المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٧

[مأمون حموش]

فهرس الكتاب

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌40 - سورة غافر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌41 - سورة فصلت

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌42 - سورة الشورى

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌43 - سورة الزخرف

- ‌ما ورد في ذكرها

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌44 - سورة الدخان

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌45 - سورة الجاثية

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌46 - سورة الأحقاف

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌47 - سورة محمد

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌48 - سورة الفتح

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌49 - سورة الحجرات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌50 - سورة ق

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌51 - سورة الذاريات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌52 - سورة الطور

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌53 - سورة النجم

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌54 - سورة القمر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌55 - سورة الرحمن

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌56 - سورة الواقعة

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌57 - سورة الحديد

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌58 - سورة المجادلة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌59 - سورة الحشر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

الفصل: ‌ منهاج السورة

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

إثبات وقعة القيامة، ونَعْتُ أهوال هذه الطامة.

2 -

ورود الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: السابقون وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال.

3 -

السابقون المقربون هم قليل في الأمم، وقد أعدّ اللَّه لهم في الجنة أجَلَّ النعم.

4 -

أصحاب اليمين في الظلال والثمار والنعيم، وهم جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين.

5 -

أصحاب الشمال في الأشقياء يوم الدين، في السموم والحميم وطعام الزقوم وعذاب الجحيم.

6 -

امتنان اللَّه على عباده بنعمة الخلق والنسل والزرع وماء الشرب ونار الوقود.

7 -

إقسام اللَّه تعالى بمواقع النجوم، أن القرآن العظيم في كتاب مكنون، لا تصل إليه الشياطين، وإنما الملائكة المقربون.

8 -

وصف لخظة الغرغرة والفراق، وعجز الحاضرين تخليص الروح من اللحاق.

9 -

ذكر أصناف الناس عند الاحتضار، فهم على ثلاثة أحوال.

10 -

السابقون المقربون وأصحاب اليمين في جنات النعيم، وأهل التكذيب بالحق في نار الجحيم.

* * *

ص: 557

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

12. قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)}.

في هذه الآيات: إثباتُ وقعة القيامة، ونَعْتُ أهوال هذه الطامة، ووصف أصناف الناس في ورودهم وما هم عليه من الحال، فهم السابقون وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال.

فقوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} . أي: إذا نفخ في الصور وقامت القيامة. قال الضحاك: ({إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}: يعني الصيحة). قال ابن عباس: (الواقعة والطامة والصاخة، ونحو هذا من أسماء القيامة، عظَّمَهُ اللَّه، وحذّره عباده).

قال ابن كثير: (الواقعة: من أسماء يوم القيامة، سُمِّيت بذلك لتحقّق كونِها ووجودِها، كما قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة: 15]).

وقوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} . قال قتادة: (أي ليس لها مثنوية، ولا رجعة، ولا ارتداد). والكاذبة مصدر كالعاقبة والعافية.

والمقصود: ليس لحدوثها مانع يمنع وقوعها، ولا صارف يصرفها، ولا دافع يدفعها.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج: 1 - 2].

2 -

وقال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الشورى: 47].

ص: 558

3 -

وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 73].

وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [كيف أنعم وصاحبُ الصور قد التقمه وأصغى سمعه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر بالنفخ؟ فقالوا: يا رسول اللَّه! وما تأمرنا؟ قال: قولوا: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل](1).

وقوله تعالى: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} . أي: خفضت أقوامًا ربما كانوا في الدنيا أعزاء، فأردتهم في نار جهنم. ورفعت أقوامًا ربما كانوا في الدنيا وضعاء، فأبلغتهم مساكن الأبرار في جنات النعيم.

قال قتادة: ({خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} يقول: تخلّلت بهل سهل وجبل، حتى أسمعت القريب والبعيد، ثم رفعت أقوامًا في كرامة اللَّه، وخفضت أقوامًا في عذاب اللَّه).

وعن عكرمة قال: (خفضت وأسمعت الأدنى، ورفعت فأسمعت الأقصى. قال: فكان القريب والبعيد من اللَّه سواء).

وقوله تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} . أي: إذا زلزلت الأرض زلزلة فَحُرِّكت تحريكًا.

قال ابن عباس: ({إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} يقول: زلزلها). وقال مجاهد: (زلزلت). وقال قتادة: (زلزلت زلزلة)، أو قال:(زلزلت زلزالًا).

وقوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} . قال ابن عباس: (يقول: فُتِّتَتْ فَتًّا).

وقال ابن زيد: (صارت الجبال كما قال اللَّه تعالى: {كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل: 14]).

والبسيسة عند العرب: الدقيق والسويق.

والمقصود: صارت الجبال كالدقيق المبسوس، وهو المبلول.

وقوله تعالى: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} . قال ابن عباس: (الهباء: الذي يطير من النار إذا اضطرمت، يطير منه الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئًا). وقال قتادة: (كيبيس الشجر، تذروه الرياح يمينًا وشمالًا). وقال الحارث، عن علي رضي الله عنه: ({هَبَاءً مُنْبَثًّا}

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2431)، كتاب التفسير. انظر صحيح سنن الترمذي (2585).

ص: 559

كرهَج الغُبار يسطع ثم يذهب، فلا يبقى منه شيء). وقال عكرمة:(المُنْبَثُّ: الذي قد ذرته الريح وبثَّته).

والمقصود: زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة، وذهابها وتسييرها ونسفها، وصيرورتها كالعهن المنفوش كما أفاد ابن كثير رحمه الله.

وقوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} . أي أصنافًا ثلاثة، كل صنف يشاكل ما هو منه، كما يشاكل الزوج الزوجة. قال عثمان بن عبد اللَّه بن سراقة (1):(اثنان في الجنة وواحد في النار. يقول: الحور العين للسابقين، والعُرُب الأتراب لأصحاب اليمين). وعن ابن عباس: ({وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} قال: هي التي في سورة الملائكة: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}). وقال مجاهد: ({وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} يعني فِرَقًا ثلاثة).

وقوله تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} . بيان للأصناف الثلاثة. فأصحاب الميمنة هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأصحاب المشأمة هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار. قاله السدي. والمشأمة هي الميسرة. وقال ابن جريج:(أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات، وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات).

وفي صحيح البخاري من حديث الإسراء عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [فلما فُتِحَ عَلَونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعدٌ على يمينه أَسْوِدة، وعلى يساره أَسْوِدة، إذا نظر قِبَل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى. فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح، قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نَسَمُ بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظرَ قَبِل شماله بكى](2).

وأما السابقون: فهم أهل السبق إلى الإيمان والعمل الصالح وحمل لواء الجهاد في سبيل اللَّه في كل زمان، لحراسة الدين وسياسة الدنيا به.

فقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} مبتدأ وخبر، أي: السابقون إلى طاعة اللَّه هم السابقون إلى رحمة اللَّه. ومن أقوال المفسرين في ذلك:

(1) هو ابن خالةِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري - فتح الباري - (1/ 458، 3/ 492، 6/ 374).

ص: 560

1 -

قال عثمان بن أبي سودة: ({وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}: أولهم رواحًا إلى المساجد، وأسرعهم خفوقًا في سبيل اللَّه).

2 -

قال محمد بن سيرين: (هم الذين صلوا إلى القبلتين، دليله قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ}).

3 -

عن محمد بن كعب القُرظي قال: (إنهم الأنبياء).

4 -

عن سعيد بن جبير قال: (السابقون إلى التوبة وأعمال البر، قال اللَّه تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] ثم أثنى عليهم فقال: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]).

5 -

عن ابن عباس قال: (إنهم أربعة: منهم سابق أمة موسى وهو حزقيل مؤمن آل فرعون، وسابق أمة عيسى وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية، وسابقان في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.

6 -

قال ابن جرير: (هم الذين سبقوا الناس أولًا إلى الإيمان باللَّه ورسوله).

قلت: والراجح عندي مما سبق أن السابقين هم حملة لواء الحق في كل زمان من كل أمة، الذين ربطوا مستقبلهم ومصيرهم بمستقبل هذا الحق وهذا الدين العظيم.

فقد أخرج أبو نعيم في "الحلية" وعنه الديلمي بسند جيد عن عبد اللَّه بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[في كل قرن من أمتي سابقون](1). وفي رواية: [لكل قرن من أمتي سابقون]. وفي طريق آخر من حديث أنس بلفظ: [لكل قرن سابق].

وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} . تأكيد لحسن استقبالهم يوم القيامة من ربهم، فإن الجزاء من جنس العمل.

13 -

26. قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 8)، وعنه الديلمي (2/ 333) معلقًا. وإسناده جيد. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2001)، وانظر للشواهد والروايات الأخرى صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (5048)، (5047).

ص: 561

وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)}.

في هذه الآيات: السابقون المقربون هم قليل في الأمم، وقد أعدّ اللَّه لهم أجمل وأجَلَّ النعم، فهم يتلذذون اليوم باللحم والفاكهة والشراب والحور وينعمون بأحسن العطاء والكرم.

فقوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} . فيه تفسيران اثنان:

التفسير الأول: قيل جماعة من الأمم الماضية وقليل من أمة محمد (ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم).

التفسير الثاني: قيل: (كلا الثلتين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمنهم من هو في أول أمته، ومنهم من هو في آخرها). روي ذلك عن أبي بكر رضي الله عنه.

والثلة في لغة العرب: من ثَلَلْثُ الشيء أي: قطعته. (والثلة: كالفرقة).

وقوله تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} . قال ابن عباس: (منسوجة بالذهب).

وقال عكرمة: (مشبكة بالدر والياقوت). قلت: والوضن في كلام العرب: النسج المضاعف، من وَضَنَ فلان الحجر والآجُرَّ إذا وضعه بعضه فوق بعض فهو موضون.

والمقصود: أن سرر السابقين في الجنة محكمة النسج والتشبيك.

وقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} . أي: وجوه بعضهم إلى بعض، ليس أحدٌ وراء أحد.

قال النسفي: ({مُتَّكِئِينَ} حال من الضمير في "على"، وهو العامل فيها، أي استقروا عليها متكئين {عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} ينظر بعضهم في وجوه بعض ولا ينظر بعضهم في أقفاء بعض، وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق وصفاء المودة، و {مُتَقَابِلِينَ} حال أيضًا).

وقوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} . أي: يخدمهم ويقوم على راحتهم وطلباتهم أطفال مُبَقّون أبدًا على شكل الولدان لا يتحولون عنه، وهم روعة في الأنس

ص: 562

والجمال. قال مجاهد: ({مُخَلَّدُونَ}: لا يموتون). وقال ابن جرير: (ولدان على سنّ واحدة، لا يتغيرون ولا يموتون).

أخرج أبو نعيم في "الحلية" بسند حسن عن أنس بن مالك قال: [سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين لم يكن لهم ذنوب يعاقبون بها فيدخلون النار، ولم تكن لهم حسنة يجازون بها فيكونون من ملوك الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هم خدم أهل الجنة](1). ورواه ابن مندة بنحوه عن أبي مالك بلفظ: [أطفالُ المشركين هم خَدَمُ أهل الجنة]. قال القرطبي: (والمقصود: أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة، والنعمة إنما تتم باحتفاف الخدم والولدان بالإنسان).

وقوله تعالى: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} . الأكواب: جمع كوب، والمراد الآنية التي لا عُرى لها ولا خراطيم، والأباريق: جمع إبريق، ولها عرى وخراطيم. وسمّي الإبريق كذلك لأنه يبرق لونه من صفائه. والمعين الجاري من ماء أو خمر. قال قتادة:({وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} أي: من خمر جارية).

والمقصود: أنّ اللَّه سبحانه زادهم على سرورهم وهم على سررهم شرابًا من الخمر الجارية من العيون، أو الظاهرة للعيون من المعاينة.

وقوله: {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} . قال قتادة: (ليس لها وجع رأس).

والمراد: لا يعتري شاربها الصداع كما كان يعتري شارب خمر الدنيا، فإن الاسم واحد والطعم واللون واللذة شيء آخر.

وقوله: {وَلَا يُنْزِفُونَ} . قرأها قراء المدينة والبصرة بفتح الزاي "لا يُنْزَفون" أي: لا تنزف عقولهم. وقرأها قراء الكوفة بكسر الزاي: "لا يُنْزفون" أي: لا ينفد شرابهم، وكلا المعنيين حق.

وقوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} . أي: ويطوف هؤلاء الولدان المخلدون على السابقين بألوان الفاكهة التي يشتهونها لأنفسهم ويتخيرونها من ثمار الجنة، وكذلك بلحم طير مما لذّ وطاب واشتهته الأنفس.

(1) صحيح لشواهده. أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 308)، وبنحوه أبو يعلى في "مسنده"(1011 - 1012)، والبزار (232). وبنحوه روى ابن مندة في "المعرفة"(2/ 261/ 1)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1468).

ص: 563

روى الحسن بن عرفة عن ابن مسعود مرفوعًا: (إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويًا)(1).

قال ابن القيم رحمه الله: (تضمنت النصوص أن لهم فيها الخبز واللحم والفاكهة والحلوى وأنواع الأشربة من الماء واللبن والخمر، وليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء، وأما المسميات فبينها من التفاوت ما لا يعلمه البشر).

وقوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} . قرئ بالرفع والنصب والجر. أما الجر فقد قرأه حمزة والكسائي، وهو عندئذ معطوف على {بِأَكْوَابٍ}. والمقصود: يتنعمون بأكواب وفاكهة ولحم وحور. أو يكون معطوفًا على {جَنَّاتِ} ، أي هم في جنات النعيم وفي حور. كأنه قال: وفي معاشرة حور - على تقدير حذف المضاف.

وقرأ الأشهب العقيلي والنخعي بالنصب، والتقدير: ويزوّجون حورًا عينًا.

والجمهور على الرفع، أي: وعندهم حور عين، وهو الأرجح، لأنه لا يُطاف عليهم بالحور.

والحور: جمع حَوْراء، وهي النقية بياض العين، الشديدة سوادها. والعين: جمع عيناء، وهي النجلاء العين في حُسْن.

وقوله تعالى: {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} . أي: هنّ في صفاء بياضهن وروعة حسنهن، كاللؤلؤ المصون المحفوظ.

وقوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: ثوابًا لهم من اللَّه تعالى على أعمالهم التي كانوا عليها في الدنيا، وعوضًا من صبرهم على الطاعة والبر.

وقوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا} . قال ابن عباس: (باطلًا ولا كذبًا).

وقال مجاهد: (شتمًا ومأثمًا). واللغو من الكلام هو العبث الخالي من المعنى، والتأثيم مصدر أثَّمْتَه، أي قلمت له أثمت. قال محمد بن كعب:({تَأْثِيمًا} أي لا يؤثِّمُ بعضُهم بعضًا). والخلاصة: لا يكون فيها العبث من الكلام ولا الفاحش ولا ما يحمل القبح والإثم.

وقوله تعالى: {إِلَّا قِيلًا سَلَامًا} . قال ابن عباس: (أي يحيِّي بعضهم بعضًا). وقيل: تحييهم الملائكة أو يحييهم ربهم عز وجل. ونصب {قِيلًا} بـ {يَسْمَعُونَ} أو هو

(1) إسناده جيد - كما ذكر الشيخ وانلي في كتابه: "صفة الجنة". طعام الجنة وشرابها (124).

ص: 564

استثناء منقطع، والتقدير: لكن يقولون قيلًا أو يسمعون. و {سَلَامًا سَلَامًا} منصوبان بالقول، أي: إلا أنهم يقولون الخير. أو على المصدر، أي: إلا أن يقول بعضهم لبض سلامًا. أو يكون وصفًا لـ {قِيلًا} ، والسلام الثاني بدل من الأول، والمعنى: إلا قيلًا يسلم فيه من اللغو - حكاه القرطبي.

قال ابن كثير: ({لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}، أي: لا يسمعون في الجنة كلامًا لاغيًا، أي: غَثًّا خاليًا من المعنى، أو مشتملًا على معنى حقير أو ضعيف، كما قال:{لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} [الغاشية: 11]، أي: كلمة لاغية {وَلَا تَأْثِيمًا} ، أي: ولا كلامًا فيه قُبح، {إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} ، أي: إلا التسليم منهم بعضهم على بعض، كما قال تعالى:{وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [يونس: 10] وكلامهم أيضًا سالمٌ من اللَّغو والإثم).

27 -

40. قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)}.

في هذه الآيات: العطفُ على ذكر السابقين المقربين، بذكر الأبرار أصحاب اليمين، فهم ينعمون بالثمار والظلال والفاكهة والحور العين، وهم جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين.

فقوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} . أي: فما حال أصحاب اليمين؟ وكيف سيكون مآلهم؟ قال القرطبي: (والتكرير لتعظيم شأن النعيم الذي هم فيه).

قلت: وأصحاب اليمين هم من أُخِذَ نحو اليمين، وأعطي كتابه بيمينه يوم الحشر في أرض المحشر.

وقوله تعالى: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} . أي في ثمر سدر موقّر حملًا لا شوك فيه. فإن السّدر -عادة- شجر له شوك، وإنما قد خضد اللَّه تعالى شوكه في الجنة فجعل مكان كل شوكة ثمرة.

وقوله تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} . الطلح شجر عظام بأرض الحجاز، واحدته

ص: 565

طلحة، ومنضود: أي: متراكم الثمر. قال ابن عباس: (يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل).

وقيل: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} هو الموز بعضه على بعض، كما ذكر ابن عباس أيضًا. وكذلك في عُرف أهل اليمن، فإنهم يسمون الموز الطلح.

وقوله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} . أي: وظل دائم لا تنسخه الشمس فتذهبه.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إن في الجنة لشجرةً يسير الراكب الجوادَ المضمَّرَ السريع في ظلها مئة عام ما يقطعها](1). زاد ابن جرير في رواية عنده: (اقرؤوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}).

وفي جامع الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [يقول اللَّه: أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطرَ على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]. وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها، واقرؤوا إن شئتم:{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} . وموضِعُ سَوْطٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، واقرؤوا إن شئتم:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]] (2).

وفيه بإسناد صحيح عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنّ في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها، واقرؤوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ}](3).

وقوله تعالى: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} . أي جارٍ لا ينقطع. قال الثوري: (يعني يجري في غير أخدود). وأصل السّكب الصبّ. قال القرطبي: (أي وماء مصبوب يجري الليل والنهار في غير أخدود لا ينقطع عنهم. وكانت العرب أصحاب بادية وبلادٍ حارة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدَّلو والرِّشاء فوعدوا في الجنة خلاف ذلك، ووصف لهم أسباب النزهة المعروفة في الدنيا، وهي الأشجار وظلالها، والمياه والأنهار واطّرادها).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4881)، ومسلم (2826)، وأحمد (2/ 418)، وأبو نعيم في "صفة الجنة"(403). وأخرجه الطبري (33378) وله طرق. وانظر صحيح الجامع (2121).

(2)

حديث حسن. انظر صحيح سنن الترمذي (2625)، في أبواب التفسير، سورة الواقعة.

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح الترمذي (2626)، وصحيح البخاري (4881)، وقد مضى نحوه.

ص: 566

وقوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} . أي: وهم في فاكهة وفيرة متنوعة الألوان والمذاق، ليست بالقليلة العزيزة كما كانت في بلادهم، بل هي مستمرة عبر فصول السنة المختلفة، لا انقطاع لها في وقت من الأوقات كانقطاع فواكه الصيف فى الشتاء، ولا يمنع مانع من شوك أو حائط أو بعد من تناولها، بل كما قال تعالى:{قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23]، وكما قال جل ذكره:{وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14].

وعن قتادة: ({لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} قال: لا يمنعهم من تناولها عودٌ ولا شوكٌ ولا بُعْد).

وفي الصحيحين عن عبد اللَّه بن عباس قال: [خَسَفَت الشمس على عَهْد النبي صلى الله عليه وسلم فَصَلّى فقالوا: يا رسول اللَّه، رأيناك تناوَلُ شيئًا في مَقامِكَ ثم رَأَيْناكَ تَكَعْكَعْتَ، فقال: إني أُرِيتُ الجنةَ فتناولتُ منها عُنقودًا ولو أَخَذْتُه لأكلتمْ منه ما بقيت الدنيا](1).

وقوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} . أي: عالية وطيئة ناعمة. قال النسفي: ({وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} رفيعة القدر، أو نضدت حتى ارتفعت، أو مرفوعة على الأسرة).

وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا} . وصف لما أعدّ اللَّه لهم من الأبكار وأجمل النساء. قال سعيد بن جبير يحدّث عن ابن عباس: (هن من بني آدم، نساءكن في الدنيا، ينشئهن اللَّه أبكارًا عذارى عربًا).

و{عُرُبًا} : جمع عَرُوب، وهي المرأةُ المُتَحبِّبَةُ المتودِّدَةُ إلى زوجها. وكانت العرب تقول للمرأة إذا كانت حسنةَ التَبَعُّل: إنها لَعَرِبَة. وقوله: {أَتْرَابًا} أي: على ميلاد واحد، وهو جمع "تِرْب" وهو ما كان من سِنٍّ واحدة. قال سعيد بن جبير:(العُرُب اللاتي يشتهين أزواجهنَّ). وقال ابن عباس: (العُرُب العواشق لأزواجهن، وأزواجهن لهن عاشقون).

قال الحافظ ابن كثير: ({إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ}، جرى الضميرُ على غير مذكورٍ، لكن لما دلَّ السياقُ، وهو ذِكرُ الفُرُشِ على النساء اللاتي يُضَاجَعْنَ فيها، اكتفى بذلك عن ذكرهنَّ، وعاد الضميرُ عليهنّ).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (748)، كتاب الأذان، ورواه مسلم (907)، وأحمد (1/ 298)، وأبو داود (1189)، والنسائي (3/ 146 - 148)، ومالك (1/ 186 - 187).

ص: 567

وقوله تعالى: {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} . أي: خُلِقْنَ لأصحاب اليمين، أو: ادُّخِرن لأصحاب اليمين. قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: أنشأنا هؤلاء اللواتي وصف صفتهنّ من الأبكار للذين يؤخذ بهم ذات اليمين من موقف الحساب إلى الجنة). وقال القرطبي: (قيل: الحور العين للسابقين، والأتراب العرب لأصحاب اليمين).

وقال القاسمي: ({لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} متعلق بـ "أنشانا" أو "جعلنا" أو صفة لـ {أَبْكَارًا} أو خبر لمحذوف، مثل هنّ). وقيل: ويجوز أن يكون قوله: {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} متعلقًا بما قبله، وهو قوله:{أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي: في أسنانهم.

وفي آفاق هذا المعنى أحاديث من السنة الصحيحة:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي زُرْعَة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إنَّ أوَّلَ زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البَدْرِ، والذين يلونهم على أشدَّ كوكب دُرَّيٍّ، في السماء إضاءة، لا يبولون، ولايتغَوَّطونَ ولا يَتْفِلُونَ ولا يمتخطِون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المِسْكُ، ومجامِرُهُم الأَلُوَّةُ، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خَلْق رَجُلٍ واحد، على صورة أبيهم آدم، سِتُّون ذراعًا، في السماء](1).

وفي رواية بالضم: (على خُلُقِ رجل واحد).

الحديث الثاني: أخرج أحمد بإسناد على شرط مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [يدخُلُ أهل الجَنَّةِ الجنَّةَ جُردًا مُردًا بيضًا جِعَادًا مُكَحَّلين، أبناءَ ثلاثٍ وثلاثين، وهم على خَلْقِ آدم سِتُّونَ ذِراعًا في عَرْضِ سَبْعَةِ أذرُع](2).

الحديث الثالث: أخرج الترمذي بإسناد حسن عن معاذ بن جبل: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [يَدْخُلُ أهلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ جُردًا مُردًا مُكَحَّلينَ أبناء ثلاثٍ وثلاثين سنة](3).

وقوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} . أي: جماعةٌ من الأولين، وجماعة من الآخرين. وثلّة مرفوع على الابتداء، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره "هم".

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (3246)، ومسلم (2834)، وأحمد (316).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (2/ 295)، وإسناده على شرط الإمام مسلم.

(3)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن -حديث رقم- (2545) بإسناد حسن في الشواهد.

ص: 568

والمقصود: لأصحاب اليمين ثُلَّتان - القول الأول: ثلة من الأولين من الأمم الماضية، وثلة من الآخرين من هذه الأمة.

والقول الثاني: كلا الثلتين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال القاسمي: (أي جماعة وأمة من المتقدمين في الإيمان، وممن جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان من هذه الأمة. والكثرة ظاهرة لوفرة أصحاب اليمين في أواخرهم دون السابقين). واللَّه تعالى أعلم.

41 -

56. قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)}.

في هذه الآيات: استكمال للمشهد يوم القيامة بذكر الفريق الثالث -فريق الشقاء- بعد ذكر الفريقين -السابقين وأصحاب اليمين- في السعداء. فهؤلاء أهل الشقوة في طعام الزقوم، وشراب الحميم، وعذاب الجحيم، والخذلان والحرمان من النعيم.

فقوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} . أي: فأيّ شيء هم أصحاب الشمال، وكيف ستكون أحوالهم في الدار الآخرة. قال قتادة:(أي ماذا لهم، وماذا أعدّ لهم).

وقوله تعالى: {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} . تفسير ونعت لصفاتهم في ذلك اليوم.

والسموم: الهواء الحار، والحميم: الماء الساخن المغلي. قال القرطبي: (والسموم الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن. والمراد هنا حرّ النار ولفحها. {وَحَمِيمٍ} أي ماء حارٌّ قد انتهى حرّه، إذا أحرقت النار أكبادهم وأجسادهم فزعوا إلى الحميم، كالذي يفزع من النار إلى الماء ليطفئ به الحر، فيجده حميمًا حارًا في نهاية الحرارة والغليان).

وقوله تعالى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} . قال ابن عباس: (هو ظل الدخان).

ص: 569

وقال ابن زيد: (ظل الدخان دخان جهنم).

والمقصود: أنهم يفزعون من شديد السَّموم إلى الظل فإذا هو ظل من يحموم، أي من دخان جهنم الأسود المحرق.

وفي التنزيل نحو ذلك: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 29 - 34].

وقوله تعالى: {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} . قال قتادة: (لا بارد المنزل، ولا كريم المنظر).

وعن الحسن: (ليس طيّب الهُبوب ولا حسن المنظر).

والمقصود: فزعوا إلى ظل {لَا بَارِدٍ} بل هو حار، لأنه من دخان شفير جهنم. {وَلَا كَرِيمٍ} أي وما هو بعذب. وكل ما لا خير فيه فليس بكريم - كذا في كلام العرب.

وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} . هو سرّ بلوغهم ذلك المقام المهين، وذلك الخزي العظيم. فلقد استحقوا هذه العقوبة لأنهم كانوا في الدنيا مُتَنَعِّمِين بالحرام. قال ابن عباس:({إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} يقول: منعمين).

والمترف: المنعَّم. وقال السّدي: ({مُتْرَفِينَ} أي مشركين).

وقوله تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} . قال مجاهد: (يُصِرّون: يدمنون).

وقال ابن زيد: (الحنث العظيم: الذنب العظيم. قال: وذلك الذنب العظيم الشرك، لا يتوبون ولا يستغفرون).

وقوله تعالى: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} . أي قد جمعوا إلى الشرك الكفر بالبعث والحساب، وإنكار المعاد والقيامة.

وقوله تعالى: {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)} . استبعاد أكبر لبعث الآباء والأجداد.

وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} . أي: قل لهم -يا محمد- إن الأولين من آبائكم والآخرين منكم سيجمعون إلى عرصات القيامة لا نُغادر منهم أحدًا. قال ابن كثير: ({لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أي مُؤقَّت بوقت مُحَدَّد، لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص). قال القرطبي: (ومعنى الكلام القَسَم، ودخول اللام في قوله تعالى: {لَمَجْمُوعُونَ} هو دليل القسم في المعنى، أي إنكم لمجموعون قَسَمًا حَقًا خلاف قسمكم الباطل).

ص: 570

وفي التنزيل نحو ذلك: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 103 - 105].

أخرج الحاكم بسند صحيح عن عمرو بن ميمون الأودي قال: [قام فينا معاذ بن جبل فقال: يا بني أود! إني رسولُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم: تعلمون المعادَ إلى اللَّه، ثم إلى الجنة أو إلى النار، وإقامةٌ لا ظعن فيه، وخلودٌ لا موت، في أجسادٍ لا تموت](1).

وفي صحيح مسلم من حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا: [ثم ينفخ في الصور. . ثم لا يبقى أحدٌ إلا صعق، ثم يرسل اللَّه تعالى مطرًا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال: أيها الناس! هلمّوا إلى ربكم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}](2).

وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} .

أي: ثم إنكم معشر الضالين عن الحق والهدى، المكذبين بالبعث، مدعوُّون إلى طعام من شجر كريه المنظر، كريه الطعم، تملؤون منه بطونكم. قال ابن كثير:(وذلك أنهم يُقْبَضُون ويُسجَرون حتى يأكلوا من شجر الزقوم، حتى يملؤوا منها بطونهم).

وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن ابن عباس، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [لو أنَّ قَطْرَةً من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه](3).

وقوله تعالى: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} . أي: ثم إنكم لشاربون على الزقوم -أو على الأكل- من الماء المغلي الذي قد اشتد غليانه. قيل: وهو صديد أهل النار. قال القرطبي: (أي يورثهم حَرَّ ما يأكلون من الزقوم مع الجوع الشديد عطشًا فيشربون ماء يظنون أنه يزيل العطش فيجدونه حميمًا مُغْلى).

وقوله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} . الهيم: الإبل العطاش التي لا تَرْوى لداء

(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (1/ 83)، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (1668).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2940)، وأحمد في المسند (2/ 166).

(3)

حديث صحيح. انظر تخريج "مشكاة المصابيح"(5683)، وصحيح الجامع الصغير (5126).

ص: 571

يصيبها. قاله ابن عباس. وقال عكرمة: (هي الإبل المِراض). وقال الضحاك: (الهيم الإبل يصيبها داء تعطش منه عطشًا شديدًا). وواحدها أَهْيَم والأثنى هَيْماء، ويقال لذلك الداء الهُيَام. وروي أيضًا عن ابن عباس:(فيشربون شرب الرمال التي لا ترْوى بالماء). قال المهدوي: (ويقال لكل ما لا يروى من الإبل والرمل أهيم وهيماء). قال النسفي: (والمعنى أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل، فإذا ملؤوا منه البطون سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم، فيشربونه شرب الهيم، وإنما صح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة، وصفتان متفقتان، لأن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة وقطع الأمعاء أمر عجيب، وشربهم له على ذلك كما يشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضًا، فكانتا صفتين مختلفتين).

وقوله تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} . تهكّم بهم. أي: هذا الموصوف هو رزقهم الذي يُعَدّ لهم، وهو ضيافتهم عند نزولهم عند ربهم في ذلك اليوم، قال القاسمي: (وفيه مبالغة بديعة، لأن النزل ما يعدّ للقادم عاجلًا إذا نزل، ثم يؤتى بعده بما هو المقصود من أنواع الكرامة، فلما جعل هذا، مع أنه أمر مهول، كالنزل، دلّ على أن بعده ما لا يطيق البيان شرحه. وجعله نزلًا، مع أنه ما يكرم به النازل، متهكمًا، كما في قوله:

وكنا إذا الجبارُ بالجيش ضافَنا

جعلنا القنا والمُرْهقاتِ له نُزْلًا).

57 -

74. قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً

ص: 572

وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}.

في هذه الآيات: امتنانُ اللَّه تعالى على عباده بنعمة الخلق لهم، وللماء الذي يعقب التناسل بينهم، وللزرع وماء الشرب والنار التي يوقدون عليها طعامهم.

فقوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} . تقرير من اللَّه تعالى للمعاد، وتكذيب لأهل الزَّيغ والإلحاد. الذين استبعدوا البعث بقولهم:{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} . قال ابن كثير: ({نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ}، أي: نحق ابتدأنا خَلْقَكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا، أفليس الذي قدر على البَدْأةِ بقادر على الإعادة بطريق الأَوْلى والأحرى، فلهذا قال: {فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ}، أي: فهلا تُصَدِّقُون بالبعث! ).

وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} . حجة أخرى على المشركين منكري البعث والحساب، فإن اللَّه تعالى متصف بالخلق دومًا وقد أنشأكم من ماء مهين. قال ابن جرير:(يقول تعالى ذكره لهؤلاء المكذبين بالبعث: أفرأيتم أيها المنُكرون قُدرة اللَّه على إحيائكم من بعد مماتكم النطف التي تمنون في أرحام نسائكم، أأنتم تخلقون تلك أم نحن الخالقون).

وقوله تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} الآية.

قال مجاهد: ({قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ}: المستأخر والمستعجل). قال القاسمي: (أي كتبنا على كل نفس ذوقَه. أي: ومن كان سبيله ذلك، فشأنه أن يرهب من نزوله، ويتأهَّب لما يخوّف به من بعده. والجملة مقررة لما قبلها بإيذان أنهم في قبضة القدرة، فلا يغترون بالإمهال، بدليل ما قدره عليهم من الموت. وفي قوله تعالى: {بَيْنَكُمُ} زيادة تنبيه، كأنه بين ظهرانيهم، ثم أكّد ما قرره بقوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي بمغلوبين {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} أي بعد مهلككم، فنجيء بآخرين من جنسكم {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} من صور وأشكال أخرى، فكيف نعجز عن إعادتكم؟ ).

وقوله: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} . قال مجاهد: (في أي خلق شئنا).

قال النسفي: (وعلى أن ننشئكم في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها، يعني أنا نقدر على الأمرين جميعًا: على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم، فكيف نعجز عن إعادتكم! ).

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} . قال مجاهد: ({النَّشْأَةَ

ص: 573

الْأُولَى}: إذ لم تكونوا شيئًا). وقال قتادة: (هو خلق آدم). قال القرطبي: ({وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} أي إذ خُلقتم من نُطْفة ثم من عَلَقة ثم من مُضْغة ولم تكونوا شيئًا. . . {فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} أي فهلّا تذكرون. وفي الخبر: عجبًا كل العجب للمكذّب بالنشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى، وعجبًا للمصدّق بالنشأة الآخرة وهو لا يسعى لدار القرار).

وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} .

احتجاج آخر على منكري البعث والمعاد. أي: أخبروني عن أرضكم حين تطرحون فيها البَذْر، أأنتم تنبتونه زرعًا فيكون فيه السنبل والحبّ، أم ليس لكم إلا إلقاء البذر بعد شق الأرض، ثم الإنبات وإخراج الحب والسنبل علينا؟ ! إنكم تقرون للَّه بذلك، فيكف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم؟

أخرج ابن حبان في صحيحه، والبزار والطبري بسند حسن عن أبي هريرة قال:[قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا تقولنَّ: زَرَعْتُ ولكن قل: حرثتُ. قال أبو هريرة: ألم تسمع إلى قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}](1).

وقوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} .

أي: لو نشاء لجعلنا زرعكم هشيمًا متكسرًا، لا ينتفَعُ به في مطعم وغذاء، فظلتم تعجبون بحطامه وتندمون مما حلّ بكم.

فعن ابن عباس: ({فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} قال: تعجبون). وقال عكرمة: (تلاومون).

وقال الحسن: (تندمون). وأصل التفكه في كلام العرب: التعجب أو التندم. قال الرازي: (و"تفكه" تَعَجَّبَ. وقيل: تَنَدَّم. قال اللَّه تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي تَنْدَمون. وتفكَّهَ بالشيء تمتَّعَ به). وقوله: {فَظَلْتُمْ} أصله: "فظَلَلْتُم" وحذفت اللام الأولى للتخفيف.

وفي الآية تنبيه للمشركين على أمرين:

1 -

ما أولاهم به من النِّعم في زرعهم إذ لم يجعله حطامًا ليشكروه.

2 -

ليعتبروا بذلك في أنفسهم، كما أنه يجعل الزرع حطامًا إذا شاء، وكذلك

(1) حديث حسن. أخرجه البزار (1289)"كشف" وابن حبان (5723)، والطبري (33492)، وأبو نعيم (8/ 267)، والبيهقي (6/ 138)، وفي "الشعب"(5217)، ورجاله ثقات.

ص: 574

يهلكهم إذا شاء ليتعظوا فينزجروا - حكاه القرطبي.

وقوله تعالى: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} . أي: لو جعلناه حُطامًا لظَلْتمُ تفكَّهونَ في المقالة، تُنَوِّعُون كلامَكُم، فتقولون تارةً:{إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} . أي مُلْقَون للشر معذبون لا يثبت لنا مال. {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُون} أي محدودون -لا حَظَّ لنا-.

فعن عكرمة: ({إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} قال: إنا لمولَع بنا). وقال قتادة: ({إِنَّا لَمُغْرَمُونَ}: أي معذّبون). وقال مجاهد: (مُلْقون للشر). واختار ابن جرير أن معناه: إنا لمعذّبون، لأن الغرام عند العرب العذاب.

وعن مجاهد: ({بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} قال: حُورِفنا فحرمنا). والمحروم الممنوع من الرزق، أو هو ضد المرزوق -وهو المحارِف-. قال ابن جرير:(وقوله: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} يعني بذلك تعالى ذكره أنهم يقولون: ما هلك زرعنا وأصبنا به من أجل {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} ولكنا قوم محرومون، يقول: إنهم غير مجدودين، ليس لهم جَدّ (1)).

وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} .

قال ابن عباس: (المزن: السماء والسحاب). وقال ابن زيد: (المزن: السحاب اسمها).

والمعنى: أفرأيتم أيها الغافلون هذا الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من السحاب فوقكم إلى قرار الأرض، أم نحن منزلوه لكم.

وقوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} . الأجاج من الماء: هو ما اشتدت ملوحته.

والمقصود: لو شئنا جعلنا ذلك الماء النازل لكم من المزن ملحًا فلم تنتفعوا منه بشراب ولا غرس ولا زرع، فهلّا شكرتم ربكم أن أنزله لكم عَذْبًا تشربون وتنتفعون.

وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} . أي: أخبروني عن النار التي تظهرونها بالقدح من الزناد، فتستخرجونها من أصلها. قال النسفي:(والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر، ويسمون الأعلى الزند والأسفل الزندة، شبهوهما بالفحل والطروقة).

وقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} . أي: أأنتم خلقتم شجرتها أم نحن الخالقون لها ابتداء. قال ابن كثير: (أي: بل نحن الذين جعلناها مُودَعًة في

(1) أي حظ.

ص: 575

موضِعها، وللعرب شجرتان، إحداهما: المَرْخُ، والأخرى: العَفَار، إذا أُخِذَ منهما غصنان أخضران فَحُكَّ أحدُهما بالآخر تناثَرَ مِن بينهما شَرَرُ النار).

وقوله: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} . أي: نحن جعلنا نار الدنيا موعظة للنار الكبرى في الآخرة. قال مجاهد: ({تَذْكِرَةً}: للنار الكبرى التي في الآخرة).

أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [نارُكُم جُزْءٌ مِنْ سبعين جُزْءًا من نار جهنم. قيل: يا رسول اللَّه، إنْ كانت لكافِيةٌ، قال: فُضِّلَت عليهن بِتسعةٍ وستين جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرّها](1).

وقوله: {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} . قال ابن عباس: (المقوين: المسافرين). وقال الضحاك: (أي منفعة للمسافرين، سمّوا بذلك لنزولهم القَوَى وهو القفر).

وقال الفرّاء: (إنما يقال للمسافرين: مُقْوين إذا نزلوا القِىّ وهي الأرض القفر التي لا شيء فيها). وفي لغة العرب: منزلٌ قَوَاء: لا أنيس به، وأَقْوَت الدار وقَوِيت إذا خلت من سكانها. وأقوى الرجل إذا سافر، أي نزل القَواء والقِيّ. وقال مجاهد:({وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ}: للحاضر والمسافر، لكل طعام لا يُصْلِحه إلا النار). وقال أيضًا: (المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار باللَّه منها). وقال ابن زيد: (للجائعين في إصلاح طعامهم).

قلت: ويبدو أن الآية تصلح للجميع، لأن النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير، والعرب تقول: بات فلان القَواء وبات القفرَ إذا بات جائعًا على غير طُعْم. قال القشيري: (وخص المسافر بالانتفاع بها لأن انتفاعه بها أكثر من منفعة المقيم، لأن أهل البادية لابد لهم من النار يوقدونها ليلًا لتهرب منهم السباع، وفي كثر من حوائجهم).

وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} . أي: فنزه اللَّه الذي خلق الأضداد: الماء العذب والماء الأجاج، فجعل هذا في الأنهار وذاك في البحار، وخلق النار فجعلها في الدنيا مصلحة للعباد، وجعلها كذلك زاجرًا لهم في المعاد.

فعظّم ربك -يا محمد- ونزهه عما أضافه إليه المشركون من الأنداد، والعجز عن البعث يوم التناد.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه -حديث رقم- (3265)، كتاب بدء الخلق. وانظر صحيح سنن الترمذي (2088).

ص: 576

75 -

82. قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}.

في هذه الآيات: إقسامُ اللَّه تعالى بمواقع النجوم، أنّ القرآن العظيم في كتاب مكنون، لا تصل إليه الشياطين، وأنه تنزيل رب العالمين، فكيف يجحد بآيات اللَّه بعد ذلك الجاحدون.

فقوله: {فَلَا أُقْسِمُ} فيه أكثر من تأويل:

التأويل الأول: "لا" صلة، والمعنى: فأقسم، بدليل قوله:{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} . وهو قول أكثر المفسرين.

التأويل الثاني: "لا" بمعنى "ألا" للتنبيه، والمراد التنبيه على فضيلة القرآن ليتدبروه، وأنه ليس بشعر ولا سحر ولا كهانة كما زعم المشركون.

التأويل الثالث: "لا" زائدة، والتقدير: أقسم بمواقع النجوم، ويكون جواب القسم:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} . ذكره سعيد بن جبير.

التأويل الرابع: "لا" ليست زائدة، بل لها معنى، وإنما يؤتى بها في أول القسم إذا كان مُقْسَمًا به على منفيّ. كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت:[لا، واللَّه ما مَسَّت يدُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدَ امرأة قطّ](1).

فتقدير الكلام في الآية: لا. أقسمُ بمواقع النجوم، ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة، بل هو قرآن كريم. قال الفراء:(هي نفي، والمعنى: ليس الأمر كما تقولون، ثم استأنف {أُقْسِمُ}).

التأويل الخامس: "فَلأُقْسِم" بغير ألف بعد اللام، وهي قراءة الحسن، والتقدير: فلأنا أقسم بذلك.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2713)، ومسلم (1866)، وغيرهما.

ص: 577

قلت: وكل ما سبق محتمل يدل على وجوه الإعجاز الكثيرة لهذا القرآن العظيم، ويفيد أن المعنى قَسَمٌ من اللَّه عز وجل، الذي يقسم بما شاء من خلقه، وهو دليل على عظمته.

وقوله تعالى: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} . فيه أكثر من تأويل:

التأويل الأول: بمنازل القرآن. قال ابن عباس: (نزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرق في السنين بعد. قال: وتلا ابن عباس هذه الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} قال: نزل متفرّقًا).

وقال عكرمة: (إن القرآن نزل جميعًا، فوضع بمواقع النجوم، فجعل جبريل يأتي بالسورة، وإنما نزل جميعًا في ليلة القدر). وعن مجاهد: ({فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} قال: هو محكم القرآن).

التأويل الثاني: مواقع النجوم: مساقطها ومغاربها. قال مجاهد: ({بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}: قال: في السماء، ويقال مطالعها ومساقطها). وقال قتادة: ({فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}: أي مساقطها).

التأويل الثالث: مواقع النجوم: منازلها. قاله عطاء بن أبي رباح.

التأويل الرابع: مواقع النجوم: انتثارها وانكدارها. قال الحسن: (انكدارها وانتثارها يوم القيامة).

التأويل الخامس: هي الأنواء المعروفة في الجاهلية. قال الضحاك: (هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون إذا مُطِروا قالوا مُطِرنا بِنَوْء كذا).

قلت: الراجح أن المراد مساقط النجوم ومغايبها في السماء، يدل على ذلك لفظ {بِمَوَاقِعِ} وهو جمع موقع، والموقع المفعل: من وقع يقع موقعًا وهو اختيار شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله.

وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} . قال ابن كثير: (أي: وإن هذا القسم الذي أقسمتُ به لقَسَمٌ عظيمٌ، لو تعلمونَ عظمَتَه لَعَظَّمْتُم المُقسم به عليه).

وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} . قيل: إن الهاء تعود على القرآن، أي إن القرآن لقسم عظيم، قاله ابن عباس وغيره. وقيل: ما أقسم اللَّه به عظيم {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} ذكر المقسم عليه. قال القرطبي: (أي أقسم بمواقع النجوم إن هذا القرآن قرآن كريم، ليس

ص: 578

بسحر ولا كهانة، وليس بمفترى، بل هو قرآن كريم محمود، جعله اللَّه تعالى معجزة لنبيّه صلى الله عليه وسلم، وهو كريم على المؤمنين، لأنه كلام ربهم، وشفاء صدورهم، كريم على أهل السماء، لأنه تنزيل ربّهم وَوَحيْه. وقيل:{كَرِيمٌ} أي غير مخلوق. وقيل: {كَرِيمٌ} لما فيه من كريم الأخلاق ومعاني الأمور. وقيل: لأنه يُكَرّم حافظه، ويُعظّم قارئه).

وقوله تعالى: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} . أي مصون عند اللَّه محفوظ من الباطل.

قال ابن عباس: (الكتاب الذي فى السماء). وقال جابر بن زيد وابن عباس أيضًا: (هو اللوح المحفوظ).

وقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} . قال ابن عباس: (الكتاب الذي في السماء).

والمقصود: أن القرآن الذي في اللوح المحفوظ لا يمسّه إلا الملائكة المقربون، ولا سبيل إلى أن يتناوله الشياطين. قال ابن زيد:(زعموا أن الشياطين تنزّلت به على محمد، فأخبرهم اللَّه أنها لا تقدر على ذلك، ولا تستطيعه، وما ينبغي لهم أن ينزلوا بهذا، وهو محجوب عنهم، وقرأ قول اللَّه: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 211 - 212]).

فالحديث عن القرآن الكريم الذي في الكتاب المكنون أي اللوح المحفوظ - عند اللَّه تعالى.

وهذه طائفة من أقوال المفسرين في ذلك:

1 -

عن ابن عباس قال: (إذا أراد اللَّه أن ينزل كتابًا نسخته السفرة، فلا يمسه إلا المطهرون، قال: يعني الملائكة).

2 -

عن سعيد بن جبير: ({لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} قال: الملائكة الذين في السماء).

3 -

عن أبي العالية: ({لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} قال: ليس أنتم، أنتم أصحاب الذنوب).

4 -

عن قتادة: ({لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} ذاكم عند ربّ العالمين، فأما عندكم فيمسه المشرك النجس، والمنافق الرَّجِس).

ص: 579

قلت: وأما من ذهب إلى أن المراد منع المحدث أو الجنب أو الحائض من مسّ المصحف فإن الآية ليست في هذا السياق من جهة، والأحاديث في ذلك كلها ضعيفة من جهة أخرى. ويدحضها قول النبي صلى الله عليه وسلم:[المؤمن لا ينجس].

ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة: [أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة وهو جنب، فانْسَلَّ فذهب فاغتسل، فتفقّدَه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء قال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: يا رسول اللَّه، لقيتَني وأنا جُنُبٌ فكرِهْتُ أن أجالسك حتى أغتسل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: سبحان اللَّه، إن المؤمن لا ينجس](1).

وفي صحيح مسلم أيضًا عن حذيفة، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لقيه وهو جُنُبٌ، فحادَ عنه فاغْتَسل، ثم جاء فقال: كنتُ جُنُبًا قال: [إن المُسْلِمَ لا ينجُس](2).

وفيه عن عائشة قالت: [كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر اللَّه على كل أحيانِه](3).

وأما ما رواه الإمام مالك في الموطأ عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزم: [أنّ في الكتاب الذي كتبه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لِعَمْرو بن حزم: أن لا يمَسَّ القرآنَ إلا طاهر](4).

فمفهومه أن أهل القرآن هم أهل الطهارة، فأما المؤمن فلا ينجس، ومن ثمّ فلا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو.

ففي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عمر: [أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو](5).

وقد روي عن أبي حنيفة جواز مسّ المحدث المصحف، وكذلك عن جماعة من السَّلف منهم ابن عباس والشَّعبي وغيرهما.

وقوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . قال جابر بن زيد: (القرآن من ذلك الكتاب).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (371)، كتاب الحيض. باب الدليل على أن المسلم لا ينجس.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (372)، كتاب الحيض. الباب السابق.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (373)، كتاب الحيض. باب ذكر اللَّه تعالى في حال الجنابة وغيرها.

(4)

حديث صحيح. أخرجه مالك في الموطأ (1/ 199)، ورواه أبو داود من حديث الزهري.

(5)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (2990)، ومسلم (1869)، وأبو داود (2613)، وأحمد (2/ 7)، وابن حبان (4713)، وغيرهم.

ص: 580

قال ابن كثير: (أي: هذا القرآن منزَّلٌ من رب العالمين، وليس هو كما يقولون: إنه سِحْرٌ، أو كَهانَةٌ، أو شِعْرٌ، بل هو الحق الذي لا مِرْيَةَ فيه، وليس وراءه حقّ نافع).

وقوله تعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} . قال ابن عباس: (يقول: مكذّبون غير مصدقين). وقال مجاهد: (تريدون أن تُمالِئوهم فيه، وتركنوا إليهم).

والمدهِنُ الذي ظاهره خلاف باطنه، كأنه شبِّه بالدهن في سهولة تليّنه وتغيره.

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: أفبهذا القرآن الذي أنبأتكم خبره، وقصصت عليكم أمره أيها الناس أنتم تلينون القول للمكذّبين به، ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر).

وقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} . أي: وتجعلون شكركم للَّه تعالى على امتنانه عليكم بالرزق والخير والعافية هو التكذيب والجحود والنكران!

قال الحسن: (بئسما أخذ قوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب اللَّه إلا التكذيب به).

أو قال: (خسر عبد لا يكون حظه من كتاب اللَّه إلا التكذيب).

يروي ابن جرير بسنده عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله عنه:({وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} قال: شكركم. قال: شكركم، تقولون مُطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا).

ثم روى بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} قال: (ما مُطر الناس ليلة قطّ، إلا أصبح بعض الناس مشركين يقولون: مُطرنا بنوء كذا وكذا. قال: وتجعلون شكركم أنكم تكذبون).

قلت: وهذان الأثران عن علي وابن عباس رضي الله عنهما يصلحان شاهدين للحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن ابن عباس قال: [مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فنزلت هذه الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} حتى بلغ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}](1).

والنازل هو قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} ، والباقي من الآيات نزل

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (73)، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء.

ص: 581

بغير ذلك، ولكن اجتمعا في وقت النزول، فذكر الجميع من أجل ذلك، كما ذكر النووي عن ابن الصلاح.

وقد ورد هذا المعنى كذلك في الصحيحين من حديث زَيْد بن خالدٍ الجُهَنيّ قال: [صلّى لنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثْرِ سماءٍ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمِنٌ بي وكافر، فأما من قال: مُطِرْنا بفضل اللَّه ورحمته فذلك مؤمن بي كافرٌ بالكوكب، وأما مَنْ قال: بنَوْءِ كذا وكذا، فذلك كافِرٌ بي ومؤمنٌ بالكوكب](1).

83 -

87. قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)}.

في هذه الآيات: وصفُ لحظة الغرغرة والفراق، وعجز الحاضرين أمام المحتضر عن إنقاذ الروح من اللحاق.

فقوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} . أي: فهلا إذا بلغت النفس أو الروح الحلقوم عند الاحتضار، والحلقوم ممر الطعام والشراب. كما قال تعالى:{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 26 - 30].

وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} . قال ابن عباس: (يريد من حضر من أهل الميت ينتظرون متى تخرج نفسه). قال ابن كثير: ({وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ}، أي: إلى المحتضر وما يُكابده من سكرات الموت). وقال القرطبي: ({وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} أمري وسلطاني. وقيل: تنظرون إلى الميّت لا تقدرون له على شيء. وقيل: المعنى فهلّا إذا بلغت نفس أحدكم الحلقوم عند النزع وأنتم حضور أمسكتم روحه في جسده، مع حرصكم على امتداد عمره، وحبكم لبقائه. وهذا ردّ لقولهم: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (846)، كتاب الأذان، وكذلك (1038)، وأخرجه مسلم (71)، ومالك (1/ 192)، وأحمد (4/ 117)، وغيرهم.

ص: 582

إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]. وقيل: هو خطاب لمن هو في النزع، أي إن لم يك ما بك من اللَّه فهلّا حفظت على نفسك الروح).

وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} . أي بالقدرة والعلم والرؤية. وقيل: بملائكتنا.

قال ابن جرير: (يقول: ورسلنا الذين يقبضون روحه أقرب إليه منكم).

وقوله: {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} . أي: لا ترون حضور هؤلاء الملائكة. وقال النسفي: ({وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ}: لا تعقلون ولا تعلمون). أي قرب قدرة اللَّه ورؤيته.

وفي سنن ابن ماجة بسند صحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الميِّتُ تَحْضُرُه الملائكة. فإذا كان الرجل صالحًا، قالوا: اخْرُجي أيتها النفس الطيِّبة! كانت في الجسد الطيِّب. . . . وإذا كان الرجل السوء قال: اخرُجي أيتها النفس الخبيثة! كانت في الجسد الخبيث] الحديث (1).

وقوله تعالى: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا} . أي: فهلّا أرجعتم هذه الروح إلى جسدها ومنعتم مغادرتها إن كنتم غير محاسبين بأعمالكم.

قال ابن عباس: ({غَيْرَ مَدِينِينَ}: يقول: غير محاسبين). وقال ابن زيد: (كانوا يجحدون أن يُدانوا بعد الموت، قال: وهو مالك يوم الدين، يوم يُدان الناس بأعمالهم، قال: يدانون: يحاسبون). وعن الحسن: ({فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} غير مبعوثين يوم القيامة، ترجعونها إن كنتم صادقين). وقال أيضًا: (غير مصدقين أنكم تُدانون وتبعثون وتجزون، فَردُّوا هذه النَّفس). وعن مجاهد: ({غَيْرَ مَدِينِينَ}: غير مُوقنين). وقال ميمون بن مهران: (غير معذبين مقهورين).

وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . قال القاسمي: (أي في أنكم غير مسوسين، مربوبين مقهورين).

88 -

96. قوله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (4262)، كتاب الزهد. انظر صحيح سنن ابن ماجة (3437).

ص: 583

مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}.

في هذه الآيات: ذكر أصناف الناس عند الاحتضار، فهم على ثلاثة أحوال: السابقون المقربون، ثم يليهم أصحاب اليمين، وكلاهما في جنة النعيم. ثم أهل التكذيب بالحق أهل الجحيم.

فقوله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} . أي: فأما إن كان هذا المتوفّى من السابقين المقربين الذين قَرَّبَهم اللَّه من جواره في جنانه. {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} . قال ابن عباس: (يقول: راحة ومستراح). وقال: (يعني بالريحان: المستريح من الدنيا).

وعن مجاهد: ({فَرَوْحٌ} قال: راحة. {وَرَيْحَانٌ} قال: الرزق). وقال سعيد بن جبير: (الرَّوْح: الفرح، والرَّيحان: الرزق). وقال الضحاك: (الرَّوح: المغفرة والرحمة، والرَّيحان: الاستراحة). وقال مجاهد أيضًا: ({فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ}: جنّةٌ ورَخاء). وقال قتادة: (فروحٌ ورحمة).

والخلاصة: إن كان المتوفى من أهل القربات: الذين فعلوا الواجبات والمستحبّات، وتركوا المحرّمات والمكروهات وبعض المباحات، حصل له من جميع ما سبق ذكره من الرحمة والراحة، والرخاء والاستراحة، والفرح والسرور، والرزق الطيب الموفور، {وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} .

أخرج أبو داود والترمذي بسند صحيح عن عائشة قالت: [سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ}](1). أي برفع الراء.

وفي سنن ابن ماجة من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [إنّ الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحًا قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرُجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج](2).

وفي مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي بسند صحيح من حديث البراء مرفوعًا:

(1) صحيح الإسناد. أخرجه أبو داود (3991)، والترمذي (2938)، والنسائي في "التفسير"(586)، وأحمد (6/ 64)، وأبو يعلى (4515)، والحاكم (2/ 236).

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (4262) كتاب الزهد، وهو جزء من حديث أطول.

ص: 584

[فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مدّ بصره](1).

وفي مسند أحمد، عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك، عن الزُّهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال؟ [إنما نَسَمةُ المؤمن طائرٌ يعلَقُ في شجر الجنة، حتى يَرْجِعَه اللَّه إلى جسده يوم يَبْعثه](2).

وأصل ذلك المعنى في صحيح مسلم من حديث عبد اللَّه بن مسعود -في شأن أرواح الشهداء- قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [أرواحهم في جَوْف طَيْرٍ خُضْرٍ، لها قناديلُ مُعَلَّقةٌ بالعرش تَسْرحُ من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل] الحديث (3).

وقوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} .

أي: وأما إن كان المتوفى من أصحاب اليمين، فإن الملائكة تبشره عند احتضاره أن سلامٌ عليك، ورافقتك السلامة حتى تلحق بأصحاب اليمين فإنك منهم، وهم يسلمون عليك.

قال البخاري: ({فَسَلَامٌ لَكَ}: أي: مُسَلَّمٌ لكَ إنَّكَ من أصحاب اليمين، وأُلْغِيَتْ إنَّ وهوَ مَعْناها، كما تقول: أنْتَ مُصَدّقٌ، مسافِرٌ عَنْ قليل، إذا كان قد قال: إني مسافرٌ عن قليل، وقد يكون كالدعاءِ له كقولِكَ: فَسَقْيًا من الرجال. إنْ رَفَعْتَ -السّلامُ- فهو من الدعاء).

وعن قتادة: ({فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}. قال: سَلِمَ من عذاب اللَّه، وسَلّمت عليه ملائكة اللَّه). وقال عكرمة: (تُسَلِّم عليه الملائكة، وتخبرُه أنه من أصحاب اليمين). وهو كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32].

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 287)، وأبو داود (2/ 281)، والنسائي (1/ 282)، ورواه ابن ماجة (1/ 469)، والحاكم (1/ 37 - 40).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 455)، ورجاله رجال الشيخين سوى الشافعي، وهو ثقة إمام.

(3)

حديث صحيح. رواه مسلم (1887) من حديث ابن مسعود، كتاب الإمارة، في أثناء حديث طويل.

ص: 585

والشق الثاني من المعنى ذكره النسفي جيث قال: ({فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}. أي فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، أي يسلمون عليك، كقوله: {إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}).

وقوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} . أي: وأما إن كان المحتضر من أهل التكذيب بالحق، وأهل اتباع الهوى والضلال، فإن الضيافة ستكون من الشراب المغلي الذي قد انتهى حره، في أرجاء النار التي تغمره، فبئس الشراب وبئس الرزق وبئس المستقر.

وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} . قال مجاهد: (الخبر اليقين).

قال القرطبي: (أي هذا الذي قصصناه محض اليقين وخالصه. وجاز إضافة الحق إلى اليقين وهما واحد لاختلاف لفظهما. قال المبرِّد: هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين، فهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند الكوفيين. وعند البصريين: حق الأمر اليقين أو الخبر اليقين. وقيل: هو توكيد).

وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} . أي: فنزّه اللَّه تعالى عن النقائض والعيوب، فاذكره وعظّمه حق الذكر والتعظيم. قال القاسمي:({فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي: نزهه عما يصفونه به من الأباطيل، وما يتفوهون به من الأضاليل، قولًا وعملًا).

أخرج الترمذي والنسائي بسند حسن عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قال: سبحان اللَّه العظيم وبحمده غُرِست له نخلةٌ في الجنّة](1).

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان اللَّه وبحمده، سبحان اللَّه العظيم](2).

وفي صحيح سنن ابن ماجة عن حذيفة بن اليمان: [أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول إذا

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (3464)، (3465)، والنسائي (827)، وابن حبان (826)، والحاكم (1/ 501)، وفيه عنعنة أبي الزبير، لكن له شاهد أخرجه الحاكم (1/ 512) من حديث أبي هريرة، وصححه، ووافقه الذهبي.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6406)، (6682)، (7563)، ومسلم (2694)، والترمذي (3467)، والنسائي (830)، وابن ماجة (3806)، وأحمد (2/ 232).

ص: 586

ركع: "سبحان ربي العظيم" ثلاث مَرَّات. وإذا سجد قال: "سبحان ربي الأعلى" ثلاث مَرَّات] (1).

تم تفسير سورة الواقعة بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه ظهر السبت 28 - شعبان - 1426 هـ الموافق 1 - تشرين الأول - 2005 م

* * *

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (882). انظر صحيح سنن ابن ماجة -حديث رقم- (725)، وصحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (774).

ص: 587