المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٧

[مأمون حموش]

فهرس الكتاب

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌40 - سورة غافر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌41 - سورة فصلت

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌42 - سورة الشورى

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌43 - سورة الزخرف

- ‌ما ورد في ذكرها

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌44 - سورة الدخان

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌45 - سورة الجاثية

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌46 - سورة الأحقاف

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌47 - سورة محمد

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌48 - سورة الفتح

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌49 - سورة الحجرات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌50 - سورة ق

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌51 - سورة الذاريات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌52 - سورة الطور

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌53 - سورة النجم

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌54 - سورة القمر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌55 - سورة الرحمن

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌56 - سورة الواقعة

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌57 - سورة الحديد

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌58 - سورة المجادلة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌59 - سورة الحشر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

الفصل: ‌ منهاج السورة

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

إقسام اللَّه تعالى بالنجم تأكيدًا لحدث المعراج، ورؤية الآفاق والآيات العظيمة.

2 -

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل على صورته الحقيقية عند سدرة المنتهى.

3 -

تحقير المشركين وأصنامهم، وتسفيه عقولهم وفساد محاكماتهم.

4 -

إثبات الأولى والآخرة للَّه العظيم، وكذلك الشفاعة لا تكون إلا بعد إذنه الكريم.

5 -

تقريع على الكافرين وصفهم الملائكة بنات اللَّه، وأمر اللَّه رسوله الإعراض عن المشركين، وهو سبحانه وتعالى أعلم بالمهتدين، وبمن أصرّ على الضلال المبين.

6 -

إثبات الملك والحساب للَّه رب العالمين، والثناء على الأطهار المؤمنين المتقين.

7 -

ذمُّ أهل الإعراض والكبر، وتأكيد استقلال كل واحد بما عليه من الإثم والوزر، واللَّه تعالى لا يضيع لأحد ما استحقه من الأجر.

8 -

إثبات أمر الخلق والفرح والحزن والحياة والموت للَّه العظيم، وتأكيد إهلاكه -تعالى- عبر الزمان القوم الظالمين.

9 -

محمد صلى الله عليه وسلم نذير كمن سبقه من الرسل، والقرآن نذير كالكتب قبله وهو كلام رب البشر.

10 -

تأكيد اقتراب الساعة والناس في لهو وغفلة، وأولى بهم أن يلتفتوا لما ينجيهم من السجود للَّه وتعظيمه وحده.

* * *

ص: 469

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

18. قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)}.

في هذه الآيات: تأكيد اللَّه تعالى حدث المعراج بإقسامه بالنجم، وتتابع الآيات في ذلك كالقوارع تخرق العقول والقلوب، وتفسد على أصحاب النزعة المادية حياتهم، وتنذر الأمة من مغبة تحكيم الفلسفة والرأي ومعارضة الوحي، فإن الوحي قوة فتاكة إذا سلطها اللَّه سبحانه على أمة فإنها لا تبقي ولا تذر.

فقوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} . قال مجاهد: (إذا سقطت الثريا مع الفجر). وهو قسم من اللَّه تعالى. قال الشعبي: (الخالق يُقسِمُ بما شاء من خَلْقِه، والمخلوق لا ينبغي له أنْ يُقسم إلا بالخالق). وقال الضحاك: ({وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}: إذا رُمي به الشياطين). وهو قول يحتمله التأويل ومفهوم رجم الشياطين بالأشهب الثاقبة. وقيل: المقصود الزهرة - حكاه السدي، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} جواب القسم. فقد أقسم سبحانه بمخلوق عظيم يراه الناس ويبصرونه عظيمًا، ليؤكد أمرًا كبيرًا جليلًا، وهو أن هذا النبي ما حاد عن الحق ولا زال عنه، ولا تركه لحظة إلى خرافات الأولين وهذيانات القاصين والمشعوذين.

ص: 470

والضال هو السالك في الجهالة يخبط في طريقه بغير علم، والغاوي: هو العالم بالحق، العادِلُ عنه قصدًا إلى غيره. قال ابن كثير:(فنزه اللَّه سبحانه وتعالى رسولَه وشرْعَه عن مشابهة أهل الضّلال كالنّصارى وطرائِق اليهود، وعن عِلم الشيء وكتمانِه والعمل بخلافه، بل هو -صلوات اللَّه وسلامه عليه- وما بعثه اللَّه به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسَّداد).

وقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} . أي ما ينطق عن هواه، فليس في قوله غاية لمصلحة أو غرض أو شهوة.

وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} . قال قتادة: (يوحي اللَّه تبارك وتعالى إلى جبرائيل، ويوحي جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80].

2 -

وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7].

3 -

قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].

وفي صحيح السنة العطرة من آفاق ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الترمذي وابن ماجة بسند صحيح عن أبي رافع -وغيره- رفعه قال: [لا ألفِيَنَّ أحدَكُم مُتكئًا على أريكَتهِ يأتيه أمْرٌ مما أمَرْتُ به أو نَهَيْتُ عنه فيقول: لا أدري. ما وَجَدْنا في كتاب اللَّه اتَّبَعْناه](1).

وأبو رافع: هو مولى النبي صلى الله عليه وسلم، واسمه: أسْلَمُ.

الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة والترمذي بسند صحيح عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ألا هَلْ عسى رجُلٌ يبلُغُهُ الحديثُ عني وهو مُتَّكِئٌ على أريكته، فيقول: بَيْننا وبينكم كتابُ اللَّه، فما وَجَدْنا فيه حلالًا استَحْللْناه، وما وجدنا

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (13)، وكذلك الترمذي. انظر صحيح سنن الترمذي (2145).

ص: 471

فيه حرامًا حَرَّمناه، وإنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم كما حرَّم اللَّه] (1).

الحديث الثالث: أخرج أحمد والحاكم بسند حسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [تركت فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهُما، كِتابَ اللَّه، وسنتي، ولن يتَفَرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض](2).

الحديث الرابع: أخرج أبو داود وأحمد بسند قوي عن عبد اللَّه بن عمرو قال: [كنتُ أكتبُ كلَّ شيء أسْمَعُهُ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أريدُ حِفْظَه، فنهتني قريشٌ فقالوا: إنَّكَ تكتبُ كُلَّ شيء تسمعه من رسول اللَّه، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشرٌ يتكلَّمُ في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده، ما يخرج منهُ إلا حقّ](3).

الحديث الخامس: أخرج أحمد بسند حسن عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: [قيل يا رسول اللَّه، إنك تداعبنا! قال: إني لا أقول إلا حقًا](4).

الحديث السادس: أخرج البزار بسند حسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما أخبرتكم أنه من عند اللَّه فهو الذي لا شكَّ فيه](5). وفي لفظ: [ما قلت لكم قال اللَّه فلن أكذبَ على اللَّه].

وقوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} . قال قتادة: (يعني جبريل). والقوى: جمع قوة، فإن جبريل عليه السلام قد آتاه اللَّه خلقًا عجيبًا وقوة مذهلة.

وقوله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} . قال ابن عباس: (ذو منظر حسن). وقال قتادة: (ذو خلق طويل حسن). وقال ابن زيد: (ذو قوة، المِرَّة: القوة). وقال ابن جرير: (عني بالقوة: صحة الجسم وسلامته من الآفات والعاهات). وقوله: {فَاسْتَوَى} أي ارتفع واعتدل.

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (12). وانظر صحيح سنن الترمذي (2146).

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد (3/ 14)، والحاكم وغيرهما. وانظر السلسلة الصحيحة (1761).

(3)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (3646)، كتاب العلم، باب في كتابة العلم، وأخرجه أحمد في المسند (2/ 192) وإسناده قوي، وله شواهد.

(4)

حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (2/ 360)، وإسناده حسن، وله شواهد.

(5)

حديث حسن. أخرجه البزار في المسند. وانظر المجمع (837) من حديث ابن عباس، وإسناده حسن، وله شواهد.

ص: 472

ومنه ما روى أبو داود في السنن بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مِرّة سوي](1). أي لا تحل الصدقة لغني ولا لصحيح سوي قوي.

وقوله تعالى: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} . أي: فاستوى هذا الشديد القوي جبريل ومعه محمد عليهما السلام بالأفق الأعلى. قال الربيع: (السماء الأعلى، يعني جبريل عليه السلام. وقال عكرمة: (والأفق الأعلى الذي يأتي منه الصبح). وقال مجاهد: (هو مطلع الشمس). وقال قتادة: (هو الذي يأتي منه النهار). واللَّه تعالى أعلم.

وقوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} . قال الربيع: (هو جبريل عليه السلام. أي: ثم دنا جبريل من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم {فَتَدَلَّى} أي: فزاد في القرب، والتدلي هو النزول بقرب الشيء.

وقوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} . قال مجاهد: (حيث الوتر من القوس). أي: فكان جبريل عليه السلام قريبًا من النبي صلى الله عليه وسلم على قدر قوسين أو أدنى من ذلك يعني: أو أقرب منه.

وفي الصحيحين وسنن الترمذي عن عبد اللَّه بن مسعود: [في قوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} وفي قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} وفي قوله: {رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال فيها كلها: رأى جبريل عليه السلام له ست مئة جناح](2).

وفي لفظ الترمذي: [{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} قال: رأى رسول اللَّه جبرائيل في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض].

وفي الصحيحين أيضًا عن مسروق قال: [قلت لعائشة: فأين قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} قالت: ذاك جبريل عليه السلام، كان يأتيه في صورة الرجل، وإنما أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته، فسَدَّ الأفق](3).

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (1634)، في السنن. انظر صحيح سنن أبي داود (1439)، ورواه أحمد وغيرهما. انظر صحيح الجامع (7128).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4837) - كتاب التفسير، ورواه مسلم. وانظر صحيح سنن الترمذي (2617) - كتاب التفسير.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3233) - كتاب بدء الخلق، وانظر صحيح مسلم (177)، والنسائي في "التفسير"(428).

ص: 473

وفي جامع الترمذي عن الشعبي قال: [لقي ابن عباس كعبًا بعرفة فسأله عن شيء فكبّر حتى جاوبته الجبال. فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم. فقال كعب: إنّ اللَّه قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فكلم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين. قال مسروق: فدخلت على عائشة فقلت: هل رأى محمد ربَّه؟ فقالت: لقد تكلمت بشيء قَفَّ (1) له شعري. قلت: رُويدًا، ثم قرأت {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} فقالت: أين تذهب بك؟ إنما هو جبريل. من أخبرك أن محمدًا رأى ربَّه أو كتم شيئًا مِمّا أمر به أو يعلم الخمس التي قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} فقد أعظم الفرية، ولكنه رأى جبريل، لم يره في صورته إلا مرتين، مرّة عند سدرة المنتهى، ومرّة في أجياد (2) له ست مئة جناح، قد سدّ الأفق](3).

ويؤكد هذا ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر قال: [سألت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم هل رأيتَ ربك؟ قال: نورٌ أنَّى أراه](4).

وكذلك ما جاء فيه من حديث أبي موسى قال: [قام فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: إن اللَّه عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفِضُ القسطَ ويَرْفَعُه، يُرْفَعُ إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعملُ النهار قبل عمل الليل، حجابُه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه](5).

وأمّا ما روى مسلم عن ابن عباس: ({مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)}، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}. قال: رآه بفؤاده مرتين). فموقوف على ابن عباس، وهو من اجتهاده الخاص، وحديث عائشة مرفوع صريح أنه لم يره وما ينبغي لأحد أن يرى اللَّه سبحانه في الدنيا.

وقد وقفت على رواية رائعة عند ابن ماجة من حديث أبي هريرة، وذلك عند سؤال الملكين في القبر بعد الدفن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فيجلس الرجل الصالح في قبره،

(1) أي قام من الفزع.

(2)

موضع أسفل مكة.

(3)

أخرجه الترمذي (3278) وفيه ضعف، لكن يشهد له خبر عائشة في الصحيحين. فقد أخرجه البخاري (4612)، (4855)، ومسلم (177)، والنسائي في "التفسير"(428).

(4)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (1/ 161)، وفتح الباري (8/ 610 - 611).

(5)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (179) - كتاب الإيمان - من حديث أبي موسى رضي الله عنه.

ص: 474

غيرَ فزع ولا مشعوف (1)، ثم يقال له: فيمَ كنتَ؟ فيقول: كنتُ على الإسلام. فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جاءنا بالبينات من عند اللَّه فصدقناه، فيقال له: هل رأيت اللَّه؟ فيقول: ما ينبغي لأحد أن يرى اللَّه، فيفرج له فرجةٌ قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضًا، فيقال له: انظر إلى ما وقاك اللَّه تعالى، ثم يفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: هذا مقعدك، ويُقال له: على اليقين كُنْتَ، وعليه مُتَّ، وعليه تُبْعثُ إن شاء اللَّه. . .] (2).

فيسأله الملكان عن أصول دينه التي لا تكون النجاة إلا بإقامتها وتعظيمها، ومن تلك الأسئلة: هل رأيت اللَّه؟ فيجيب الرجل الصالح بدين المرسلين المؤمنين: ما ينبغي لأحد أن يرى اللَّه.

وقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} . أي: أوحى إلى عبده ورسوله أمورًا من الدين، وأطلعه على أمور كثيرة:

أولا: أوحى إليه شرع الصلاة:

فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أنس -في الإسراء-: [. . . وأوحى اللَّه إليّ ما أوحى، ففرض عليّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة في كل يوم وليلة، قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك فإني بلوت بني إسرائيل وخبرتهم. قال: فرجعت إلى ربي، فقلت: يا رب! خفف على أمتي فحطّ عني خمسًا، فرجعت إلى موسى فقلت: حطّ عني خمسًا. قال: إنّ أمتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك فسله التخفيف. قال: فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى حتى قال: يا محمد! إنهن خمس صلوات كلَّ يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، من هم بحسنة فلم يعملها كُتِبَت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرًا. ومَنْ هَمَّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب له شيئًا، فإن عملها كتبت له سيئة واحدة. قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك فَسَلْهُ التخفيف. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه](3).

(1) الشعف: شدة الفزع والقلق.

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (4268) - كتاب الزهد. باب ذكر القبر والبلى. وانظر صحيح سنن ابن ماجة (3443)، وصحيح الجامع (1964).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (162) - كتاب الإيمان، في ختام حديث الإسراء.

ص: 475

ثانيًا: أوحى له خواتيم سورة البقرة ومغفرة الكبائر للمؤمنين:

فكان فيما أوحى اللَّه لنبيّه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء خواتيم سورة البقرة، وأخبره بمغفرة المقحمات لمن يموت من أمته لا يشرك باللَّه شيئًا.

فقد روى مسلم في صحيحه عن عبد اللَّه قال: [لما أُسري برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم انتُهِيَ به إلى سِدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يُعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يُهْبَطُ به من فوقها فيقبض منها. قال: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال: فراش من ذهب. قال: فأعطي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: أُعطي الصلوات الخمس، وأعطي خوايتم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك باللَّه من أمته شيئًا المقحمات](1).

ثالثًا: سمع صريف الأقلام وكتابة الملائكة أعمال العباد.

فقد أخرج الإمام البخاري من حديث ابن عباس وفيه: [ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام، ففرض اللَّه على أمتي خمسين صلاة. . . فرجعت فراجعته فقال: هي خمس وهي خمسون لا يُبدَّلُ القول لديّ](2).

رابعًا: دخل الجنة ورأى نهر الكوثر فيها، ورأى في أصل سدرة المنتهى أنهارًا أربعة تفجّر منها.

ففي صحيح البخاري عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[بينما أنا أسيرُ في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قبابُ الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربُّك، فإذا طينُه مِسْكٌ أذفَرُ](3). والأذفر هو الشديد الرائحة.

وكذلك أخرج البخاري عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [فَرُفِعَ لي البيتُ المعمور، فسألت جبريل فقال: هذا البيت المعمور يُصلي فيه كُلَّ يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخِرَ ما عليهم، وَرفِعَت لي سِدْرَةُ المنتهى فإذا نَبقُها كأنه قلال وورقُها كأنه آذان الفيول، في أصلها أربعة أنهار: نهران

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (173) - كتاب الإيمان. وانظر كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين (1/ 377 - 381) لتفصيل البحث.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري -[فتح الباري (1/ 458) - (3/ 492)] من حديث ابن عباس.

(3)

حديث صحيح. انظر: (فتح الباري - شرح صحيح البخاري - (8/ 731)).

ص: 476

باطنان ونهران ظاهران، فسألت جبريل: فقال: أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران النيل والفرات] (1).

خامسًا: رأى النار وأبصر فيها عذاب الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم، وعذاب خطباء القول الذين لا يمتثلونه بالعمل.

فقد أطلع اللَّه نبيّه عليه الصلاة والسلام على صور من العذاب لأعمال تورد النار كالغيبة والنميمة والقذف والزنا والربا، وكذلك أراه صورًا من عذاب من يدّعي الطهارة ويعلمها للناس من خطباء هذه الأمة الذين يعملون على خلاف ما يقولون.

ففي المسند بإسناد صحيح من حديث أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [لما عرج بي ربي عز وجل، مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم](2).

وروى البيهقي بسند حسن من حديث أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [أتيتُ ليلة أُسري بي على قوم تُقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت وفَتْ، فقلت يا جبريل: من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرؤون كتاب اللَّه ولا يعملون به](3).

سادسًا: رأى عن يمين آدم أهل الجنة، وعن يساره أهل النار.

فقد خرّج البخاري من حديث أنس: [. . . فلما فُتِحَ علونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أسْوِدة، وعلى يساره أسودة، إذا نظر قِبَلَ يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى. فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح، قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نَسَمُ بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظرَ قِبَل شماله بكى](4).

فصدقه المؤمنون بكل ما ذكره لهم وعلى رأسهم الصديق رضي الله عنه، وقد سُمِّيَ

(1) حديث صحيح. انظر (صحيح البخاري - فتح الباري (7/ 201 - 202)).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 224)، وأبو داود (4878). وانظر:"الصحيحة"(533).

(3)

حديث حسن. رواه البيهقي عن أنس. انظر صحيح الجامع الصغير (128).

(4)

حديث صحيح. انظر: صحيح البخاري - فتح الباري (1/ 458)، (3/ 492)، (6/ 374).

ص: 477

بذلك من يومئذ، في حين كذبته قريش وسخر من الحدث المشركون.

ففي صحيح البخاري عن جابر، أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:[لما كذبني قريش قمتُ في الحجر فجلّى اللَّه لي بيت المقدس، فطفِقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه](1).

وقوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} . قال عبد اللَّه بن مسعود: (رأى جبريل عليه السلام له ست مئة جناح) - رواه البخاري ومسلم كما سبق بتمامه. وعن قتادة: ({مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} قال: رأى جبريل في صورته التي هي صورته. قال: وهو الذي رآه نزلة أخرى).

وقوله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} . قال ابن جرير: (أفتجادلون أيها المشركون محمدًا على ما يرى مما أراه اللَّه من آياته).

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} . {نَزْلَةً} مصدر في محل نصب حال، والتقدير: ولقد رآه نازلًا نزلةً أخرى. قال القرطبي: (فقوله: {نَزْلَةً أُخْرَى} يعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كان له صعودٌ ونزول مرارًا بحسب أعداد الصلوات المفروضة، فلكل عَرْجَةٍ نزلة. وعلى هذا قوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} أي ومحمد عند سدرة المنتهى وفي بعض تلك النزلات). وقال النسفي: ({نَزْلَةً أُخْرَى} مرة أخرى من النزول. أي: نزل عليه جبريل عليه السلام نزلة أخرى في صورة نفسه فرآه عليها وذلك ليلة المعراج).

وفي الصحيحين والمسند وجامع الترمذي عن مسروق قال: [كنت عند عائشة فقلت: أليس اللَّه يقول: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ}، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}؟ فقالت: أنا أوّلُ هذه الأمة سألَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: إنما ذاك جبريل. لم يَرَهُ في صورته التي خُلِقَ عليها إلا مَرَّتين. رآه مُنْهبِطًا من السماء إلى الأرض، سادًّا عظمُ خَلْقِهِ ما بينَ السماء والأرض](2).

وقوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} . السدرة: شجرة النبق في السماء السابعة، والمنتهى بمعنى موضع انتهاء علوم الخلائق. قال كعب: (إنها سدرة في أصل العرش، إليها ينتهي علم كل عالم، مَلك مقرّب أو نبيّ مرسل، ما خلفها غيب لا يعلمه إلا

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4710) - كتاب التفسير. وكذلك (3886)، ورواه مسلم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4612)، (4855)، ومسلم (177/ 287)، والترمذي (3068)، والنسائي في "التفسير"(428 - 429)، وأحمد (6/ 241).

ص: 478

اللَّه). وقال في رواية أخرى: (إليها ينتهي علم الخلائق، ثم ليس لأحد وراءها علم، ولذلك سميت سدرة المنتهى، لانتهاء العلم إليها). وقال الضحاك: (لأنه ينتهي إليها كل شيء من أمر اللَّه لا يعدوها).

وفي صحيح البخاري من حديث مالك بن صعصعة مرفوعًا: [ورُفعت لي سِدرةُ المنتهى، فإذا نبقها كأنه قلال، وورقها كأنه آذان الفيول في أصلها أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران] الحديث (1).

وفي صحيح مسلم من حديث عبد اللَّه قال: [لما أسري برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم انْتُهِيَ به إلى سِدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يُعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يُهْبَطُ به من فوقها فيقبض منها](2).

وقوله تعالى: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} . قال النسفي: (أي الجنة التي يصير إليها المتقون، وقيل: تأوي إليها أرواح الشهداء).

وقوله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} . أي رآه إذ يغشى السدرة ما لا يحيط به الوصف من الروعة والجمال والحسن. وهو تعظيم وتكثير لما يغشاها.

وفي صحيح مسلم من حديث عبد اللَّه السابق: [قال: {يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال: فراش من ذهب].

وفي صحيح مسلم من حديث أنس: [فلما غشيها من أمر اللَّه ما غَشِيَ تغيرت، فما أحد من خلق اللَّه يستطيع أن يَنْعَتَها من حُسْنِها](3).

وقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} . أي ما مال بصر محمد صلى الله عليه وسلم يَعْدِل يمينًا وشمالًا عما رأى، ولا جاوز ما أمِرَ به. قال محمد بن كعب القرظي:({مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} قال: رأى جبرائيل في صورة الملك).

وقوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} . قال عبد اللَّه بن مسعود: (رأى جبريل عليه السلام له ست مئة جناح)(4). قال ابن زيد: (جبريل، رآه في خلقه الذي يكون به في السماوات قدر قوسين من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبينه). وقال ابن جرير: ({لَقَدْ رَأَى

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري. انظر: فتح الباري (7/ 201 - 202)، وقد مضى بتمامه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (173) - كتاب الإيمان. وقد مضى بتمامه قبل صفحات.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (162) - كتاب الإيمان، في أثناء حديث الإسراء الطويل.

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4857)، كتاب التفسير، في أثناء حديث. ورواه مسلم.

ص: 479

مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}: لقد رأى محمد هنالك من أعلام ربه وأدلته الأعلام والأدلة الكبرى).

قلت: وقد سبق ذكر الآيات الكبيرة التي رآها نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج: كدخوله الجنة ورؤيته نهر الكوثر فيها، ورؤيته الأنهار الأربعة التي في أصل سدرة المنتهى تتفجّر منها، ورؤيته النار وعذاب بعض أهلها، ورؤيته الأسودة عن يمين آدم وشماله: نسمُ بنيه من أهل الجنة وأهل النار، إضافة إلى سماعه صريف الأقلام وكتابة الملائكة أفعال العباد، إلى غير ذلك من الآيات الكبيرة التي أطلع اللَّه عليها نبينا صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة.

19 -

26. قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)}.

في هذه الآيات: تحقيرٌ للمشركين وأصنامهم، وتصغيرٌ لعقولهم وفساد حكمهم ومنهاجهم، وإثبات الأولى والآخرة للَّه العظيم، الذي لا يستطيع ابتداء الشفاعة لديه رسول أو ملك كريم، إلا من بعد أن يأذن اللَّه العزيز الحكيم.

فقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} . تقريع من اللَّه سبحانه بالمشركين في اتخاذهم الأصنام والأوثان، وعبادتها من دون الرحمن، وتخصيص البيوت لها مضاهاة بكعبة أهل الإسلام.

قال ابن كثير: (وكانت اللات صخرة بيضاء منقوشة وعليها بيتٌ بالطائف له أستار وسَدَنة، وحوله فِناءٌ مُعَظَّمٌ عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تابعها يفتخرون بها على مَنْ عداهم من أحياء العرب بعد قريش).

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس: رضي الله عنهما في قوله: {اللَّاتَ وَالْعُزَّى} قال: [كان اللّات رجُلًا يَلُتُّ سَوِيقَ الحاجِّ](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4859)، كتاب التفسير، سورة النجم، آية (19).

ص: 480

قال ابن جرير: (كان قد اشتقوا اسم اللات من اسم اللَّه، فقالوا اللات يعنون مؤنثة منه) - تعالى اللَّه عن ذلك علوًا كبيرًا.

وأما العُزّى فمشتقة من العزيز. وكانت شجرة عليها بناءٌ كبيرٌ وأستارٌ بنخلة، وهي بين مكة والطائف، وكانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد:(لنا العزّى ولا عزّى لكم). فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [قولوا: اللَّه مولانا ولا مولى لكم].

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [مَنْ حَلَفَ فقال في حَلِفِهِ: واللّات والعُزّى، فليقل: لا إله إلا اللَّه](1). والمقصود ما يكون من ذلك من زلة اللسان على عادة الجاهلية.

وفي المسند وصحيح ابن حبان بإسناد على شرط مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: [حَلَفْتُ باللات والعُزَّى، فقال لي أصحابي: بئسَ ما قلتَ! قُلْتَ هُجرًا! فأتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: قُل: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمدُ، وهو على كل شيء قدير. وانفث عن شِمالك ثلاثًا وتَعَوَّذ باللَّه من الشيطان الرجيم، ثم لا تَعُدْ](2).

وأما "مَنَاة" فكانت تُعظِّمها خزاعة والأوس والخزرج في الجاهلية، وكانوا يهلون منها للحج إلى الكعبة. قال البخاري:(قال سفيان: مَناةُ بالمُشَلَّلِ مِنْ قُدَيْدٍ). قال: (وقال مَعْمَرٌ عن الزهري، عن عُروة، عن عائشة: كان رجالٌ من الأنصارِ مِمَّنْ كانَ يُهِلُّ لمناة، -ومناةُ صَنَمٌ بين مكةَ والمدينة- قالوا: يا نبي اللَّه، كنّا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة)(3).

وقد خرّج البخاري في صحيحه عند تفسير هذه الآية: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} عن عروة: قلت لعائشة رضي الله عنها: فقالت: [إنما كان مَنْ أَهَلَّ لِمَناة الطّاغِيَة التي بالمُشَلَّلِ لا يطوفون بين الصَّفا والمَرْوَةِ، فأنزل اللَّه تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4860)، كتاب التفسير، وكذلك (6107). ورواه مسلم في الصحيح (5/ 1647)، وأبو داود (3247)، والترمذي (1545)، والنسائي (3775) وفي "التفسير"(566)، ورواه ابن ماجة (2096).

(2)

أخرجه أحمد (1/ 183)، (1/ 186 - 187)، والنسائي (3776)، (3777)، وفي "التفسير"(565)، وابن حبان (4365)، وإسناده على شرط مسلم، ويشهد لأصله ما قبله.

(3)

أخرجه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، عقب الحديث (4861). وانظر كذلك (1643).

ص: 481

شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] فطاف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمون] (1).

وهذه الثلاثة هي من أشهر الطواغيت التي كانت العرب تعظمها كتعظيم الكعبة، وهناك غيرها. قال ابن إسحاق:(وقد كانت العربُ اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوتٌ تُعَظِّمُها كتعظيم الكعبة، بها سَدَنَةٌ وحُجَّابٌ، وتُهدي لها كما يُهدى للكعبة، وتطوفُ بها تطوافها بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضلَ الكعبة عليها، لأنها كانت قد عرفت أنها بيتُ إبراهيم عليه السلام ومسجدُه، فكانت لقريش وبني كنانة العُزَّى بنخلة، وكانت سدنتها وحُجَّابُها بني شيبان من سُلَيم حلفاء هاشم)(2).

قلت: وقد بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سرية في أعقاب فتح مكة لخمس ليال بقين من رمضان أمَّرَ عليها خالد بن الوليد إلى العُزى ليهدمها -كما يروي ابن سعد في الطبقات- في ثلاثين فارسًا من أصحابه حتى انتهوا إليها، فهدمها ثم رجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: هل رأيت شيئًا؟ قال: لا، قال: فإنك لم تَهْدِمْها فارجع إليها فاهدمها. فرجع خالد وهو مُتَغَيِّظٌ فَجَرَّد سيفَه، فخرجت إليه امرأة عجوز عُريانة سوداء ناشرة الرأس، فجعل السَّادِنُ يصيح بها، فضربها خالد فجزلها باثنتين، ورجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: نعم تِلك العُزَّى، وقد أَيِسَتْ أن تُعْبَدَ في بلادكم أبدًا. وكانت بِنَخْلة -على يوم من مكة-، وكانت لقريش وجميع بني كنانة، وكانت أعظمَ أصنامِهم، وكان سدنَتُها بني شيبان (3).

ثم بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سعدَ بن زيد الأشهلي إلى مناة -كما يروي ابن سعد في الطبقات-، وكانت بالمُشَلَّل عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم، فخرج في عشرين فارسًا حتى انتهى إليها وعندها سادِنٌ، فقال السَّادِنُ: ما تُريد؟ قلتُ: هَدْمَ مَناة، قال: أنت وذاك، فأقبل سعدٌ يمشي إليها، وتخرُجُ امرأةٌ عُريانة سوداءُ، ثائرة الرأس، تدعو بالويل، وتَضْرِبُ صَدْرها، فقال لها السَّادِنُ: مناة دونك بعضَ عُصَاتك، فضربها سعد فقتلها، وأقبل إلى الصنم، ومعه أصحابه فهدمه، وكسروه، ولم يجدوا في خزانته شيئًا (4).

وأما اللات فكانت لثقيف بالطائف -كما يروي ابن إسحاق في السيرة- وكان سدنتها

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (4861)، كتاب التفسير، سورة النجم - آية (20).

(2)

انظر سيرة "ابن هشام"(4/ 62)، وتفسير ابن كثير - سورة النجم - آية (20 - 21).

(3)

انظر: طبقات ابن سعد (2/ 145 - 146)، وكتابي: السيرة النبوية (3/ 1281 - 1282).

(4)

انظر: ابن سعد في "الطبقات"(2/ 146 - 147)، وكتابي: السيرة النبوية (3/ 1282).

ص: 482

وحُجابها بني مُعَتِّب، وقد بعث إليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صَخْر بن حَرب، فهدماها وجَعلا مكانها مسجدَ الطائف.

وبذلك أزيلت أكبر مراكز الوثنية في جزيرة العرب، وأُجهز على قلاعها الخرافية ومنشآتها الأسطورية، لتسطع على الأرض من جديد شمس دين الإسلام دين الحق والتوحيد، وهي تشع فوق أرجاء مكة وربوعها، ومنها تمتد إلى أرجاء المعمورة، وهي تحمل إلى البشرية النور والأمن والتوحيد والإيمان، بعدما عانت البشرية زمنًا طويلًا من ظلام الشرك والكفر والظلم والطغيان، وليدخل الناس في دين اللَّه أفواجًا.

وقوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} . أي: جعلكم للَّه البنات ولكم البنين قسمة جائرة. من ضازه يضيزه إذا ضامه.

وقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} . إنكار على المشركين إحداثهم الكذب والكفر من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة، ما أنزل اللَّه بها حجة ولا مستند لهم بذلك إلا تعظيم آبائهم لها وحسن ظنهم بآبائهم وما تهوى نفوسهم، ولذلك قال سبحانه:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} .

وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} . أي: ولقد جاءهم من اللَّه الوحي والنبوة فكذبوا واتبعوا أهواءهم.

وقوله تعالى: {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} . أي: ليس كل من تمنى خيرًا حصل له، وما كل من زعم أنه مهتد يكون كذلك، فالأمر للَّه تعالى مالك الدارين.

وقوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . أي: إذا كان أمر الشفاعة هكذا في حق الملائكة المقربين فكيف بالأصنام المذمومة؟ قال القرطبي: (هذا توبيخ من اللَّه تعالى لمن عبد الملائكة والأصنام، وزعم أن ذلك يقرّبه إلى اللَّه تعالى، فأعلم أن الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتهم على اللَّه لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].

2 -

وقال تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23].

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أما أهل النار الذين هم

ص: 483

أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم فأماتتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحما أُذِن بالشفاعة] الحديث (1).

فالحديث يثبت أن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن اللَّه تعالى بذلك، وهذه الشفاعة لأهل الكبائر دون الشرك، فإن اللَّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.

وفي معجم الطبراني بسند حسن عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[صنفان من أمتي لن تنالَهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم، وكل غال مارق](2).

27 -

30. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)}.

في هذه الآيات: تقريع على الكفار الذين لا يصدقون بالبعث في الدار الآخرة تسميتهم الملائكة تسمية الإناث بقولهم: هم بنات اللَّه، وأمْرٌ من اللَّه تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن الكافرين، فإن اللَّه هو أعلم بالمهتدين وبمن إصرَّ على الضلال المحبين.

فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} . إنكار على المشركين تسمية الملائكة كتسمية الأنثى، وزعمهم الفاسد أنها بنات اللَّه كما قال تعالى:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]. قال النسفي: ({تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} لأنهم إذا قالوا للملائكة بنات اللَّه فقد سمّوا كل واحد منهم بنتًا وهي تسمية الأنثى).

وقوله: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} . أي ومالهم بما يَدَّعُون من مستند

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1/ 118)، وانظر تفصيل البحث في كتابي: أصل الدين والإيمان، عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان (2/ 752 - 759).

(2)

حديث حسن. رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" - قال الهيثمي في "المجمع"(5/ 235): (ورجال الكبير ثقات). وهو في الأوسط (1/ 197/ 2) حسن لغيره. وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(4/ 1)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (471).

ص: 484

علم، وإنما هو الظن. {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}. أي: ولا يجدي الظن ولا يقدّم لأهله نفعًا، ولا يقوم مقام الحق شيئًا.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[إياكم والظَّن، فإنَّ الظَّنَ أَكْذَبُ الحديث](1).

وقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} . أي: فدع -يا محمد- من أعرض عن الحق، ولم يُعَظِّم ربّه عز وجل، ويعلي ذكره فوق كل شيء.

وقوله: {وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} . قال ابن جرير: (يقول: ولم يطلب ما عند اللَّه في الدار الآخرة، ولكنه طلب زينة الحياة الدنيا، والتمس البقاء فيها).

وقوله: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} . أي: العلم بأحوال الدنيا ومداخل أمورها غاية ما وصلوا إليه.

وفي التنزيل نحو ذلك، قوله جل ذكره:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]. قال الفراء: ({ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} صَغّرهم وازدرى بهم، أي ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة).

أخرج ابن حبان في "صحيحه"، وكذلك البيهقي، بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إن اللَّه يبغض كل جعظري جواظ، سخاب في الأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة](2).

والجَعْظَري: الفظ الغليظ المتكبر، والجوّاظ: الجموع المنوع. والسخاب: كالصخاب، وهو كثير الضجيج والخصام. وفي رواية ذكرها ابن الأثير:(خُشب بالليل، سُخُب بالنهار). أي: إذا جنّ عليهم الليل سقطوا نيامًا كأنهم خشب، فإذا أصبحوا تساخبوا على الدنيا وتسابقوا إليها حرصًا وشحًا وطمعًا.

وللحديث شاهد صحيح عند الحاكم في "تاريخه" عن أبي هريرة مرفوعًا: [إنّ اللَّه تعالى يبغض كلَّ عالمٍ بالدنيا، جاهِلٍ بالآخرة](3).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2563) - كتاب البر والصلة، باب تحريم الظن والتجسس.

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(1957 - موارد)، والبيهقي (10/ 194).

(3)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم والديلمي بإسناد صحيح. انظر صحيح الجامع (1875)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (195).

ص: 485

وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} .

أي: إن ربك -يا محمد- هو أعلم بمن حاد عن دينه وأخطأ سبيل الهدى والنجاة، ممن هو قد أصاب قصد السبيل وسلك سبيل النجاة، وكل ذلك سابق في علم اللَّه تعالى.

31 -

32. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)}.

في هذه الآيات: إثبات الملك والحساب للَّه رب العالمين، وثناء على المجتنبين الكبائر والفواحش من المؤمنين، واللَّه تعالى هو أعلم بالمتقين.

فقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} . أي هو المالك -سبحانه- المتصرف في هذا الكون، الحاكم بين عباده، فمثيب للمحسنين ومعاقب للآثمين. قيل اللام في {لِيَجْزِيَ} لام العاقبة. قال القرطبي:(أي وللَّه ما في السماوات وما في الأرض، أي وعاقبة أمر الخلق أن يكون فيهم مسيء ومحسن، فللمسيء السوءى وهي جهنم، وللمحسن الحسنى وهي الجنة). وقال النسفي: ({وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} بالمثوبة الحسنى وهي الجنة، أو بسبب الأعمال الحسنى. والمعنى أن اللَّه عز وجل إنما خلق العالم وسوى هذا الملكوت ليجزي المحسن من المكلفين والمسيء منهم إذ الملك أهل لنصر الأولياء وقهر الأعداء).

وقوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} . قيل: الكبائر ما أوعد اللَّه عليه النار، والفواحش ما شرع فيها الحد. واللمم: الصغائر. وقيل: كبائر الإثم الشرك لأنه أكبر الآثام، والفواحش: الزنى. ثم استثنى استثناء منقطعًا: {إِلَّا اللَّمَمَ} قال الشعبي: (كل ما دون الزنى). وقال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق: (إن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة).

أخرج ابن جرير بسند جيد عن ابن عباس: ({الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}، قال هو الرجلُ يُلِمُّ بالفاحشة ثم يتوب).

ص: 486

وأخرج الترمذي بسند صحيح عن ابن عباس -أيضًا-: [{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} . قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:

إن تَغْفِر اللهمَّ تغفر جَمَّا

وأَيُّ عَبْدٍ لك لا ألَمَّا] (1)

قال مجاهد: (هو الذي يأتي بالذنب ثم لا يعاوده).

وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: [ما رأيت شيئًا أشْبَهَ باللَّمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن اللَّه كَتبَ على ابن آدمَ حَظَّهُ من الزِّنا، أدركَ ذلكَ لا مَحَالَةَ، فزِنا العينِ: النَّظَرُ، وزِنا اللسانِ: المَنْطِقُ، والنَّفْسُ تتمنَّى وتَشْتَهي، والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلك كُلَّهُ ويكَذِّبُهُ](2).

وفي رواية لمسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [كُتِبَ على ابنِ آدمَ نصيبُهُ من الزِّنى، مُدْرِكٌ ذلك لا مَحَالَةَ، فالعينان زِناهُما النَّظَر، والأُذُنان زِناهما الاستماعُ، واللسانُ زناه الكلام، واليَدُ زناها البَطْشُ، والرِّجْلُ زناها الخُطا، والقلبُ يهوى ويتمنّى، ويُصَدِّق ذلك الفرجُ ويُكذِّبُه].

وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} . أي: لمن تاب من ذنبه واستغفر - قاله ابن عباس. فرحمته تعالى وسعت كل شيء، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها، وفي التنزيل:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يَحْكي عن ربه عز وجل قال: [أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، قال: اللهمَّ! اغْفِر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عَبْدي ذَنْبًا، عَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، ويَأخُذُ بالذَّنب، ثم عادَ فأذْنَبَ، فقال: أيْ ربِّ! اغفِر لي ذَنْبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له ربًّا يغفِرُ الذَّنْبَ، ويأخذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عاد فأذْنَبَ، فقال: أي ربِّ! اغفر لي ذَنْبي، فقال تبارك وتعالى: أَذْنَبَ

(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (2617) - عند تفسير هذه الآية، ورواه الحاكم (2/ 469)، وصححه على شرطهما، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6243) - كتاب الاستئذان، ورواه مسلم (2657) - كتاب القدر، ورواه عبد الرزاق في "التفسير"(3037).

ص: 487

عبدي ذنبًا، فَعَلِمَ أنَّ له ربًا يغفِرُ الذَّنب، ويأخذ بالذَّنبِ، اعمل ما شِئتَ فقد غفرت لك] (1).

وفي صحيح مسلم -أيضًا- عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[لو يَعْلَمُ المؤمِنُ ما عِنْدَ اللَّه من العقوبةِ، ما طمِعَ بجنَّتِه أحَدٌ، ولوْ يَعْلَمُ الكافِر ما عِند اللَّه من الرَّحمة، ما قَنِطَ من جَنَّتهِ أحَدٌ](2).

وقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} . قال ابن زيد: (حين خلق آدم من الأرض ثم خلقكم من آدم).

وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللَّه خَلَقَ آدمَ من قُبْضَةٍ قَبَضَها من جميع الأرض، فجاء بنو آدمَ على قَدْرِ الأرض، فجاءَ مِنْهم الأحْمَرُ، والأبيضُ، والأسودُ، وبين ذلك، والسَّهْلُ، والحَزْنُ، والخبيثُ، والطَّيِّبُ](3).

فالمعنى: هو تعالى {أَعْلَمُ بِكُمْ} -أي: بصير بأحوالكم وما يصدر عنكم، فهو يعلم ما يقع منكم في سابق علمه قبل أن يخلقكم، فقد أنشأ أباكم من الأرض ثم استخرج ذريته من صلبه فقسمهم فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير.

أخرج الإمام أحمد في المسند، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، مرفوعًا. [إنّ اللَّه عز وجل خلق آدم، ثم أخذ الخلق من ظهره، وقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي، فقال قائل: يا رسول اللَّه فعلى ماذا نعمل؟ قال على مواقع القدر](4).

وأخرج أبو يعلى في "مسنده" بسند صحيح لغيره عن أنس مرفوعًا: [إنّ اللَّه عز وجل

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (2758) - كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب، وإن تكررت الذنوب والتوبة. قال عبد الأعلى -أحد الرواة-: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة: "اعمل ما شئت".

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (2755) - كتاب التوبة. باب في سعة رحمة اللَّه تعالى، وأنها تغلب غضبه.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 406)، والترمذي وقال حسن صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (2355)، ورواه البيهقي في "الأسماء والصفات"(327)، (385).

(4)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 186)، وابن حبان (1806)، والحاكم (1/ 31) وسنده صحيح.

ص: 488

قبض قبضة فقال: في الجنة برحمتي، وقبض قبضة فقال: في النار ولا أبالي] (1).

وقوله: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} . أي: وهو -تعالى- أعلم بأحوالكم حين أنتم حمل لم تولدوا ولم تخرجوا من بطون أمهاتكم.

أخرج الإمام مسلم في الصحيح عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ اللَّه تعالى وكَّلَ بالرحم ملكًا يقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد اللَّه أن يقضي خلقها قال: أي رب شقي أو سعيد؟ ذكر أو أنثى؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتبُ كذلك في بطن أمه](2).

وقوله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} . قال زيد بن أسلم: (يقول: فلا تبرئوها). قال ابن جرير: (يقول جل ثناؤه: فلا تشهدوا لأنفسكم بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصي).

وقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} . أي: اللَّه أعلم -يا محمد- بمن خاف مقام ربه وعظّم شرعه وحرص بصدق على النجاة من عقابه.

وفي التنزيل نحو ذلك:

- قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} .

ومن صحيح السنة المطهرة في ذلك أحاديث:

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: [سَمَّيْتُ ابنتي بَرَّةَ، فقالتْ لي زينبُ بِنْتُ أبي سَلَمَةَ: إنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وَسُمِّيتُ بَرَّةَ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تُزكُّوا أنْفُسَكم، اللَّهُ أعْلَمُ بأهل البِرِّ مِنكُم". فقالوا: بِمَ نُسَمِّيها؟ قال: سَمُّوها زَيْنَبَ](3).

ورواه مسلم عن أبي هريرة: [أنّ زينبَ كان اسْمُها بَرَّة، فقيل: تُزَكِّي نَفْسَها، فسَمّاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زينب](4).

الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود عن عبد الرحمن بن أبي بَكْرة عن

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(171/ 2)، وابن عدي في "الكامل"(66/ 2)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (47)، (48).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2646) - كتاب القدر، وانظر كذلك (2645)، ورواه أحمد.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2142) ح (19) - كتاب الآداب، وكذلك ح (18).

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2141) - كتاب الآداب. باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن، وتغيير اسم برة إلى زينب وجويرية ونحوهما.

ص: 489

أبيه قال: [أثنى رجلٌ على رَجُلٍ عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "وَيْلَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صاحبك"، قَطَعْتَ عُنُقَ صاحِبِكَ مِرارًا. ثم قال: مَنْ كان مِنكم مادِحًا أخاه لا مَحالةَ فَلْيَقُل: أَحْسِبُ فُلانًا واللَّه حَسيبُهُ، ولا أُزكِّي على اللَّه أحدًا، أَحْسبُه كذا وكذا، إنْ كان يعلمُ ذلك منْه](1).

الحديث الثالث: روى مسلم وأبو داود والترمذي عن هَمّام، قال: جاء رجل فأثنى على عثمان في وجهه، فأخذ المقداد بن الأسود ترابًا فحثا في وجهه، وقال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إذا لقيتُم المَدَّاحين فاحْثوا في وجوههم التراب](2).

33 -

41. قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)}.

في هذه الآيات: ذمُّ أهل الإعراض والكبر، وتقرير أنه لا يحمل أحدٌ عن أحد الإثم والوزر، واللَّه تعالى لا يضيع لأحد استحقاقه من الثواب والأجر.

فقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} . ذمٌّ من اللَّه لمن تولى عن طاعته فلا صدّق ولا صلى، ولكن كذّب وتولى. قال ابن جرير:(يقول تعالى ذكره: أفرأيت يا محمد الذي أدبر عن الإيمان باللَّه، وأعرض عنه وعن دينه).

وقوله تعالى: {وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى} . أي أطاع قليلًا وأنفق ثم انقطع وأمسك وبخل. قال ابن عباس: (أطاع قليلًا ثم قطعه). وقال مجاهد: ({وَأَكْدَى}: انقطع عطاؤه). وقال قتادة: (أعطى قليلًا، ثم قطع ذلك). قال القرطبي: (وأصل "أَكْدى" من الكُدْية، يقال لمن حَفَر بئرًا ثم بلغ إلى حجر لا يتهيأ له فيه حَفْر: قد أكدى، ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يُتَمِّم، ولمن طلب شيئًا ولم يبلغ آخره). وقال

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2662) - كتاب الشهادات، وأخرجه مسلم (3000) ح (65) وأبو داود (4805)، وأحمد (5/ 41)، (5/ 45)، وابن حبان (5766).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (3002)، والبخاري في "الأدب المفرد"(339)، وأبو داود (4804)، والترمذي (2393)، وابن ماجة (3742)، وأحمد (5/ 6).

ص: 490

الكسائي: (أكْدى الحافرُ وأَجبل إذا بلغ في حَفْره كُدْية أو جبلًا فلا يمكنه أن يَحفِر).

وقوله تعالى: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} . قال ابن كثير: (أي: أعندَ هذا الذي قد أمسكَ يده خشية الإنفاق، وقَطَعَ معروفَه، أعندهُ علمُ الغيب أنه سينفد ما في يده، حتى أمسك عن معروفه، فهو يرى ذلك عِيانًا؟ ! أي: ليس الأمر كذلك، وإنما أمسكَ عن الصَّدقة والمعروف والبرِّ والصلة بُخلًا وشُحًّا وهَلَعًا).

فالآية ذمٌّ لسلوك أهل البخل والشح الذين لا يثقون بإخلاف اللَّه الرزق لهم عقب الصدقات والإنفاق في سبيل اللَّه.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].

2 -

وقال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16].

3 -

وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 8 - 11].

وفي صحيح مسلم عن جابر، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فان الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم](1).

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: [ما مِنْ يوم يُصْبحُ العِبادُ فيه إلا مَلكانِ ينزلانِ فيقول أحدهما: اللهم أعط مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقول الآخرُ: اللهم أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا](2).

وفي معجم الطبراني ومسند أبي يعلى بسند حسن من حديث بلال مرفوعًا: [أنفق بلالًا، ولا تخش من ذي العرش إقلالًا](3).

وقوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} . أي: أم لم يخبر بما في التوراة التي أنزلها اللَّه سبحانه على موسى.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2578) - كتاب البر والصلة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (1442) - كتاب الزكاة. وأخرجه مسلم (1010)، وغيرهما.

(3)

حديث حسن. أخرجه الطبراني (1020)، وأبو يعلى (6045)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 280)، وحسن إسناده الهيثمي في "المجمع"(3/ 126).

ص: 491

وقوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} . أي: وبما في صحف إبراهيم الذي أحسن الوفاء للَّه، وأخلص الانقياد والطاعة. قال ابن عباس:({وَفَّى} للَّه بالبلاغ). وقال سعيد بن جبير: (بلَّغ جميع ما أُمِرَ به). وقال قتادة: ({وَفَّى} طاعة اللَّه، وأدّى رسالته إلى خلفه). وقول قتادة شامل لما سبق في تأويل هذه الآية.

وقوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . بيان من اللَّه سبحانه لما كان أوحاه في صحف إبراهيم وموسى، أن وزر كل نفس إنما هو عليها لا يحمله عنها أحد. كما قال جل ذكره:{وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18].

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: [قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أُنْزِلَ عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]: يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من اللَّه، لا أغني عنكم من اللَّه شيئًا، يا بني عبد المُطَّلبِ! لا أغني عنكم من اللَّه شيئًا. يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنكَ من اللَّه شيئًا. يا صَفِيَّةُ! عَمَّةَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من اللَّه شيئًا. يا فاطمةُ! بنت رسول اللَّه سليني ما شِئت، لا أغني عنك من اللَّه شيئًا] (1).

وقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} . أي: أو لم يُنبأ كذلك أنه لا يجازى عامل إلا بعمله، فكما لا يُحْمَلُ عليه وِزْرُ غيره، كذلك لا يأخذ من الأجو إلا من كسبه وسعيه.

وقد ثبت انتفاع العبد من عمل غيره بأمور:

1 -

دعاء المسلم له، إن توفرت فيه شروط القبول.

ففي التنزيل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[دعوةُ المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملكٌ مُوَكَّل، كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكَّلُ به: آمين ولك بمثل](2).

وفي صحيح أبي داود عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: [كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (206) - كتاب الإيمان، وانظر كذلك الحديث (204) منه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 86) - كتاب الدعاء. باب: الدعاء للمسلم بظهر الغيب.

ص: 492

من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل] (1).

2 -

قضاء وليِّ الميت صومَ النذر عنه.

ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ مات وعليه صيام، صامَ عنه وليُّه](2).

وأخرج أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنه: [أن امرأة ركبت البحر فَنَذَرتْ، إِنِ اللَّه تبارك وتعالى أنجاها أن تصوم شهرًا، فأنجاها اللَّه عز وجل، فلم تَصُم حتى ماتت، فجاءت قرابَةٌ لها (إما أختُها أو ابنتُها) إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: أرأيتُك لو كان عليها دَيْنٌ كنتِ تَقْضِينَه؟ قالت: نعم. قال: فدينُ اللَّه أحق أن يُقضى، فاقض عن أمِّك](3).

قال أبو داود في "المسائل"(96). (سمعت أحمد بن حنبل قال: لا يُصام عن الميت إلا في النذر).

3 -

قضاء الدَّين عنه من أي شخصٍ موليًا كان أو غيره.

فقد أخرج الحاكم بسند صحيح من حديث جابر قال: [مات رجل، فغسلناه، وكفَّناه وحَنَّطْناهُ، ووضعناه لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حيث توضع الجنائز، عند مقام جبريل، ثم آذنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه، فجاء معنا، فتخطّى خُطًا، ثم قال: لعل على صاحبكم دينًا؟ قالوا: نعم ديناران، فتخلّف، فقال له رجل منا يُقال له أبو قتادة: يا رسول اللَّه هما عليّ، فجعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: هما عليك وفي مالك، والميت منهما بريء؟ فقال: نعم، فصلّى عليه](4).

4 -

الأعمال الصالحة من الولد الصالح.

فإن لوالديه مثلَ أجره، دون أن يَنقُصَ من أجره شيء، لأن الولد من سعيهما وكسبهما، كما قال تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39].

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2/ 70)، وصححه الألباني في "أحكام الجنائز"(107) ص (156).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم فى الصحيح (3/ 155) - كتاب الصيام. باب: قضاء الصيام عن الميت، من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما. انظر صحيح سنن أبي داود (2829).

(4)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 58)، وانظر:"أحكام الجنائز"(17) ص (16).

ص: 493

وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ أطيبَ ما أكلَ الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه](1).

وله شاهد في المسند وبعض السنن عنها بلفظ: [إنّ أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم].

ومن تلك الأعمال الصدقة والصيام والعتق ونحوه لأحاديث، منها:

أ- أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: [أنّ رجلًا قال: إنّ أمي افْتُلِتَت نفسُها -أي ماتت فجأة- ولم تُوص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجرٌ إن تصدّقت عنها ولي أجر؟ قال: نعم، فتصدق عنها](2).

ب - أخرج مسلم في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: [أنّ رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنّ أبي مات وترك مالًا ولم يُوص، فهل يكفِّر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم](3).

ج - أخرج أبو داود من حديث عبد اللَّه بن عمرو: [أنّ العاصَ بن وائل السَّهمي أوصى أنْ يُعْتَقَ عنه مئةُ رقبة، فأعتق ابنهُ هشام خمسين رقبة، وأراد ابنه عمرو أن يُعتق عنه الخمسين الباقية، قال: حتى أسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه إنَّ أبي أوصى أن يُعتق عنه مئة رقبةٍ، وإنَّ هشامًا أعتق عنه خمسين، وبقيت عليه خمسون، أفأعتِقُ عنه؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (إنّه لو كان مسلمًا فأعتقتم أو تصدَّقتم عنه، أو حَجَجْتُم عنه بلغه ذلك) وفي لفظ: (فلو كان أقَرَّ بالتوحيد فصُمت وتصدّقت عنه نفعه ذلك)](4).

فائدة: كل الأحاديث تفيد أن الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصية منهما، ويصل إليهما ثوابُها. قال الشوكاني: (فيخصَّص بهذه الأحاديث عمومُ قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} . ولكن ليس في أحاديث الباب إلا لحوق الصدقة من الولد، وقد ثبت أن ولد الإنسان من سعيه فلا حاجة إلى دعوى

(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود (3013)، وللشاهد بعده (3015)، ورواه أحمد.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3/ 198)، وأخرجه مسلم (3/ 81)، وغيرهما.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (5/ 73)، وانظر تفصيل البحث في كتابي: أصل الدين والإيمان، عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان (2/ 1224 - 1229).

(4)

حديث حسن. أخرجه أبو داود في الوصايا (2/ 15)، وانظر "أحكام الجنائز" ص (173).

ص: 494

التخصيص، وأما من غير الولد فالظاهر من العموميات القرآنية أنه لا يصلُ ثوابُهُ إلى الميت، فيوقَفُ عليها، حتى يأتي دليلٌ يقتضي تخصيصها) (1).

وقد استنبط الشافعي رحمه الله من الآية: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} أن القراءة لا يصل إهداءُ ثوابها إلى الموتى لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم. ذكره الحافظ ابن كثير في "التفسير" ثم قال: (ولهذا لم يندبُ إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمته ولا حَثَّهم عليه).

وقال العزّ بن عبد السلام: (ومن فعل طاعة للَّه تعالى، ثم أهدى ثوابها إلى حيّ أو ميت، لم يُنْتقل ثوابُها إليه، إذ {لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} فإن شَرَعَ في الطاعة ناويًا أن يقع عن الميت لم يقع عنه، إلا فيما استثناه الشرعُ كالصدقة والصوم والحج)(2).

5 -

الآثار الصالحة والصدقات الجارية يخلفها الميت.

ففي التنزيل: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة أشياء: إلا من صدقة جارية، أو علمٍ يُنْتفَعُ به، أو ولدٍ صالح يدعو له](3).

وفي سنن ابن ماجة بسند صحيح عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إنَّ مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته، علمًا علَّمَهُ ونشره، وولدًا صالحًا تركه، ومُصْحَفًا ورَّثَهُ، أو مسجدًا بناهُ، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقُهُ من بعد موته](4).

والخلاصة: يصل إلى الميت من الحي: الدعاء، وصوم النذر من الولي، وقضاء الدين، وأعمال الصلاح من الولد الصالح، والحج عنه حالة وصيته بذلك، وينتفع بالآثار الصالحة والصدقات الجارية التي خلفها، وأما العبادات البدنية كالصلاة والصوم وقراءة القرآن والذكر فالراجح عدم وصولها، وبه قال الشافعي ومالك وكثير من العلماء المحققين رحمهم الله جميعًا.

(1) انظر: "أحكام الجنائز" ص (173) - نقلًا عن "نيل الأوطار" للشوكاني.

(2)

المرجع السابق ص (174)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 1228 - 1229).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (5/ 73) - كتاب الوقف. وانظر مختصر صحيح مسلم (1001).

(4)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (242). انظر صحيح سنن ابن ماجة (198).

ص: 495

وقوله تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} . بشارة للمؤمن ونذارة للكافر، أي: وأن نتائج سعيه سيراها في صحيفته يوم القيامة، ثم ينال أوفر الجزاء وأتمّه وأعدله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشرّ. قال النسفي:(أي يرى هو سعيه يوم القيامة في ميزانه، ثم يجزى العبد سعيه {الْجَزَاءَ الْأَوْفَى}). قال القاسمي: (أي يجزى سعيه جزاءً وافرًا لا يبخس منه شيئًا).

وفي التنزيل نحو ذلك: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].

وفي الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ليس أحد يحاسَبُ يومَ القيامة إلا هلك. قلت: أوليس يقول اللَّه {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} فقال: إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش في الحساب يهلك](1).

وفي الصحيحين أيضًا عن عدي بن حاتم قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [ما منكم أحدٌ إلا سيكلمه ربه، ليس بينَه وبينَه ترجمان، ولا حجابٌ يَحْجُبُهُ، فينظر أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قَدَّم من عمله، وينظُرُ أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النارَ تلقاء وجهِه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة](2).

وفي صحيح الحاكم بسند جيد عن سلمان، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال:[يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت. فتقول الملائكة: يا رب: لِمَنْ يزن هذا؟ فيقول اللَّه تعالى: لمن شئت من خلقي. فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك](3).

42 -

55. قوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4939)، وأخرجه مسلم (2876).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6539) - كتاب الرقاق. وأخرجه مسلم (1016) - كتاب الزكاة.

(3)

أخرجه الحاكم (4/ 586) وسنده جيد. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (941).

ص: 496

الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)}.

في هذه الآيات: إثباتُ أمر الخلق والفرح والحزن والحياة والموت للَّه العظيم، وتأكيد إهلاكه -تعالى- عبر الزمان القوم الظالمين.

فقوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} . أي المعاد، وانتهاء جميع الخلق إليه. قال ابن جرير:(يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: وأن إلى ربك يا محمد انتهاء جميع خلقه ومرجعهم، وهو المجازي جميعهم بأعمالهم، صالحهم وطالحهم، ومحسنهم ومسيئهم).

أخرج الحاكم -والطبراني بنحوه- بسند صحيح لشواهده، عن عمرو بن ميمون الأودي قال:[قام فينا معاذ بن جبل فقال: يا بني أود! إني رسولُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم: تعلمونَ المعادَ إلى اللَّه، ثم إلى الجنة أو إلى النار، وإقامةٌ لا ظعن فيه، وخلودٌ لا موت، في أجسادٍ لا تموت](1).

وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} . أي خلق الضحك والبكاء، والفرح والحزن، فأضحك وأفرح من شاء، وأبكى وأحزن من شاء.

وقال عطاء بن أبي مسلم: ({وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} يعني أفرح وأحزن، لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء). وقال الحسن: (أضحك اللَّه أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار). وقال ذو النون: (أضحك قلوب المؤمنين والعارفين بشمس معرفته، وأبكى قلوب الكافرين والعاصين بظلمة نكرته ومعصيته). وقيل لعمر: هل كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: (نعم! والإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي).

أخرج البخاري في "الأدب المفرد"، والبيهقي في "شعب الإيمان" -بإسناد صحيح على شرط مسلم- عن أبي هريرة قال: [خرج النبي صلى الله عليه وسلم على رهط من أصحابه يضحكون ويتحدّثون، فقال: "والذي نفسي بيده! لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلًا، ولبكيتم

(1) أخرجه الحاكم (1/ 83)، ورواه الطبراني في "الكبير"، و"الأوسط" بنحوه كما ذكر الهيثمي في "المجمع"(10/ 396). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1668).

ص: 497

كثيرًا". ثم انصرف صلى الله عليه وسلم وأبكى القوم، وأوحى اللَّه عز وجل إليه: يا محمدُ! لِمَ تُقَنِّطُ عبادي؟ فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشروا، وسدِّدُوا، وقاربوا] (1).

وفي صحيح مسلم من حديث عائشة مرفوعًا: [إن الكافر يزيدُه اللَّهُ ببكاءَ أهلِه عذابًا، وإن اللَّه لهو أضحك وأبْكى، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]] (2).

وأخرج الحاكم على شرط الشيخين عن عبد اللَّه بن قيس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [إنَّ أهلَ النار ليَبْكون، حتى لو أُجريت السُّفُنُ في دموعهم، لجرت، وإنهم ليبكون الدَّم! - يعني- مكان الدَّمْعِ](3).

وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} . قال ابن بحر: (خلق الموت والحياة، كما قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2]). وقيل: قضى أسباب الموت والحياة. وقيل: أمات الكافر بالكفر، وأحيا المؤمن بالإيمان، قال اللَّه تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] الآية. وقال {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 36]- حكاه القرطبي. وبنحو ذلك قول عطاء: (أمات بعدله وأحيا بفضله). وقيل: (أمات الآباء وأحيا الأبناء). وقيل: (أنام وأيقظ). وقيل: (أمات في الدنيا وأحيا للبعث).

قلت: وجميع ما سبق مما يحتمله التأويل، فإن مفهوم الحياة والموت سواء في الأبدان أو النفوس والقلوب بيده سبحانه وتعالى، فهو يحيي ويميت وإليه المصير.

أخرج البخاري وابن ماجة عن حذيفة قال: [كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذا انتبه من الليل، قال: الحمد للَّه الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النُّشور](4).

وفي لفظ عند البخاري: [كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: اللهم باسمك أحيا وأموت]. وفي رواية من حديث أبي ذر بلفظ: [باسمك نموتُ ونحيا].

(1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(254)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(2/ 22/ 1058)، وابن حبان في "صحيحه"(1/ 162/ 113). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (3194).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (928) - كتاب الجنائز. باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه.

(3)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (4/ 605)، وله شاهد عند ابن ماجة (4324)، وابن أبي الدنيا في "صفة النار" (ق 12/ 1). وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (1679).

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (7394) - (7395)، كتاب التوحيد، ورواه ابن ماجة في السنن (3880) - كتاب الدعاء، باب ما يدعو به إذا انتبه من الليل.

ص: 498

وأخرج أحمد وابن حبان بسند صحيح عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[إن اللَّه تعالى خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضَلَّ](1).

فالنور: هو نور الوحي الذي به تحيا القلوب، نور النبوة والرسالات. والظلمة: هي ظلمة الطباع والجهل والأهواء التي تميت القلوب، ظلمة الخضوع للغرائز والشهوات.

وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} . أي: ابتدع إنشاء الزوجين وجعل كلًا منهما زوجًا للآخر.

وقوله تعالى: {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} . أي إذا تدفق في الرحم. يقال: مَنى وأَمْنى. قال عطاء: (مَنى الرجل وأمْنى من المَنِيّ، وسميت مِنًى بهذا الإسم لما يُمنى فيها من الدماء أي يُراق). وقال أبو عبيدة: (تمنى: تُقَدَّر). والراجح الأول. قال القرطبي: (والنطفة الماء القليل، مشتق من نَطَفَ الماءُ إذا قَطَرَ. {تُمْنَى} تُصَبُّ في الرحم وتراق).

وفي التنزيل: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36 - 40].

وفي سنن ابن ماجة بسند حسن عن بسر بن جحَّاش القُرَشي، قال: بزق النبي صلى الله عليه وسلم في كفه. ثم وضع أصبُعَه السبابة وقال: [يقول اللَّه عز وجل: أنّى تُعْجِزُني، ابنَ آدمَ! وقَدْ خلقتُكَ مِنْ مِثْل هذه. فإذا بَلَغَتْ نفسُكَ هذه (وأشار إلى حَلْقِه) قُلْتَ: أتَصَدَّقُ. وأنّى أوانُ الصَّدقة؟ ](2).

وقوله تعالى: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} . أي إعادة الخلق في نشاة أخرى، فإنه - تعالى- كما خلقَ البداءة فهو قادر على الإعادة.

وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} . قال مجاهد: ({أَغْنَى}: موَّل، {وَأَقْنَى}: أخْدَم). وقال ابن عباس: ({أَغْنَى} أعطى، {وَأَقْنَى}: أرضى). والعرب تقول: "أقناه" اللَّه أي أعطاه ما يُقْتَنى من "القِنْية" والنَّشَب. "وأقناه" أيضًا: رضّاه. والقِنى: الرضا. ويقال: "أغناه اللَّه وأقناه" أي أعطاه ما يَسْكُنْ إليه.

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 176)، (2/ 197)، وابن حبان (1812)، والحاكم (1/ 30).

(2)

حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (2707) - كتاب الوصايا. انظر صحيح سنن ابن ماجة (2188).

ص: 499

وخلاصة المعنى كما ذكر القاسمي رحمه الله: ({وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} أي أغنى من شاء بالمال. و"أقناه" أي جعل له قنية، وهو ما يدّخره من أشرف أمواله).

وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} . قال ابن عباس: (هو هذا النَّجمُ الوقَّاد الذي يُقال له: مِرِزَمُ الجوزاء، كانت طائفة من العرب يعبدونه). قال النسفي: (هو كوكب يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر، وكانت خراعة تعبدها، فأعلم اللَّه أنه رب معبودهم هذا).

وقوله: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} . وهم قوم هود. وسميت الأولى لتقدمها في الزمان. وهم عاد بن إرم بن سام بن نوح، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 6 - 8]. وكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على اللَّه تعالى وعلى رسوله، فدكهم اللَّه بريح صرصر عاتية، سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام متتابعة، وأما عاد الآخرة فهم من ولد عاد الأولى.

وقد أبعد النّجعة اليوم بعض المتعالمين حين سمّى -أمريكة- بعاد الثانية، فزعم أن تلك الأولى وهذه الآخرة، جَهْلًا بتفسير كتاب اللَّه تعالى، واستخدامًا للفلسفة والرأي بدل تتبع دقائق الوحي.

وقوله: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} . هم قوم صالح، أهلكهم اللَّه بالصيحة لما ظلموا. قال ابن جرير:(يقول جل ذكره: ولم يبق اللَّه ثمود فيتركها على طغيانها وتمرّدها على ربها مقيمة، ولكنه عاقبها بكفرها وعتوّها فأهلكها).

وقوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} . أي: وكذلك فقد أهلك سبحانه قوم نوح من قبل هؤلاء، فقد كانوا أشدَّ عنادًا وغرورًا وتمردًا من الذين من بعدهم. وفيه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وتعزية عما يلقاه من عناد قومه وكبرهم، فإن اللَّه قد أهلك من كان أكفر منهم وأطغى.

وقوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} . قال القرطبي: (يعني مدائن قوم لوط عليه السلام ائتفكت بهم، أي انقلبت وصار عاليها سافلها. يقال: أَفَكْته أي، قلبته وصرفته. {أَهْوَى} أي خسف بهم بعد رفعها إلى السماء، رفعها جبريل ثم أهوى بها إلى الأرض).

وقوله تعالى: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} . قال قتادة: (الحجارة). وقال ابن زيد: (الحجارة التي رماهم بها من السماء). وقوله: {مَا غَشَّى} تعظيم وتهويل لما صبّ عليها من

ص: 500

العذاب وأمطر عليها من الصخر المنضود، كما قال جل ذكره:{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [الشعراء: 173].

وقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} . قال النسفي: ({فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ} أيها المخاطب {تَتَمَارَى} تتشكك بما أولاك من النعم أو بما كفاك من النقم، أو بأي نعم ربك الدالة على وحدانيته وربوبيته تشكك).

56 -

62. قوله تعالى: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)}.

في هذه الآيات: يقول جل ذكره: هذا محمد صلى الله عليه وسلم أيها الناس- نذير من جنس الرسل من قبله الذين أنذروا قومهم، كما أن هذا البيان نذير يشبه ما أُنذر به الأولون في الكتب المتقدمة. وتأكيد اقتراب الساعة والناس في لهو وغفلة، وأولى بهم أن يلتفتوا لما ينجيهم من السجود للَّه وتعظيمه وحده.

فقوله تعالى: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} . قال قتادة: (أنذر محمد صلى الله عليه وسلم كما أنذرت الرسل من قبله). وقال: (إنما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بما بعث الرسل قبله). وقال أبو مالك: ({هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} مما أنذروا به قومهم في صحف إبراهيم وموسى).

وفي صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنَّ مثلي ومثلَ ما بعثني اللَّه عز وجل به كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم! إني رأيت الجيش بِعَيْنيَّ، وإني أنا النذير العُرْيان](1).

وقوله تعالى: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} . قال ابن عباس: (من أسماء يوم القيامة، عَظَّمَهُ اللَّه، وحذّره عباده). وقال مجاهد: ({أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} قال: اقتربت الساعة). فالمعنى: اقتربت القريبة، وهي القيامة.

وقوله تعالى: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} . قال ابن كثير: (أي: لا يدفعُها إذن من دون اللَّه أحدٌ، ولا يَطلِعُ على عِلمها سواهُ).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2283) - كتاب الفضائل، وهو جزء من حديث أطول.

ص: 501

وقوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} . إنكار على المشركين استماعهم القرآن ثم إعراضهم عنه وعجبهم أن يكون نزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: {وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ} . قال ابن جرير: (وتضحكون منه استهزاءً به، ولا تبكون مما فيه من الوعيد لأهل معاصي اللَّه، وأنتم من أهل معاصيه).

وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} . قال ابن عباس: (هو الغناء بالحميرية، سمد لنا: غنّى لنا). وقال مجاهد: (هو الغناء، يقول أهل اليمن: سمد فلان إذا غنى). وقال الضحاك: (السُّمود: اللهو واللعب). وقال عكرمة، عن ابن عباس:(كانوا إذا سمعوا القرآن تَغَنَّوا ولعبوا). وقال الحسن: ({وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ}: غافلون).

والآية تشبه قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 66 - 67]. قال سعيد بن جبير: (يسمرون بالليل يخوضون في الباطل). وقال مجاهد: (بالقول السَّيِئ في القرآن). وأصل السَّمر: الحديث بالليل.

والخلاصة: أنَّ كفار مكة لما طغوا أخذوا يَسْمُرون بالليل يتغنون بكلام فاحش يؤذي اللَّه ورسوله، ويتمادون بلغو القول وهم يَهْذون ويلعبون ويطربون، فعَاب اللَّه ذلك عليهم في هذه الآيات التي تحمل لهم التهديد والوعيد.

وقوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} . أي: فلربكم -أيها الناس- فاسجدوا مخبتين، وأخلصوا له العبادة والتعظيم. وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن المراد سجود التلاوة، والأول أرجح.

وقد تقدّم أول السورة حديث الإمام البخاري عن ابن عباس: [أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس](1).

وله شاهد عند الدارقطني عن أبي هريرة أنه قال: [إن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في سورة النجم وسجدنا معه].

وروى الجماعة إلا ابن ماجة عن زيد بن ثابت قال: [قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم والنجم

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه -حديث رقم- (4862) - كتاب التفسير، سورة النجم، باب {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)} .

ص: 502

فلم يسجد فيها] (1). ورجّح الحافظ في الفتح أن الترك كان لبيان الجواز.

تم تفسير سورة النجم بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منِّه وكرمه الاثنين 9 - شوال - 1426 هـ الموافق 12 - أيلول - 2005 م

* * *

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1072)، (1073)، ومسلم (577)، وأبو داود (1404)، و (1405)، والترمذي (376)، والدارمي (2/ 343)، وأحمد (5/ 186)، والنسائي (2/ 160).

ص: 503