي (2/ 107) نحوه. وانظر السلسلة الصحيحة (1076).

ص: 310

وقوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} . قال عكرمة: (أي: نعتُها).

وقوله: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} . قال ابن عباس: (يقول: غير متغيّر). وقال قتادة: (غير مُنتن). وفي لغة العرب: أسِنَ الماء -أي تغير ريحُه.

وقوله: {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} . قال ابن جرير: (لأنه لم يحلب من حيوان فيتغير طعمه بالخروج من الضروع، ولكنه خلقه اللَّه ابتداء في الأنهار).

والمقصود: لبن يجري في الأنهار، وهو في غاية البياض والحلاوة والدُّسومة.

وقوله: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} . قال ابن القيم: (نفى اللَّه عن خمر الجنة جميع آفات خمر الدنيا من الصداع والغول واللغو والإنزاف وعدم اللذة).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 47].

2 -

وقال تعالى: {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} [الواقعة: 19].

3 -

وقال تعالى: {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [الصافات: 46].

وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ شَرِبَ الخمرَ في الدنيا ثُمَّ لم يَتُبْ منها حُرِمَها في الآخرة](1).

وقوله: {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} . آفة العسل عدم التصفية، كما آفة الخمره تغير لذته ومذاقه مع الوقت، وآفة اللبن تغير طعمه مع الزمن، وآفة الماء أنه يصبح آسنًا من طول المكث، فقد انتفت كل هذه الآفات.

أخرج الإمام أحمد والترمذي بسند حسن عن معاوية بن حيدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ في الجنة بحرَ الماء، وبحرَ العسل، وبحرَ اللبن، وبحرَ الخمر، ثم تشقق الأنهار بعد](2).

قلت: وهذه الأنهار تتفجر من أعلى الجنة، ثم تنحدر نازلة لتمر تحت قصور وبيوت ومساكن المؤمنين، في منظر رائع خلاب.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5575) - كتاب الأشربة، وبنحوه الحاكم (4/ 141)، ورواه مسلم وأحمد والنسائي وابن ماجة. انظر صحيح الجامع (6186) - (6187).

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد (5/ 5)، والترمذي (2571)، وإسناده حسن.

ص: 311

فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن في الجنة مئة درجة أعدّها اللَّه عز وجل للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم اللَّه فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تتفجّر أنهار الجنة](1).

وله شاهد عند الترمذي والحاكم بسند صحيح لشواهده، عن عبادة بن الصامت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[الجنة مئة درجة، ما بين كُلِّ دَرَجَتيْن مسيرة مئة عام، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تخرح الأنهار الأربعة، والعرش من فوقها، وإذا سألتم اللَّه تبارك وتعالى، فاسألوه الفردوس](2).

وقوله: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} . {مِن} زائدة للتأكيد، والمعنى: وجميع أنواع وأصناف وألوان الثمار والفاكهة متوفرة لضيافتهم وهي رَهْنُ إشارتهم.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المرسلات: 41 - 43].

2 -

وقال تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان: 55].

3 -

وقال تعالى: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: 52].

قال ابن القيم رحمه الله: (تضمنت النصوص أن لهم فيها الخبز واللحم والفاكهة والحلوى وأنواع الأشربة من الماء واللبن والخمر وليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء، وأما المسميات فبينها من التفاوت ما لا يعلمه البشر).

وقوله: {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} . نور على نور، وسرور فوق سرور، فإن رضى الرحمن أعلى هذه اللذات، وأهنؤها على القلب والنفس والمشاعر. كما قال تعالى:{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 21]. وكقوله جل ثناؤه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4/ 14)، (9/ 101)، وأحمد (2/ 335)، (2/ 339)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(398).

(2)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3/ 326)، والحاكم (1/ 80)، وأحمد (5/ 316)، وكذلك (5/ 321)، والسياق له. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (922).

ص: 312

وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72].

وفي الصحيحين والمسند عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إنّ اللَّه تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لَبَّيْك رَبَّنا وسَعْدَيك، فيقول: هل رضيتُمْ؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لمْ تُعْطِ أحدًا مِنْ خلقِك؟ فيقول: أنا أعطيكم أَفْضَل من ذلك، قالوا: يا ربِّ وأيُّ شيءٍ أفضلُ من ذلك؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رِضواني فلا أسخَطُ عليكم بَعْدَهُ أبدًا](1).

وقوله: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} . أي: فهل يستوي أصحاب النعيم وأهل الجحيم، أصحاب المنازل والدرجات وأهل الهوي في الدركات. قال الفرّاء:(المعنى: أفمن يخلد في هذا النعيم كمن يخلد في النار). وقال الزجاج: (أي: أفمن كان على بينة من ربه وأعطي هذه الأشياء كمن زُيِّنّ له سوء عمله وهو خالد في النار). وقال ابن كيسان: (مثل هذه الجنة التي فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم؟ ! ومثل أهل الجنة في النعيم المقيم كمثل أهل النار في العذاب المقيم؟ ! ).

وقوله: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} . أي: حارًا شديد الحرارة والغليان، يشوي الوجوه والأمعاء ويمزق الأبدان.

وقوله: {فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} : أي: فَمَزَّقَ بِغَلَيانه وَفَوَرانه الأمعاءَ والأحشاءَ، عياذًا باللَّه من حال أهل النار.

16 -

19. قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)}.

في هذه الآيات: نَعْتُ المنافقين بقسوة قلوبهم وخفة عقولهم واتباع أهوائهم.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6549) - كتاب الرقاق، وكذلك (7518) - كتاب التوحيد، وأخرجه مسلم (2829) - كتاب الجنة، وصفة نعيمها وأهلها. ورواه أحمد.

ص: 313

والثناء على المؤمنين بحسن إسلامهم وزيادة إيمانهم. وتأكيد اقتراب الساعة فقد ظهر بعض أشراطها. والأمر بالعلم بلا إله إلا اللَّه سر النجاة والسعادة في الدارين.

فقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} . إخبار عن المنافقين في غبائهم وقساوة قلوبهم وعقولهم. قال ابن زيد: (هم المنافقون، والذين أوتوا العلم الصحابة رضي الله عنهم. قال النسفي: (هم المنافقون كانوا يحضرون مجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يلقون له بالًا تهاونًا منهم، فإذا خرجوا قالوا لأولي العلم من الصحابة ماذا قال الساعة على جهة الاستهزاء).

وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} . أي: أولئك الذي ختم اللَّه على قلوبهم فأقفلها. قال القاسمي: (أي فلا يدخلها الهدى لإبائهم عنه).

وقوله: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} . أي ومضوا خلف آرائهم وشهواتهم، فلا فهمٌ صحيح. ولا قصد صحيح، وإنما هو ركوب الفتن والأهواء.

وقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} . قال ابن كثير: (أي: والذين قصدوا الهداية وفَّقَهم اللَّه تعالى لها فهداهم إليها، وثَبَّتَهم عليها وزادهم منها).

وقوله: {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} . أي: ألهمهم طريق التقوى والرشد والفلاح. قال الربيع: (آتاهم الخشية). وقال السدي: (ثواب تقواهم في الآخرة). وقال مقاتل: (وفقهم للعمل الذي فرض عليهم). وقال ابن زيد: (بيَّن لهم ما يتقون). وقال عطية: (ترك المنسوخ والعمل بالناسخ). وقال الماوردي: (ترك الرخص والأخذ بالعزائم). قلت: وكلها تفاسير متقاربة متكاملة.

وقوله: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} . قال قتادة: (قد دنت الساعة ودنا من اللَّه فراغ العباد). وعن ابن زيد: (أشراطها: آياتها). أي: فهل ينظرون أن تأتيهم الساعة فجأة، فقد بدت أماراتها وعلاماتها، وهو وعيد للكفار.

وعن الحسن: (علامات الساعة انشقاق القمر والدخان). وعن الكلبي: (كثرة المال والتجارة وشهادة الزور وقطع الأرحام، وقلة الكرام وكثرة اللئام). وعن الحسن البصري قال: (بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1].

ص: 314

2 -

وقال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1].

3 -

وقال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1].

4 -

وقال تعالى: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} [النجم: 56 - 57].

وفي الصحيحين عن سهل بن سعد قال: [رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال بإصبعه هكذا، بالوسطى والتي تليها: بُعثت أنا والساعة كهاتين](1).

وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه: [أن أهل مكة سألوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شِقَّتين حتى رأوا حراءً بينهما](2).

وفي صحيح البخاري عن عبد اللَّه قال: [والبطشة الكبرى يوم بدر، فقد مضت الدخان والبطشة واللزام وآيةُ الروم](3).

وقوله: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} . قال قتادة: (يقول: إذا جاءتهم الساعة أنى لهم أن يتذكروا ويعرفوا ويعقلوا؟ ). وقال: (أنى لهم أن يتذكروا أو يتوبوا إذا جاءتهم الساعة). وقال ابن زيد: (لا ينفعهم عند الساعة ذكراهم).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23].

2 -

وقال تعالى: {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ: 52].

وفي سنن ابن ماجة ومستدرك الحاكم بسند حسن عن أنس بن مالك مرفوعًا: [يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود، لو أرسلت فيه السفن لجرت](4).

وفي لفظ الحاكم عن عبد اللَّه بن قيس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [إنَّ أهلَ النار

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6503) - كتاب الرقاق. وأخرجه كذلك (6504) من حديث أنس. وكذلك رواه مسلم (2951)، والترمذي (2214).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 182)، وكتابي: السيرة النبوية (1/ 258).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (1007) - كتاب الاستسقاء، في أثناء حديث طويل.

(4)

حسن لغيره. أخرجه ابن ماجة (4324) - باب صفة النار. وانظر صحيح سنن ابن ماجة (3491) وأخرجه ابن أبي الدنيا في "صفة النار"(ق 12/ 1).

ص: 315

لَيَبْكون، حتى لو أُجريت السُّفُن في دموعهم، لجرت، وإنهم ليَبْكون الدَّم -يعني- مكان الدمع] (1).

وقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} . أمر بالعلم قبل العمل، وتنبيه لشرف العلم، وأشرف العلوم علوم شهادة أن لا إله إلا اللَّه.

وعن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال: (ألم تسمع قوله حين بدأ به {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فأمر بالعمل بعد العلم. وقال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} -إلى قوله- {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: 20 - 21] وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28]. ثم قال بعد: {فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14] وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]. ثم أمر بالعمل بعد).

وفي صحيح مسلم عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من مات وهو يعلم أنّه لا إله إلا اللَّه دخل الجنة](2).

وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} . قال القرطبي: (يحتمل وجهين: أحدهما- يعني استغفر اللَّه أن يقع منك ذنب. الثاني- استغفر اللَّه ليعصمك من الذنوب). وقيل: الخطاب له والمراد به الأمة. قلت: والأفضل من ذلك أن يقال: ذنب الأنبياء ترك الأفضل دون مباشرة القبيح، وذنوبنا مباشرة القبائح من الصغائر والكبائر.

وقوله: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . أي: وسل ربك غفران ذنوب أهل الإيمان بك من الرجال والنساء، فإن ذلك بركة وخير لك ولهم.

وفي السنة الصحيحة روائع في آفاق هذه المعاني، منها:

الحديث الأول: أخرج الطبراني بسند حسن عن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من استغفر للمؤمنين والمؤمنات، كتبَ اللَّه له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة](3).

الحديث الثاني: أخرج الشيخان وابن حبان من حديث أبي موسى الأشعري أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول: [اللهم اغفر لي خطيئتي وجَهلي، وإسرافي في أمري،

(1) أخرجه الحاكم (4/ 605)، ورجاله ثقات. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1679).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (26) - كتاب الإيمان، ورواه أحمد. انظر صحيح الجامع (6428).

(3)

حديث حسن. أخرجه الطبراني كما في "مجمع الزوائد"(10/ 210) وقال الهيثمي: "وإسناده جيد". وانظر صحيح الجامع الصغير (5902).

ص: 316

وما أنت أعلَمُ به مني، اللهم اغفر لي هزْلي وجِدِّي، وخطئي وعَمْدِي، وكُلُّ ذلك عندي] (1).

الحديث الثالث: أخرج الإمام البخاري والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [واللَّه إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه في اليوم أكْثَرَ من سبعين مَرَّةً](2).

ولفظ الترمذي عن أبي هريرة: [{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأستغفر اللَّه في اليوم سبعين مرة].

وله شاهد في صحيح مسلم من حديث الأغَرِّ بن يسار المُزني رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [يا أيها الناسُ! توبوا إلى اللَّه، فإني أتوبُ إلى اللَّه في اليوم مئة مرة](3). وفي لفظ: [إنَّه ليُغانُ على قلبي، وإني لأستغفر اللَّه في اليوم مئة مرة].

وقوله: "لَيُغانُ على قلبي": يعني ما يتغشى القلب. وقيل: المراد الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه الدوام عليه، فإذا فتر عنه أو غفل عنه عدّ ذلك ذنبًا واستغفر منه.

الحديث الرابع: أخرج أحمد ومسلم -واللفظ له- عن عاصم عن عبد اللَّه بن سَرْجِسَ قال: [رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وأكلتُ معه خُبْزًا ولَحْمًا، أو قال: ثرِيدًا، قال: فقلت له: أَسْتَغْفَرَ لكَ النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولَكَ، ثم تلا هذه الآية: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]] (4).

وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} . قال ابن عباس: (متقلبكم في الدنيا، ومثواكم في الآخرة). وقال السدي: (متقلبكم في الدنيا، ومثواكم في قبوركم). قال ابن جرير: (يقول: فإن اللَّه يعلم متصرفكم فيما تتصرفون فيه في يقظتكم من الأعمال، ومثواكم إذا ثويتم في مضاجعكم للنوم ليلًا).

قلت: والبيان الإلهي المعجز يحتمل كل هذه المعاني، فلا وجه لرفض أيّ منها.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6398)، ومسلم (2719)، وابن حبان (957).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (11/ 85)، وأخرجه الترمذي (3255) - في السنن.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2702) ح (42)، وكذلك ح (41) - كتاب الذكر والدعاء.

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2346) - كتاب الفضائل، وأحمد (5/ 82)، والترمذي (23).

ص: 317

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60].

2 -

وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6].

3 -

وقال تعالى: {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5].

أخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[فرغَ اللَّه عز وجل إلى كل عبد من خمسٍ: مِنْ أجَلِهِ، ورزقهِ، وأثرِهِ، ومضجعه، وشقي أو سعيد](1).

وله شاهد عند ابن عساكر من حديث أنس بلفظ: [فرغ اللَّه من أربع: من الخَلْقِ، والخُلُق، والرِّزقِ، والأجل](2).

20 -

23. قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)}.

في هذه الآيات: إخبار اللَّه تعالى عن تمني المؤمنين نزول تشريع الجهاد، فلما أنزل اللَّه فرض القتال وأحكامه وجد كثير من الناس في قلوبهم الخوف والجبن من لقاء الأعداء، وإنما النجاة كل النجاة بالصدق مع اللَّه في القول والعمل وعند اللقاء، وإلا فالفتنة في الدين وتقطيع الأرحام، والضلوع في الظلم والآثام.

فقوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} . قال ابن زيد:

(1) حديث صحيح. انظر تخريج "السنة" - لابن أبي عاصم - (303 - 309)، ورواه أحمد وغيره.

(2)

حديث صحيح. انظر تخريج "السنة"(303 - 309) من حديث أنس -عند ابن عساكر- وكذلك صحيح الجامع الصغير (4079)، وله شواهد كثيرة.

ص: 318

(هؤلاء المنافقون طبع اللَّه على قلوبهم فلا يفقهون ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم). وقال قتادة: (كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين).

والمعنى كما قال ابن جرير: (ويقول الذين صدقوا اللَّه ورسوله: هلا نزلت سورة من اللَّه تأمرنا بجهاد أعداء اللَّه من الكفار. {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} يعني: أنها محكمة بالبيان والفرائض {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} رأيت الذين في قلوبهم شك في دين اللَّه وضعف ينظرون إليك يا محمد {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} خوفًا أن تغزيهم وتأمرهم بالجهاد مع المسلمين، فهم خوفًا من ذلك وتجنُّبًا عن لقاء العدو ينظرون إليك نظر المغشي عليه الذي قد صرع. وإنما عني بقوله {مِنَ الْمَوْتِ} من خوف الموت).

والآية كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77].

قال ابن القيم رحمه الله: (ولما كان جهادُ أعداءِ اللَّه في الخارج فرعًا على جهاد العبد نفسه في ذات اللَّه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المجاهد مَنْ جاهَدَ نَفْسَهُ في طاعة اللَّه، والمهاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نهى اللَّه عنه" (1). كان جهادُ النفس مُقَدَّمًا على جهاد العدو في الخارج، وأصلًا له، فإنه ما لم يجاهدْ نفسه أولًا لِتَفْعَلَ ما أُمِرَتْ به، وتترك ما نُهيت عنه، ويحارِبْها في اللَّه، لم يُمْكِنْهُ جهادُ عدوه في الخارج، فكيف يُمكِنُهُ جهادُ عدوه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلَطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يُحاربه في اللَّه، بل لا يمكنه الخروجُ إلى عدوِّه، حتى يُجاهد نفسَه على الخروج) (2).

وقوله: {فَأَوْلَى لَهُمْ} . قال قتادة: (هذا وعيد، فأولى لهم، ثم انقطع الكلام فقال: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ}). وفي رواية: (وعيد كما تسمعون).

وعن مجاهد: ({طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} قال: أمر اللَّه بذلك المنافقين. {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} قال: إذا جدّ الأمر).

(1) أخرجه أحمد (6/ 21) من حديث فضالة بن عبيد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: [ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة اللَّه، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب] وسنده جيد، وصححه ابن حبان (25)، والحاكم (1/ 11)، ووافقه الذهبي. انظر تحقيق زاد المعاد - الأرناؤوط - ص (6) - المجلد الثالث.

(2)

انظر: "زاد المعاد"(3/ 5 - 6) - ابن قيم الجوزية - تحقيق الأرناؤوط.

ص: 319

وعن قتادة: ({فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}. يقول: طواعية اللَّه ورسوله، وقول معروف عند حقائق الأمور خير لهم).

قال ابن كثير: (ثم قال مشجعًا {فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ}، أي: وكان الأولى بهم أن يَسمعوا ويُطيعوا، أي: في الحالة الراهنة، {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} ، أي: جَدَّ الحال، وحضر القتال، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} ، أي: أخلصُوا له النية، {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} ).

وقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} . قال قتادة: (يقول: فهل عسيتم كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب اللَّه، ألم يسفكوا الدم الحرام، وقطّعوا الأرحام، وعَصَوا الرحمن).

والمقصود: فهل عسيتم بإدباركم ونكولكم عن الجهاد، والصبر على مجالدة الأعداء، لحفظ الدين وحراسته في الأرض، أن تعودوا إلى ما كنتم عليه أيام الجاهلية من سفك الدماء، وقطع الأرحام، والإفساد في البلاد، وظلم العباد.

وفي السنة الصحيحة روائع من الأحاديث في آفاق ذلك:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[خَلَقَ اللَّه الخلقَ، فلما فرَغَ منه قامت الرحم فأخذت بحقوِ الرحمن عز وجل، فقال: مَه! فقالت: هذا مقامُ العائذِ بكَ من القطيعة، فقال تعالى: ألا ترضينَ أن أصِلَ من وَصَلَكِ، وأقطعَ من قَطَعَكِ؟ قالت: بلى. قال: فذاك. قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}](1).

الحديث الثاني: أخرج أبو داود والترمذي وأحمد بسند صحيح عن عبد اللَّه بن عمرو -يبلغُ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الراحمون يَرحمهم الرحمن، ارحمُوا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء، والرّحِمُ شُجْنَةٌ من الرحمن، مَنْ وصلها وصلتُه، ومن قَطَعها بَتَتُّه](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4830)، (4831)، (4832). وأخرجه مسلم (2554)، وأحمد (2/ 330)، وابن حبان (441).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4941)، والترمذي (1924)، وأحمد (2/ 160).

ص: 320

الحديث الثالث: أخرج أحمد وأبو داود بسند صحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: إنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [قال اللَّه عز وجل: أنا الرحمنُ، خلقتُ الرحم وشققتُ لها اسمًا من اسمي، فمن يَصِلها أصِلُهُ، ومن يقطعَعُها أقطعُهُ فأبُتُّه](1).

الحديث الرابع: أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [مَنْ سَرَّه أن يُبْسَطَ له في رزقِه، وأن يُنْسَأ له في أثره، فليصِل رحمه](2).

الحديث الخامس: أخرج البخاري وأحمد عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الرحمَ مُعَلَّقَةٌ بالعرش، وليس الواصِلُ بالمكافِئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطِعت رَحِمه وَصَلَها](3).

وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} .

قال القرطبي: ({أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ} أي طردهم وأبعدهم من رحمته. {فَأَصَمَّهُمْ} عن الحق. {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} أي قلوبهم عن الخير). وقال النسفي: {فَأَصَمَّهُمْ} عن استماع الموعظة {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} عن إبصارهم طريق الهدى).

24 -

28. قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)}.

في هذه الآيات: تنبيهُ اللَّه تعالى عباده إلى تَدَبُّرِ القرآن وَفَهْمِ ما فيه من المعاني والأحكام. وتحذيرٌ من الإعراض عنه واتباع ما يسوله الشيطان، ونَعْتٌ لحال المجرمين

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 194)، وأبو داود (1694)، والترمذي (1907).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5985) - كتاب الأدب، وكذلك (5986) من حديث أنس.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5991)، وأحمد (2/ 193)، وأبو داود (1697).

ص: 321

عند الفراق والملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، ذلك بما أسخطوا اللَّه وكرهوا رضوانه فأخزاهم وأحبط أعمالهم.

فعن قتادة: ({أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} إذن واللَّه يجدون في القرآن زاجرًا عن معصية اللَّه، لو تدبّره القوم فعقلوه، ولكنهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا عند اللَّه). قال القرطبي: ({أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} أي يتفهمونه فيعلمون ما أعدّ اللَّه للذين لم يتولّوا عن الإسلام. {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} أي بل على قلوب أقفال أقفلها اللَّه عز وجل عليهم فهم لا يعقلون). قال النسفي: (ونكرت القلوب لأن المراد على قلوب قاسية مبهم أمرها في ذلك، والمراد بعض القلوب وهي قلوب المنافقين، وأضيفت الأقفال إلى القلوب لأن المراد الأقفال المختصة بها، وهي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح، نحو الرّين والختم والطبع).

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} . قال قتادة: (يقول: زَيَّنَ لهم). قال ابن عباس: (هم أهل النفاق).

والمعنى: إن الذين رجعوا إلى الكفر وفارقوا الإيمان من بعد ما أكرمهم اللَّه بحجج الحق وأنار لهم سبيل النجاة، إنما زَيَّن لهم صنيعهم ذلك الشيطان وحسَّنه لهم.

وقوله: {إِوَأَمْلَى لَهُمْ} . أي: غرّهم وخدَعهم بما اقترح عليهم.

وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} . قال القاسمي: ({ذَلِكَ} إشارة إلى ما ذكر من ارتدادهم {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {قَالُوا} أي المنافقون {لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} أي لليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} أي في بعض أموركم، أو ما تأمرون به كالقعود عن الجهاد، والتظاهر على الرسول، أو الخروج معهم إن خرجوا، كما أوضح ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر: 11] وهم بنو قريظة والنضير الذين كانوا يوالونهم ويوادّونهم).

قلت: والآية ردٌّ على المترخصين اليوم من التجمعات الإسلامية الجلوس في المحافل التي يحكم بها بالشرائع الوضعية يدّعون الانتصار لبعض شعائر الإسلام حيث يخسرون غالبًا بالأصوات.

ص: 322

وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} . أي ما يخفون ويبيّتون، وما يداهنون به أهل الكفر ويمكرون. قال تعالى:{وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء: 81].

وقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} .

تخويف وتهديد، وتذكير ووعيد. قال ابن كثير:(أي كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم وَتَعَصَّت الأرواح في أجسادهم، واستخرجتها الملائكة بالعنف والقَهْرِ والضَّرب).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: 50].

2 -

وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93].

وفي المسند وسنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث البراء مرفوعًا: [وإن العبد الكافر (وفي رواية: الفاجر) إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد، سود الوجوه، معهم المسوح (1) من النار، فيجلسون منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من اللَّه وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السَّفُود الكثير الشعب من الصوف المبلول، فتقطع معها العروق والعصب] الحديث (2).

وأخرج ابن ماجة نحوه من طريق أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [فإذا كان الرجل السوء قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي

(1) جمع المِسح، وهو ما يلبس من نسيج الشعر على البدن تقشفًا وقهرًا للبدن.

(2)

أخرجه أحمد (4/ 287 - 288)، (4/ 295 - 296)، وأبو داود (2/ 281)، وأخرجه الحاكم (1/ 37 - 40)، وهو حديث صحيح.

ص: 323

ذميمةً، وأبشري بحميم وغسَّاق، وآخرَ من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج] (1).

وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} . أي: إنما تفعل بهم الملائكة ذلك من الإهانة والضرب عند النزع مقابل ما كانوا عليه مما يسخط اللَّه وكرهوا رضاه تعالى، فأبطل ثواب أعمالهم فلم تنفعهم حتى لو اشتملت على بعض الخير الظاهر.

29 -

31. قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)}.

في هذه الآيات: مَكْرُ اللَّه تعالى بالمنافقين وفضحهم، وإظهار علامات لنبيِّه تميزهم وتكشفهم، وسنة اللَّه في ابتلاء المؤمنين، وتمييز المجاهدين والصابرين والصادقين.

فقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} . قال ابن عباس: (هم أهل النفاق، وقد عرّفه إياهم في براءة فقال: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} وقال: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا}).

وقال ابن زيد: (هؤلاء المنافقون، والذي أسروا من النفاق هو الكفر). والأضغان: هو ما يُضمر من المكروه. قال الجوهري: (الضغن والضغينة: الحقد). قال السدي: ({أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} قال: غِشَّهم). وقال ابن عباس: (حسدهم). وقال قُطْرب: (عدوانهم). وكلها متقاربة متكاملة. قال القرطبي: (والمعنى: أم حسبوا أن لن يظهر اللَّه عداوتهم وحقدهم لأهل الإسلام).

وقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} . قال ابن زيد: (هؤلاء المنافقون وقد أراه اللَّه إياهم). والمقصود: ولو نشاء -يا محمد- لعرّفناكهم فلعرفتهم بعلاماتهم.

وقوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} . أي في فحواه ومعناه. واللَّحن: ما عُرِفَ

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (4262) - كتاب الزهد. انظر صحيح سنن ابن ماجة (3437)، وكذلك صحيح الجامع (1964).

ص: 324

بالمعنى ولم يُصَرَّح به. قال الرازي: (اللّحن: الخطأ في الإعراب. ولحنَ له: قال له قولًا يفهمه عنه ويخفى على غيره).

وفي صحيح البخاري من حديث أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [إنكم لتختصمون إليّ ولعلَّ بعضكم أَلحَنُ بحجته من بعض](1). أي أمضى بها في العرض والجواب لقوته على تصريف الكلام.

والمقصود: لقد ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم من العلامات ما يعرف به أهل النفاق، فقد بدا ذلك واضحًا له من أعمالهم وما انفلت على ألسنتهم.

وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} . قال ابن جرير: (لا يخفى عليه العامل منكم بطاعته والمخالف له، وهو مجازي جميعكم عليها).

وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} . أي: ولنختبرنكم بالأوامر والنواهي حتى يتميز المجاهدون والصابرون. قال ابن عباس: (أخبر اللَّه سبحانه المؤمنين أن الدنيا دار بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأمرهم بالصبر، وبشّرهم فقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} ثم أخبرهم أنه هكذا فعل بأنبيائه وصفوته لتطيب نفوسهم فقال: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} فالبأساء: الفقر، والضراء: السقم، وزلزلوا بالفتن وأذى الناس إياهم).

ومفهوم: {حَتَّى نَعْلَمَ} حتى نميّز، كما قال ابن عباس. وقال علي رضي الله عنه:(حتى نرى). قال القرطبي: (وهذا العلم هو العلم الذي يقع به الجزاء، لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم. فتأويله: حتى نعلم المجاهدين علم شهادة، لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا، فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة).

وقوله: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} . قال النسفي: (أسراركم). والمقصود: نختبرها ونظهرها. قال إبراهيم بن الأشعث: (وإن الفُضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا).

32 -

35. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (2680) - كتاب الشهادات، وانظر كذلك (2458).

ص: 325

بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)}.

في هذه الآيات: تهديدٌ شديد ووعيدٌ أكيد للكافرين الذين حاربوا اللَّه ورسوله، وصدوا عن سبيله. وحثٌّ للمؤمنين على طاعة اللَّه وطاعة رسوله وتعظيم هديه. وَوَعْدٌ للكافرين بالخذلان والحرمان، وللمؤمنين بالنصر والتمكين ومعية الرحمان.

فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} . قال ابن كثير: (يُخبر تعالى عمن كفر وصَدَّ عن سبيل اللَّه، وخالفَ الرسولَ وشاقَّه، وارتدَّ عن الإيمان من بعد ما تَبيَّن له الهدى: أنه لن يَضُرَّ اللَّه شيئًا، وإنما يضرُّ نفسَه ويخسَرُها يوم مَعادِها، وسَيُحْبِطُ اللَّه عمله فلا يثيبُه على سالِفِ ما تقدَّم من عَمَلِه الذي عَقَّبه بردّته مِثقَالَ بعوضةٍ من خَيرٍ، بل يحبطه ويمحَقُه بالكليّة، كما أن الحسنات يذهبن السيئات).

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} .

قال قتادة: (من استطاع منكم أن لا يبطل عملًا صالحًا عمله بعمل سَيِّئ فليفعل، ولا قوة إلا باللَّه، فإن الخير ينسخ الشّر، وإنّ الشّر ينسخ الخير، وإن ملاك الأعمال خواتيمها). وقال الحسن: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} : أي حسناتكم بالمعاصي). وقال الزُّهْرِي: (بالكبائر). وقال ابن جريج: (بالرياء والسمعة). وقال مقاتل: (بالمَنّ). وكلها متقاربة، والمقصود: إن من الآثام والمعاصي والمخالفات الشرعية، ما يبطل الطاعات والقربات والموافقات الإيمانية، فليحذر العبد من الوقوع فيما يبطل العمل. قال أبو العالية:(كانوا يرون أنه لا يضر مع الإسلام ذنب، حتى نزلت هذه الآية فخافوا الكبائر أن تحبط الأعمال).

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: إن الذين أنكروا توحيد اللَّه وصدّوا من أراد الإيمان باللَّه وبرسوله عن ذلك، ففتنوهم عنه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من ذلك، ثم ماتوا

ص: 326

وهم على ذلك من كفرهم. . . فلن يعفو اللَّه عما صنع من ذلك، ولكنه يعاقبه عليه ويفضحه به على رؤوس الأشهاد).

وقوله: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} . الوهن: الضّعف. والسَّلم: الصُلح. قال مجاهد: ({فَلَا تَهِنُوا}: لا تضعفوا). وقال قتادة: (أي لا تكونوا أولى الطائفتين تصرع). أو قال: (لا تكونوا أولى الطائفتين صرعت لصاحبتها ودعتها إلى الموداعة، وأنتم أولى باللَّه منهم واللَّه معكم).

وقوله: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} . قال مجاهد: (الغالبون). وقيل: (وأنتم الأعلون في الحجة). وقيل: (وأنتم أعلم باللَّه منهم). وقيل: (المعنى: وأنتم الغالبون لأنكم مؤمنون وإن غلبوكم في الظاهر في بعض الأحوال).

قلت: والآية تدل على منع الميل إلى الصلح أو مهادنة الكفار إن لم يكن بالمسلمين حاجة لذلك، والقرار للحاكم المسلم، كما بسطت ذلك في كتابي: السياسة الشرعية على منهج الوحيين القرآن والسنة الصحيحة، فلله الحمد والمنة.

وقوله: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} . أي بنصره وتوفيقه وتأييده، وهو بشارة عظيمة بالظفر. وقوله:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} . قال مجاهد: (لن ينقصكم). وقال ابن عباس: (لن يظلمكم أجور أعمالكم). والمقصود: وأنتم الغالبون أيها المؤمنون واللَّه مؤيدكم بنصره، ولن يبطل أعمالكم أو يسلبها أو ينقصها بل يوفيكم ثوابها وأضعافًا مضاعفة منها.

36 -

38. قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)}.

في هذه الآيات: تنبيهُ المؤمنين إلى غرور هذه الحياة الدنيا التي تشغل عن الإيمان والجهاد، والإنفاق في سبيل اللَّه. والتلميح بالعقاب والاستبدال، إن تولى أو ضعف الرجال.

ص: 327

فقوله: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} . قال القاسمي: (أي فلا تدعكم الرغبة في الحياة إلى ترك الجهاد).

وقوله: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} . أي: إنما يعود نفع الإيمان والتقوى عليكم، واللَّه غني عنكم ولا يطلب منكم شيئًا، وكذلك يعود إنفاق الأموال بالكامل عليكم لاستغنائه -تعالى- المطلق، فإن في الصدقات مواساة للفقراء ودفعًا لأحقاد صدورهم ونهوضًا بأحوال البلاد والعباد، وفي بذل الأموال للجهاد شوكة لكم في الأرض ودفع لغائلة الشرور والفساد.

وقوله: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} . {فَيُحْفِكُمْ} : أي فيجهدكم بالمسألة، ويلحّ عليكم بطلبها. ففي لغة العرب: أحفى فلان إذا أكثر الطلب والمسألة. قال الزمخشري: (الإحفاء المبالغة، وبلوغ الغاية في كل شيء. يقال: "أحفاه في المسألة" إذا لم يترك شيئًا من الإلحاح).

فالمعنى: إن يجهدكم -تعالى- بالمسألة ويلح عليكم بطلبها منكم تبخلوا بها وتمنعوها، ضَنًّا منكم بها، ولكنه عَلِمَ ضعفكم في ذلك فلم يفعل.

وقوله: {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} . أي أحقادكم، وكراهتكم لدينٍ يستهلك أموالكم. قال قتادة:(قد علم اللَّه أن في سؤال المال خروج الأضغان).

وقوله: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} . أي: ها أنتم أيها المؤمنون تدعون للنفقة في جهاد أعداء اللَّه ونُصرة دينه فمنكم من يبخل بالنفقة.

وقوله: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} . أي: ومن يبخل فإنما ينقص من أجره، ويعود وبال البخل عليه.

وقوله: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} . قال ابن زيد: (ليس باللَّه تعالى ذكره إليكم حاجة، وأنتم أحوج إليه).

وقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} . قال قتادة: (يقول: إن توليتم عن كتابي وطاعتي أستبدل قومًا غيركم. قادر واللَّه ربنا على أن يهلكهم، ويأتي من بعدهم من هو خير منهم). قال الطبري: {ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} : أي في البخل بالإنفاق في سبيل اللَّه).

ص: 328

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 39].

2 -

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54].

ومن روائع السنة الصحيحة في آفاق هذه الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج"، والطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم في "الحلية" بسند حسن لغيره عن ابن عمر مرفوعًا:[إنّ للَّه أقوامًا يختصُّهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نَزَعَها منهم، فحولها إلى غيرهم](1).

الحديث الثاني: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: [تلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه الآية يومًا: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}. قالوا: ومن يستبدل بنا؟ قال: فضرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ثم قال: هذا وقومه](2).

الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة أنه قال: [قال ناس من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا رسول اللَّه من هؤلاء الذين ذكر اللَّه: إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال: وكان سلمان بجنب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: فضرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَخِذَ سلمان وقال: "هذا وأصحابه. والذي نفسي بيده لو كان الإيمانُ مَنُوطًا بالثُّريَّا لتناولَهُ رجالٌ مِنْ فارِسَ"](3).

تم تفسير سورة محمد -سورة القتال- بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه الأربعاء 28 - جمادى الآخرة - 1426 هـ الموافق 3 - آب - 2003 م

(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج"(رقم - 5)، والطبراني في "الأوسط"(5295)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 115)، (10/ 215)، وانظر السلسلة الصحيحة (1692).

(2)

حديث صحيح. انظر سنن الترمذي (2598) - كتاب التفسير - سورة محمد صلى الله عليه وسلم. آية (38).

(3)

حديث صحيح. رواه الترمذي في سننه في كتاب التفسير عند هذه الآية. انظر صحيح سنن الترمذي (2599)، وفي الصحيحين الشطر الأخير منه.

ص: 329