المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٧

[مأمون حموش]

فهرس الكتاب

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌40 - سورة غافر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌41 - سورة فصلت

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌42 - سورة الشورى

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌43 - سورة الزخرف

- ‌ما ورد في ذكرها

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌44 - سورة الدخان

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌45 - سورة الجاثية

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌46 - سورة الأحقاف

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌47 - سورة محمد

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌48 - سورة الفتح

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌49 - سورة الحجرات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌50 - سورة ق

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌51 - سورة الذاريات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌52 - سورة الطور

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌53 - سورة النجم

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌54 - سورة القمر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌55 - سورة الرحمن

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌56 - سورة الواقعة

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌57 - سورة الحديد

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌58 - سورة المجادلة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌59 - سورة الحشر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌46 - سورة الأحقاف

وهي سورة مكية، وعدد آياتها (35).

‌موضوع السورة

خبر إهلاك أهل الأحقاف المكذبين وتهديد قريش بمصير الأمم الهالكين

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

انتصار اللَّه تعالى للقرآن الكريم، وإثبات الخلق للسماوات والأرض وما بينهما بالحق، وتقريع المشركين في عبادتهم آلهة من دون اللَّه الملك العظيم.

2 -

اتهام الكفار الحق بالسحر، وافتراؤهم على سيد البشر، وتجرد الرسول من علم الغيب وتحذير قومه مغبة الاستمرار على الكبر.

3 -

قَرْعُ النبي صلى الله عليه وسلم يَهود المكر بحجة اللَّه البالغة، واعتزاز بعض المشركين بالإفك والباطل، وثناء اللَّه على المخلصين له المستقيمين على منهاجه ووعدهم جنات النعيم.

4 -

الوصية بالإحسان إلى الوالدين، وتأمل نعم اللَّه عند الأربعين، وسؤال العبد ربه إصلاح حاله وذريته وعونه على العمل الصالح.

ص: 267

5 -

ارتباط الشرك بالعقوق هو الخسران المبين، ومشهد الخزي والذل أمام نار جهنم للكافرين.

6 -

خبر عاد مع نبيّهم هود عليه الصلاة والسلام، وعاقبة التكذيب الهلاك بالريحِ العاتية ليذوقوا مغبة الشرك والكبر والآثام.

7 -

تهديد قريش أن ينزل بها ما نزل بالأمم المكذبة السالفة، ولم تنفعهم الأموال والحصون والأولاد، ولم ينتفعوا بالأسماع والأبصار والأفئدة.

8 -

إهلاك القرى حول مكة مشهد لقريش للاعتبار، وما نفعتهم آلهتهم ساعة الاضطرار.

9 -

خبر لقاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع فريق من الجن، ورجوع القوم إلى قومهم ينذرونهم.

10 -

التقريع على منكري البعث والمعاد، والتصوير لمشهد الخزي والهوان للكفار أمام جهنم، وحثّ النبي صلى الله عليه وسلم على الصبر كما صبر أولو العزم من الرسل.

* * *

ص: 268

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

6. قوله تعالى: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)}.

في هذه الآيات: ثناءُ اللَّه تعالى على نفسه وكتابه، وخلقه السماوات والأرض بالحق والكفار في غفلة عن أمره، وتقريع اللَّه المشركين في عبادتهم آلهة ضعيفة من دونه.

فقوله تعالى: {حم} - مفهومه التحدي والإعجاز، شأن الحروف المقطعة التي سبقت في أوائل بعض السور. أي: هذا القرآن من جنس هذه الأحرف، ومع ذلك لا يستطيع أحد مهما أوتي من البلاغة والفصاحة أن يعارضه بمثله.

وقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} -انتصار لهذا القرآن وثناء عليه، فهو الكتاب المعجز المنزل من اللَّه العزيز في انتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبيره وشرعه وقدره.

وقوله: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} . قال ابن جرير: (ما أحدثنا السماوات والأرض فاوجدناهما خلقًا مصنوعًا، وما بينهما من أصناف العالم إلا بالحق. يعني: إلا لإقامة الحق والعدل في الخلق).

ص: 269

وقوله: {وَأَجَلٍ مُسَمًّى} . قال ابن عباس: (يعني القيامة). وهو الأجل الذي تنتهي إليه السماوات والأرض. وقيل: إنه الأجل المضروب لكل مخلوق.

وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} . قال ابن كثير: (أي: لاهُونَ عما يراد بهم، وقد أنزل إليهم كتابٌ وأرسل إليهم رسولٌ، وهم معرضون عن ذلك كله، أي: وسيعلمون غِبَّ ذلك).

وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} .

أي: قل -يا محمد- لمشركي قومك أرأيتم أوثانكم وآلهتكم التي تدعون من دون اللَّه، عرفوني أي مكان استقلوا بخلقه من الأرض؟ !

وقوله: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} . أي: أم لهم شركة مع اللَّه في خلق السماوات.

وقوله: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} . قال النسفي: (أي من قبل هذا الكتاب وهو القرآن، يعني أن هذا الكتاب ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك، وما من كتاب أنزل من قبله من كتب اللَّه إلا وهو ناطق بمثل ذلك، فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير اللَّه).

وقوله: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} . أي: أو بقية من علم ثابت من علوم الأولين يؤكد صحة منهجكم.

ومن أقوال المفسرين في هذه الآية:

1 -

قال ابن عباس: ({أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} قال: خط، كان يخطه العرب في الأرض).

قال ابن عياش: (الخط: هو العيافة).

2 -

قال مجاهد: ({أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ}: أو أحدٍ يأثُر علمًا). وقال العوفي عن ابن عباس: (أو بَيِّنَةٍ من الأمر). وقرأ بعضهم: {أَوْ أَثَرَةٍ مِنْ عِلْمٍ} ، أي: أو عِلم صحيح يأثرونه عن أحد ممن قبلهم.

3 -

عن قتادة: ({أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} قال: خاصة من علم). وقال أبو بكر بن عياش: (بقية من علم).

ص: 270

وكل هذه الأقوال متقاربة متكاملة مفادها أن الأثارة: هي البقية من العلم الذي ثَبَتَ في كتب الأولين، فطالبهم اللَّه تعالى بإخراج مثل هذه الوثيقة التي تدل على صحة النهج الذي هم عليه، ولذلك ختم الآية بقوله:{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} .

توبيخ للمشركين لقبح اختيارهم في عبادتهم من لا يستحيب إذا دعي، ولا يسمع إذا نودي. قال القرطبي:({وَمَنْ أَضَلُّ} أي لا أحد أضل وأجهل {مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وهي الأوثان. {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} يعني لا يسمعون ولا يفهمون، فأخرجها وهي جماد مخرج ذكور بني آدم، إذ قد مثلتها عبدتها بالملوك والأمراء التي تُخدم).

وقوله تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} .

أي: وإذا حشر الناس يوم القيامة كان المعبودون من الأصنام والطواغيت والشياطين أعداء الكفار الذين صرفوا لهم العبادة، وتبرؤوا من عبادتهم.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81 - 82]. أي: سيخونونهم أحوج ما يكونون إليهم.

2 -

وقال تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25].

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: [إذا كان يوم القيامة أذَّنَ مؤذن: لِيَتَّبعْ كل أمة ما كانت تعبد. فلا يبقى أحد كان يعبد غير اللَّه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يَبْقَ إلا مَنْ كان يَعْبد اللَّه بَرٌّ أو فاجِرٌ وغُبَّراتُ أهْلِ الكتاب، فَيُدْعى اليَهودُ، فيقال لهم: ما كنتم تَعْبدون؟ قالوا: كُنّا نَعْبُدُ عُزيرًا ابنَ اللَّه، فَيُقال لهم: كذبتم ما اتَّخَذَ اللَّهُ من صاحبةٍ ولا وَلَدٍ، فماذا تبغون؟ فقالوا: عَطِشنا رَبَّنا فاسْقِنا، فَيُشارُ ألا تَرِدون! فَيُحْشَرون إلى النار كأنها سرابٌ يَحْطِمُ بَعْضُها بَعْضًا فيتساقطون في النار، ثم يُدْعى النَّصارى فيُقال لهم: ما كنتم تَعبدون؟

ص: 271

قالوا: كُنّا نَعْبُدُ المسيحَ ابن اللَّه، فَيُقال لهم: كَذَبْتُم ما اتَّخَذَ اللَّه من صاحِبة، فيقال لهم: ماذا تَبْغُون؟ فكذلك مِثْلَ الأوَّل. . . .] الحديث (1).

7 -

9. قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)}.

في هذه الآيات: اتهامُ الكفار الحق بالسحر، وافتراؤهم الكذب على سيد البشر، وبلاع الرسول المبين لقومه ينذرهم مغبة الاستمرار على الكبر.

فقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} -يعني القرآن. قال النسفي: ({بَيِّنَاتٍ} جمع بينة، وهي الحجة والشاهد، أو واضحات مبينات).

وقوله: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} . قال القاسمي: (أي: بادهوه بالجحود أول ما سمعوه، من غير إجالة فكر، ولا إعمال روية).

وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} .

المعنى: أم يقولون تقوّله محمد، {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} على سبيل الفرض، فإنكم لا تقدرون دفع عذاب اللَّه عني، فكيف أفتري على اللَّه لأجلكم.

وقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} . قال مجاهد: (أي تقولونه). وقيل: (تخوضون فيه من التكذيب). قال القرطبي: (والإفاضة في الشيء: الخوض فيه والاندفاع). وفي التنزيل: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} -أي دفعتم.

وقوله: {كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} . تهديد ووعيد، وترهيب شديد. ونصب {شَهِيدًا} على التمييز. والمقصود: كفى باللَّه أن يعلم صدقي ويشهد أنكم مبطلون مكذبون.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4581) - كتاب التفسير، في أثناء حديث طويل، وانظر كذلك الحديث (22) - كتاب الإيمان، ورواه مسلم في الصحيح (1/ 118).

ص: 272

وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . أي: الغفور لمن تاب وأناب إلى طاعته، الرحيم بعباده المؤمنين الطائعين.

وقوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} . قال ابن عباس: (يقول: لست بأول الرسل). وفي رواية: (ما كنت أول رسول أرسل). قال ابن كثير: (أي: لستُ بأول رسول طَرَقَ العالم، بل قد جاءت الرسلُ من قبلي، فما أنا بالأمر الذي لا نظيرَ له حتى تستنكِروني وتستبعدوا بعثتي إليكم، فإنه قد أرسل اللَّه قبلي جميعَ الأنبياء إلى الأمم.

وقوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} . قال الحسن: (أما في الآخرة فمعاذَ اللَّه قد علم أنه في الجنة، ولكن قال: لا أدري ما يُفعل بي ولا بكم في الدنيا، أُخرَجُ كما أُخرِجَت الأنبياءُ قبلي؟ أم أُقتَلُ كما قُتلت الأنبياء من قبلي؟ ولا أدري أيُخْسَفُ بكم أو تُرمَون بالحجارة؟ ).

وقوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} . أي: قل لهم -يا محمد-: ما أتبع في دعوتي لكم وفي عملي وقولي إلا وحي اللَّه الذي يوحيه إلي.

وقوله: {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} . قال القاسمي: (أي منذر عقاب اللَّه على كفركم به، أبان لكم إنذاره وأبان لكم دعاءه إلى ما فيه صلاحكم وسعادتكم).

10 -

14. قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)}.

في هذه الآيات: قَرْعُ النبي صلى الله عليه وسلم يهود المكر بحجة اللَّه البالغة، واعتزاز بعض المشركين بالإفك والباطل، وثناء اللَّه على المخلصين له المستقيمين على منهاجه ووعده لهم جنات النعيم وحسن المستقر.

أخرج الإمام أحمد في المسند، والطبراني والحاكم وابن حبان، بسند على شرط

ص: 273

الشيخين عن عوف بن مالك قال: [انطلق النبي صلى الله عليه وسلم يومًا وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيد لهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلًا منكم يشهدون أنه لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه يحط اللَّه عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليه. قال: فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثم ردّ عليهم فلم يجبه أحد، ثم ثَلَّثَ فلم يجبه أحد. فقال: أبيتم، فواللَّه إني لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا النبي المصطفى آمنتم أو كذبتم، ثم انصرف وأنا معه، حتى إذا كدنا نخرج نادى رجل من خلفنا: كما أنت يا محمد. قال: فأقبل فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلموني يا معشر اليهود؟ قالوا: واللَّه ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب اللَّه منك ولا أفقه منك ولا من أبيك قبلك ولا من جدّك قبل أبيك. قال: فإني أشهد له بأنه نبي اللَّه الذي تجدونه في التوراة. قالوا: كذبت، وردّوا عليه قوله وقالوا فيه شرًا. قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كذبتم لن يقبل قولكم، أما آنفًا فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، ولما آمن كذبتموه وقلتم فيه ما قلتم فلن يقبل فيه قولكم. قال: فخرجنا ونحن ثلاثة، رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنا، وعبد اللَّه بن سلام. وأنزل اللَّه عز وجل فيه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}](1).

وقد صح إسلام عبد اللَّه بن سلام قبل ذلك، ولكنه ربما كان يخفي إسلامه.

وفي الصحيحين والمسند عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال:[ما سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ لأحدٍ يمشي على الأرض: إنَّه مِنْ أَهْلِ الجنة، إلا لعبد اللَّه بن سلام، قال: وفيه نزلت هذه الآية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] الآية] (2).

ومعنى الآية: قل -يا محمد- لهؤلاء الكافرين بالقرآن، أرأيتم إن كان هذا القرآن من عند اللَّه قد أنزله عليّ حقًا وكفرتم به، وشهد بصدقه شاهد منكم ومن أكابر علمائكم

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (ج 6)(ص 25)، والطبراني ورجاله رجال الصحيح، وانظر صحيح ابن حبان (7163)، ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي. والأصح أنه على شرط مسلم. انظر:"الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - سورة الأحقاف، آية (10).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3812) - كتاب مناقب الأنصار. وأخرجه مسلم (2483)، وأخرجه أحمد (1/ 169)، والنسائي (148)، وابن حبان (7163).

ص: 274

فآمن واستكبرتم عن الإيمان فما ظنكم أن اللَّه صانع بكم؟ ! إن اللَّه لا يوفق للهداية القوم الظالمين.

قال النسفي: ({عَلَى مِثْلِهِ} الضمير للقرآن، أي مثله في المعنى، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعاني القرآن: من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك. ويجوز أن يكون المعنى: إن كان من عند اللَّه وكفرتم به وشهد شاهد على نحو ذلك يعني من عند اللَّه).

وعن مسروق: ({فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} قال: فآمن هذا الشاهد بنبيه وكتابه، وكفرتُم أنتم بنبيكم وكتابكم). أي: فآمن عبد اللَّه بن سلام بنبيه وكتابه ثم صدق بمحمد صلى الله عليه وسلم والوحي الجديد معه، وكفرتم أنتم باستكباركم.

فائدة: قد تكون هذه الآية مدنية مستثناة من السورة، لأن إسلام عبد اللَّه بن سلام كان بالمدينة، وقد تكون الآية نزلت قبل ذلك بمكة من باب الإخبار قبل الوقوع واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} .

قال قتادة: (قال ذاك أناس من المشركين: نحن أعز، ونحن، ونحن، فلو كان خيرًا ما سبقنا إليه فلان وفلان، فإن اللَّه يختص برحمته من يشاء).

والمقصود: ذهب المشركون في ضلالهم أن القرآن لو كان خيرًا ما سبقهم إليه عمار وبلال وصهيب وخباب وأمثالهم من المستضعفين والعبيد والإماء، فقد أبرق لهم الشيطان أن لهم وجاهة عند اللَّه ومكانة يفضلهم بها بما هو لائق. وكذبوا فيما ذهبوا إليه، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]. قال ابن كثير: (أي: يَتَعَجَّبُونَ كيف اهتدى هؤلاء دوننا. ولهذا قالوا: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة: هو بِدْعةٌ، لأنه لو كان خيرًا لسبقونا إليه، لأنهم لم يتركُوا خصلةً من خِصَال الخير إلا وقد بادروا إليها).

وقوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} .

قال ابن جرير: (-يقول-: وإذ لم يبصروا بمحمد وبما جاء به من عند اللَّه من الهدى فيرشدوا به الطريق المستقيم فسيقولون هذا القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أكاذيب من أخبار الأولين قديمة).

ص: 275

والمقصود: هروب من الحق بمحاولة الانتقاص من القرآن وأهله، كما قال تعالى:{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} [الفرقان: 5]. وهذا من الكبر والعجب الذي يسخط اللَّه تعالى.

وفي الصحيحين عن حارثة بن وهب قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلٍّ جوّاظ مستكبر](1).

وفي صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا يدخل الجنة من كان في قلبه مِثقالُ ذرةٍ من كبِر. فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة؟ قال: إن اللَّه جميل يحب الجمال، الكبر بطرُ الحق وغَمْطُ الناس](2).

وقوله: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} .

أي: ومن قبل هذا القرآن كتاب موسى (التوراة) أنزلناه إمامًا لبني إسرائيل يأتمون به ويهتدون بهديه ورحمة لهم.

وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا} . أي: وهذا القرآن أنزلناه يصدق كتاب موسى، ويؤكد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي مرسل- وهو بلسان عربي فصيح مبين.

وقوله: {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} . أي: لينذر هذا القرآن من كفر وطغى، ويبشر من أحسن وأناب.

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .

قال ابن جرير: ({إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} الذي لا إله غيره {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} على تصديقهم بذلك فلم يخلطوه بشرك ولم يخالفوا اللَّه في أمره ونهيه {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من فزع يوم القيامة وأهواله {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما خلفوا وراءهم بعد مماتهم).

وقوله تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

أي: هؤلاء الموصوفون بما سبق من صدق التعظيم للَّه والاستقامة على منهج الحق هم أهل الجنة ينعمون فيها ولا يرحلون عنها، فأعمالهم سبب لنيل رحمة اللَّه وسبوغها عليهم. ونصب {جَزَاءً} على المصدر.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (8/ 507 - 508)، (10/ 408)، وأخرجه مسلم في الصحيح (2853)، من حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (91)، وأبو داود (4091)، وأخرجه الترمذي (1999).

ص: 276

15 -

16. قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)}.

في هذه الآيات: وصيةُ اللَّه الإنسان الإحسان إلى والديه، وحثّه إذا بلغ أربعين سنة تأمّل آلاء اللَّه وشكر نعمه عليه، وسؤال اللَّه تعالى إصلاح حاله وذريته ومباشرة العمل الصالح الذي يرضيه.

فقوله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} .

التوصية: الأمر: والحُسْن ضد القبح، وقوله:{حُسْنًا} - هو كذلك في قراءة قراء المدينة والبصرة. وأما في قراء الكوفة {إِحْسَانًا} .

والإحسان خلاف الإساءة. والآية عطف على إخلاص العبادة والتعظيم للَّه.

فكثيرًا ما يعطف سبحانه بين الوصية بإقامة التوحيد وإخلاص العبادة له وبين الوصية ببر الوالدين وحسن صحبتهما والحنوّ عليهما.

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].

2 -

وقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].

ومن صحيح السنة العطرة في ذلك أحاديث، منها:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي بَكْرَةَ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ (ثلاثًا)، قالوا: بلى يا رسول اللَّه! قال: الإشراك باللَّه، وعقوق

ص: 277

الوالدين -وجلس وكان متكئًا- ألا وقول الزور، ما زال يكررها حتى قلت: ليته سكت] (1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري في "الأدب المفرد" وأكثر أصحاب السنن بإسناد صحيح عن عبد اللَّه بن عمرو قال: [جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعُهُ على الهجرة، وترك أبويه يبكيان، فقال: ارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما](2).

الحديث الثالث: أخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند حسن عن أبي مُرَّة، مولى أم هانئ بنت أبي طالب:[أنه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه بـ "الحقيق" فإذا دخل أرضه صاحَ بأعلى صوته: عليك السلام ورحمة اللَّه وبركاته يا أمَّتاه! تقول، وعليك السلام ورحمة اللَّه وبركاته، يقول: رحمك اللَّه كما ربيتني صغيرًا. فتقول: يا بنىّ! وأنتَ، فجزاك اللَّه خيرًا ورضي عنك كما بررتني كبيرًا](3).

وقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} . قال قتادة: (يقول: حملته مشقة، ووضعته مشقة). وقرأ أهل المدينة والبصرة: {كُرْهًا} ، وأهل الكوفة {كُرْهًا} .

وقال الحسن: (حملته في مشقة، ووضعته في مشقة). قال مجاهد: (مشقة عليها). قال ابن كثير: (أي: قاست بسببه في حال حَمْلِهِ مشقةً وتعبًا، من وِحَام وغَثَيَانٍ وثِقَل وكَرْب، إلى غير ذلك مما ينال الحوامِلَ من التعب والمشقة، {وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا}، أي: بمشقة أيضًا من الطَّلق وشِدَّته).

وقوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} . أي: مدة حمله وفطامه ثلاثون شهرًا. والفِصالُ: الفِطام.

قال ابن عباس: (إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرًا، وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرًا).

وفي الأثر عن عثمان أنه أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر، فأراد أن يقضي عليها

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في كتاب الأدب (5976)، وأخرجه في "الأدب المفرد"(15)، ورواه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - ح (143) - باب الكبائر وأكبرها.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(13) - باب جزاء الوالدين. وأخرجه أبو داود - كتاب الجهاد - وكذلك النسائي - كتاب البيعة على الجهاد. ورواه ابن ماجة (2782) - كتاب الجهاد. باب الرجل يغزو وله والدان. انظر صحيح ابن ماجة (2242).

(3)

حسن الإسناد. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(14). انظر: "صحيح الأدب المفرد"(11).

ص: 278

بالحدّ، فقال له عليّ رضي الله عنه: ليس ذلك عليها، قال اللَّه تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} ، وقال تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فالرضاع أربعة وعشرون شهرًا والحمل ستة أشهر، فرجع عثمان عن قوله ولم يحدّها.

وقوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} . أي قوي وشبَّ وارتجل. قال ابن عباس: (أشدّه: ثلاث وثلاثون سنة، واستواؤه أربعون سنة، والعذر الذي أعذر اللَّه فيه إلى ابن آدم ستون). وعن الشّعبي قال: (الأشدّ: الحلم إذا كتبت له الحسنات وكتبت عليه السيئات). والأول أشبه في مفهوم الأشد من الحلم، فإن الأشد هو غاية القوة والاستواء، فالثلاث والثلاثون أشبه.

وقوله: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} . أي: تناهى عقله واكتمل فهمه وكمل حلمه، فهو سن الاستقرار في رسوخ المفاهيم. وروى الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قلت لمسروق: متى يُؤخذ الرجل بذنوبه؟ قال: (إذا بَلَغْتَ الأربعين فَخُذْ حِذْرَكَ). قال ابن جرير: ({وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}: ذلك حين تكاملت حجة اللَّه عليه، وسير عنه جهالة شبابه، وعرف الواجب للَّه من الحق في بر والديه).

وقوله: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} . أي: ألهمني. {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} -أي شكر نعمتك. فأن أشكر: في موضع نصب على المصدر. ووزعت الرجل على كذا: إذا دفعته عليه.

وقوله: {عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} . قال القرطبي: (أي ما أنعمت به عليَّ من الهداية {وَعَلَى وَالِدَيَّ} بالتحنن والشفقة حتى ربّياني صغيرًا. وقيل: أنعمت عليّ بالصحة والعافية وعلى والديّ بالغنى والثروة).

وقوله: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} . أي: ووفقني في المستقبل لاستقبال العمل الصالح الذي ترضاه.

وقوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} . أي: اجعلهم هداة للإيمان والعمل الصالح. قال سهل بن عبد اللَّه. (المعنى اجعلهم لي خَلَفَ صدق، ولك عبيدَ حق).

وقال أبو عثمان: (اجعلهم أبرارًا لي مطيعين لك). وقال ابن عطاء: (وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم). وقال محمد بن علي: (لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلًا).

وفي التنزيل نحو ذلك من دعاء المؤمنين: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].

ص: 279

وفي سنن أبي داود وابن ماجة بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: [لم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني وَدُنْياي وأهلي ومالي، اللهم استُر عَوْرَتي وآمِنْ روعاتي، اللهم احفظني من بين يَدَيَّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغْتال من تحتي](1).

وقوله: {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . أي: إني رجعت من ذنوبي السالفة، وإني لك بالطاعة من الخاضعين.

قال ابن عباس: ({إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ}: رجعت عن الأمر الذي كنت عليه).

وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} .

أي: هؤلاء الموصوفون بما سبق هم الذين يتقبل اللَّه عنهم أحسن ما عملوا من صالحات الأعمال، ويصفح عن سيئات أعمالهم فلا يعاقبهم عليها.

وقوله: {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} . قال النسفي: (ومحله النصب على الحال، على معنى: كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين فيهم). وقيل: {فِي} بمعنى "مع" -أي: مع أصحاب الجنة، والمعنى واحد.

وقوله: {وَعْدَ الصِّدْقِ} - نصب لأنه مصدر مؤكد لما قبله.

والتقدير: وعد اللَّه أهل الإيمان والعمل الصالح أن يتقبل أحسن أعمالهم ويتجاوز عن سيئاتهم وعد الصدق.

وقوله: {الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} . قال القرطبي: (في الدنيا على ألسنة الرسل، وذلك الجنة).

17 -

20. قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (5074)، وابن ماجة (3871). انظر صحيح أبي داود (4239).

ص: 280

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)}.

في هذه الآيات: قصة ارتباط الشعرك بالعقوق، وعاقبة ذلك من الخسران المبين. وتصوير مشهد الخزي والذل أمام نار جهنم للكافرين.

فعن الحسن: ({وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} قال: هو الكافر الفاجر العاقّ لوالديه، المكذب البعث). قال النسفي: (أفّ: وهو صوت إذا صوّت به الإنسان علم أنه متضجر، كما إذا قال حس علم أنه متوجع، واللام للبيان، أي هذا التأفيف لكما خاصة ولأجلكما دون غيركما).

والعقوق من أكبر الكبائر، وعقابه في الدنيا والآخرة، وفي التنزيل: قال تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23].

ومن صحيح السنة المطهرة في ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج النسائي وأحمد وابن حبان بإسناد جيد عن سالم بن عبد اللَّه عن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [ثلاثة لا ينظر اللَّه عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث. وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى](1).

الحديث الثاني: أخرج الدارمي والنسائي والبخاري في "التاريخ الصغير" بسند حسن في الشواهد عن عبد اللَّه بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر، (ولا ولد زنية)](2).

الحديث الثالث: أخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن عروة قال: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]: [لا تمتنع من شيء أحبّاه](3).

وقوله: {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} . قال قتادة: (أن أبعث بعد الموت).

(1) حديث صحيح. أخرجه النسائي (1/ 357)، وأحمد (2/ 134)، وابن خزيمة في "التوحيد"(235)، وابن حبان (56). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (674).

(2)

أخرجه الدارمي (2/ 112)، والنسائي (2/ 332)، والبخاري في "التاريخ الصغير"(124) -والزيادة له- وأحمد (2/ 201)، وهو حسن لشواهده.

(3)

صحيح الإسناد. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(9). باب لين الكلام لوالديه.

ص: 281

وقوله: {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} . أي: وقد مضت قرون من الأمم قبلي فهلكوا فلم يبعث منهم أحد.

وقوله: {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} .

أي: ووالداه يستصرخان اللَّه عليه ويسألانه له الهداية، ويستغيثان عليه أن يؤمن باللَّه ويقرّ بالبعث وأن وعد اللَّه صدق وحق.

وقوله: {فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} . -أي: فيجيب عدو اللَّه والديه مستنكرًا خروجه من قبره بعد موته فيقول: ما هذا الذي تقولانه إلا ما سطّره الأولون من الناس من الأباطيل.

وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} . قال ابن كثير: (أي: دخلوا في زُمرة أشباههم وأضرابهم من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم يومَ القيامة).

وقوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} . قال ابن زيد: (درج أهل النار يذهب سفالًا، ودرج أهل الجنة يذهب علوًا). والمقصود: لكل أعدّ اللَّه من الثواب أو العذاب حسب عمله ومقابل ما قدّم. قال القرطبي: ({وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ} أي ولكل واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين من الجن والإنس مراتب عند اللَّه يوم القيامة بأعمالهم).

وقوله: {وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} . أي: ولينالوا جزاء أعمالهم فلا يزاد على مسيء ولا ينقص من محسن.

وقوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} .

قال النسفي: (عرضهم على النار تعذيبهم بها). وقيل: دنوّهم منها ينظرون إليها. والمعنى: ذَكِّرْهُم -يا محمد- يوم يكشف الغطاء فيقرّبون من النار وينظرون إليها، ويقال لهم تقريعًا وتوبيخًا: لقد استوفيتم لذائذكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها، فما بقي لكم من اللذائذ شيء لاستيفائكم إياها.

وقوله: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} . قال مجاهد: (الهوان). أي: فاليوم تذوقون عذاب النار الذي يهينكم ويخزيكم.

وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} . قال ابن جرير: (بما كنتم تتكبرون في الدنيا على ظهر الأرض على ربكم، فتأبون أن تخلصوا له العبادة).

ص: 282

وقوله: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} . أي وبما كنتم تصرون عليه من الفسق والمعاصي وتعاطي المنكرات والموبقات والآثام.

21 -

25. قوله تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)}.

في هذه الآيات: خبر عاد قوم هود عليه السلام، وقد جاءهم بالوحي ينذرهم مغبة الشرك والآثام، فكذبوه فأخذهم اللَّه بريح عاتية تدمر المساكن وتقلع الرجال والخيام.

فقوله: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} -تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى قومه وعنادهم.

وعادٌ هم قوم هود عليه الصلاة والسلام والأخوة هنا أخوة النسب. قال القرطبي: (كان أخوهم في النسب لا في الدين).

وقوله: {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} . أي اذكر يا محمد لقومك قصة عاد الذين كانوا يسكنون الأحقاف وقد قهروا أهل الأرض بقوتهم. والأحقاف: ديار عاد، وهي الرمال العظام، جمع حِقف، وهو ما استطال من الرمل العظيم واعوج ولم يبلغ أن يكون جبلًا. قال عكرمة:(الأحقاف: الجبلُ والغار). وقال قتادة: (ذُكر لنا أن عادًا كانوا حيًّا باليمن أهلَ رملٍ مُشرِفين على البحر بأرض يقال لها: الشِّحْر).

قال ابن إسحاق: (كانت منازل عاد وجماعتهم، حيث بعث اللَّه إليهم هودًا. الأحقاف: الرمل فيما بين عُمان إلى حَضْرموت فاليمن كله، وكانوا مع ذلك قد فَشَوا في الأرض كلها، قهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم اللَّه).

وقوله: {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} .

قال الضحاك: (لن يبعث اللَّه رسولًا إلا بأن يعبد اللَّه). قال ابن كثير: (يعني: وقد أرسَلَ اللَّه تعالى إلى مَنْ حول بلادهم في القرى مُرسَلين ومُنذِرين، كقوله عز وجل:

ص: 283

{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة: 66]، وكقوله جل وعلا:{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت: 13 - 14]).

وقوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . أي يقول هود لقومه: إني أخاف عليكم بإصراركم على عبادة غير اللَّه عذاب يوم تعظم فيه الأهوال والشدائد، وهو يوم القيامة.

وقوله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} . قال ابن زيد: (لتزيلنا). أي: أجابوه قائلين: أجئتنا لتصدنا وتصرفنا عن عبادة آلهتنا؟ .

وقوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . إخبار عن استعجالهم العقوبة والعذاب، استهتارًا واستبعادًا من وقوع ذلك. قال ابن زيد:({فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب على عبادتنا ما نعبد من الآلهة {إِنْ كُنْتَ} من أهل الصدق في قوله وعداته).

وقوله: {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} . أي: قال هود لقومه عاد. إنما العلم بمجيء ما أعدكم من العذاب على كفركم عند اللَّه، وإنما أنا رسول أبلغكم رسالة ربي إليكم.

وقوله: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} . قال ابن جرير: ({تَجْهَلُونَ} مواضع حظوظ أنفسكم فلا تعرفون ما عليها من المضرّة بعبادتكم غير اللَّه، وفي استعجال عذابه).

وقوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} . العارض: السحاب الذي يعرض في أفق السماء. والمقصود: فلما رأوا العذاب مستقبلهم ظنوا أنه عارضٌ ممطر، فاستبشروا وفرحوا بقدوم الغيث وقد كانوا مُمْحلِين محتاجين إلى المطر.

وقوله: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

أي: بل القادم هو ريح شديدة تحمل الدمار والهلاك. قال ابن عباس: (أوّل ما رأوا العارض قاموا فمدّوا أيديهم، فأوّل ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجًا من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح ما بين السماء والأرض مثل الريش، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمر اللَّه الريح فأمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمال سبع ليال وثمانية أيام حسومًا، ولهم أنين).

وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} . قال ابن عباس: (أي كل شيء بُعثت إليه).

ص: 284

قال النسفي: (تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجمّ الكثير، فعبّر عن الكثرة بالكلية {بِأَمْرِ رَبِّهَا} رب الريح).

وقوله: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} . أي: هلكوا وبادوا عن آخرهم، ولم يبق يظهو إلا آثار بيوتهم ومعالم ديارهم.

وقوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} . أي: مثل هذا العقاب وذلك الخراب والدمار نعاقب القوم المشركين المستكبرين الآثمين.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 6 - 8].

2 -

وقال تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 41 - 42].

وفي صحيح السنة المطهرة من آفاق ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: [كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا رأى مَخيلةً فِي السماء أقْبَل وأدْبَر، ودخَلَ وخَرَج، وتغيَّرَ وجهه، فإذا أمطرت السماءُ سُرِّيَ عنه فعَرَّفَتْهُ عائشةُ ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أدري لعلَّه كما قال قوم: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} الآية](1).

الحديث الثاني: أخرج مسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: [كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا عَصَفَت الريح قال: اللهم! إني أسألك خَيْرَها، وخَيْرَ ما فيها، وخَيْرَ ما أُرسِلُتْ به، وأعود بك من شَرِّها، وشَرِّ ما فيها، وشَرِّ ما أُرسلت به. قالت: وإذا تَخَيَّلَت السماءُ، تَغَيَّرَ لونُه، وخرَج ودخَلَ، وأقْبَل وأدْبَر، فإذا مَطَرَتْ سُرِّيَ عنه، فَعَرَفت ذلكَ عائشةُ، فسألتْهُ فقال. لعلَّهُ يا عائِشَةُ! كما قال قوم

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (3206) - كتاب بدء الخلق، وكذلك (4829). وانظر صحيح مسلم (899) - كتاب صلاة الاستسقاء.

ص: 285

عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} ] (1).

الحديث الثالث: أخرج أحمد في المسند بسند صحيح عن عائشة: [أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئًا في أفق من آفاق السماء، تَرَك عمله وإن كان في صلاته، ثم يقول: اللهمّ، إني أعوذُ بك من شرّ ما فيه. فإن كشفه اللَّه حمد اللَّه، وإن أمطَرَت قال: اللهم صيبًا نافعًا](2).

الحديث الرابع: خرّج مسلم في صحيحه عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[نُصِرْتُ بالصَّبا، وأُهْلِكَت عَادٌ بالدَّبُور](3).

والصَّبا: ريح الشمال، والدّبور: ريح الجنوب.

26 -

28. قال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)}.

في هذه الآيات: الخطاب لقريش ليعلموا أن الأمم السالفة التي أهلكها اللَّه بكفرها كانوا أشد منهم في البنيان والحصون، وأكثر منهم في الأموال والأولاد، فلم يزكوا نعمة الأسماع والأبصار والأفئدة فنزل بهم العذاب وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون. وكذلك القرى التي حول مكة ممن أهلك اللَّه أهلها ما نفعتهم آلهتهم وما كانوا يفترون.

فقوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} . قال قتادة: (أنبأكم أنه أعطى القوم ما لم يعطكم). أي: لقد مكَّنَ اللَّه الأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأجسام والحصون والأولاد ما لم يعط قريشًا مثله.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (899) ح (15) - كتاب صلاة الاستسقاء. وانظر سنن أبي داود (5098)، (5099)، وسنن الترمذي (3254).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (6/ 190)، وله شواهد كثيرة.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (900) - كتاب صلاة الاستسقاء. باب في ريح الصبا والدبور.

ص: 286

وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .

قال ابن جرير: ({وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا} يسمعون به مواعظ ربهم، وأبصارًا يبصرون بها حجج اللَّه، وأفئدة يعقلون بها ما يشرّهم (1) وينفعهم {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} قول: فلم ينفعهم ما أعطاهم من السمع والبصر والفؤاد إذ لم يستعملوها فيما أعطوها له، ولم يعملوها فيما ينجيهم من عقاب اللَّه، ولكنهم استعملوها فيما يقرّبهم من سخطه {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} يقول: إذ كانوا يكذبون بحجج اللَّه وهم رسُله، وينكرون نبوتهم {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يقول: وعادَ عليهم ما استهزؤوا به، ونزل بهم ما سخروا به فاستعجلوا به من العذاب، وهذا وعيد من اللَّه جل ثناؤه لقريش، يقول لهم: فاحذروا أن يحلّ بكم من العذاب على كفركم باللَّه وتكذيبكم رسله، ما حل بعاد، وبادروا بالتوبة قبل النقمة).

وقوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} . قال ابن كثير: (يعني أهل مكّة، قد أهلك اللَّه الأمم المكذبة بالرسل مما حَولها كعادٍ، وكانوا بالأحقاف بِحَضْرَ موت عند اليمن، وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام، وكذلك سَبَأٌ وهم أهلُ اليمن، ومَدْين وكانت في طريقهم ومَمَرِّهم إلى غَزَّة، وكذلك بحيرة قوم لوط، كانوا يمرون بها أيضًا).

وقوله: {وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ} . قال ابن زيد: (بيّناها). {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} - قال: (يقول: ليرجعوا عما كانوا عليه مقيمين من الكفر باللَّه وآياته).

وقوله: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} .

قال القرطبي: ({فَلَوْلَا} بعنى هلّا، أي هلّا نصرهم آلهتهم التي تقرّبوا بها بزعمهم إلى اللَّه لتشفع لهم حيث قالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم).

والمقصود: الاحتجاج على قريش في منهاج عبادتهم. أي: لو كانت آلهتكم تنفع لنفعت من قبلكم وأنقذتهم من بأس اللَّه حين نزل بهم.

وقوله: {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} . قال القاسمي: (أي غابوا عن نصرهم، وامتنع أن

(1) في لغة العرب: "شِرّة الشباب" - حِرْصه ونشاطه. و"أشِرّاء" كأشِدّاء.

ص: 287

يستمدوا بهم، امتناع الاستمداد بالضال، ففي {ضَلُّوا} استعارة تبعية).

وقوله: {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} . قال النسفي: ({وَذَلِكَ} إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم وضلالهم عنهم، أي: وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة وثمرة شركهم وافترائهم على اللَّه الكذب).

29 -

32. قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)}.

في هذه الآيات: خبرُ لقاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع فريق من الجن -وقد حيل بينهم وبين استراق السمع من السماء- فاستمعوا القرآن وأنصتوا له ورجعوا إلى قومهم منذرين. فإلى تفصيل ذلك:

إنّ الجن كما أثبت اللَّه سبحانه كائنات مستترة عن أنظار البشر، قال جل ذكره:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]. ثم إن اللَّه قد أعطاهم قدرة على التجسم والظهور بأشكال شتى.

ولقد رأى نفر منهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بنخلة عامدًا إلى سوق عكاظ، وكانوا قد حيل بينهم وبين خبر السماء وأرسلت علهيم الشهب، فلما وجدوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائمًا يصلي صلاة الفجر وهو يقرأ القرآن فاستمعوا فعرفوا ما الأمر الذي حدث وكان سبب منعهم من استراق السمع.

قال سعيد بن جبير: (لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حُرست السماء، فقال الشيطان: ما حرست إلا لأمر قد حدث في الأرض. فبعث سراياه في الأرض فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قائمًا يصلي صلاة الفجر بأصحابه بنخلة وهو يقرأ، فاستمعوا حتى إذا فرغ {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} إلى قوله {مُسْتَقِيمٍ}).

ص: 288

وأصل ذلك في الصحيحين عن ابن عباس قال: [انطلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين. فقالوا ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قال: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث، فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء. قال: فانطلق الذين توجّهوا نحو تهامة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بنخلة وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر. فلما سمعوا القرآن تسمعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1 - 2]. وأنزل اللَّه عز وجل على نبيّه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} ] (1).

ولم ير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الجن هذه المرّة ولم يقرأ عليهم القرآن، وإنما آذنته بهم شجرة بأنهم حاضرون، ثم أوحي إليه خبرهم وما كان من أمرهم.

فقد أخرج البخاري في صحيحه: [عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه وقد سئل: من آذَنَ (2) النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: إنه آذنت بهم شجرة](3).

وفي مستدرك الحاكم ودلائل النبوة للبيهقي بسند صحيح عن عاصم بن زرّ عن عبد اللَّه قال: [هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه أنصتوا قالوا: صه. وكانوا تسعة أحدهم زوبعة، فأنزل اللَّه عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا. . .} الآية إلى: {فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}](4).

وذات يوم جاء وفد من الجن إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فدعوه للاجتماع بهم وكان معسكرًا خارج مكة.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4921) - كتاب التفسير، وكذلك أخرجه برقم (773). ورواه مسلم (449/ 149)، والترمذي (3323)، وأحمد (1/ 252).

(2)

أي أعْلَمَ.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه عن عبد اللَّه بن مسعود. انظر صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 171)، وصحيح مسلم بشرح النووي (4/ 171).

(4)

حديث صحيح. أخرجه البيهقي في "الدلائل"(2/ 228) بإسناد حسن. ورواه الحاكم في المستدرك، من حديث عاصم بن زرّ عن عبد اللَّه.

ص: 289

فقد أخرج الإمام مسلم عن عبد اللَّه بن مسعود قال: [كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلةٍ، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا استُطير أو اغتيل. فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قِبَل حراء، فقلنا يا رسول اللَّه! فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم](1).

وعن عاصم عن زِر: ({فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} قالوا: صَهْ). قال قتادة: (قد علم القوم أنهم لن يعقلوا حتى ينصتوا). وهذا أدبٌ منهم.

وعن ابن عباس: ({فَلَمَّا قُضِيَ} يقول: فلما فرغ من الصلاة). أو من القراءة وتلاوة القرآن.

قال ابن جرير: ({وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}: انصرفوا منذرين عذاب اللَّه على الكفر به).

وقوله: {قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} . أي: قالوا لقومهم: إنا سمعنا قرآنًا أنزل من بعد موسى عليه السلام يصدق ما قبله من كتب اللَّه التي أنزلها على رسله.

وقوله: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} . أي: يرشد إلى الصواب والسداد في منهاج الإيمان ويدل على ما فيه للَّه رضا.

وقوله: {وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} . أي: ويرشد إلى طريق لا اعوجاج فيه وهو طريق الإسلام.

والمقصود: يهدي إلى منهاج الإيمان ويدل على طريق امتثال أعماله وأحكامه.

وقوله: ({يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ}. قال ابن كثير: (فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الإنس والجن حيثُ دعاهمُ إلى اللَّه تعالى، وقرأ عليهم السورةَ التي فيها خطاب الفريقين، وتكليفهم ووعدُهم ووعيدُهم، وهي سورة الرحمن).

أخرج الترمذي والحاكم بسند حسن عن جابر رضي الله عنه قال: [خرج

(1) حديث صحيح. رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن مسعود. انظر صحيح مسلم بشرح النووي (4/ 168 - 170).

ص: 290

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم "سورة الرحمن" من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: لقد قرأتها، سورة "الرحمن" على الجِنّ ليلةَ الجنِّ، فكانوا أَحْسَنَ مَرْدودًا منكمُ، كنتُ كُلَّما أتيت على قوله:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، قالوا: لا بشيءٍ من نعمِكَ ربَّنا نكذِّبُ، فلكَ الحمد] (1).

وقوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} . قال ابن جرير: (يتغمد لكم ربكم من ذنوبكم فيسترها لكم ولا يفضحكم بها في الآخرة بعقوبته إياكم عليها. . . . وينقذكم من عذاب موجع إذا تبتم من ذنوبكم، وأنبتم من كفركم إلى الإيمان باللَّه وبداعيه).

وذهب أبو حنيفة أن لا ثواب للجن إلا النجاة من النار لهذه الآية، وهو مذهب بعيد مردود. قال مالك والشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد:(لهم الثواب والعقاب). وقال الضحاك: (الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون). واستدل بقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56]. قال ابن كثير: (وأحسن منه قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 46 - 47]. فقد امتنَّ تعالى على الثقلين بأن جعل جزاءَ مُحْسِنهِم الجنة، وقد قابلت الجنّ هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس، فقالوا: ولا بشيء من آلائك ربَّنا نكذب، فلك الحمد. فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم، وأيضًا فإنه إذا كان يُجازي كافرهم بالنار -وهو مقامُ عَدْلٍ- فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة -وهو مقامُ فَضْل- بطريق الأولى والأحرى).

وقوله: {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} . أي: لا يفوت اللَّه ولا يسبقه، بل قدرة اللَّه تناله وتشمله.

وقوله: {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ} . أي: وليس له أنصار وأعوان يمنعونه من عذاب اللَّه وحلول نقمته.

وقوله: {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . تهديد وترهيب. أي: ومن أعرض عن داعي الحق واستكبر على اللَّه ورسله فقد خاض في أوحال الضلال البين العاقبة.

(1) حسن لشواهده. أخرجه الترمذي في "سننه"(2/ 234)، والحاكم (2/ 473)، وأخرجه البزار (221 - 222 زوائد)، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (2130).

ص: 291

33 -

35. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)}.

في هذه الآيات: التقريع على منكري البعث قصة الخلق لهذه السماوات الكبيرة والأرض الواسعة الفسيحة، فإن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس واللَّه على كل شئ قدير. والتصوير لمشهد الخزي والهوان للكفار أمام جهنم. والتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بِحَثِّه على الصبر كما صبر أولو العزم من الرسل.

فقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} . قال القرطبي: (الرؤية هنا بمعنى العلم. ومعنى {وَلَمْ يَعْيَ} -لم- يَعْجِز ويَضْعف عن إبداعهن).

أي: أو لم يعلم هؤلاء الذين ينكرون بعث الأجساد يوم القيامة خلق السماوات والأرض دون لغوب ولا ممانعة. كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]. وكقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57].

وقوله: {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} - {بَلَى} : جواب للنفي. قال ابن جرير: (بلى يقدر الذي خلق السماوات والأرض على إحياء الموتى. . . . لأن من عجز عن ذلك فضعيف فلا ينبغي أن يكون إلهًا من كان عما أراد ضعيفًا).

وقوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} .

أي: ذَكِّرهم يا محمد يوم يعرض المكذبون بالبعث على النار فيشرفون عليها وقد دنت منهم ويقال لهم توبيخًا وتقريعًا: أليس هذا العذاب هو الذي كذبتم به في الدنيا؟ فيجيبون من فورهم: بلى وربنا.

ص: 292

وقوله: {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} . أي: فذوقوا إذن جزاء كفركم وجحودكم.

وقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} . قال عطاء الخراساني: (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم). وقال ابن زيد: (كل الرسل كانوا أولي عزم لم يتخذ اللَّه رسولًا إلا كان ذا عزم، فاصبر كما صبروا).

قلت: والمشهور الأول، وهو أن أولي العزم من الرسل: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وخاتم الأنبياء محمد صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين. وقد ورد تخصيصهم بالذكر مرتين في القرآن، مرة في سورة الأحزاب، ومرة في سورة الشورى: قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7].

وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].

قال ابن كثير: (وقد يحتمل أن يكونَ المرادُ بأولي العزم جميع الرسل، وتكون "مِنْ" في قوله: {مِنَ الرُّسُلِ} لبيان الجنس، واللَّه أعلم).

وقوله: {وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} . قال مقاتل: (بالدعاء عليهم). وقيل: فى إحلال العذاب بهم، فإن أبعد غاياتهم يوم القيامة. كقوله تعالى:{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل: 11]. وكقوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 17].

وقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} . قال يحيى: (من العذاب). وقال النقاش: (من الآخرة).

وقوله: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} . أي في الدنيا حتى جاءهم العذاب.

وقال النقاش: (في قبووهم حتى بعثوا للحساب). وقيل: نسّاهم هول ما عاينوا من العذاب طول لبثهم في الدنيا.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46].

2 -

وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يونس: 45].

ص: 293

وقد مثَّلَ النبي صلى الله عليه وسلم مكثه في الدنيا كساعة من نهار، يرحل بعدها ويتركها.

فقد أخرج الترمذي والحاكم بسند صحيح عن علقمة عن عبد اللَّه مرفوعًا: [مالي وللدنيا؟ ! ما أنا والدنيا؟ ! إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظلَّ تحت شجرة ثم راح وتركها](1).

وله شاهد عند ابن حبان وأحمد عن عكرمة عن ابن عباس: [أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثرَّ في جنبه فقال: يا نبي اللَّه لو اتخذت فراشًا أوثر من هذا؟ فقال: مالي وللدنيا؟ ! ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها](2).

وقوله: {بَلَاغٌ} - فيه تأويلان محتملان:

التأويل الأول: البلاغ بمعنى التبليغ. قال الحسن: (أي هذا القرآن بلاغ). فرفع {بَلَاغٌ} على إضمار مبتدأ، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى:{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} [إبراهيم: 52]. وقوله: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 106].

التأويل الثاني: أي إن ذلك اللُّبْث بلاغ. قال ابن عيسى. فيوقف على هذا على {بَلَاغٌ} وعلى {نَهَارٍ} - ذكره القرطبي.

وقوله: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} . قال ابن عباس: (أي الخارجون عن أمر اللَّه). وعن قتادة: (لا يهلك اللَّه إلا هالكًا مشركًا). وهذا من كمال عدله سبحانه فإنه لا يعذب بالنار إلا من استحق الإهانة والعذاب، ومن ثمَّ فلا يهلك على اللَّه إلا هالك.

أخرج الحاكم وأحمد بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: [مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من أصحابه، وصبي بين ظهراني الطريق، فلما رأت أمه الدواب خشيت على ابنها أن يوطأ، فسعت والهة، فقالت: ابني! ابني! فاحتملت ابنها، فقال القوم: يا نبي اللَّه!

(1) أخرجه الترمذي (2/ 60)، والحاكم (4/ 310)، وأحمد (1/ 391، 441)، وكذلك ابن ماجة (2/ 326)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (439).

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن حبان (2526)، والحاكم (4/ 309 - 310)، وأحمد (1/ 301)، ورواه البيهقي كما في "الترغيب"(4/ 114)، وانظر:"الصحيحة"(440).

ص: 294

ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا واللَّه، لا يُلقي اللَّهُ حبيبَهُ في النار] (1).

تم تفسير سورة الأحقاف بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه

* * *

(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (4/ 177)، وأحمد (3/ 104)، (3/ 235)، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وأقره الألباني في "الصحيحة"(2407).

ص: 295