المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٧

[مأمون حموش]

فهرس الكتاب

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌40 - سورة غافر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌41 - سورة فصلت

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌42 - سورة الشورى

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌43 - سورة الزخرف

- ‌ما ورد في ذكرها

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌44 - سورة الدخان

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌45 - سورة الجاثية

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌46 - سورة الأحقاف

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌47 - سورة محمد

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌48 - سورة الفتح

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌49 - سورة الحجرات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌50 - سورة ق

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌51 - سورة الذاريات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌52 - سورة الطور

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌53 - سورة النجم

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌54 - سورة القمر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌55 - سورة الرحمن

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌56 - سورة الواقعة

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌57 - سورة الحديد

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌58 - سورة المجادلة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌59 - سورة الحشر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌40 - سورة غافر

وهي سورة مكية. قيل: سوى الآيتين (56 - 57).

قال ابن عباس وقتادة: (إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة وهما: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} والتي بعدها). وعدد آيات هذه السورة (85).

وتسمى بسورة غافر إشارة لقول اللَّه فيها: {غَافِرِ الذَّنْبِ} ، كما تسمى بسورة المؤمن لاشتمالها على قصة مؤمن آل فرعون.

قال المهايمي: (سميت به لاشتمالها على كلمات مؤمن آل فرعون، المتضمنة دلائل النبوة ورفع الشبه عنها، والمواعظ والنصائح وسلامته عن أعدائه. وعما أخذوا به، وهي من أعظم مقاصد القرآن. وتسمى سورة غافر وسورة الطّول).

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: (أنزلت سورة حم المؤمن بمكة). وأورد البيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس قال: (أنزلت الحواميم السبع بمكة).

‌موضوع السورة

منهاج المؤمن في الدعوة

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

انتصار للقرآن من اللَّه العزيز العليم، غافر الذنب وقابل توبة التائبين، شديد العقاب

ص: 36

على المجرمين، وما يجادل في آيات اللَّه إلا أهل الكفر المُسْتدرجين.

2 -

تسليةُ النبي صلى الله عليه وسلم بِذِكْرِ أخبار الرسل قبله وصبرهم على أذى قومهم حتى فصل اللَّه بالحق وأنزل نصره على المؤمنين، ونقمته وعذابه بالكافرين.

3 -

تسبيح الملائكة حملة العرش واستغفارهم للمؤمنين، وسؤال اللَّه تعالى أن يقيهم عذاب الجحيم، وأن يدخلهم برحمته ومن صلح من أرحامهم جنات النعيم.

4 -

هوان الكفار يوم الحساب، وقد أخزاهم اللَّه بالعذاب، بعدما فرحوا بالشرك في دار الدنيا ونفروا من توحيد اللَّه رب الأرباب.

5 -

امتنانُ اللَّه على عباده بآيات مقدرته وإنزاله الماء، ليخلصوا له العبادة -سبحانه- والدعاء.

6 -

ثناء اللَّه على نفسه وعرشه وإثبات تنزل الوحي بأمره لينذر الرسل يوم الحساب، يوم يخرج الناس من قبورهم لنيل الجزاء من الثواب أو العقاب.

7 -

الإنذار بيوم الآزفة وقد وقعت القلوب في الحناجر من شدة المخافة، وهول الازدحام، وازدحام الأهوال.

8 -

سنة اللَّه تعالى في أخذ الأمم الظالمة وإنزال نقمته عليها والعذاب، وذلك في الدنيا قبل حلول العذاب الأكبر يوم الحساب.

9 -

إرسالُ اللَّه تعالى إلى فرعون وهامان وقارون الآثمين، واستكبار القوم ولجوء موسى إلى ربه لينصره على الطاغية وجنوده المجرمين.

10 -

تحذير مؤمن آل فرعون قومه تكذيب أو معاندة المرسلين، وتنبيهه لهم أن هذا التمكين في الأرض لا يدوم ولا يرد بأس اللَّه عن القوم المسرفين.

11 -

تحذير مؤمن آل فرعون قومه عذاب الدارين، وطبع اللَّه على قلوب المتكبرين.

12 -

تمادي فرعون في الكفر والضلال، ومساعدة هامان له في تثبيت سلطانه الفاسد، وما كيد الظالمين إلا في تبار وخسار.

13 -

استمرار مؤمن آل فرعون تحذير قومه غرور الحياة الدنيا، وترغيبه لهم في طاعة اللَّه الموصلة إلى جنات النعيم، وتوضيحه لهم أن ما هم عليه من الكفر والإفساد يوصل إلى عذاب الجحيم، وأنهم سيذكرون يومًا قوله ونصيحته لهم واللَّه هو السميع البصير العليم.

ص: 37

14 -

نجاةُ مؤمن آل فرعون في الدنيا والآخرة، وإحاطة العذاب بفرعون وجنده في الغرق والقبر ثم بنار الآخرة المستعرة.

15 -

حوار الرؤساء مع أتباعهم من المجرمين، وصورة الخزي والندم على الكافرين.

16 -

تقدير اللَّه نزول نصره على رسله وعباده المؤمنين في الدارين، وتسلية اللَّه نبيّه عما يلقاه من أذى المشركين.

17 -

تسفيه المنكرين للبعث والمعاد، بأن خلق اللَّه السماوات والأرض أكبر من خلق العباد.

18 -

أمْرُ اللَّه عباده إفراده بالدعاء والتعظيم، والمستكبرون عن عبادته مآلهم إلى نار الجحيم.

19 -

امتنان اللَّه تعالى على عباده بنعمة الليل والنهار، والأرض والسماء والتصوير والرزق الحلال.

20 -

تفرّد اللَّه تعالى بأمر الإماتة والإحياء، وتقريع المشركين الذين يفرحون بالباطل ومصيرهم إلى الخزي والعذاب والإعياء.

21 -

تسلية اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بأمره بالصبر، وتبشيره باقتراب الفرج.

22 -

امتنان اللَّه على قريش ومن بعدهم بنعمة الأنعام، والمنافع العائدة عليهم منها في المأكل والمشرب والمركب، وكذلك نعمة ركوب السفن في البحار.

23 -

التحذير من مصير الأمم الكافرة التي كفرت وجاءها العذاب بعد الطغيان، وما أغنى عنها ما أُعطيت من القوة والأموال والبنيان.

24 -

إيمان كثير من الناس عند رؤية العذاب، وكفرهم باللَّه بعد ذهاب العقاب.

25 -

سنة اللَّه التي قد خلت في عباده أن الهلاك على الكافرين، والنجاة لطائفة المؤمنين.

* * *

ص: 38

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

9. قوله تعالى: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}.

في هذه الآيات: إن هذا القرآن المعجز هو من جنس هذه الحروف العربية، فهو تنزيل من اللَّه العزيز في انتقامه من أعدائه، العليم بما يعملون في السر والخفاء أو علانية وجهارًا تحت سمائه، وهو الغفور يقبل التوبة عن عباده، الشديد العقاب لِمَنْ تمادى في طغيانه وعناده، وهو المتفَضِّلُ صاحب الفضل والنعم المبسوطة على مَنْ شاء من خلقه، المتطوِّل عليهم بما لا يقدرون ولا يطيقون القيام بشكره، من الفضل والمنِّ والإنعام، وتذليل الدنيا وجميل الأيام. إنه ما يَدْفَعُ الحق من عباده بعد البرهان، إلا الجاحدون الذين يتقلبون في البلاد بالكفر والطغيان، وَحُبِّ الرياسة والكبر والعلو بالظلم على الأنام، فقد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من الأمم بعدهم، ممّن أهمَّتهم دنياهم وتعظيم شهواتهم، وبغوا وتمادوا حتى همّت كل أمة بقتل رسولهم،

ص: 39

والمكر واستخدام الباطل في محاولة لتقويض الحق ولكن أنّى لهم، فقد عاجلهم اللَّه بالعقوبة وأنزل العذاب بهم، وحقت عليهم كلمة اللَّه ليملأن جهنم منهم ومن أتباعهم. لكنِ الملائكة الذين يحملون العرش يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للمؤمنين ويدعون اللَّه لهم، بأن يمنّ عليهم بالمغفرة والنجاة من عذاب الجحيم، ودخول الجنان هم وذراريهم ممن اتبعهم آمنين، دون الخوض في متاعب الحساب وآلام العذاب.

فإلى تفصيل ذلك:

قوله تعالى: {حم} . أجمل ما قيل فيه: إنه إعجاز للعرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن الذي ركبت كلماته من مثل هذه الأحرف المقطعة. وقد مضى ذكر أمثال ذلك.

أخرج أبو داود والترمذي بسند صحيح عن المُهَلِّب بن أبي صُفْرَة قال: أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [إنْ بُيِّتُمْ فليكن شِعارُكمْ: حم لا ينصرون](1).

ويبدو أن الانتصار قد تواتر بعد ذكر هذه الحروف في أوائل تلك السور التي ذكر فيها. فقال هنا جل ذكره: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} . و {تَنْزِيلُ} : خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو، أو مبتدأ مرفوع للخبر {مِنَ اللَّهِ}. والمعنى: هذا القرآن هو تنزيل من اللَّه ذي العزة والعلم.

قال ابن جرير: (من اللَّه {الْعَزِيزِ} في انتقامه من أعدائه، {الْعَلِيمِ} بما يعملون من الأعمال وغيرها، تنزيل هذا الكتاب). وقال ابن كثير: (فلا يرام عزه، ولا يخفى عليه الذر وإن تكاثف حجابه). وقال النسفي: (أي المنيع بسلطانه عن أن يتقول عليه متقول، العليم بمن صدق به وكذب، فهو تهديد للمشركين وبشارة للمؤمنين).

وقوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} . أي يغفر ما سلف، ويعفو ويصفح عمن تاب وأقبل صادقًا.

وقوله: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} . أي لمن تمرَّد وطغى، وآثر الحياة الدنيا وبغى، وعتا عن أوامر اللَّه فاستكبر وعصى.

وهذا كما قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50].

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو دواد (2597) - كتاب الجهاد، باب في الرجل ينادي بالشعار، وكذلك أخرجه الترمذي (1682)، والنسائي في "اليوم والليلة"(622)، والحاكم (2/ 107) وإسناده صحيح. وجهالة الصحابي لا تضر. وانظر صحيح سنن أبي داود (2262).

ص: 40

وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد"، وأحمد في "المسند" بإسناد صحيح عن عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا:[ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، وويل لأقماع القول، وويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون](1).

قال الزمخشري: (من المجاز "ويل لأقماع القول" وهم الذين يستمعون ولا يعون). فشبه استماع الذين يستمعون القول ولا يعونه ولا يعلمون به بالأقماع -جمع قِمْع- التي لا تعي شيئًا مما يفرغ فيها، فكأنه يمر عليها مجتازًا كما يمر الشراب في القمع.

وقوله: {ذِي الطَّوْلِ} . أي: ذي الفضل والنعم المبسوطة على من شاء من خلقه، ونعمه لا يحصيها أحد. يقال منه: إنّ فلانًا لذو طول على أصحابه إذا كان ذا فضل عليهم.

وعن ابن عباس: (قوله: {ذِي الطَّوْلِ} يقول: ذي السعة والغنى). وقال مجاهد: (الغنى). وقال قتادة: (أي: ذي النعم والفواضل). وقال ابن زيد: (الطول: القدرة). وقال عكرمة: (ذي المَنّ). وقال يزيد بن الأصمِّ: ({ذِي الطَّوْلِ}: يعني الخير الكثير).

وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} .

أي: لا نظير له تعالى في صفاته، وفي تفضله ومنّه وكرمه، وفي مغفرته وعقابه، فأفردوه بالعبادة والتعظيم، والتمسوا المقام بين الخوف والرجاء، فإليه المآل في نهاية الحال.

وقوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} .

أي: لا يخاصم في حجج اللَّه وأدلته على وحدانيته إلا الذين جحدوا آياته، فلا يخدعك -يا محمد- تصرّفهم في البلاد ومكثهم فيها مع كفرهم، فإن اللَّه تعالى يمهلهم ليبلغ الكتاب أجله ولتحق عليهم كلمة العذاب.

وعن قتادة: ({فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَاد}: أسفارهم فيها ومجيئهم وذهابهم).

(1) إسناده صحيح. أخرج البخاري في "الأدب المفرد"(380)، وأحمد (2/ 165)، (2/ 219)، وأخرجه عبد بن حميد في "المنتخب من المسند"(1/ 42). وانظر السلسلة الصحيحة (482).

والأقماع: جمع قِمْع - الإناء يجعل في رأس الظرف ليملأ بالمائع.

ص: 41

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55 - 56].

2 -

وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44 - 45].

3 -

وقال تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196 - 197].

وفي صحيح البخاري عن أبي موسى رضي اللَّه تعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللَّه لَيُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْهُ، قال: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}](1).

وقوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} . قال قتادة: (الكفار). أي: كذّب قبل قومك -يا محمد- قوم نوح والأحزاب من بعدهم، وهم الأمم الذين تحزّبوا وتجمَّعوا على رسلهم بالتكذيب لها، كعاد وثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين وأشباههم.

وقوله: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} . أي: ليقتلوه. والأخيذ: الأسير.

قال ابن كثير: (أي: حرصوا على قتله بكل ممكن، ومنهم من قتل رسولَهم).

وقوله: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} .

أي: وخاصموا رسولهم بالباطل من الخصومة، وماحلوا بالشبهة ليبطلوا بجدالهم وخصومتهم الحق الذي معه من الدخول في طاعته، كما يخاصمك قومك يا محمد.

أخرج أبو داود والحاكم عن عبد اللَّه بن عمر مرفوعًا: [من أعان على خصومة بظلم، لم يزل في سخط اللَّه حتى ينزع]. وفي لفظ: [فقد باء بغضب من اللَّه عز وجل].

وفي لفظ: [من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط اللَّه حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه، حبس في ردغة الخبال، حتى يأتي بالمخرج مما قال](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4686) - كتاب التفسير، وانظر مختصر صحيح مسلم (1831).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2/ 117)، والحاكم (2/ 27)، والسياق له، وأحمد =

ص: 42

وقوله: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} . قال قتادة: (شديد واللَّه).

والمقصود: فكيف كان انتقامي منهم؟ ألم أهلكهم فأجعلهم للخلق عبرة ولمن بعدهم عظة؟ فالديار خراب، والمساكن خلاء!

وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّار} .

أي: كما وجب العذاب على الأمم التي كذبت رسلها قبلك -يا محمد- كذلك وجبت كلمة ربك على كفار قومك الذين اتخذوا الجدال بالباطل طريقًا لهم لدحض الحق الجلي.

قيل: {أَنَّهُمْ} بدل من الكلمة، والتقدير: أحقت الكلمة حقًا أنهم أصحاب النار. وقيل: بل هي ترجمة عن الكلمة، والتقدير: وكذلك حق عليهم عذاب النار الذي وعد اللَّه أهل الكفر به - واختاره ابن جرير.

وقوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} .

قال ابن كثير: (أي: يقْرِنون بين التسبيح الدّال على نفي النقائص، والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح). قال النسفي: ({يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي مع حمده، إذ الباء تدل على أن تسبيحهم بالحمدلة).

قلت: وحملة العرش هم سادة الملائكة، وأعظمهم قوة وخلقًا.

كما قال تعالى في سورة الحاقة: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17].

وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أُذِنَ لي أن أُحَدِّثَ عن ملك من ملائكة اللَّه تعالى حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبع مئة سنة](1).

وله شاهد عند الطبراني بسند جيد من حديث أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [أُذِنَ لي أن أُحَدِّثَ عن ملك من حملة العرش رجلاه في الأرض السفلى وعلى قرنهِ العرش،

= (2/ 70). وكذلك (2/ 82)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (438).

(1)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4727)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (151).

ص: 43

وبين شحمة أذنيه وعاتقهِ خفقان الطير سبع مئة عام، يقول ذلك الملك: سبحانك حيث كنت] (1).

وقوله: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} . فيه إظهار شرف الإيمان، فهم مع ما أوتوا من قوة لحمل العرش فإنهم أذلاء خاشعون للَّه.

وقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} .قال قتادة: (لأهل لا إله إلا اللَّه).

قال ابن جرير: (يقول: ويسألون ربهم أن يغفر للذين أقروا بمثل إقرارهم من توحيد اللَّه، والبراءة من كل معبود سواه ذنوبهم فيعفوها عنهم).

وفي السنة الصحيحة ما يدل على مثل ذلك:

ففي صحيح مسلم عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [ما مِنْ عبدٍ مسلم يدعو لأخيه يظهر الغيب إلا قال الملك ولك بمثل](2). وفي لفظ آخر: [مَنْ دعا لأخيه بظهر الغيب، قال الملك الموكَّلُ بهِ: آمين، ولك بِمِثْل].

وفي مسند أحمد بإسناد صحيح عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إذا عادَ الرجل أخاه المسلم مشى في خرافة (3) الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان عشيًا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح](4).

وعن خلف بن هشام البزار القارئ قال: (كنت أقرأ على سليم بن عيسى فلما بلغت: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} بكى ثم قال: يا خلف! ما أكرم المؤمن على اللَّه نائمًا على فراشه والملائكة يستغفرون له).

وقال يحيى بن معاذ الرازي لأصحابه في هذه الآية: (افهموها فما في العالم جنة

(1) إسناده جيد. أخرجه الطبراني من حديث أنس. انظر صحيح الجامع (866)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 538) - بحث: الإيمان بالملائكة - لمزيد من التفصيل.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه -حديث رقم- (2732) - كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب. ح (86)، ح (87).

(3)

أي في اجتناء ثمرها.

(4)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 81)، وأبو داود (3099)، وابن ماجة (1/ 440)، وأخرجه الحاكم (1/ 349)، وأبو يعلى في "مسنده"(77). وانظر السلسلة الصحيحة (1367).

ص: 44

أرجى منها، إن ملكًا واحدًا لو سأل اللَّه أن يغفر لجميع المؤمنين لغفر لهم، كيف وجميع الملائكة وحملة العرش يستغفرون للمؤمنين).

وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} . أي رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم، وعلمك محيط بجميع أعمالهم وأقوالهم.

وقوله: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} . أي: فاصفح عمن أساء ثم جاء تائبًا مطيعًا.

قال قتادة: ({فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} من الشرك {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} أي طاعتك).

وقوله: {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} . أي: اصرف عن الذين تابوا واتبعوا سبيلك عذاب النار يوم القيامة.

وقوله: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} . أي: ربنا اجمع بينهم وبينهم، ممن عمل صالحًا مثلهم ليتم سرورهم بهم.

كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21].

أخرج البزار والبغوي بسند صحيح عن ابن عباس رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنّ اللَّه لَيَرْفَعُ ذُرَّية المؤمن إليه في درجته، وإنْ كانوا دونه في العمل، لِتَقَرَّ بهم عَيْنُه، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} الآية، ثم قال: وما نَقَصْنا الآباءَ بما أَعْطَينا البنين](1).

وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . أي إنك أنت -يا ربنا- العزيز في انتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبيره وشرعه وقدره.

وقوله: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} . قال قتادة: (أي العذاب). أي: وقِهم عذاب السيئات. وقال أيضًا: (أي وقهم ما يسوؤهم). والمقصود: وقهم فعل السيئات أو الوقوع في حبائلها.

وقوله: {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} . أي: ومن تق السيئات وعواقبها يوم القيامة فقد رحمته بالنجاة والجنة {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .

(1) صحيح الإسناد. أخرجه البزار (ص 221)، وابن عدي (ق 270/ 1)، والبغوي في "التفسير"(8/ 82)، والحاكم (2/ 468)، وانظر السلسلة الصحيحة (2490).

ص: 45

10 -

14. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)}.

في هذه الآيات: يخبر تعالى كيف ينادى الكفار في النار وقد مقتوا أنفسهم إذ ضيّعوا دنياهم بالكفر فاستحقوا العذاب في أخراهم فيقال لهم: إن مقت اللَّه إياكم في الدنيا وأنتم تدعون إلى الإيمان فتكفرون هو أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم، وقد أخزاكم اللَّه في عذاب الهون، ذلك بأنكم كنتم تفرحون بالشرك وتنفرون من توحيده تعالى فالحكم له اليوم وحده لا شريك له.

إنه -تعالى- هو الذي يبين لكم آيات مقدرته وينزل لكم الماء من السماء وما يتذكر -أيها العباد- إلا من ينيب، فأخلصوا له العبادة والدعاء رغم أنف الكافرين فإن اللَّه سبحانه سميع قريب.

فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُم إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} . قال مجاهد: (مقتوا أنفسهم حين رأوا أعمالهم، ومَقْتُ اللَّه إياهم في الدنيا، إذ يُدعون إلى الإيمان فيكفرون، أكبر).

وقال قتادة: (يقول: لمقت اللَّه أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا، فتركوه وأبوا أن يقبلوا، أكبر مما مقتوا أنفسهم، حين عاينوا عذاب اللَّه يوم القيامة).

وأصل المقت في لغة العرب البغض، يقال: مقت فلان فلانًا أي أبغضه، والمقصود أن الكفار أبغضوا أنفسهم بسبب ما أسفلوا من الأعمال التي أوصلتهم إلى عذاب النار، فنادتهم الملائكة بأن مقت اللَّه لهم وهم يردون أمره في الدنيا ويستكبرون عن طاعته كان أكبر.

ص: 46

وقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} .

إخبار عن تلطفهم في السؤال، فقالوا: يا رب إنه بقدرتك العظيمة أحييتنا بعد ما كنا أمواتًا في أصلاب آبائنا ثم أمتنا بعد انتهاء حياتنا الدنيا ثم أحييتنا اليوم للحساب وقد اعترفنا بذنوبنا وظلمنا أنفسنا في الدار الدنيا فهل أنت مجيبنا للعودة إلى دار الامتحان في الدنيا لنعمل صالحًا غير الذي كنا نعمل؟ !

وعن ابن عباس: قوله: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قال: (هو كقوله {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}).

وعن قتادة قال: (كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم، فأحياهم اللَّه في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان).

قال: ({فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} فهل إلى كرّة إلى الدنيا).

وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} .

أي: فَأُجيبوا حين طلبوا الرجعة أن لا سبيل إلى ذلك (1)، والسبب وراء هذا المنع أنّ سجاياكم لا تقبل الحق بل تمجُّه وتنفيه فما بكم حبّ اللَّه ودينه ورسله وإنما إرادة التخلص من ألم النار، وقد قضى اللَّه أن لا رجعة إلى تلك الدار، فالحكم إليه إنه هو الحكيم الجبار العلي المتعال.

قال ابن جرير: ({ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} فأنكرتم أن تكون الألوهة له خالصة وقلتم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5]. {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} يقول: وإن يجعل للَّه شريك تصدقوا من جعل ذلك له {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} يقول: فالقضاء للَّه العلي على كل شيء، الكبير الذي كل شيء دونه متصاغرًا له اليوم).

وقوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} .

أي: هو الذي يريكم آيات قدرته العجيبة من الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق والزلازل والبراكين وغير ذلك مما يدل على انفراده سبحانه بالجبروت

(1) أي في الكلام محذوف هذا تقديره، وقد استغني بدلالة الظاهر من ذكره عليه.

ص: 47

والعظمة، وكذلك ينزل لكم من السماء الغيث الذي يخرج به أقواتكم وغذاء أنعامكم وما يعقب ذلك من أرزاقكم.

وقوله: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} . قال السدي: (من يقبل إلى طاعة اللَّه).

أي: وما يتعظ بحجج اللَّه ويعتبر بها إلا من هو بصير راجع إلى اللَّه يرجو رحمته ويخشى عذابه.

وقوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .

قال النسفى: (ثم قال للمنيبين: {فَادْعُوا اللَّهَ} فاعبدوه {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} من الشرك {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وإن غاظ ذلك أعداءكم ممن ليس على دينكم).

أخرج الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ادعوا اللَّه وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن اللَّه لا يستجيب دعاءً مِنْ قَلْبٍ غافل لاهٍ](1).

وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير قال: [كان ابن الزُّبير يقول في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ، حين يُسَلِّمُ: "لا إله إلا اللَّه وحدَه لا شريكَ له، له الملك وله الحمدُ وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا باللَّه، لا إله إلا اللَّه، ولا نعبد إلا إياه، له النِّعمةُ وله الفَضْلُ، وله الثناءُ الحَسَنُ، لا إله إلا اللَّه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". وقال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُهلّل بِهنَّ دُبُرَ كل صلاة](2).

15 -

17. قوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)}.

في هذه الآيات: ثناء اللَّه تعالى على نفسه، ومدح عرشه، وإثبات تنزل الوحي

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (3479). وانظر صحيح سنن الترمذي (2766).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (594) - كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته. وانظر مسند أحمد (4/ 4) بإسناد على شرط مسلم.

ص: 48

بأمره، لينذر الرسل يوم التلاقي. يوم يخرج الناس من قبورهم للحساب، ونيل ما استحقوا من الثواب أو العقاب.

فقوله: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} .إخبار عن عظمته تعالى وكبريائه، وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع سماواته ومخلوقاته.

أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة](1).

وأخرج ابن خزيمة في "التوحيد"، وعبد اللَّه بن أحمد في "السنة" بسند صحيح عن ابن عباس قال:[الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره](2).

وقوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} .

قال ابن زيد: (هذا القرآن هو الروح أوحاه اللَّه إلى جبريل، وجبريل روح نزل به على النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193]).

وقال قتادة: ({يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} قال: الوحي من أمره).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52].

2 -

وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 193 - 194].

وهذا الوحي الأخير من اللَّه هو أكبر معجزة باقية في الأرض إلى يوم القيامة.

ففي الصحيحين عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[ما مِنَ الأنبياء من نَبِيٍّ إلا قد أُعْطِيَ من الآيات ما مِثْلُهُ آمَنَ عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أَوْحى اللَّه إليَّ، فأرجو أن أكونَ أكثرهم تابعًا يوم القيامة](3).

(1) حديث صحيح. رواه ابن أبي شيبة في "كتاب العرش"(114/ 1)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(ص 290)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (109).

(2)

صحيح موقوف. أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" وعبد اللَّه بن أحمد في "السنة". انظر "مختصر العلو" ص (102)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 1161).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4981) - كتاب فضائل القرآن، وكذلك (7274). =

ص: 49

وقوله: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} .

قال ابن عباس: ({يَوْمَ التَّلَاقِ} من أسماء يوم القيامة، عظمه اللَّه، وحذره عباده). وقال قتادة: (يوم تلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض والخالق والخلق). وقال ابن زيد: (يوم تتلاقى العباد). وقال ميمون بن مِهران: (يلتقي الظالم والمظلوم). ولا شك أن كل هذه الأوصاف كائنة يوم القيامة.

وقوله: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} . أي: ظاهرون لا يخفى عليه شيء منهم ومن أعمالهم.

قال القرطبي: (ومعنى: {بَارِزُونَ} خارجون من قبورهم لا يسترهم شيء، لأن الأرض يومئذ قاع صفصف لا عوج فيها ولا أمْتًا).

وقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} .

قال ابن جرير: (يقول الرب: لمن السلطان اليوم؟ وذلك يوم القيامة. فيجيب نفسه فيقول: للَّه الواحد الذي لا مثل له ولا شبيه، القهار لكل شيء سواه بقدرته الغالب بعزته).

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [يقبِضُ اللَّه الأرض ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض](1).

وقوله: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} .

إخبار عن عدله تعالى في قضائه وفصله بين خلقه، وحكمه على أعمالهم وما كسبت أيديهم، فإنه تعالى يجازي الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها.

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].

2 -

وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].

3 -

وقال تعالى: {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الجاثية: 22].

= وأخرجه مسلم (152) - كتاب الإيمان - وقد مضى.

(1)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4812) - كتاب التفسير. وكذلك (7412)، ورواه مسلم.

ص: 50

وفي صحيح السنة المطهرة في آفاق هذه الآية أحاديث، منها:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم من حديث أبي ذر، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل أنه قال:[يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا -إلى أن قال- يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجَدَ خيرًا فليحمد اللَّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسَه](1).

الحديث الثاني: أخرج الحاكم بسند جيد عن سلمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت. فتقول الملائكة: يا رب! لِمَنْ يزنُ هذا؟ فيقول اللَّه تعالى: لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك](2).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .

أي يحاسب الخلائق جميعهم كما يحاسب نفسًا واحدة.

كما قال جل ذكره: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]. وكقوله جل ثناؤه: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28].

قال القاسمي: ({إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي بإيصال ما يستحق كل منهم إليه، من تبعات سيئاته وثمرات حسناته).

18 -

20. قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)}.

في هذه الآيات: أَمْرُ اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم إنذار قومه يوم القيامة وقد وقعت القلوب في

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2577)، والترمذي (2495)، وابن ماجة (4257)، وأحمد في المسند (5/ 160)، وأخرجه ابن حبان (619).

(2)

أخرجه الحاكم (4/ 586)، وإسناده صحيح لغيره. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (941).

ص: 51

الحناجر من شدة المخافة وازدحام الأهوال وما من شفيع للظالمين ولا حميم. إنه تعالى يعلم السر وأخفى، ويقضي بالحق والذين يدعون من دونه ليس لهم من الحكم شيء واللَّه هو السميع البصير.

فقوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} . قال مجاهد: (يوم القيامة). وقال ابن زيد: (يوم القيامة، وقرأ: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم: 57 - 58]).

قال ابن جرير: (-يقول-: وأنذر يا محمد قومك يوم الآزفة يعني يوم القيامة أن يوافوا اللَّه فيه بأعمالهم الخبيثة فيستحقوا من اللَّه عقابه الأليم).

وفي لغة العرب: أزِفَ الرحيل أي دنا، فسميت الآزفة -أي القيامة- بذلك لأنها قريبة إذ كل ما هو آتٍ قريب.

وقوله: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} .

قال قتادة: (قد وقعت القلوب في الحناجر من المخافة، فلا هي تخرج ولا تعود إلى أمكنتها).

وقال السدي: (شخصت أفئدتهم عن أمكنتها فنشبت في حلوقهم فلم تخرج من أجوافهم فيموتوا، ولم ترجع إلى أمكنتها فتستقر).

ونصب {كَاظِمِينَ} على الحال، أي ساكتين لا يتكلم أحد إلا بإذنه تعالى.

كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)} [النبأ: 38].

وقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} .

قال السدي: (من يعنيه أمرهم، ولا شفيع لهم). قال النسفي: ({مَا لِلظَّالِمِينَ} الكافرين {مِنْ حَمِيمٍ} محب مشفق {وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} أي يشفع).

والحميم في لغة العرب: القريب الذي تهتم لأمره. والمقصود: ما للكافرين باللَّه يوم الآزفة من حميم يحم لهم فيدفع عنهم هول ما نزل بهم من عذاب اللَّه، ولا شفيع يشفع لهم عند ربهم فيطاع ويُجاب لما سأل.

وقوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} .

قال مجاهد: ({يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ}: نظر الأعين إلى ما نهى اللَّه عنه). وقال قتادة: (أي يعلم همزه بعينه وإغماضه فيما لا يحب اللَّه ولا يرضاه).

ص: 52

قال ابن عباس: (هو الرجل ينظر إلى المرأة فإذا نظر إليه أصحابه غضَّ بصره). قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن علمه التام المحيط بجميع الأشياء، جليلها وحقيرها، صَغيرها وكبيرها، دقيقها ولطيفها، ليحذَرَ الناسُ عِلمَهُ فيهم، فيستحيوا من اللَّه تعالى حقّ الحياء، وَيتَّقوه حقّ تقواه، ويراقبوه مُراقبة مَنْ يَعْلم أنه يراه، فإنه تعالى يعلَمُ العينَ الخائنة وإن أبدت أمانةً، ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصُدور من الضمائر والسرائر).

وقوله: {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} . أي تكنّه وتضمره.

قال ابن عباس: (هو الرجل ينظر إلى المرأة فإذا نظر إليه أصحابه غضّ بصره، فإذا رأى منهم غفلة تدسَّسَ بالنظر، فإذا نظر إليه أصحابه غضّ بصره، وقد علم اللَّه عز وجل منه أنه يودّ لو نظر إلى عورتها). قال: ({وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} أي هل يزني بها لو خلا بها أو لا).

وقوله: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} .

قال القرطبي: (أي يجازي من غَضَّ بصرَه عن المحارم ومن نظر إليها، ومن عزم على مواقعة الفواحش إذا قدر عليها). وقال القاسمي: ({وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} أي بالعدل).

وقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} . أي: لأنهم لا يقدرون على شيء.

قال النسفي: (تهكّمٌ بهم -يعني بآلهتهم- لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه يقضي أو لا يقضي).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} . تقرير ووعيد وتعريض. تقرير أنه تعالى هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ووعيد لهم بأنه تعالى يسمع ما يقولون ويبصر ما يعملون ومصيرهم إليه، وتعريض بآلهتهم الهزيلة التي لا تسمع ولا تبصر.

21 -

22. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ

ص: 53

وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)}.

في هذه الآيات: يقول تعالى: أولم ير هؤلاء المشركون ما حل بالأمم الكافرة قبلهم -وهم يسيرون في أطراف البلاد فيمرون على آثارهم- مع أنهم كانوا أشد منهم قوة في الأجسام، {وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ}: من المعالم العظيمة والصروح المتينة وقوي البنيان، فأخذهم اللَّه بذنوبهم وما وقاهم من عذاب اللَّه واق، إنهم كفروا رغم ما أُثْبِتَ لهم من الآيات الداعية إلى الإيمان، وما يقتضيه من الأركان، فدمرهم اللَّه، إن عذابه شديد أليم موجع لا مردّ له إذا نزل بالقوم الكافرين.

وعن قتادة: ({وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} يقيهم، ولا ينفعهم).

وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .

قال ابن جرير: (-يقول-: فاحذروا أيها القوم أن تسلكوا سبيلهم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وجحود توحيد اللَّه ومخالفة أمره ونهيه فيسلك بكم في تعجيل الهلاك لكم مسلكهم).

23 -

27. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)}.

في هذه الآيات: خَبَرُ إرسال اللَّه تعالى موسى صلى الله عليه وسلم إلى فرعون وهامان وقارون، ومقابلتهم للحق بالتكذيب والمكر والتهديد بالقتل، ولجوء موسى عليه السلام إلى ربه لينصره على هذا الطاغية المتجبر المتكبر.

ص: 54

فقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} . السلطان هو الحجة والبرهان. قال قتادة: (أي عذر مبين).

والآية تسلية من اللَّه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم عما يلقى من مشركي قريش بإعلامه ما لقي موسى قبله من فرعون وملئه، وسنته سبحانه في أهل الكفر.

وقوله: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ} . أي: إلى رؤوس الكفر والمكر والكبر.

ففرعون رأس الكفر في زمانه، يعاونه وزيره هامان رأس المكر، وأكثر الناس في زمانه مالًا وتجارة قارون رأس الكبر.

وقوله: {فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} . أي اتهموه بالكذب والسحر والجنون.

وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} .

أي فلما جاءهم موسى بتوحيد اللَّه وإفراده بالتعظيم والعمل بطاعته مع إقامة الحجة عليهم قالوا اقتلوا أبناء من آمن معه وأبقوا نساءهم للخدمة. قال قتادة: (هذا قتل غير القتل الأول الذي كان)(1).

وقوله: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} . أي: وما مكرهم في محاولتهم تقليل عدد بني إسرائيل لئلا ينصروا عليهم إلا ذاهب وهالك.

قال ابن جرير: (وما احتيال أهل الكفر لأهل الإيمان باللَّه إلا في جور عن سبيل الحق، وصدّ عن قصد المحجة).

وقوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} .

قال ابن كثير: (وهذا عَزْمٌ من فِرْعونَ -لعنه اللَّه- على قتل موسى عليه السلام أي قال لقومه: دعوني حتى أقتلَ لكم هذا، {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ}، أي: لا أبالي منه. وهذا في غاية الجَحْدِ والتَّجهرُم والعناد).

وقوله: {أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} .

قال قتادة: ({إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} أي أمركم الذي أنتم عليه {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} والفساد عنده أن يعمل بطاعة اللَّه).

(1) أي غير القتل الذي كان قبل مولد موسى عليه السلام للاحتراز من ولادته.

ص: 55

قال القرطبي: (إن لم يبدل دينكم فإنه يظهر في الأرض الفساد. أي يقع بين الناس بسببه الخلاف).

وقوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} .

قال ابن جرير: (وقال موسى لفرعون وملئه: إني استجرت أيها القوم بربي وربكم من كل متكبر عليه تكبر عن توحيده والإقرار بألوهيته وطاعته، لا يؤمن بيوم يحاسب اللَّه فيه خلقه).

قال النسفي: (وقال: {لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} لأنه إذا اجتمع في الرجل التكبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على اللَّه وعباده، ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها).

وفي سنن أبي داود ومسند أحمد بسند صحيح عن أبي بردة بن عبد اللَّه، أن أباه حدثه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قومًا قال:[اللهم إنا نَجْعَلُكَ في نحورهم، ونعوذُ بكَ من شرورهم](1).

29 -

28. قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)}.

في هذه الآيات: تحذيرُ مؤمن آل فرعون قومه مغبة إقدامهم على قتل رجل يقول ربي اللَّه ويدلهم على الإيمان به وسبيل النجاة والسعادة في الدارين، وتنبيهه لهم أن هذا التمكين في الأرض قد لا يدوم وقد يأتي عذاب اللَّه فلا يرد عن القوم المسرفين.

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (1537) - باب ما يقول إذا خاف قومًا. وأخرجه أحمد (4/ 414 - 415)، والنسائي في "اليوم والليلة"(601). انظر صحيح أبي داود (1360). ورواه الحاكم (2/ 142) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

ص: 56

فقوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} .

قال السدي: (هو ابن عم فرعون. ويقال: هو الذي نجا مع موسى). وقيل: (كان قبطيًا آمن بموسى سرًا). قلت: والأرجح أن يقال: كان رجلًا مؤمنًا من آل فرعون يخفي إيمانه.

وقوله: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} . هذه كلمة حق عند سلطان جائر، وقد ثبت في السنة الصحيحة أن ذلك من أعظم الجهاد.

فقد أخرج أبو داود وابن ماجة بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [أفضلُ الجهاد كلمةُ عدْلٍ عِندَ سلطانٍ جائر -أو "أمير جائر"-](1).

و{أَنْ} في موضع نصب، والتقدير: أتقتلون موسى لأن يقول ربي اللَّه.

وعن ابن إسحاق: ({وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} بعصاه ويده).

وقد استشهد أبو بكر رضي الله عنه بهذه الآية مدافعًا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد تطاول عليه الشقي عقبة بن أبي معيط وهو يصلي عند الكعبة يريد خنقه.

فقد أخرج البخاري في صحيحه، وأحمد في مسنده، عن عروة بن الزبير قال:[قلت لعبد اللَّه بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشدِّ ما صَنَعَ المشركون برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: بَيْنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي بفِناء الكعبة إذ أقبل عقبةُ بن أبي مُعَيْطٍ فأخذ بِمَنكِب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولَوَى ثوبَهُ في عُنُقِهِ فخنقَهُ خَنْقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر، فَأخذ بِمَنْكِبِه، ودفع عَنْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}](2).

وأخرج النسائي في "الكبرى" بإسناد على شرط الشيخين عن عروة، عن عمرو بن العاص أنه سُئِل: ما أشدُّ ما رأيتَ قريشًا بلغوا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: [مَرَّ بهم ذاتَ يوم فقالوا له: أنت تنهانا أن نعبدَ ما يعبُدُ آباؤنا؟ فقال: "أنا ذاك". فقاموا إليه، فأخذوا بمجامع ثيابه، فرأيت أبا بكر مُحتضِنَهُ من وَرَائهِ، وهو يصيح بأعلى صوته، وإنَّ عينيه

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4344) - كتاب الملاحم - باب الأمر والنهي. ورواه ابن ماجة (4011) - كتاب الفتن. انظر صحيح أبي داود (3650).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4815) - كتاب التفسير - عند هذه الآية من سورة المؤمن.

وأخرجه كذلك برقم (3678)، (3856). ورواه أحمد (2/ 204)، وا بن حبان (6567).

ص: 57

لَيَسيلان، وهو يقولُ: يا قوم: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} حتى فرغ من الآية كلها] (1).

والمقصود بالآية: كيف تقتلون رجلًا لكونه يقول: {رَبِّيَ اللَّهُ} ، وقد أقام لكم الحجج والبراهين على صدق ما معه من الحق!

وقوله: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} . أي: وإن يك موسى كاذبًا بقيله ونبوته فإنما وبال ذلك عليه فلا حاجة لكم بقتله، وإن يك صادقًا وقد آذيتموه يصبكم بعض الذي يهددكم به من العذاب في الدنيا والآخرة.

قال القرطبي: ({وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ}: ولم يكن ذلك لشك منه في رسالته وصدقه، ولكن تلطفًا فى الاستكفاف واستنزالًا عن الأذى. {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} أي: إن لم يصبكم إلا بعض الذي يعدكم به هلكتم).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} . قال قتادة: (مشرك أسرف على نفسه بالشرك). وقال السدي: (المسرف: هو صاحب الدم. ويقال: هم المشركون). والمعنى كما قال ابن جرير: (إن اللَّه لا يوفق للحق من هو متعَدّ إلى فعل ما ليس له فعله، كذّاب عليه يكذب، ويقول عليه الباطل وغير الحق).

وقوله: {يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} .

قال ابن كثير: (أي: قد أنعم اللَّه عليكم بهذا المُلك والظهور في الأرض بالكلمة النافذة والجاه العريض، فراعُوا هذه النعمة بشكر اللَّه، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، واحذروا نقمة اللَّه إن كذّبتم رسوله. {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا}، أي: لا تغني عكم هذه الجنود وهذه العساكرُ، ولا تَرُدُّ عنا شيئًا من بأسِ اللَّه إن أرادنا بسوء).

وقوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} .

فيه منهاج كل طاغية على مر الزمان، ابتداء من فرعون الذي كان أعتى الأنام. أراد فرعون أن يقول: ما أشير عليكم إلا بقتل موسى، وما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الصلاح والصواب. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:(ما أشير عليكم إلا ما أرى لنفسي {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} في تكذيب موسى والإيمان بي).

(1) حديث صحيح. أخرجه النسائي في "الكبرى"(11462)، وكذلك في "التفسير"(482)، وإسناده على شرط البخاري ومسلم.

ص: 58

وقد كذب عدو اللَّه، فقد كان متحققًا من صدق موسى في نبوته ورسالته كما قال تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. وكقوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102].

قال النسفي: ({مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى}: ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب ولا أدخر منه شيئًا ولا أسرّ عنكم خلاف ما أظهر. يعني أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول، وقد كذب فقد كان مستشعرًا للخوف الشديد من جهة موسى عليه السلام، ولكنه كان يتجلد، ولولا استشعاره لم يستشر أحدًا ولم يقف الأمر على الإشارة).

وهذا المنهاج الذي مضى عليه فرعون في الغش لرعيته والكذب في حقهم هو مصدر خزي وفضيحة له ولأمثاله من الحكام الطغاة يوم القيامة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك، منها:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن مَعْقِل بن يسار قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [ما مِنْ عَبْدٍ يسترعيه اللَّه رَعِيَّةً فلم يَحُطها بِنُصْحِهِ إلا لم يَجِدْ رائحةَ الجنة](1).

وفي لفظ: [ما من والٍ يلي رَعِيَّةً من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرَّم اللَّه عليه الجنة].

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إذا جمع اللَّه الأولين والآخرين يوم القيامة، يُرْفعُ لكل غادر لِواءٌ، فقيل: هذه غَدْرَةُ فلانِ بنِ فلان](2).

وفي لفظ آخر من حديث أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [لكل غادر لواء يوم القيامة يُرْفَعُ له بَقدْرِ غَدْرِه، ألا ولا غادِرَ أعظَمُ غَدْرًا من أمير عامّة].

الحديث الثالث: أخرج مسلم من حديث عائذ بن عمرو مرفوعًا: [إنَّ شَرَّ الرِّعَاء الحُطمة، فإياك أن تكون منهم](3).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (7150) - (7151)، كتاب الأحكام، باب من استُرعي رعية فلم ينصح. ورواه مسلم في الصحيح (1421).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1735) - كتاب الجهاد. باب تحريم الغدر. وانظر كذلك الحديث (1738) للفظ الآخر.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1830) - كتاب الإمارة. باب فضيلة الأمير العادل وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم.

ص: 59

30 -

35. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)}

في هذه الآيات: تحذيرُ مؤمن آل فرعون قومه عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فإنه من يضلل اللَّه فماله من هاد. وتذكيره لهم مخالفتهم نبي اللَّه يوسف عليه السلام قبل ذلك وطاعتهم له من أجل الجاه والوزارة ومنافع الدنيا، فلما مات ظنوا أن الرسالة قد انقطعت، واللَّه يضل المبطلين، ويطبع على قلوب المتكبرين.

فقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} .

إخبارٌ من اللَّه عز وجل عن تحذير مؤمن آل فرعون قومه بأس اللَّه ونقمته وما نزل بالأمم السابق عند تكذيبها. قال ابن جرير: (-يقول-: يا قوم إني أخاف عليكم بقتلكم موسى إن قتلتموه مثل يوم الأحزاب الذين تحزّبوا على رسل اللَّه نوح وهود وصالح، فأهلكهم اللَّه بتجرُّئهِم عليهم فيهلككم كما أهلكهم).

وقوله: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} .

أي مثل حال قوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم: قوم إبراهيم وقوم لوط. قال ابن عباس: ({مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} يقول: مثل حال). وقال ابن زيد: (مثل ما أصابهم). وعن قتادة: ({وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} قال: الأحزاب).

وقوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} . قال النسفي: (أي وما يريد اللَّه أن يظلم عباده

ص: 60

فيعذبهم بغير ذنب أو يزيد على قدر ما يستحقون من العذاب. يعني أن تدميرهم كان عدلًا لأنهم استحقوه بأعمالهم).

وقوله تعالى: {وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} . أي يوم القيامة يوم يكثر فيه التنادي.

قال قتادة: (يوم ينادي أهل الجنة أهل النار: أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ وينادي أهل النار أهل الجنة: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50]).

وقال ابن زيد: (يوم القيامة ينادي أهل الجنة أهل النار). وقيل: (ينادي الكافر فيه بالويل والثبور والحسرة).

وفي التنزيل أيضًا:

1 -

قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف: 48].

2 -

وقال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق: 41].

وفي الصحيحين والمسند عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إن اللَّه يدني المؤمن فيضَعُ عليه كَنَفَهُ ويستُره فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي ربّ، حتى قَرَّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته. وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]] (1).

الحديث الثاني: أخرج الدارمي بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [إذا جمع اللَّه العباد بصعيد واحد، نادى مناد: يلحق كل قوم بما كانوا يعبدون. ويبقى الناس على حالهم، فيأتيهم فيقول: ما بال الناس ذهبوا وأنتم هاهنا؟ فيقولون: ننتظر إلهنا. فيقول: هل تعرفونه؟ فيقولون: إذا تعرف إلينا عرفناه، فيكشف لهم عن ساقه فيقعون سجدًا، وذلك قول اللَّه تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2441)، ومسلم (2768)، وأحمد (2/ 74).

ص: 61

وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُون} ويبقى كل منافق فلا يستطيع أن يسجد، ثم يقودهم إلى الجنة] (1).

الحديث الثالث: يروي عبد اللَّه بن أحمد في "السنة" بسند صحيح عن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يجمع اللَّه الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم أربعين سنة، شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء، وينزل اللَّه في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي مناد: أيها الناس ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا أن يولي كل ناس ما كان يتولى ويعبد في الدنيا؟ أليس ذلك عدلًا من ربكم؟ قالوا: بلى. . .](2).

وقوله: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} . أي: يوم تحاولون الفرار من عذاب جهنم وقد أيقنتم بدخولها لكن لا سبيل ولا مفر.

قال مجاهد: ({يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ}: فارين غير معجزين). وقال قتادة: (أي منطلقًا بكم إلى النار). وقال: ({مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ}: أي من ناصر).

وقوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . قال ابن جرير: (-أي-: ومن يخذله اللَّه فلم يوفقه لرشده فما له من موفق يوفقه له).

وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} .

قال السدي: ({وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ} قال: قبل موسى). قال ابن كثير: (يعني أهل مصر، قد بعث اللَّه فيهم رسولًا من قبل موسى، وهو يوسفُ عليه السلام كان عزيزَ أهل مصر، وكان رسولًا يدعو إلى اللَّه تعالى أمته القِبطَ، فما أطاعُوه تلك الطاعة إلا لمجرَّد الوزارة والجاه الدنيوي. ولهذا قال تعالى: {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا}، أي: يشتم فقلتم طامعين: {لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا}، وذلك لِكُفرهم وتكذيبهم).

(1) أخرجه الدارمي في السنن (2/ 326)، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة (584) وقال:(وهذا إسناد جيد رجاله ثقات رجال الصحيح).

(2)

أخرجه بتمامه عبد اللَّه بن أحمد في "السنة" ص (177). وانظر مختصر العلو (69)، ص (110). وهو حديث صحيح كما أفاد الذهبي وأقره الألباني.

ص: 62

وقوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} .

هو ضلال الإهمال والترك والتناسي والخذلان. فإن الضلال له مراتب ثلاث:

المرتبة الأولى: الضياع والانحراف.

المرتبة الثانية: الترك والإهمال والخذلان.

المرتبة الثالثة: الهداية إلى النار يوم القيامة.

فإن الإعراض عن منهج الرسل والغور في البعد عن اللَّه، والتطاول بالرأي والادعاء والغرور مآله الخذلان من اللَّه، ليزداد ضياعًا إلى الضياع والإهمال.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].

2 -

وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19].

3 -

وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].

وفي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبدًا كالكوز مُجَخِّيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه](1).

والمقصود بالآية: كذلك -يا محمد- يصد اللَّه عن إصابة الحق وقصد السبيل من هو مسرف بالإثم والكفر مرتاب في قلبه.

وقوله: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} .

{الَّذِينَ} في محل نصب بدل من "مَنْ". والتقدير: كذلك يضل اللَّه الذين يجادلون في آياته ويدفعون الحجج بغير دليل، وإنما بدافع الهوى وفاسد التأويل. لقد كبر ذلك الجدال مقتًا عند اللَّه وعند المؤمنين.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1/ 89 - 90) - كتاب الفتن. انظر مختصر صحيح مسلم (1990).

ص: 63

أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [هلاكُ أمتي في الكتاب واللَّبن. قالوا: يا رسول اللَّه ما الكتابُ واللَّبن؟ قال: يتعلمون القرآن فيتأولونه على غيرِ ما أنزل اللَّهُ عز وجل، ويحبون اللَّبن فيدعون الجماعات والجمع، ويَبْدون](1).

وقوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} . قال القاسمي: (أي بطر للحق، لا يقبل الحجة. جبار في المجادلة. ألدّ فيصدر عنه أمثال ما ذكر، من الإسراف والارتياب والمجادلة في الباطل لطمس بصيرته، فلا يكاد يظهر له الحق).

وقرأ أبو عمرو بن العلاء: {عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ} . وأما عامة القراء: {عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وهي القراءة الأَوْلى.

والطبع هو الختم. قال مجاهد: (ثبتت الذنوب على القلب فحفّت به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع الختم).

وقوله: {جَبَّارٍ} أي متعظم عن اتباع الحق، متكبر على اللَّه، مشتهر بالجرائم والموبقات. قال قتادة:(آية الجبابرة القتلُ بغير حق).

37 -

36. قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)}

في هذه الآيات: إخبارُ اللَّه تعالى عن عتو فرعون وتماديه في الكفر، ومساعدة هامان له في تثبيت سلطانه الفاسد، وما كيد فرعون إلا في ضلال وخسار.

فقوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} . الصرح: هو القصر العالي المُنيف الشاهق. قال القرطبي: (لما قال مؤمن آل فرعون ما قال، وخاف فرعون أن يتمكن كلام هذا المؤمن في قلوب القوم، أوهم أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد، فإن

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 155)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2778).

ص: 64

بان له صوابه لم يخفهِ عنهم، وإن لم يصح ثبتهم على دينهم، فأمر وزيره هامان ببناء الصرح).

وقوله: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} .

قال ابن عباس: (مَنْزِلُ السماء). وقال قتادة: (أبواب السماوات). وقال السدي: (طرق السماوات). وقيل: الأمور التي تستمسك بها السماوات. قال ابن جرير: (السبب هو كل ما تُسُبِّبَ به إلى الوصول إلى ما يطلب من حبل وسلم وطريق وغير ذلك). ثم قال: (معناه: لعلي أبلغ من أسباب السماوات أسبابًا أتسبب بها إلى رؤية إله موسى، طرقًا كانت تلك الأسباب منها أو أبوابًا أو منازل أو غير ذلك).

وقيل: كرر "أسباب" للتفخيم، فإن الشيء إذا أبهم ثم أوضح كان تفخيمًا لشأنه. والمقصود: أراد فرعون أن يعظم بذلك شأنه وكرسيه الذي يتزلزل.

وقوله: {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} .

قال الإمام الجويني أبو محمد والد إمام الحرمين: (وهذا يدل على أن موسى أخبره بان ربه تعالى فوق السماء، ولهذا قال: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا})(1).

قال ابن جرير: (أي: وإني لأظن موسى كاذبًا فيما يقول ويدعي من أن له في السماء ربًا أرسله إلينا).

قلت: ومن ثم فمن شك أن اللَّه في السماء اليوم، فقد تشبه بطريقة فرعون. وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].

2 -

وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5].

3 -

وقال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16].

وفي صحيح مسلم من حديث جابر -في خطبته صلى الله عليه وسلم يوم عرفة-: [ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكتها إليهم ويقول: اللهم اشهد. وفي

(1) انظر: "مختصر العلو" ص (80)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 173 - 175) لتفصيل البحث.

ص: 65

رواية: فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وَيَنْكتُها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد ثلاث مرات] (1).

وقوله: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} . قال ابن كثير: (أي بصنيعه هذا الذي أراد أن يوهِمَ به الرعيّةَ أنه يعمل شيئًا يتوصَّل به إلى تكذيب موسى عليه السلام).

وقرأ قراء المدينة والكوفة: {وَصُدَّ} ، في حين قرأ ذلك أبو عمرو وقراء البصرة:{وَصُدَّ} -أي: وأعرض. وهما قراءتان معروفتان.

وقوله: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} . قال ابن عباس: (يقول: في خسران). وقال قتادة: (أي في ضلال وخسار). وقال ابن زيد: (التباب والضلال واحد).

38 -

44. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)}.

في هذه الآيات: تحذيرُ مؤمن آل فرعون قومه غرور الحياة الدنيا، وترغيبه لهم في طاعة اللَّه الموصلة إلى جنات النعيم، وتوضيحه لهم أن ما هم عليه من الكفر ونشر الفساد في الأرض يوصل إلى عذاب الجحيم. وأنهم سيذكرون يومًا قوله ونصيحته لهم واللَّه هو السميع البصير العليم.

(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم ص (188). وكتابي: أصل الدين والإيمان -عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان- (1/ 177) لمزيد من الأدلة في بحث العلو.

ص: 66

فقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} .

قال النسفي: (فيه تعريض شبيه بالتصريح أن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي).

قال ابن جرير: (يقول: إن اتبعتموني فقبلتم مني ما أقول لكم، بَيَّنْتُ لكم طريق الصواب الذي ترشُدون إذا أخذتم فيه وسلكتموه، وذلك هو دين اللَّه الذي ابتعث به موسى).

وقوله تعالى: {يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} .

قال قتادة: (استقرت الجنة بأهلها، واستقرّت النار بأهلها).

والمقصود: شرع يزهدهم في الدنيا التي عكفوا على محاريبها فصدتهم عن الإيمان، وأخبرهم أن هذه الحياة العاجلة متاع زائل عما قريب، ثم إن الآخرة هي دار الاستقرار لا زوال لها، فإما في نعيم وإما في جحيم.

وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} .

أي: من عمل بمعصية اللَّه في هذه الدنيا ثم غادرها دون توبة فإنما يقابله اللَّه تعالى في الآخرة سيئة مثلها من عقابه. ومن عمل بطاعة اللَّه وتعظيم أمره من رجل أو امرأة مع الإيمان باللَّه فإنما يقابله اللَّه تعالى بالرزق الجميل في جنات النعيم.

وعن قتادة: ({مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً} أي: شركًا. {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا} أي خيرًا. {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} قال: لا واللَّه ما هناكم مكيال ولا ميزان).

وقوله تعالى: {وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} .

قال مجاهد: ({مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} قال: الإيمان باللَّه). وعن ابن زيد: ({وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّار} قال: هذا مؤمن آل فرعون، يدعونه إلى دينهم والإقامة معهم).

وقوله تعالى: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} .

قال القرطبي: ({وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّار} بيّن أن ما قال فرعون من قوله: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} سبيل الغي عاقبته النار وكانوا دعوه إلى اتباعه، ولهذا قال: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} وهو فرعون).

قال القاسمي: ({وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ} أي: الغالب الذي يقهر من عصاه

ص: 67

{الْغَفَّارِ} أي الذي يستر ظلمات نفوس مَنْ أطاعه، بأنواره).

وقوله: {لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ} .

قال السدي: ({لَا جَرَمَ}: حقًا). وقال الضحاك: (لا كذب). وقال ابن عباس: ({لَا جَرَمَ}، يقول: بلى، إن الذي تدعونني إليه من الأصنام والأنداد {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ}). قال مجاهد: (الوثن ليس بشيء). وقال قتادة: (يعني: الوثن لا ينفع ولا يضر). وقال السدي: (لا يجيب داعيه، لا في الدنيا ولا في الآخرة).

قال القرطبي: (وكان فرعون أولًا يدعو الناس إلى عبادة الأصنام، ثم دعاهم إلى عبادة البقر، فكانت تُعبد ما كانت شابة، فإذا هَرِمت أمر بذبحها، ثم دعا بأخرى لتعبد، ثم لما طال عليه الزمان قال أنا ربكم الأعلى).

قلت: فإن توجه الكلام ضد عبادة فرعون فيكون المعنى: حقًا -أيها القوم- إن ما تدعون لعبادته وتعظيمه ليس له دعوة توجب له الألوهية، فهو بشر مثلكم استخف بعقولكم واستعبدكم. قال الكلبي:(ليس له شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة). وقال الزجاج: (ليس له دعوة تنفع).

وقوله: {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} . أي: وأن مرجعنا ومنقلبنا بعد مماتنا إلى اللَّه.

وقوله: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} . قال مجاهد: (السفّاكون الدماء بغير حَقّها هم أصحاب النار). وقال ابن زيد: (سمّاهم اللَّه مسرفين، فرعون ومن معه). وقال قتادة: (أي المشركون).

قال ابن جرير: (-يقول-: وأن المشركين باللَّه المتعدين حدوده، القتلة النفوس التي حرم اللَّه قتلها، هم أصحاب نار جهنم عند مرجعنا إلى اللَّه).

وقوله: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} . تهديد ووعيد. أي: فستذكرون في الآخرة قولي إذا نزل بكم العذاب.

وقوله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} . أي: أجعل اعتمادي وتوكلي على اللَّه، فإنه الكافي من توكل عليه.

قال السدي: (أجعل أمري إلى اللَّه).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} . أي: إن اللَّه عالم بأمور عباده مطلع على

ص: 68

أعمالهم، يهدي من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الضلال، ويثيب ويعاقب كلًا باستحقاقه.

45 -

50. قوله تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)}.

في هذه الآيات: نجاةُ مؤمن آل فرعون في الدنيا والآخرة، وإحاطة العذاب بفرعون وجنده في الغرق ثم في القبر ثم في نار الآخرة المستعرة. وتصويرُ اللَّه تعالى حوار الرؤساء مع أتباعهم من المجرمين في صورة من الخزي والتحسّر والندم حيث لا سبيل إلى نيل العفو أو المغفرة.

فقوله: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} . قال قتادة: (كان قبطيًا من قوم فرعون، فنجا مع موسى). والمقصود: نجاه اللَّه مع موسى من الغرق، وفي الآخرة أدخله الجنة ووقاه النار.

وقوله: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} . قال ابن جرير: (ما ساءهم من عذاب اللَّه، وذلك نار جهنم).

وقوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} . فيه إثبات لعذاب القبر.

وعن مجاهد: (قوله: {غُدُوًّا وَعَشِيًّا} قال: ما كانت الدنيا). قال قتادة: (يعرضون عليها صباحًا ومساء).

وقد جاء إثبات عذاب القبر في صحيح السنة المطهرة في أحاديث، منها:

ص: 69

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد بإسناد على شرط البخاري ومسلم عن عائشة: [أن يهودية كانت تخدمها، فلا تصنع عائشة إليها شيئًا من المعروف إلا قالت لها اليهودية: وقاكِ اللَّه عذابَ القبر. قالت عائشة: فدخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليّ فقلت: يا رسول اللَّه، هل للقبر عذابٌ قبل يوم القيامة؟ قال: لا، وعَمَّ ذلك؟ قالت: هذه اليهودية، لا نصنع إليها شيئًا من المعروف إلا قالت: وقاكِ اللَّه عذابَ القبر. قال: "كذبت يهود. وهم على اللَّه أكذب، لا عذابَ دونَ يوم القيامة". ثم مكث بعد ذلك ما شاء اللَّه أن يمكُثَ، فخرج ذات يوم نِصْفَ النهار مُشتملًا بثوبه، مُحمرَّةً عيناه، وهو ينادي بأعلى صوته: القبرُ كقِطع الليل المظلم! أيها الناس، لو تعلمون ما أعلمُ بكيتم كثيرًا وضحِكْتُم قليلًا، أيها الناس، استعيذوا باللَّه من عذاب القبر، فإن عذابَ القبر حق](1).

وفي رواية: [قالت عائشة: ثم قال لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: وإنّه أُوحِي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم](2).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند، وابن حبان في صحيحه عن أنس:[أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بنخل لبني النجار، فسمع صوتًا فقال: ما هذا؟ قالوا: قبر رجل دفن في الجاهلية، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لولا أن تدافنوا لدعوت اللَّه عز وجل أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمعني](3).

وله شاهد عنده من حديث جابر قال: [دخل النبي صلى الله عليه وسلم يومًا نخلًا لبني النجار، فسمع أصوات رجال من بني النجار ماتوا في الجاهلية يعذبون في قبورهم، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فزعًا، فأمر أصحابه أن تعوذوا من عذاب القبر](4).

الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم عن زيد بن ثابت قال: [بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له، ونحن معه، إذ حادت به، فكادت تلقيه، وإذا أقبر

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (6/ 81)، (6/ 164) من حديث عائشة، بإسناد على شرط البخاري ومسلم، ولم يخرجاه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 238)، وإسناده على شرط الشيخين أيضًا.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 201)، وكذلك (3/ 103)، وابن حبان (786) وهو سند على شرط الشيخين. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (158).

(4)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 293 - 296) بسند صحيح متصل على شرط مسلم.

ص: 70

ستة أو خمسة أو أربعة -شك الجريري (1) - فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا. قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك. فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن تدافنوا لدعوت اللَّه أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه. قال زيد: ثم أقبل علينا بوجهه فقال: تعوذوا باللَّه من عذاب النار، قالوا: نعوذ باللَّه من عذاب النار، فقال: تعوذوا باللَّه من عذاب القبر، قالوا: نعوذ باللَّه من عذاب القبر، قال: تعوذوا باللَّه من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قالوا: نعوذ باللَّه من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: تعوذوا باللَّه من فتنة الدجال، قالوا: نعوذ باللَّه من فتنة الدجال] (2).

وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} .

قال القرطبي: (وآل فرعون: من كان على دينه وعلى مذهبه، وإذا كان من كان على دينه ومذهبه في أشد العذاب كان هو أقرب إلى ذلك).

والمقصود: يأمر اللَّه يوم القيامة ملائكته أن يُدخلوا فرعون ومن كان معه على منهجه أشد العذاب في نار جهنم.

وقوله: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} . أي: يختصمون فيها، والمراد فرعون وقومه.

وقوله: {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} .

أي: فيقول الضعفاء للذين استكبروا عن الانقياد للأنبياء وحجة الوحي والحق: إنا كنا نتبعكم فيما دعوتمونا إليه من الشرك في الدنيا فهل أنتم متحملون عنا اليوم جزءًا من العذاب.

وقوله: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} .

قال ابن جرير: ({قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وهم الرؤساء المتبوعون على الضلالة في الدنيا إنا أيها القوم وأنتم كلنا في هذه النار مخلدون لا خلاص لنا منها، {إِنَّ

(1) هو سعيد الجريري الراوي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن زيد بن ثابت.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 160 - 161)، وأخرجه أحمد (5/ 190)، وأخرجه ابن حبان (785) بنحو رواية مسلم. وقوله:"تدافنوا" أصله "تتدافنوا" فحذف إحدى التاءين. والمقصود: لولا خشية أن يفضي سماعكم إلى ترك أن يدفن بعضكم بعضًا.

ص: 71

اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} بفصل قضائه، فأسكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، فلا نحن مما نحن فيه من البلاء خارجون، ولا هم مما فيه من النعيم منتقلون).

وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} .

أي: سأل أهل النار الخزنة أن يدعوا لهم ربهم بتخفيف العذاب عنهم ولو مقدار يوم واحد من أيام الدنيا.

وقوله: {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى} .

أي: فردوا عليهم ألم تقم الحجج عليكم على ألسنة الرسل قالوا بلى.

وقوله: {قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} .

قال ابن كثير: ({قَالُوا فَادْعُوا}، أي: أنتم لأنفسكم، فنحنُ لا ندعو لكم ولا نسمعُ منكم ولا نَوَدُّ خَلاصَكم، ونحن منكم بُرآءُ، ثم نخبركم أنه سواء دعوتُم أو لم تَدعُوا، لا يُستجاب لكم ولا يُخفف عنكم، ولهذا قالوا: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}، أي: في ذَهاب، لا يُتَقبَّلُ ولا يُستجاب).

51 -

56. قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)}.

في هذه الآيات: تقريرُ اللَّه نزول نصره على رسله وعباده المؤمنين في الدنيا وفي الدار الآخرة، يوم لا ينفع الظالمين الاعتذار ولا سبيل لنيل الصفح أو المغفرة. وتسليةُ اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى قومه بأمره بالصبر والتسبيح كما صبر موسى قبله

ص: 72

على أذى قومه وقد أنزل عليه التوراة كما أنزل عليه القرآن، هدى وذكرى لأولي الألباب، وأن يستعيذ به تعالى من كيد المستكبرين أهل الجدل بالباطل الذي هم في تباب.

فقوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . منهاج عام في حياة الرسل ومن مضى على منهاجهم.

قال السدي: (قد كانت الأنبياء والمؤمنون يُقتلون في الدنيا وهم منصورون، وذلك أن تلك الأمة التي تفعل ذلك بالأنبياء والمؤمنين لا تذهب حتى يبعث اللَّه قومًا فينتصر بهم لأولئك الذين قتلوا منهم).

وهذا الفهم يجيب على ما يخطر بالبال هنا من كون بعض الأنبياء كيحيى وزكريا وشعيا عليهم السلام قتله قومه، ومنهم من خرج مهاجرًا -من بين أظهر قومه- كإبراهيم عليه السلام ومنهم من رفعه اللَّه إلى السماء كعيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم. ويضاف إلى ذلك الأمور الآتية:

1 -

الآية بعمومها تدل على وعد اللَّه بنصر رسله والمؤمنين في الحياة الدنيا قبل الآخرة، وذلك بإعلائهم على من كذّبهم، وإظفارهم عليهم حتى يقهروهم بالغلبة ويذلوهم بالظفر، كما كان لداود وسليمان عليهما السلام فقد أعطاهما اللَّه من الملك والسلطان ما قهروا به كل كافر، وكما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم فقد أظهره اللَّه على من كذّبه من قومه وأذلّهم.

2 -

كما تدل الآية على انتقام اللَّه لرسله والمؤمنين ممن حادّهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل دون قتال، كما فعل تعالى ذكره بنوح وقومه من تغريقهم وإنجائه، وبموسى وفرعون وقومه إذ أهلكهم غرقًا ونجّى موسى ومن معه.

3 -

وتدل الآية كذلك على انتقام اللَّه في الحياة الدنيا ممن كذبوا الرسل بعد وفاة الرسول فيهم، كنصرة اللَّه شعياء بعد مهلكه بأن سلّط على قتلته من قهرهم، وكفعله بقتلة يحيى إذ سلط بختنصّر عليهم فسامهم سوء العذاب. وكفعْله باليهود الذين أرادوا صلب المسيح عليه السلام فسلط اللَّه عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم، ثم ينزل عيسى بن مريم قبل يوم القيامة إمامًا عادلًا فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود ويضع الجزية ويقتل الخنزير ويكسر الصليب.

4 -

قد يكون الكلام على وجه الخبر عن الجميع من الرسل والمؤمنين والمراد

ص: 73

واحد، أي: ننصر رسولنا محمدًا والذين آمنوا به في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد - ذكره ابن جرير.

قلت: والأَوْلَى هنا أن يقال: الخبر عام وقد يستثنى بعضهم بالاعتبارات السابقة الذكر.

وقوله: {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} . قال قتادة: (من ملائكة اللَّه وأنبيائه والمؤمنين به). وعن السدي: ({وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} قال: يوم القيامة).

قلت: وقد جعل اللَّه أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة الشهادة على جميع الأمم، فهي تنتصر للمرسلين حين يكذبهم أقوامهم.

- قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

وفي صحيح البخاري ومسند أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يجيء نوحٌ وأمته، فيقول اللَّه: هل بَلَّغتَ؟ فيقول: نعم أي ربّ! فيقول لأمته: هل بَلَّغَكُم؟ فيقولون: لا، ما جاء لنا من نبيّ، فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمدٌ وأمته، وهو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} والوسط: العدل، فيُدعون، فيشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم](1).

وله شاهد في المسند وسنن النسائي وابن ماجة من حديث أبي سعيد -كذلك- مرفوعًا بلفظ: [يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيُدعى قومه، فيقال لهم: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: مَنْ يشهدُ لكَ؟ فيقول: محمدٌ وأمته، فيدعى محمّد وأمته، فيُقال لهم: هل بَلَّغَ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما عِلْمُكُم بذلك؟ فيقولون: جاءنا نبيُّنا، فأخبرنا أن الرسل قد بَلَّغُوا فصدقناه، فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}].

وقوله: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} . أي: يوم لا يقبل اللَّه من الظالمين عذرًا ولا فدية.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6/ 286)، (8/ 139)، وأحمد في المسند (3/ 32)، وانظر صحيح الجامع (7890). وللشاهد كذلك (7889).

ص: 74

قال ابن جرير: (وذلك أن اللَّه قد أعذر إليهم في الدنيا وتابع عليهم الحجج فيها، فلا حجة لهم في الآخرة إلا الاعتصام بالكذب بأن يقولوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}).

وقوله: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} .

أي: وكذلك فإن للظالمين اللعنة وهي الطرد من رحمة اللَّه، ولهم مع اللعنة كذلك شر ما في الدار الآخرة وهو العذاب الأليم المهين.

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} .

أي: ولقد آتينا موسى حجة الوحي البالغة وبيان أمر الدين الحق، وأورثنا بني إسرائيل "الكتاب" أي: التوراة، الذي فيه نور وهدى ومنهاج لسعادتهم في الدارين.

وقوله تعالى: {هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} . أي: إرشادًا وتذكرة لذوي العقول. ونُصِبَ قوله: {هُدًى وَذِكْرَى} على المفعول له أو على الحال.

وقوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} .

أي: فاصبر -يا محمد- على ما تلقاه من أذى قومك، فإن وعدك بالنصر حق.

قال النسفي: ({فَاصْبِرْ} على ما يجرعك قومك من الغصص {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقّ} يعني إن ما سبق به وعدي من نصرتك وإعلاء كلمتك حق).

وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} . حضّ للأمة على الاستغفار.

قال القرطبي: (قيل: لذنب أمتك، حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: لذنب نفسك على من يجوّز الصغائر على الأنبياء. ومن قال لا تجوز قال: هذا تعبد للنبي عليه السلام بدعاء، كما قال تعالى: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا} [آل عمران: 194] والفائدة زيادة الدرجات وأن يصير الدعاء سنة لمن بعده. وقيل: فاستغفر اللَّه من ذنب صدر منك قبل النبوة).

وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} : أوائل النهار وأواخر الليل. والعشي: أوائل الليل. أي: ونزه ربك بالشكر له والثناء عليه بأواخر النهار وأوائل الليل.

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} . أي: لا يبلغون ذلك الارتفاع الذي أملوه بالتكذيب.

ص: 75

قال قتادة: (لم يأتهم بذلك سلطان). وقال مجاهد: ({إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} قال: عظمة).

قال ابن جرير: (إن في صدورهم إلا عظمة ما هم ببالغي تلك العظمة لأن اللَّه مُذِلُّهم).

وقال ابن كثير: (أي: ما في صُدورهم إلا كبرٌ على اتباع الحق، واحتقارٌ لِمَنْ جاءَهم به، وليس ما يَرومُونه من إخماد الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم، بل الحقُّ هو المرفوع، وقولُهم وقصدُهم هو الموضوع).

وقوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .

أي: فاستعذ باللَّه -يا محمد- من شر الكفار، ومن مِثْل ما ابتلوا به من الكفر والكبر، فإن اللَّه هو السميع لدعائك ولما يقولون، البصير بعملك وما يعملون، وسيعلم الذين كفروا أي منقلب ينقلبون.

57 -

60. قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}.

في هذه الآيات: تسفيهٌ لمنكري البعث بوضعهم أمام الحقيقة الكبيرة: أنّ خَلْقَ السماوات والأرض أكبر من خلق الناس لو كانوا يعلمون. وأنه كما لا يستوي الأعمى والبصير كذلك لا يستوي المؤمنون والكافرون. فالساعة آتية، والدعاء أمْرٌ من اللَّه لعباده ليفردوه التعظيم والعبادة، والمستكبرون في جهنم خالدون.

فقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} . قال يحيى بن سلام: (هو احتجاج على منكري البعث، أي هما أكبر من إعادة خلق الناس فلم اعتقدوا عجزي عنها؟ ).

ص: 76

وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . قال ابن جرير: (أنّ خلق جميع ذلك هين على اللَّه).

وقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} .

أي: لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر -وهو الكافر لا يتأمل حجج اللَّه بعينه- والبصير الذي يرى -وهو المؤمن الذي صدق بكلمات اللَّه وحججه ورسله-.

وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ} .

أي: وكذلك لا يستوي أهل الإيمان والعمل الصالح مع الكفار العصاة أهل العمل السَّيئ.

وقوله: {قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} . قال القاسمي: (أي حججه تعالى. فيعتبرون ويتعظون. أي لو تذكّروا آياته واعتبروا بها، لعرفوا خطأ ما هم مقيمون عليه، من إنكار البعث، ومن قبح الشرك).

وقوله: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} . قال النسفي: (لأنه لا بد من جزاء لئلا يكون خلق الخلق للفناء خاصة).

أي: إن الساعة التي يبعث اللَّه فيها عباده من قبورهم لنيل الثواب ونكال العقاب لجائية أيها الناس لا شك في مجيئها، فأيقنوا بحدوثها واستعدوا لها.

وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} . يعني المشركين. لا يصدقون بقيام الساعة.

وقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} . قال ابن عباس: (يقول: وحدوني أغفر لكم). وقيل: أخلصوا لي العبادة أجب دعاءكم فأعفو عنكم وأرحمكم.

والمقصود: تَلَطُّفٌ من اللَّه تعالى وتَفَضُّلٌ على عباده وتَوَدُّدٌ إليهم، بأن ندبهم إلى دعائه وتكفل لهم بالإجابة.

أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة بسند صحيح عن النعمان بن بشير قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الدعاءَ هو العبادة. ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 267)، وأبو داود (1479)، والترمذي (3247)، وابن حبان (890)، وابن ماجة (3828). وانظر صحيح سنن ابن ماجة (3086).

ص: 77

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].

2 -

وقال تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].

قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما كرب نبي من الأنبياء إلا استغاث بالتسبيح).

وفي صحيح السنة العطرة في آفاق ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري في "الأدب المفرد"، والترمذي في السنن، وأحمد في المسند، بإسناد حسن في الشواهد عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [مَنْ لم يَدْعُ اللَّه، سبحانه، غَضِبَ عليه](1). وفي لفظ: [يغضب عليه].

الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة بسند حسن عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ليس شيءٌ أكْرَمَ على اللَّه، سبحانه، من الدعاء](2).

الحديث الثالث: أخرج الترمذي والحاكم بسند حسن في الشواهد عن أبي هريرة مرفوعًا: [ادعوا اللَّه تعالى وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن اللَّه لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ](3).

الحديث الرابع: أخرج البزار في مسنده بسند صحيح عن أنس: [أن النبى صلى الله عليه وسلم مرَّ بقوم مُبْتَلَيْن فقال: أما كان هؤلاء يسألون العافيةَ](4).

ففيه الإنكار على المبتلين الذين لا يسألون اللَّه العافية، وقد ثبت في الحديث

(1) حسن لشواهده. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(658)، والترمذي (2/ 342)، وابن ماجة (3827)، وأحمد (2/ 442)، والحاكم (1/ 491). وانظر: السلسلة الصحيحة (2654).

(2)

حديث حسن. أخرجه ابن ماجة في السنن (3829) - كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء. انظر صحيح سنن ابن ماجة (3087).

(3)

حسن لغيره. رواه الترمذي (2/ 261)، والحاكم (1/ 493)، وله شاهد في مسند أحمد (2/ 177)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (594).

(4)

حديث صحيح. أخرجه البزار في "مسنده"(3134 - كشف الأستار). وأورده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (2197).

ص: 78

الصحيح أن اللَّه تعالى حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه يسأله أن يردهما صفرًا خائبتين.

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .

قال السدي: ({إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} قال: عن دعائي. {دَاخِرِينَ} قال: صاغرين).

وفي جامع الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة مرفوعًا: [إنه من لم يسأل اللَّه تعالى يغضب عليه](1).

وفي مسند أحمد بسند حسن عن عبد اللَّه بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يُحشَرُ المتكبرون يوم القيامة أمثالَ الذر في صور الناس، يعلُوهم كُلُّ شيء من الصَّغار حتى يدخلوا سِجنًا في جهنم -يقال له: بولس- تعلوهم نار الأنيار، يُسْقون من طينة الخَبال عُصَارَةِ أهل النار](2).

61 -

65. قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)}.

في هذه الآيات: امتنانٌ من اللَّه تعالى على عباده بنعمة الليل الذي يسكنون فيه، ونعمة النهار الذي ينتشرون فيه، وجعل الأرض لهم قرارًا، والسماء بناء، وتصويرهم

(1) حديث حسن. أخرجه ابن ماجة في السنن (3827)، والترمذي في الجامع (3373) - أبواب الدعوات - انظر صحيح سنن الترمذي (2686).

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (2/ 179)، والترمذي نحوه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. انظر صحيح سنن الترمذي (2025)، وقد مضى.

ص: 79

بأحسن الصور، ورزقهم من الطيبات، لعلهم يفردونه بالعبادة والتعظيم، ويخلصون له الدين.

فقوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} . امتنان منه سبحانه على عباده أن جعل لهم الليل يستريحون فيه من حركات السعي في المعايش في النهار، وجعل النهار مبصرًا مضيئًا ليناسب تحركهم في العمل والأسفار.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} . قال ابن جرير: (يقول: إن اللَّه لمتفضل عليكم أيها الناس بما لا كفء له من الفضل).

وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} . أي: قليل من يقوم بواجب الشكر للَّه على آلائه وتلطفه ونعمه، كما قال سبحانه:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].

وقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} .

قال النسفي: (أخبار مترادفة، أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الربوبية والإلهية وخلق كل شيء والوحدانية).

وقوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} . قال القرطبي: (أي كيف تنقلبون وتنصرفون عن الإيمان بعد أن تبينت لكم دلائله).

وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} .

قال ابن كثير: (أي: كما ضَلَّ هؤلاء بعبادة غير اللَّه، كذلك أُفِكَ الذين من قبلهم فَعَبدوا غيره بلا دليل ولا برهان، بل بمجرَّدِ الجهل والهوى، وجحدوا حُجج اللَّه وآياته).

وقوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} .

قال القاسمي: ({قَرَارًا} أي: تستقرون عليها وتسكنون فوقها {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} أي مبنية مرفوعة فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم وقوام دنياكم).

وقوله: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} . أي: خلقكم في أحسن صورة، فجعل كل عضو في مكان يليق به، ليتم الانتفاع بها، فتستدلوا بذلك على كمال حكمته، فيدعوكم ذلك إلى القيام بشكره والاعتراف بفضله وتعظيمه وحده لا شريك له.

ص: 80

وقوله: {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} . أي: مما لذّ وطاب من المطاعم والمشارب التي تسرّون بها.

وقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: فالذي فعل هذه الأفعال، وأنعم عليكم أيها الناس هذه النعم، هو اللَّه الذي لا تنبغي الألوهة إلا له، وربكم الذي لا تصلح الربوبية لغيره، لا الذي لا ينفع ولا يضر، ولا يخلق ولا يرزق {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} يقول: فتبارك اللَّه مالك جميع الخلق جنّهم وإنسهم، وسائر أجناس الخلق غيرهم).

وقوله: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} .

أي: هو الباقي الذي لا يموت، الحيّ أزلًا وأبدًا، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي: لا عديل له ولا شبيه ولا نظير، فأخلصوا له العبادة والتعظيم.

وفي الصحيحين عن عتبان بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنَّ اللَّه حرَّمَ على النار من قال لا إله إلا اللَّه يبتغي بذلك وجه اللَّه عز وجل](1).

وفي "الحلية" لأبي نعيم بسند صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا:

[من قال: "لا إله إلا اللَّه" أَنْجَتْهُ يومًا من دهره، أصابه قبل ذلك ما أصابه](2).

وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . قال الفراء: (هو خبر، وفيه إضمار أمر، أي ادعوه واحمدوه).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: [لأن أقول: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس](3).

وفيه أيضًا عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: [جاء أعرابي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: عَلِّمني كلامًا أقوله. قال: قل لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، اللَّه أكبر كبيرًا والحمد للَّه كثيرًا، سبحان اللَّه رب العالمين، لا حول ولا قول إلا باللَّه العزيز الحكيم.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (11/ 206)، وأخرجه مسلم (33) - كتاب الإيمان.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(5/ 46)، والبيهقي في "الشعب"(1/ 56)، وأخرجه البزار في "مسنده"(رقم - 3)، وانظر السلسلة الصحيحة (1932).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 70) - كتاب الذكر، باب: في فضائل التسبيح.

ص: 81

قال: فهؤلاء لربي فمالي؟ قال: قل: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني] (1).

وفي صحيح مسلم كذلك عن عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه تعالى عنهما: [أنه كان يقول دُبُرَ كل صلاة، حين يُسَلِّمُ: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. لا حول ولا قوة إلا باللَّه، لا إله إلا اللَّه ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن. لا إله إلا اللَّه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. قال ابن الزبير: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يهلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كل صلاة مكتوبة](2).

وفي سنن ابن ماجة بسند حسن عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما أنعم اللَّه تعالى على عبدٍ نعمةً فقال: الحمد للَّه، إلا كان الذي أعطى أفضلَ مما أخذ](3).

قلت: ولا شك أن أكبر نعمة يحمد المؤمن اللَّه تعالى عليها هي أن جعله من أهل "لا إله إلا اللَّه".

66 -

68. قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)}.

في هذه الآيات: يقول جل ذكره: قل يا محمد لمشركي قومك إن اللَّه تعالى ينهى أن يُعبد سواه، إذ لا يستحق العبادة إلا هو، فهو الذي أُمرتُ أَنْ أَذِلّ له كما ذلّ له كل شيء وخضع له. لقد خلق أباكم آدم من تراب ثم خلقكم من نطفة ثم من علقة {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} من بطون أمهاتكم صغارًا {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} فتتكامل قواكم

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 70). الكتاب السابق. باب: في التهليل والتحميد والتكبير، وانظر مختصر صحيح مسلم -حديث رقم- (1906).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (394)، ح (139)، ح (140)، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته.

(3)

حديث حسن. أخرجه ابن ماجة في السنن (3805) - باب فضل الحامدين، وانظر صحيح سنن ابن ماجة (3067)، وله شاهد عند الطبراني بنحوه.

ص: 82

ويتناهى شبابكم وتمام خلقكم فتصيروا شيوخًا، ومنكم من يفارق الحياة قبل ذلك، إما سقطًا أو صغيرًا أو شابًا أو كهلًا. وإلا فإنه يمضي إلى أجله المحدود وعمره المعدود. إنه تعالى هو المتفرد بالحياة والموت وما أمره إلا كن فيكون.

قال ابن جريج: (قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}: تتذكرون البعث). وقال النسفي: ({فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي: فإنما يكوّنه سريعًا من غير كلفة).

69 -

76. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)}.

في هذه الآيات: العَجَبُ مِنْ قَوْمٍ يصرفون عقولهم عن الهدى إلى الضلال ويكذبون الوحي والمرسلين، وهم يوم القيامة يسحبون في الأغلال إلى الجحيم، مع التقريع والتوبيخ كذلك يضل اللَّه الكافرين، الذين كانوا يفرحون بالباطل ويخوضون بأهوائهم فبئس -جهنم- مثوى للمتكبرين.

فقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} .

أي: ألا تعجب يا محمد من هؤلاء المكذبين بالحق المجادلين بالباطل كيف يصرفون عقولهم عن الهدى إلى الضلال. قال قتادة: ({أَنَّى يُصْرَفُونَ}: أنى يكذبون ويعدلون). وقال ابن زيد: (يصرفون عن الحق).

وقوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .

تهديد ووعيد، للذين كذبوا القرآن والنبوة، وأصروا على العناد والكفر.

ص: 83

وقوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ} .

قال القرطبي: (أي عن قريب يعلمون بطلان ما هم فيه إذا دخلوا النار وغُلّت أيديهم إلى أعناقهم). قال ابن جرير: (حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم في جهنم).

وقوله تعالى: {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} . قال ابن كثير: ({إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ}، أي مُتصلة بالأغلال، بأيدي الزبانية يسحبونهم على وجوههم، تارة إلى الحميم وتارة إلى الجحيم). والحميم: هو الماء الحارّ. قال المهايميّ: (لدفعهم برْد اليقين من دلائل الكتاب والسنة {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} -أي يحرقون- قال: لإحراقهم الأدلة العقلية والنقلية).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 43 - 44].

2 -

وقال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)} إلى قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة: 41 - 56].

3 -

وقال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان: 43 - 50].

وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن ابن عباس: [أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشَهم، فكيف بمن يكون طعامه](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة. انظر تخريج: "مشكاة المصابيح"(5683)، وصحيح الجامع الصغير (5126).

ص: 84

وعن مجاهد: ({يُسْجَرُونَ} قال: يوقد بهم النار). وقال السدي: (يحرقون في النار). وعن ابن زيد: (يوقد عليهم فيها).

وقوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ} تقريع وتوبيخ.

أي: يقال لهم أين الذين كنتم تشركون بعبادتكم إياها من دون اللَّه من الأوثان والآلهة والطواغيت حتى يغيثوكم وينقذوكم مما أنتم متورطون اليوم فيه من الخزي والعذاب فإن المعبود يغيث من عبده وخدمه!

وقوله: {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} .

قال ابن جرير: (فيجيب المساكين: {ضَلُّوا عَنَّا} -يقول-: عدلوا عنا فأخذوا غير طريقنا وتركونا في هذا البلاء، بل ما ضلوا عنا، ولكنا لم نكن ندعو من قبل في الدنيا شيئًا، أي لم نكن نعبد شيئًا).

والمقصود: قالوا ذهبوا عنا فلم ينفعونا ثم جحدوا عبادتهم في محاولة للخروج من المأزق بأي سبيل. كما قال سبحانه: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} .

وقوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} . قال النسفي: (مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادقوا. أو كما أضل هؤلاء المجادلين يضل سائر الكافرين الذين علم منهم اختيار الضلالة على الدين).

وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} .

الفرح هنا: هو السرور بالباطل. والمرح: هو الأشر والبطر. والآية توبيخ لهم بما كانوا يفرحون بالمعاصي ويمرحون بالكبر والبطر.

قال مجاهد: ({بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} قال: تبطرون وتأشَرون). وعن ابن عباس: (الفرح والمرح: الفخر والخيلاء، والعمل في الأرض بالجاهلية، وكان ذلك في الشرك، وهو مثل قوله لقارون {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} وذلك في الشرك).

وقوله تعالى: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} .

قال ابن جرير: (-يقول-: ادخلوا أبواب جهنم السبعة من كل باب مِنها جزء مقسوم منكم، فبئس منزل المتكبرين في الدنيا على اللَّه أن يوحدوه ويؤمنوا برسله اليوم جهنم).

ص: 85

وفي صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، معَ كل زمام سبعون ألف ملك يجرُّونها](1).

77 -

78. قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)}.

في هذه الآيات: تسليةُ اللَّه تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم بأمره بالصبر، واقتراب الفرج، وطريق المرسلين. فإنه ما كان لرسول أن يأتي بآية أو نصر من عنده وإنما هو أمر اللَّه الذي ينزل بالنقمة على القوم المجرمين.

فقوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} . قال القاسمي: (أي فاصبر على جدال هؤلاء المتكبرين في آيات اللَّه، وعلى تكذيبهم، فإن وعد اللَّه إياك بالظفر عليهم، حق ثابت).

وقوله: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} .

أي: فإما نرينك يا محمد في حياتك بعض ما وعدنا هؤلاء المشركين من العذاب والانتقام أو قبضناك إلينا قبل حلول ذلك بهم فإلينا مصيرك ومصيرهم فنحكم عند ذلك بينك وبينهم بالحق، فنكرمك بجوارنا في جنات النعيم، ونخلدهم في النار في العذاب المهين. قال ابن كثير:({فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أي: في الدنيا. وكذلك وقع، فإن اللَّه تعالى أقرَّ أعيُنهم من كُبَرائهم وعظمائهم، أُبيدوا في يوم بدر. ثم فتح اللَّه عليه مكة وسائر جزيرة العرب في حياته صلى الله عليه وسلم).

وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} . تسلية من اللَّه تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فإن من الرسل من قصّ عليه سبحانه خبرهم وكيف أهلك مكذبيهم من أقوامهم، ومنهم أضعاف مضاعفة مما لم يقصص

(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (1975)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 760) لتفصيل البحث - النار: صفتها وصفة أهلها.

ص: 86

عليه في القرآن كيف كان لهم العاقبة والنصرة بعد هلاك كفار قومهم.

وقوله: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} .

قال النسفي: (وهذا جواب اقتراحهم الآيات عنادًا، يعني: إنا قد أرسلنا كثيرًا من الرسل وما كان لواحد منهم أن يأتي بآية إلا بإذن اللَّه، فمن أين لي بأن آتي بآية مما تقترحونه إلا أن يشاء اللَّه ويأذن في الإتيان بها).

وقوله: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} .

أي: فإذا جاء عذاب اللَّه ونزل انتقامه بالمكذبين قضي بالعدل: وهو نجاة المؤمنين وهلاك الكافرين المبطلين: الذين يتبعونَ الباطل والشرك ويعظمون الطواغيت. قال القرطبي: (أي إذا جاء الوقت المسمى لعذابهم أهلكهم اللَّه، وإنما التأخير لإسلام من علم اللَّه إسلامه منهم، ولمن في أصلابهم من المؤمنين. وقيل: أشار بهذا إلى القتل ببدر).

79 -

81. قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)}.

في هذه الآيات: اللَّه الذي لا تصلح العبادة إلا له -معشر المشركين من قريش- هو الذي جعل لكم الأنعام: من الإبل والبقر والخيل والغنم. فبعضها يركب ويؤكل ويحلب كالإبل، ويحمل عليها الأثقال في الأسفار. وبعضها يؤكل ويشرب لبنها ويحرث عليها الأرض كالبقر. وكذلك الغنم تؤكل ويشرب لبنها، ومن جميعها تستفيدون من الأصواف والأشعار والأوبار، لاتخاذ الثياب والأثاث والمتاع. وإنما يريكم سبحانه بعض آياته وحججه وبراهينه الدالة على وجوب إفراده بالعبادة والتعظيم، ولا تستطيعون إنكار شيء منها إلا بالعناد والكبر وركوب الأهواء واتباع سُبل الشياطين.

قال ابن جرير: ({لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} يعني الخيل والحمير. {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} يعني الإبل والبقر والغنم).

وعن قتادة: ({وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} يعني الإبل تحمل أثقالكم إلى بلد). وقال مجاهد: (لحاجتِكم ما كانت).

ص: 87

قال القرطبي: ({وَعَلَيْهَا} يعني الأنعام في البر {وَعَلَى الْفُلْكِ} في البحر {تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ}؟ أي آياته الدالة على وحدانيته وقدرته). قال ابن كثير: ({فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ}؟ أي: لا تقدرون على إنكار شيء من آياته، إلا أن تُعانِدوا وتُكابِروا).

82 -

85. قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)}.

في هذه الآيات: يقول جل ذكره: أفلم يسر يا محمد هؤلاء المجادلون من مشركي قومك في البلاد فإنهم أهل سفر إلى الشام واليمن، رحلتهم في الشتاء والصيف، فينظروا ما حلّ بمن كفر من الأمم قبلهم مع أنهم كانوا أكثر عددًا وأشد بطشًا فما أغنت عنهم قوتهم وأموالهم من بأس اللَّه إذ عاندوا المرسلين، وجحدوا آيات الوحي المبين، سنة اللَّه التي قد خلت في عباده بأن الهلاك على الكافرين.

وعن مجاهد: ({وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} المشي بأرجلهم).

وعن السدي: ({فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} قال: فَرِحُوا بما عندهم من العلم بجهالتهم، فأتاهم من بأس اللَّه تعالى ما لا قِبَل لهم به). قال مجاهد: (قالوا: نحن أعلمُ منهم، لن نُبْعَثَ ولن نُعَذَّب). قال ابن جرير: ({فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}: فلما جاءهم بأسنا وسطوتنا لم يغن عنهم ما كانوا يعملون من البيوت في الجبال ولم يدفع عنهم ذلك شيء ولكنهم بادوا جميعًا وهلكوا).

وقوله: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} . أي أحاط بهم ما كانوا يستبعدون وقوعه وينكرونه.

ص: 88

وقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} .

قال السدي: ({فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} قال: النقمات التي نزلت بهم {قَالُوا} أقررنا بتوحيد اللَّه وصدقنا أنه لا إله غيره، وجحدنا الآلهة التي كنا قبل وقتنا هذا نشركها في عبادتنا اللَّه، ونعبدها معه ونتخذها آلهة، فبرئنا منها).

وقوله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} . قال قتادة: (لما رأوا عذاب اللَّه في الدنيا لم ينفعهم الإيمان عند ذلك).

وقوله: {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} . قال قتادة: (يقول: كذلك كانت سنة اللَّه في الذين خلوا من قبل إذا عاينوا عذاب اللَّه لم ينفعهم إيمانهم عند ذلك).

قال ابن جرير: (ترك اللَّه تبارك وتعالى إقالتهم وقبول التوبة منهم ومراجعتهم الإيمان باللَّه وتصديق رسلهم بعد معاينتهم بأسه قد نزل بهم، سنته التي قد مضت في خلقه).

أخرج الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ اللَّه يقبلُ تَوبَة العبدِ ما لمْ يُغَرْغِرْ](1).

وقوله: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} .

قال الزجاج: (وقد كانوا خاسرين من قبل ذلك، إلا أنه بيَّن لنا الخسران لما رأوا العذاب).

تم تفسير سورة المؤمن بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه

* * *

(1) حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (4253)، والترمذي (3537). انظر صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (2802). وصحيح سنن ابن ماجة (3430).

ص: 89