الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
59 - سورة الحشر
وهي سورة مدنية، وعدد آياتها (24).
روى البخاري في كتاب التفسير من صحيحه عن سعيد بن جبير قال: [قلت لابن عباس: سورة التوبة؟ قال: التوبة هي الفَاضِحَةُ ما زالت تَنْزِلُ: ومِنْهُمْ ومِنْهُم، حتى ظنوا أنها لم تُبْقِ أحدًا منهم إلا ذُكِرَ فيها. قال: قلت: سورةُ الأنفال؟ قال: نَزَلَتْ في بَدْرٍ. قال: قلت: سورةُ الحشر؟ قال: نزلت في بني النضير](1).
وروى البخاري في كتاب المغازي من صحيحهِ عن سعيد بن جبير قال: [قلتُ لابن عباس: سورةُ الحشر، قال: قُلْ: سورة النضير](2).
وسميت سورة الحشر لأنهُ كان في اجلاءِ بني النضير أول حشر في الدنيا إلى الشام.
موضوع السورة
حشر يهود بني النضير إلى أرض المحشر في الشام وثناء اللَّه تعالى على المهاجرين والأنصار الكرام
-
منهاج السورة
-
1 -
اشتراك الخلائق جميعًا بالتسبيح للَّه العزيز الحكيم، وإخراج يهود بني النضير من ديارهم صاغرين.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4882)، كتاب التفسير. وكذلك (4029)، كتاب المغازي.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4029)، كتاب المغازي. وكذلك (4883)، كتاب التفسير.
2 -
جعل اللَّه الثواب على قطع نخل هؤلاء الماكرين، أو تركهِ وكل ذلكَ ليخزي الفاسقين.
3 -
ذكر الأموال التي أغدقها سبحانه على رسوله من جرّاءِ تشريد بني النضير وإخراجهم.
4 -
تنبيه المؤمنين لتعظيم هديه عليه الصلاة والسلام، فأمرهُ وَقَسْمُهُ يقتضي الامتثال من الأتباع الكرام.
5 -
الثناء على المهاجرين والأنصار أهل السبق إلى الإيمان، وبيان فضل من جاء بعدهم من أهل الإحسان.
6 -
الإخبار عن المنافقين ومكرهم وتآمرهم مع اليهود ضد النبي عليه السلام، وتشبيه سلوكهم في المكر بوسواس الشيطان.
7 -
الوصية للمؤمنين بصدق التقوى والاستعداد ليوم الدين، ولا يكونوا كالذين نسوا اللَّه فنسيهم، وكانوا من الفاسقين.
8 -
لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة، فأصحاب الجنة هم أهل الفوز والنعيم.
9 -
تصدّع الجبال خشية للَّه من كلامهِ العظيم، ليعرف الإنسان تقصيره تجاه ربه الكريم.
10 -
تفرد اللَّه تعالى بالأسماء الحسنى والصفات العليا، وهو العزيز الحكيم.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
5. قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)}.
في هذه الآيات: تسبيحُ الخلائق جميعًا للَّه العزيز الحكيم، وإخراجُ يهود بنى النضير من ديارهم صاغرين، وذلكَ جزاءُ الكافرين الماكرين، وعَقْدُ اللَّه الثواب على قطع نخلهم أو تركهِ ليخزي الفاسقين.
فقوله: {سَبَّحَ لِلَّهِ} . أي صلى للَّه، وسجد لهُ وعظّمه {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} من خلقه، كما قال تعالى:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44].
وقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} . أي في انتقامهِ من أعدائهِ، مَنيعُ الجنابِ لا يعجزهُ شيء، {الْحَكِيمُ} في تدبير شؤون خلقه وفي قدره وشرعه.
أي: هو الذي أخرج الذين أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحاولوا قتله {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وهم يهود بني النضير أذلاء صاغرين من ديارهم إلى الشام فكانَ ذلكَ أول حشر في الدنيا إلى أرض المحشر والمنشر -الشام-. وأما تفصيل ذلكَ من صحيح السيرة:
فقد كان القراء السبعون الذين غُدِرَ بهم في بئر معونة من خيار المسلمين، يحتطبون بالنهار ويتصدقون من ذلكَ على أهل الصفة، ويقومون بالليل يصلون ويسبحون، ويتدارسون بينهم القرآن. ففقدهم المسلمون في شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة.
وقد فرح المنافقون واليهود في المدينة بما حصل، وبدأت حركات المكر والدّس والخداع، وكان اليهود قد أسهموا في تقديم المعلومات إلى قريش عن المسلمين، وشاركوا في تحريضها واستثارتها لتأتي إلى قتال أُحُد.
قال ابن إسحاق: (كانت النضير قد دسّوا إلى قريش وحضوهم على قتال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ودلّوهم على العورة).
وكان اليهود أيضًا قد أعانوا أبا سفيان من قبل في غزو أطراف المدينةِ حيث جاءها ليلًا، والتي أدت لمطاردة المسلمين له في غزوةِ السويق بعد بدر، بعدما فرّ هو وأصحابه متخففين من السويق أثناء الهروب.
أضف إلى ذلكَ تلك الأشعار الخبيثة التي أطلقها كعب بن الأشرف النضري، والتي أفلت بها لسانهُ وبسطه في أعراض النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونساء المسلمين، والتي كانت سببًا لتصفيته وتخليص الأرض من رجسه.
أضف إلى ذلكَ أيضًا محاولتين جديدتين من يهود بني النضير في هذه الفترة، للغدر وقتل النبي صلى الله عليه وسلم، من خلال طرق شيطانية وأساليب خسيسة، هي جزء من منهج اليهود المكرة والمغضوب عليهم، والذي عُرفوا به على مدار العصور والأزمان.
المحاولة الأولى: محاولة من بني النضير لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر الكبرى.
وكان ذلكَ إثر كتاب بعثت به قريش إليهم، فيه تهديد ووعيد، إن لم يقاتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم ويجتمعوا على قتله.
فقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: [كتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود: إنكم أهل الحَلْقَةِ والحصون، وإنكم لتقَاتِلُنَّ صاحبنا، أو لنَفْعَلَنَّ كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء -وهي الخلاخيل- فلما بلغ كتابُهم النبي صلى الله عليه وسلم أجمعت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: اخرج إلينا في ثلاثين رجلًا من أصحابكَ، وليخرج منا ثلاثون حَبْرًا، حتى نَلْتقي بمكان المَنْصَفِ -أي موضع وسط- فيسمعوا منك، فإن
صدقوكَ وآمنوا بكَ، آمنا بك، فقص خبرهم. .] (1).
ورواه عبد الرزاق في "المصنف" والحاكم في "المستدرك" والحافظ ابن حجر في "الفتح"، وفيهِ أنهم لما اقتربوا اقترح اليهود أن يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم ومعهُ ثلاثة من أصحابهِ بثلاثةٍ من أحبارهم، فإن أقنعهم آمنت بنو النضير، وقد حمل الثلاثة خناجرهم، إلا أن امرأة منهم قد أفشت خبرهم لأخٍ لها مسلم، فهرع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرهُ بما بَيَّتَ القوم، فرجع عليه الصلاة والسلام ولم يقابلهم (2)، ونجّى اللَّه نبيّهُ من قتلةِ الأنبياء يهود.
المحاولة الثانية: محاولة أخرى من بني النضير لقتل النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء صخرة عليه. وهذه المحاولة الثانية من يهود، رواها ابن إسحاق وتابعه كتاب السير، ومفادها أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب بنفسهِ إلى بني النضير مع نفر من أصحابهِ، وكلمهم في أن يعينوه على دفع دية الرجلين من بني كلاب، اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، في أعقاب حادثة بئر معونة، وكان ذلكَ يجب عليهم حسب بنود المعاهدة.
قال ابن إسحاق: (ثم خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير، يستعينهم في ديةِ ذَينك القتيلين من بني عامر، اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري، للجوار الذي كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عقد لهما، كما حدثني يزيد بن رومان، وكان بَين بني النضير وبين بني عامر عقدٌ وحِلفٌ، فلما أتاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستعينهم في ديةِ ذَيْنَك القتيلين، قالوا: نَعَمْ يا أبا القاسم، نعينُكَ على ما أحْبَبْتَ، مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه -ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى جنب جِدار من بيوتهم قاعد- فمَنْ رجلٌ يعلو على هذا البيت، فيُلقي عليه صخرةً، فيريحنا منه؟
فانتدب لذلكَ عمرو بن جِحَاش بن كعب، أحدهم، فقال: أنا لذلكَ، فَصَعِدَ لِيُلْقِي عليه صخرة كما قال، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابهِ، فيهم أبو بكر وعمر وعلي، رضوان اللَّه عليهم. فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرجَ راجعًا إلى المدينةِ. فلما اسْتَلْبَثَ النبيَ صلى الله عليه وسلم أصحابُه، قاموا في طلبه، فَلَقُوا
(1) حديث صحيح. انظر سنن أبي داود (2/ 139 - 140)، كتاب الخراج والفيء والإمارة، والحديث رجاله ثقات، وجهالة اسم الصحابي لا تضر. وانظر كتابي:"السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة"(2/ 800) لتفصيل الحدث.
(2)
انظر: "المصنف" لعبد الرزاق (5/ 359 - 360)، و"فتح الباري"(7/ 331).
رجلًا مقبلًا من المدينةِ، فسألوهُ عنه، فقال: رأيتهُ داخلًا المدينة. فأقبل أصحابُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليهِ صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم الخبرَ، بما كانت اليهود أرادت من الغَدْرِ به، وأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالتهيؤِ لحربهم، والسير إليهم) (1).
فهذه السلسلة من الأعمال العدوانية التي كانت تشير لسوء العلاقة ونبذ العهد من جانب بني النضير مع المسلمين، والتي ختمت بمحاولتي اغتيال للنبي صلى الله عليه وسلم، كانت سببًا مباشرًا في حصارهم وإجلائهم.
وكانت غزوة بني النضير في ربيع الأول سنة أربع من الهجرة. وذكر ابن سعد والواقدي دون إسنادٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث محمد بن مسلمة إلى بني النضير يقول لهم: (اخرجوا من المدينةِ ولا تساكنوني بها، وقد أجَّلْتكم عشرًا، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه).
فاستعدوا للخروج والرحيل إذ لم يجدوا مناصًا منه، وهموا بذلكَ لولا أن عبد اللَّه ابن أبي بن سلول المنافق حرَّضهم مع بعض المنافقين من أصحابه على التمرّد وعدم الخروج، ووعدهم وعودًا كاذبة بالنصر والعون، فأعلنوا تمردهم وتحصنوا بحصونهم.
قال ابن إسحاق: (وقد كان رهط من بني عَوف بن الخزِرج، منهم عدو اللَّه عبد اللَّه ابن أبيّ بن سلول ووديعة ومالك بن أبي قَوقل، وسُوَيد وداعس، قد بعثوا إلى بني النضير: أن اثبتوا، وتمنَّعوا فإنا لن نُسْلِمكم، وإن قُوتِلْتُمْ قاتلنا معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم).
وهنا شَعَرَ اليهود بالأمن ورجعت إليهم ثِقَتُهم، واختاروا المناوأةَ والتحدي، وأعلق رئيسهم حيي بن أخطب التمرد، إذ بعث إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:(إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك).
فاشتاط المسلمون غضبًا لهذا التحدّي السافر، ونفوسهم ما زالت جريحة من ألم بئر معونة، وقد رأوا تكالب العرب عليهم من كل جانب، وتآمر الأعراب لاغتيالهم أفرادًا وجماعات، وها هي يهود تقدم على محاولة دنيئة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تعلنُ التمرد والكبر، فما كان أمامهم إلا خوض الملحمة مهما كانت النتائج.
(1) انظر: "السيرة" لابن إسحاق (3/ 191)، وكتابي: السيرة النبوية (2/ 800 - 801).
وبالفعل، فما إن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم جواب حيي بن أخطب إلا كَبَّرَ وَكبَّرَ أصحابهُ، ثم نهض لمناجزة القوم، وأعطى اللواء إلى علي بن أبي طالب.
قال ابن هشام: (واستعمل على المدينة ابن أمِّ مكتوم). وقال ابن إسحاق: (ثم سار بالناسِ حتى نزل بهم).
ولما انتهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير، وجدهم قد لجؤوا إلى حصونهم وتحصَّنوا بها، فما إن أبصروا الجيش إلا بدؤوا يرمون المسلمين من داخل حصونهم بالنّبل والحجارة، تعينهم في ذلك وتغطيهم بساتينهم ونخيلهم، وهنا أصدر النبي صلى الله عليه وسلم أوامرهُ إلى جنده بقطع النخيل وتحريقها.
قال ابن إسحاق: (فنادوه: أن يا محمد، قد كنتَ تنهى عن الفساد، وتعيبه على من صَنَعهُ، فما بالُ قطع النخيل وتحريقها).
إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأبه لهذه الحركات الشيطانية، والدعايات الصبيانية من يهود، بل مضى في إصدار أوامره لأصحابهِ، فهو يعلم أن اليهود قوم غدر مكرة، لا ينفع معهم إلا السيف والحسم.
يروي أبو داود بسند صحيح عن عبد الرحمن بن كعب، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال:[فلما كانَ الغد، غدا عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحصرهم، فقال لهم: إنكم واللَّهِ لا تأمنون عِندي إلا بعهد تُعاهدوني عليه، فأبوا أن يعطوهُ عهدًا، فقاتلهم يومهم ذلك. ثم غدا على بني قريظةَ بالكتائب، وتركَ بني النضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه. فانصرف عنهم، وغدا على بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، فجلت بنو النضير، واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم، وأبواب بيوتهم وخشبها، فكان نخل بني النضير لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خاصة، أعطاه اللَّه إياها، وخصّه بها، فقال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} يقول: بغير قتال، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين، وقسمها بينهم، وقسم منها لرجلين من الأنصار، وكانا ذوي حاجة، لم يقسم لأحد من الأنصار غيرهما، وبقي منها صدقة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، التي في أيدي بني فاطمة](1).
فأذاقهم اللَّه الخزي في الدنيا، قبل ما ينتظرهم من خزي الآخرة، وخذلهم
(1) حديث صحيح. انظر سنن أبي داود (3/ 404 - 407)، وكتابي: السيرة النبوية (804).
المنافقون وتخلوا عنهم، وخضعوا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم واستسلموا له، ورجوه أن يُجْليهم ويكف عن دمائهم، على أن يحملوا على الإبل ما استطاعوا من أموالهم إلا السلاح، فأجازهم، فجعلوا يخربون بيوتهم بأيديهم، ويخلعون أبوابها وما وافقهم من أخشابها وشبابيكها. وأنزل اللَّهُ فيهم سورة كاملة من القرآن، وهي سورة الحشر.
قال ابن إسحاق: (ونزل في بني النضير سورةُ الحشر بأسرها، يذكر فيها ما أصابهم اللَّه به من نقمتهِ، وما سلط عليهم به رسوله صلى الله عليه وسلم وما عمل به فيهم).
أخرج الحاكم والبيهقي بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: [فحاصرهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال إلا الحلقة -يعني السلاح- فأنزل اللَّه فيهم: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} فقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى صالحهم على الجلاء فأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبطِ لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان اللَّه قد كتب عليهم ذلك، ولولا ذلكَ لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي، وأما قوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْر} فكانَ ذلكَ أول حشر في الدنيا إلى الشام](1).
قال ابن عباس: (من شكَ في أن أرضَ المحشر هاهنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} قال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اخرجوا". قالوا: إلى أين؟ قال: "إلى أرض المحشر").
وفي المسند للإمام أحمد، وكذلكَ في سنن ابن ماجة بإسناد صحيح من حديث ميمونة بنت سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الشام أرض المحشر والمَنْشَر](2).
وعن قتادة: (قوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} قيل: الشام، وهم بنو النضير حي من اليهود، فأجلاهم نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر، مرجعه من أحد).
ثم قال سبحانهُ مخاطبًا المؤمنين: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} وينزل بهم الخزي فيغادروا مساكنهم ومنازلهم {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} وذلكَ لما أرسل إليهم رأس المنافقين وجماعته أن اثبتوا في حصونكم ووعدوهم النصر، {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ
(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم والبيهقي. انظر: "الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - سورة الحشر. وكتابي: "السيرة النبوية على منهج الوحيين"(2/ 805).
(2)
حديث صحيح. انظر أحاديث فضائل الشام (4)، وصحيح الجامع الصغير (3620).
يَحْتَسِبُوا} أن يأتيهم، وقذف بهم الرعب فزلزل قلوبهم، فأخذوا {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} من داخلها، والمسلمون يخربونها من ظاهرها، وهو قوله:{وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} . قال الزهري: (لما صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا لا يعجبهم خشبة إلا أخذوها، فكان ذلكَ خرابها). وقال قتادة: (كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها، وتخربها اليهود من داخلها). وقال ابن زيد: (هؤلاء النضير، صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما حملت الإبل، فجعلوا يقلعون الأوتاد يخربون بيوتهم).
وقوله: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} . فيه مشروعية القياس في الإسلام، كدليل من أدلةِ الاستنباط في الشريعة. والمعنئ: أي فقيسوا أنفسكم وأعمالكم واتعظوا يا ذوي الأفهام أن ينزل بكم ما نزل بيهود إن قلدتم مسلكهم.
قال ابن جرير: (وإنما عُني بالأبصار في هذا الموضع أبصار القلوب، وذلك أن الاعتبار بها يكون دون الإبصار بالعيون).
وقوله: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} . قال البخاري: (الجلاء الإخراج من أرض إلى أرض).
والمقصود: لولا أن قضى اللَّه جلاء يهود بني النضير من أرضهم وديارهم، لعذبهم في الدنيا بالقتل والسَّبي، ولكنه رفع العذاب عنهم في الدنيا بالقتل، وجعل عذابهم في الدنيا الجلاء.
وقوله: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} . حَتْمٌ لازم لهم في الآخرة صلي النار، بعد أن أخزاهم -تعالى- في الدنيا بالرحيل من ديارهم صاغرين، ليجمع لهم سبحانه بذلك بين الخزيين.
لقد خرجوا يحملون أبواب بيوتهم وشبابيكها بعد أن خربوا ديارهم بأيديهم، حتى حمل بعضهم الأوتاد وجذوع السقف ثم حملوا النساء والصبيان، وتحملوا على ست مئة بعير. قال ابن إسحاق:(فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، فكان أشرافهم مَنْ سار منهم إلى خيبر: سلّام بن أبي الحُقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحُقَيق، وحُيَيّ بن أخطب).
قال: (وخلوا الأموال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكانت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خاصة، يضعها حيث يشاء، فقسّمها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المهاجرين الأولين دون الأنصار. إلا أن سَهْلَ بن حُنيف وأبا دجانة سِماكُ بن خرشة ذكرا فَقْرًا، فأعطاهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
قال: ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامينُ بن عُمير، وأبو سعد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحْرزاها).
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . قال القرطبي: ({ذَلِكَ} أي ذلك الجلاء {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ} أي عادوه وخالفوا أمره). وقال القاسمي: {ذَلِكَ} أي الجلاء والعذاب {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا} أي خالفوا {اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي فيما نهاهم عنه من الفساد، ونقض الميثاق).
وقوله: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . أي له في الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} .
قال مجاهد: (نهى بعض المهاجرين بعضًا عن قطع النخل، وقالوا: إنما هي مغانم المسلمين، ونزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم، وإنما قطعه وتركه بإذنه).
وفي الصحيحين عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: [حرق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع، وهي البُوَيْرَة (1) فنزلت: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ}](2).
وفي جامع الترمذي وسنن النسائي بسند حسن عن ابن عباس: [في قول اللَّه عز وجل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} قال: اللينة (3): النخلة، {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} قال: استنزلوهم من حصونهم. قال: وأُمِروا بقطع النخل فحكّ في صدروهم، فقالوا: قد قطعنا بعضًا وتركنا بعضًا، ولنسألن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هل لنا فيما قطعنا من أجر، وهل علينا فيما تركنا من وزر، فأنزل اللَّه: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا}](4).
(1) البويرة: اسم لنخل بني النضير.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4031)، كتاب المغازي، وأخرجه مسلم (1746) ح (29).
(3)
قال الأخفش: إنما سميت لينة اشتقاقًا من اللَّون لا من اللين. قيل: وأصلها لونة. وقيل: بل أصلها لينة من لانَ يلينُ. وقيل هي النخلة القريبة من الأرض. واللَّه أعلم.
(4)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3303)، والنسائي في "التفسير"(594) بسند صحيح.
6 -
7. قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)}.
في هذه الآيات: ذِكُرُ اللَّه سبحانه الأموال التي أغدقها على رسوله من جرّاء تشريد بني النضير وإخراجهم، وجعلها خالصة لنبيّه صلى الله عليه وسلم يقسمها كيف يشاء بينهم. وتنبيهُ اللَّه المؤمنين لتعظيم هديه عليه الصلاة والسلام، فإن أمره ونهيه وقَسْمه يعني الامتثال والرضا من الأتباع الكوام.
الفيء لغة من فاء يفيء إذا رجع وهو المال الذي أخذه المسلمون من أعدائهم دون قتال. والإيجاف سرعة السير، وهو كناية عن القتال والجهاد، والركاب ما يركب عليه من الإبل.
أخرج البخاري في صحيحه عن عمرَ رضي الله عنه قال: [كانت أموال بني النضير مما أفاء اللَّه على رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجِف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خاصة، وكان ينفق على أهله نفقة سنتهِ، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكُراعِ (1) عُدَّةً في سبيل اللَّه](2).
وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
قال النسفي: (يعني أن ما خوّل اللَّه رسوله من أموال بني النضير شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة، ولكن سلطه اللَّه عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم، فالأمر فيه مفوض إليه يضعه حيث يشاء ولا يقسمه قسمة الغنائم التي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهرًا).
(1) الكراع: اسم لجميع الخيل.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (2904)، كتاب الجهاد والسير.
أي: ما أفاء اللَّه على رسوله من جميع البلدان التي تُفتح هكذا، فحكمها حكم أموال بني النضير في التقسيم، فاللَّه سبحانه لم يقسم هذا الفيء أخماسًا ولا أثلاثًا، وإنما ذكر في الآية من ذكر على وجه التنبيه عليهم لأنهم أهم من يدفع إليه.
قال الإمام مالك: (هو موكول إلى نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه من غير تقدير، ويعطي منه القرابة باجتهاد، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين).
وقوله: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} . قال القرطبي: (ومعنى الآية: فَعَلْنا ذلك في هذا الفيء، كي لا تقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء، لأن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا أخذ الرئيس رُبْعها لنفسه، وهو المِرْباع. ثم يصطفي منها أيضًا بعد المِرْباع ما شاء. يقول: كي لا يعمل فيه كما كان في الجاهلية. فجعل اللَّه هذا لرسوله صلى الله عليه وسلم، يقسمه في المواضع التي أمر بها ليس فيها خمس، فإذا جاء خمس وقع بين المسلمين جميعًا).
وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . أصل عظيم من أصول هذه الشريعة العظيمة، ومنهاج قويم لبناء أمة قوية كريمة.
قال الحسن: ({وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قال: يؤتيهم الغنائم ويمنعهم الغلول). وقال السدي: (ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه، وما منعكم منه فلا تطلبوه). وقال ابن جُريج: (ما آتاكم من طاعتي فافعلوه، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه). وقال الماوردي: (وقيل إنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه، لا يأمر إلا بصلاح ولا ينهى إلا عن فساد).
أخرج البخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن في عَلْقَمةَ: [عن عبد اللَّه قال: لَعَنَ اللَّهُ الواشِمات والموتَشِماتِ، والمُتَنَمِّصاتِ والمُتَفَلِّجاتِ للحُسْنِ، المُغَيِّراتِ خَلْقَ اللَّه، فبلغ ذلك امرأةً من بني أسَدٍ يُقال لها: أُمُّ يعقوبَ، فجاءت فقالت: إنه بَلَغَني أنّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وكَيْتَ، فقال: ومالي لا ألْعَنُ مَنْ لعَنَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ومَنْ هو في كتابِ اللَّهِ؟ فقالت: لقد قَرَأْتُ ما بين اللّوْحَيْن فمَا وجدتُ فيه ما تقولُ، فقال: لئِنْ كُنْتِ قَرأتِيه لقد وَجَدْتيه، أما قرأت:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه، قالت: فإني أرى أهلكَ يَفْعَلونه، قال: فاذهبي
فانظري، فذهبَت فنظرتْ فلم تَر مِنْ حاجتها شيئًا، فقال: لو كانت كذلك ما جامَعْتُها] (1).
وأخرج النسائي بسند صحيح عن ابن عمر وابن عباس: [أنهما شهدا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير، ثم تلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}](2).
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . أي: خافوا عذاب اللَّه، بتعظيم أوامره وترك معصيته، فإنه تعالى شديد العقاب لمن عصاه، وخالف أمره أو أمر رسوله فأباه.
8 -
10. قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)}.
في هذه الآيات: ثناءُ اللَّه تعالى على المهاجرين والأنصار أهل السبق إلى الإيمان، وبيان حال الذين جاؤوا من بعدهم أهل الفضل والإحسان.
فقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} . بيان من اللَّه تعالى لحال الفقراء المهاجرين المستحقين للفيء. فقد أخرجهم كفار مكة، أي أحوجوهم إلى الخروج.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4886)، كتاب التفسير، وأخرجه مسلم (2125) ح (120)، وأخرجه أبو داود (4169)، والترمذي (2782)، والنسائي (5099)، وفي "التفسير"(599)، وابن ماجة (1989)، وأخرجه أحمد (1/ 433).
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن النسائي (5215)، ورواه مسلم (6/ 95) دون تلاوة الآية.
وقوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ} . قال القرطبي: (أي غنيمة في الدنيا {وَرِضْوَانًا} في الآخرة، أي مرضاة ربهم).
وقوله: {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . قال ابن كثير: (أي: هؤلاء الذين صَدَّقوا قولَهم بفعلِهم، وهؤلاء هُم ساداتُ المهاجِرين).
وقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . مدحٌ للأنصار وثناء عطر عليهم، وبيان لشرفهم وفضلهم وكرمهم. فهم الذين {تَبَوَّءُوا الدَّارَ} أي: سكنوا المدينة. واستوطنوها قبل قدوم المهاجرين إليهم، وآمنوا قبل كثير منهم.
أخرج البخاري في صحيحه عن عَمْرو بن مَيمون قال: قال عمر رضي الله عنه: [أُوصي الخليفة بالمهاجرين الأوَّلين أنْ يَعْرِف لهم حَقَّهم، وأوصي الخليفة بالأنصار الذين تبوؤوا الدارَ والإيمان مِنْ قَبْل أن يُهاجِرَ النبي صلى الله عليه وسلم: أن يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهم ويَعْفُوَ عن مسيئِهم](1).
وقوله: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} . قال ابن زيد: (هؤلاء الأنصار يحبون من هاجر إليهم من المهاجرين).
والمقصود: لقد أظهر الأنصار تألق نفوسهم وما انطوت عليه من الشرف والكرم حتى شاطروا إخوانهم المهاجريات أموالهم، وأنزلوهم منازلهم، ونزل من كان عنده زوجتان عن إحداهما لأخيه من المهاجرين يتزوجها.
ومن كنوز السنة العطرة في آفاق ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن سفيان عن يحيى بن سعيد: [سمع أنسَ بن مالك رضي الله عنه حين خرج معه إلى الوليد قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يُقْطِعَ لهم البحرين، فقالوا: لا إلّا أن تُقْطِعَ لإخواننا من المهاجرين مِثْلَها. قال: إمَّا لا فاصبروا حتى تَلْقَوني، فإنه سيصيبُكم بَعْدي أَثَرَةٌ](2).
الحديث الثاني: أخرج الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسِم بَيْننا وبَيْن إخوانِنَا النخيل، قال: لا، فقالوا: تكفونا المؤونة
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4888)، كتاب التفسير، وانظر الحديث (1392).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (3794)، كتاب مناقب الأنصار. وانظر (2376).
ونُشركُكُم في الثَّمرَة، قالوا: سمعنا وأطعنا] (1).
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أنس قال: [قال المهاجرون: يا رسول اللَّه! ما رأينا مثلَ قوم قدمنا عليهم أحسنَ مواساةً في قليل ولا أحسنَ بذلًا في كثيرٍ، لقد كَفونا المُؤْنَة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله! قال: "لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم اللَّه لهم"](2).
وقوله: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} . قال الحسن: (يعني الحسد). وقال قتادة: ({مِمَّا أُوتُوا} يعني مما أُعطي إخوانهم). والمعنى: ومن كرم هؤلاء الأنصار وسمو أخلاقهم وتألق خصالهم أنهم لا يجدون في أنفسهم حسدًا لإخوانهم المهاجرين فيما فَضَّلهم اللَّه به من المنزلة والشرف، والتقديم في الذكر والرتبة، والسَّبْق في بعض الخصال ورفيع الأعمال.
أخرج الإمام أحمد في المسند، والإمام النسائي في "السنن الكبرى" بسند على شرط الشيخين عَنْ أنس قال: [كُنّا جُلوسًا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "يَطْلُعُ عليكم الآنَ رجلٌ من أهل الجنة". فَطَلَع رجلٌ من الأنصار تَنْطُفُ لحيتُه من وضوئِه، قد تَعَلَّقَ نعليه بيده الشمال، فلما كان الغدُ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مثلَ ذلك، فطلعَ ذلك الرجل مثل المَرَّة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مثلَ مَقالتِه أيضًا، فطلعَ ذلك الرجل على مِثل حالهِ الأولى، فلما قام رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم تَبِعه عبدُ اللَّه بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحيتُ أبي، فأقسمتُ ألا أدخُلَ عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تُؤويني إليك حتى تمضي فَعَلْتُ. قال: نعم. قال أنس: فكان عبد اللَّه يُحدِّث أنه باتَ معه تلكَ اللياليَ الثلاثَ فلم يَرَه يقوم من الليل شيئًا، غير أنَّه إذا تعارَّ تَقَلَّبَ على فراشه ذَكَر اللَّه وكبَّر حتى يقوم من الليل شيئًا، غير أنَّه إذا تعارَّ تَقَلَّبَ على فراشه ذَكَر اللَّه وكبَّر حتى يقوم لصلاةِ الفَجْر. قال عبد اللَّه: غير أني لم أسمَعْه يقول إلا خيرًا، فلما مَضَتِ الثلاثُ ليالٍ وكِدْتُ أن أحتقِرَ عملَه قلت: يا عبد اللَّه! لم يكنْ بيني وبين أبي غَضَب ولا هَجْر، ولكن سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مَرَّات:"يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة". فطَلَعت أنت الثلاث المرّات، فأردت أن آوِي إليك لأنظُرَ ما عَملُك فأقتدِيَ به، فلم أرَكَ تعمل كثيرَ عملٍ، فما الذي بلغَ بكَ ما قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما هو إلا
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2325)، كتاب الحرث والمزارعة. وانظر (2719) كذلك.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 201) وإسناده صحيح، رجاله رجال البخاري ومسلم.
ما رأيتَ. فلما وَلَّيتُ دعاني فقال: ما هُو إلا ما رأيت، غير أني لا أجِدُ في نفسي لأحد من المسلمين غِشًّا، ولا أحسُد أحدًا على خيرٍ أعطاهُ اللَّه إياه. قال عبد اللَّه:"هذه التي بَلَغَت بكَ، وهي التي لا نُطيق"] (1).
وقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . يعني: حاجَة.
وأصل الخصاصة من الاختصاص، وهو الانفراد في الأمر. قال القرطبي:(فالخصاصة الانفراد بالحاجة، أي ولو كان بهم فاقة وحاجة). وأما الإيثار فهو تقديم الآخرين على النفس وحظوظها الدنيوية، رغبة في الحظوظ الدينية. وينشأ ذلك عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة. فهذه الخصلة الرفيعة قد وصف اللَّه تعالى بها الأنصار، فهم يقذمون المحاويج على حاجة أنفسهم.
أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه: [أنَّ رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلن ما معنا إلا الماء. (وفي لفظ: أتى رجلٌ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه! أصابني الجَهْدُ. فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا). فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: من يضمّ أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني. فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء. فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونوّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته فجعلا يُريانه كأنهما يأكلان، فباتا طاويين. فلما أصبح غدا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: ضحك اللَّه الليلة أو عجب من فعالكما، فأنزل اللَّه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}](2).
وقوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . أي: مَنْ سَلِمَ مِنَ الشّح فقد أَفْلَح وأَنْجحَ. والشّح: البخل، ومنع الفضل من المال. والشحيح: البخيل. قال ابن زيد: (من وقي شحّ نفسه فلم يأخذ من الحرام شيئًا، ولم يقربه، ولم يدعه الشّح أن يحبس من الحلال شيئًا، فهو من المفلحين، كما قال اللَّه عز وجل. وفي رواية عنه: (من لم يأخذ شيئًا لشيء نهاه اللَّه عز وجل عنه، ولم يدعه الشحّ على أن يمنع شيئًا من
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 166)، والنسائي في "الكبرى"(10699) بسند على شرطهما.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3798)، (4889)، وأخرجه مسلم (2054) ح (172)، (173)، والترمذي (3304)، والنسائي في "التفسير"(602).
شيء أمره اللَّه به، فقد وقاه اللَّه شحّ نفسه، فهو من المفلحين).
وفي صحيح مسلم عن جابر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشّح فإن الشّح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم](1).
وقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} . هذا هو القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء. قال النسفي: ({وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} عطف أيضًا على المهاجرين وهم الذين هاجروا من بعد. وقيل التابعون بإحسان، وقيل: من بعدهم إلى يوم القيامة).
وعن مجاهد: ({وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} قال: الذين أسلموا نعتوا أيضًا).
فالمهاجرون ثم الأنصار ثم التابعون لهم بإحسان داخلون في استحقاق الفيء لفقرائهم، وقد ورد هذا العطف في آية براءة:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهم} [التوبة: 100].
قال ابن كثير: (فالتابعون لهم بإحسان المتبعون لآثارهم الحَسنة وأوصافهم الجميلة، الدَّاعون لهم في السِّر والعلانية. ولهذا قال في هذه الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ}، أي: قائلين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا}، أي: بُغْضًا وحَسَدًا {لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. وما أحسن ما استنبط الإمام مالك من هذه الآية الكريمة: أن الرافضيَّ الذي يسبُّ الصحابةَ ليس له في مال الفيء نصيبٌ لعدم اتصافه بما مَدَحَ اللَّه به هؤلاء في قولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}).
قلت: وقد ثبت في صحيح السنة بيان مفهوم هذه الآية في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البيهقي بسند صحيح عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة ذكرها قال: [ثم تلا: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} إلى آخر الآية، فقال: هذه لهؤلاء، ثم تلا:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} إلى آخر الآية، ثمّ قال: هذا لهؤلاء، ثم تلا: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ
(1) حديث صحيح. رواه مسلم في صحيحه -حديث رقم- (2578)، كتاب البر والصلة.
عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إلى آخر الآية، ثم قرأ:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} إلى آخر الآية، ثم قال: هؤلاء المهاجرون، ثم تلا:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى آخر الآية، فقال: هؤلاء الأنصار، قال: وقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} إلى آخر الآية، قال: فهذه استوعبت الناس، ولم يبق أحدٌ من المسلمين، إلا وله في هذا المال حق، إلا ما تملكون من رقيقكم، فإن أعش إن شاء اللَّه، لم يبق أحد من المسلمين، إلا سيأتيه حقه حتى الراعي بـ "سرو حمير" يأتيه حقه، ولم يعرق فيه جبينه] (1).
وفي لفظ: (واللَّه ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في هذا المال، أعطي منه أو منع حتى راع بـ "عدن").
الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند صحيح عن عمر قال: [{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6]، هزه لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خاصة، قُرى عرينة فدك وكذا وكذا، {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7]، و {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8]، و {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9]، و {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]، فاستوعبت هذه الآية الناس، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق].
قال أيوب: (أو قال: حظ، إلا بعض من تملكون من أرقائكم)(2).
الحديث الثالث: أخرج الشافعي والبيهقي بسند صحيح عن الزهري عن مالك بن أوس أن عمر رضي الله عنه قال: [ما من أحد إلا وله فى هذا المال حق، أعطيه أو منعه، إلا ما ملكت أيمانكم](3).
11 -
17. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ
(1) إسناده صحيح. أخرجه البيهقي (6/ 352) من طريق عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس. وانظر للفظ بعده: الإرواء (5/ 84 - 85)، وإسناده حسن.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2966) - كتاب الخراج والإمارة والفيء. باب في صفايا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الأموال. انظر صحيح سنن أبي داود (2570)، والإرواء (5/ 83 - 84).
(3)
حديث صحيح. أخرجه الشافعي (1159)، وعنه البيهقي (6/ 347)، وانظر تخريج "الإرواء" -حديث رقم- (1245).
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)}.
في هذه الآيات: إخبار اللَّه تعالى عن المنافقين كعبد اللَّه بن أبي بن سلول ورافعة بن تابوت ووديعة ومالك ابني نوفل وسُويد وداعس وغيرهم حين بعثوا إلى يهود بني النضير يعدونهم النصر وبذل الغالي والنفيس لنصرتهم على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم في ذلك كاذبون، بل هم عند البأس جبناء أذلاء صاغرون، يفرون إذا حمي الوطيس فشأنهم في تحريضهم شأن الوسواس من الشيطان الرجيم.
فعن ابن عباس: (قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} يعني عبد اللَّه بن أبي بن سلول وأصحابه، ومن كان منهم على مثل أمرهم. {يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني: بني النضير).
وقوله: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} . أي يقولون لهم: لئن أخرجتم من دياركم ومنازلكم، وأجليتم عنها لنخرجنّ معكم، فنجلي عن منازلنا وديارنا معكم.
وقوله: {وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا} . قال ابن جرير: (يقول: ولا نطيع أحدًا سألنا خذلانكم، وترك نصرتكم، ولكنا نكون معكم).
وقوله: {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} . أي: وإن قاتلكم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لنكونن لكم بالعون والنصر والتأييد.
وقوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} . أي: واللَّه يشهد كذب هؤلاء المنافقين في زعمهم ووعدهم لبني النضير بالنصر والتأييد.
وقوله: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ} . تأكيد لِنَعْتهم بالكذب.
وقوله: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ} . أي: منهزمين. وقيل: معنى: {لَا يُنْصَرُونَ} طائعين. {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ} مكرهين {لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ} . وقيل: معنى {لَا يُنْصَرُونَ} لا يدومون على نصرهم. قال القرطبي: (وقيل: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} أي علم اللَّه منهم أنهم لا يخرجون إن خرجوا. {وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ} أي علم اللَّه منهم ذلك. ثم قال: {لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ} فأخبر عما قد أخبر أنه لا يكون كيف كان يكون لو كان؟ وهو كقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}).
وقوله: {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} . قال القاسمي: (أي بنوعٍ مّا من أنواع النصر. والضمير للمنافقين أو اليهود).
وقوله: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} . أي لأنتم أشد مرهوبية في صدور بني النضير أو المنافقين من اللَّه، فهم يخافونكم معشر المؤمنين أكثر مما يخافون من ربهم.
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} . قال النسفي: (لا يعلمون اللَّه وعظمته حتى يخشوه حق خشيته).
وقوله: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُر} . أي: لا يقدر هؤلاء اليهود أو المنافقون على مقاتلتكم مجتمعين إلا حالة تحصّنهم بالخنادق والدروب أو من وراء حيطان يستترون بها لجبنهم ورَهْبَتِهم.
وقوله: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} . أي عداوتهم بينهم شديدة. وقال مجاهد: ({بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أي بالكلام والوعيد لنفعلن كذا). وقيل: إذا لم يلقوا عدوًا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، فإذا لقوا العدو انهزموا.
وقوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} . قال مجاهد: (يعني اليهود والمنافقين).
وعنه أيضًا: (يعني المنافقين). وقال قتادة: ({تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا} أي مجتمعين على أمر ورأي {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} متفرقة). وعن مجاهد أيضًا: (أراد أن دين المنافقين مخالف لدين اليهود، وهذا ليقوّي أنفس المؤمنين عليهم). وقال قتادة: (تجد أهل
الباطل مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم، مختلفة أعمالهم، وهم مجتمون في عداوة أهل الحق).
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} . أي ذلك التشتيت والكفر لكونهم لا يعقلون أمر اللَّه ولا يتدبرون آياته، بل هم منقادون وراء أهوائهم وشهواتهم.
وقوله: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} . قال ابن عباس: (يعني بني قَيُنُقاع، أمكن اللَّه منهم قبل بني النضير). ومعنى: {ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي جزاء غَدرهم وكفرهم ومكرهم، فأجلاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وشرَّدهم.
وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . أي: في الآخرة.
وقوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} . قال مجاهد: (المراد بالإنسان هاهنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم). ومعنى قوله: {إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} أي أغواه حتى نطق بالكفر. قال ابن عباس: (فضرب اللَّه هذا مثلًا للمنافقين مع اليهود).
وقوله: {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} . تشبيه لتخاذل المنافقين عن اليهود وعدم الوفاء في نصرتهم. قال القاسمي: ({كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} أي إذ غرّ إنسانًا ووعدهُ على اتباعهِ وكفره باللَّه، النصرة عند الحاجة إليه {فَلَمَّا كَفَرَ} أي باللَّه، واتبعه وأطاعه {قَالَ} أي مخافة أن يشركه في عذابه، مسلمًا له وخاذلًا {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} أي فلا أعينك {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} أي في نصرتك، فلم ينفعهُ التبرؤ، كما لم ينفع الأول وعده بالإعانة).
وقوله: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} . أي: فكان عاقبة الشيطان وذلكَ الإنسان المصدق له المتّبع لأمره أنهما خالدان في النار ماكثان فيها أبدًا.
وقوله: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} . قال ابن جرير: (يقول: وذلكَ ثواب اليهود من النضير والمنافقين الذين وعدوهم النصرة، وكُلُّ كافر باللَّه ظالم لنفسه على كفره بهِ أنهم في النار مخلَّدون).
18 -
20. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ
أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}.
في هذه الآيات: وصيةُ اللَّه تعالى عباده المؤمنين أن يَصْدُقُوه التقوى والاستعداد ليوم الدين، ولا يكونوا كالذين نسوا اللَّه فنسيهم وكانوا من الفاسقين. إنه لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة فأصحاب الجنة هم أهل الفوز والنعيم.
فقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} . أمر من اللَّه تعالى بتقواه، وليحاسب كل نفسه قبل أن يحاسبه سبحانه، وليجهد بادخار وسعه من العمل الصالح. قال قتادة:({مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} يعني يوم القيامة. ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد، وغدٌ يوم القيامة).
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عند المنذر بن جرير، عن أبيهِ قال:[كنا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في صَدْرِ النهار، فجاءَهُ قومٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتابي (1) النِّمار أو العَباءِ، متقلِّدي السُّيوف، عامَّتُهم مِنْ مُضَرَ، بل كُلُّهم مِنْ مُضَر، فتَمَعَّرَ وَجْهُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لِمَا رأى بِهم من الفاقَةِ، فدخلَ ثم خَرَجَ، فأمَرَ بلالًا فأذَّنَ وأقامَ، فصلّى ثم خطبَ فقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] إلى آخر الآية. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} والآية التي في الحَشر: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] تَصَدَّقَ رجُلٌ من ديناره، مِنْ دِرْهَمِه، مِنْ ثوبِه، من صاعِ بُرِّهِ، مِنْ صاعِ تَمرهِ -حتى قال- ولو بشِقِّ تمرةٍ. قال: فجاءَ رجلٌ من الأنصار بِصُرَّةٍ كادت كَفُّهُ تَعْجِزُ عنها، بل قد عَجَزَتْ، قال: ثم تتابعَ النَّاسُ، حتى رأيتُ كومين مِنْ طعامٍ وثياب، حتى رأيتُ وجهَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّلُ، كأنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"مَنْ سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسنةً، فلهُ أجرُها، وأجْرُ مَن عَمِلَ بِها بعدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجورهم شيءٌ، وَمَنْ سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سيئةً، كانَ عليهِ وزْرُها وَوزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوزارهم شيءٌ"] (2).
(1) قال: اجتبت القميص أي دخلت فيها، والنمار جمع نمر، وهي ثياب صوف فيها تنمير كأنها أخذت من لون النمر لما فيها من السواد والبياض. أراد أنه جاءه قوم لابسي أزر مخططة من صوف، ومجتابي النمار أي خارقي أوساطها.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1017)، كتاب الزكاة. وأخرجه أحمد (4/ 359).
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} . تأكيد للأمر الأول، فإنَّ السعادةَ في الدارين منوطةٌ بالتقوى.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . أي: إن اللَّه مطلع على جميع أعمالكم ولا يخفى عليهِ شيء.
وقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} . قال سفيان: (نَسُوا حقَّ اللَّه، فأنساهم أنفسهم، قال: حَظَّ أنفسهم). وقال النسفي: (تركوا ذكر اللَّه عز وجل وما أمرهم به: {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} فتركهم من ذكره بالرحمة والتوفيق).
وقال مقاتل بن حيان: (تركوا أمره {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} أن يعملوا لها خيرًا). وقال سهل بن عبد اللَّه: ({نَسُوا اللَّهَ} عند الذنوب {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} عند التوبة).
والمقصود: تحذير اللَّه تعالى المؤمنين أن يكونوا كالذين ركبوا المعصية والذنوب وأصروا حتى خذلهم اللَّه عن التوبةِ والتوفيق وأرداهم المهالك وبلوغ الشقاء.
وقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . قال سعيد بن جبير: (العاصون. وقال ابن زيد: (الكاذبون). وأصل الفسق الخروج، والمقصود: هؤلاء الذين خذلهم اللَّه هم الخارجون عن طاعته، المستكبرون عن الإخبات لأمره.
وقوله: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} . أي: لا يعتدل أهل النار وأهل الجنة في الرتبةِ والفضل والمنزلةِ. {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} أي: هم المقربون المدركون ما طلبوا وأرادوا، الناجون مما حذروا، السالمون من عذاب اللَّه عز وجل.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18].
2 -
وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28].
3 -
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21].
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أما أهل النار الذين هم
أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون] (1).
وفي صحيح مسلم -أيضًا- عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ينادي مُنَادٍ: إنَّ لكم أن تصِحُّوا فلا تسقَمُوا أبدًا، وإن لكم أن تَحْيَوا فلا تموتوا أبدًا، وإنَّ لكم أن تَشِبُّوا فلا تهرموا أبدًا، وإنَّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا](2).
21 -
24. قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}.
في هذه الآيات: تَصَدُّعُ الجبال خشية للَّه من كلامهِ العظيم، فاللَّهُ تعالى هو الملكُ القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، وهو سبحانهُ الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى العزيز الحكيم.
قال ابن عباس: (يقول: لو أني أنزلت هذا القرآن على جبلٍ حملته إياه تصدّع وخشعَ مِنْ ثقلهِ، ومن خشيةِ اللَّه، فأمر اللَّه عز وجل الناس إذا أنزل عليهم القرآن، أن يأخذوه بالخشيةِ الشديدةِ والتخشّع).
وقال قتادة: (يعذر اللَّه الجبل الأصمّ، ولم يعذر شقيّ ابن آدم، هل رأيتم أحدًا قط تصدّعت جوانحهُ من خشية اللَّه).
والمقصود: إذا كان الجبلُ في قسوتهِ وصلابتهِ يتصدعُ لو فهم القرآن، خشية من عظمة الرحمان، فكيفَ لا تلينُ قلوب البشر الذين فهموا مراد اللَّه ووعده ووعيده.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1/ 118)، في أثناء حديث طويل.
(2)
حديث صحيح أخرجه مسلم (2837)، كتاب الجنة ونعيمها، باب في دوام نعيم أهل الجنة.
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31]. أي: لكانَ هذا القرآن.
وقوله: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . قال الزمخشري: (والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلةِ تخشعه، عند تدبر القرآن، وتدبّر قوارعه وزواجره). وقال القاسمي: ({وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا} أي وتلك الأمور، وإن كانت وهمية، مفروضة، فلا بد من اعتبارها وضربها للناسِ الذين نسوا صغر مقدارهم فتكبروا، ولينَهم فقست قلوبهم {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي ليعلموا أنهم أولى بذلكَ الخشوع والتصدّع).
وفي التنزيل: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74].
أخرج البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما: [أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقومُ يومَ الجمعةِ إلى شجرة، أو نَخْلَةٍ، فقالت امرأة من الأنصار، أو رَجُلٌ، يا رسول اللَّه، ألا نَجْعَلُ لكَ مِنْبَرًا؟ قال: "إِنْ شئتم"، فجعلوا لهُ مِنْبرًا، فلما كانَ يومُ الجُمعةِ دَفَعَ إلى المنْبر، فصَاحَتْ النخلةُ صِياحَ الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فَضَمَّهُ إليهِ، يَئِنُّ أنِينَ الصَّبي الذي يُسَكَّنُ، قال: "كانت تبكي على ما كانت تَسْمَعُ من الذِّكر عندها"](1).
وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: الذي يتصَدَّعُ من خشيتهِ الجبل أيها الناس، هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة والألوهية إلا له، عالم غيب السماوات والأرض، وشاهد ما فيهما مما يرى ويحسّ {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} يقول: هو رحمان الدنيا والآخرة، رحيم بأهلِ الإيمان به).
وقوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} .
{الْمَلِكُ} : أي المالك لكل شيء المتصرف فيه. و {الْقُدُّوسُ} : الطاهر من العيوب المُتنزِّهُ عنها. وعن قتادة: ({الْقُدُّوسُ} أي: المبارك).
وفي الصحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [يقبض اللَّه
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3584)، كتاب المناقب، وأخرجه الترمذي (505)، والبيهقي في "السنن"(3/ 196)، وأخرجه ابن حبان (6507) من حديث أنس.
الأرض يوم القيامةِ ويطوي السماء بيمينهِ ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض] (1).
وفي صحيح أبي داود عن عائشة: [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: [سُبُّوح قدُّوس ربُّ الملائكة والروح](2).
وقوله: {السَّلَامُ} . أي: ذو السَّلام، الذي سَلِمَ من كل عيب وبرئ من كل آفة.
أخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند حسن عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إن السلام اسم من أسماء اللَّه تعالى وضعهُ اللَّه في الأرض، فأفشوا السلام بينكم](3).
وقوله: {الْمُؤْمِنُ} . أي: الذي يصدق عبادَه وعدَه، فهو من الإيمان: التصديق، أو يؤمنهم في القيامة من عذابه، فهو من الأمان، ضدُّ الخوف (4).
قال ابن عباس: (أي: آمن خلقه من أن يظلمهم). وقال ابن زيد: (صدق عباده المؤمنين في إيمانهم به).
وقوله: {الْمُهَيْمِنُ} . أي: الشهيد. وقيل: الأمين. وقيل: الرقيب الحافظ.
قال ابن عباس: (أي: الشاهد على خلقه بأعمالهم، بمعنى هو رقيب عليهم، كقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج: 9]، وقوله: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46]، وقوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33]).
وقوله: {الْعَزِيزُ} . أي الغالب القاهر، والعِزَّة: الغَلَبة.
قال الحافظ ابن كثير: (العزيز: أي: الذي قد عزَّ كل شيء فقهره وغلب الأشياء، فلا ينال جنابه لعزته وعظمته وبروته وكبريائه).
وقوله: {الْجَبَّارُ} . هو الذي أجْبَرَ الخلق وقهرهم على ما أراد من أمرٍ أو نهي.
وقيل: هو العالي فوق خلقه. قال قتادة: (الجبار الذي جبر خلقه على ما يشاء). وقال ابن جرير: (الجبار: المصلح أمور خلقه المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم).
وفي صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمر قال: [رأيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المِنْبر وهو
(1) حديث صحيح أخرجه البخاري في الصحيح (7382)، (6519)، ورواه مسلم (8/ 126).
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود (1/ 165)، ورواه مسلم بنحوه كذلك.
(3)
حديث حسن. انظر صحيح "الأدب المفرد"(760)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (1894).
(4)
انظر: "جامع الأصول"(4/ 176)، وكتابي: أصل الدين والإيمان - عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان (1/ 380) - بحث الأسماء والصفات.
يقول: يأخذ الجَبَّارُ عز وجل سماواته وأرضيه بِيَدَيْهِ، ثم يقول: أنا الجبار، أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون] (1).
وقوله: {الْمُتَكَبِّرُ} . أي المتعالي عن صفات الخلق. وقيل: الذي يَتَكَبَّرُ على عُتاة خلقه إذا نازعوه العظمة فَيقصِمَهم. وقيل: إن المتكبِّرَ من الكبرياء الذي هو عظمة اللَّه تعالى، لا مِنَ الكِبْر الذي هو مذموم (2).
وعن قتادة: (المتكبر: يعني عن كل سوء). أو قال: (تكبَّر عن كلّ شرٍّ).
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي هريرة قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [قال اللَّه عز وجل: الكبرياء ردائي، والعزةُ إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما ألقيه في النار](3).
وفي لفظ: "والعظمة إزاري".
وفي صحيح مسلم عنه بلفظ: [قال اللَّه تعالى: الكبرياء ردائي، والعِزّ إزاري، فمن نازعني في شيء منهما عَذَّبته](4).
وقوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . أي: تنزه اللَّه وتعالى عن شرك المشركين به.
وقوله: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} . الخلق: التقدير، والخالق هو الذي يقدر وينفذ كما شاء، ولا يوصف بذلكَ إلا اللَّه عز وجل، فهو الذي إذا أراد شيئًا قال لهُ كن فيكون على الصفة التي يريد.
أخرج الطيالسي والبيهقي بسند صحيح عن أسامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قاتل اللَّه قومًا يُصَوِّرون ما لا يخلقون](5).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [قال اللَّه تعالى: ومن أظلم ممن
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2788)، ح (26)، من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما، وله شاهد عند ابن ماجة (198)، وأحمد (2/ 88).
(2)
انظر جامع الأصول (4/ 177)، وكتابي أصل الدين والإيمان (1/ 382).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 248)، ورواه أبو داود (4090)، وابن ماجة (4174).
(4)
حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (8/ 35 - 36)، والبخاري في "الأدب المفرد"(552).
(5)
حديث صحيح. رواه الضياء في "المختارة"(1/ 434) من طريق الطيالسي وهذا في "المسند"(623). انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (996)، ورواه البيهقي.
ذهب يخلق خلقًا كخلقي، فليخلقوا حبة، أو ليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا شعيرة] (1).
وفي المسند عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إن اللَّه تعالى هو الخالق القابض الباسط الرازق](2).
وقوله: {الْبَارِئُ} . هو الذي خلق الخلق لا عن مثال.
وفي المسند بإسناد صحيح من حديث عبد الرحمن بن خنبش التميمي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أتاني جبريل، فقال: يا محمد! قُلْ. قلت: وماذا أقول؟ قال: قل أعوذُ بكلمات اللَّه التامات التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر من شرّ ما خلق، وذرأ، وبرأ. .](3).
وقوله: {الْمُصَوِّرُ} . هو الذي أنشأ خَلْقَهُ على صُوَر مختلفة. ومعنى التصوير: التخطيط والتشكيل. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6].
وفي سنن النسائي عن علي، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد يقول:[اللهم لك سجدت، ولك أسلمت، وبك آمنت. سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره، فأحسن صورته، وشقَّ سمعه وبصره، تبارك اللَّه أحسن الخالقين](4).
وقوله: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . أي: كل أسمائه تعالى حسنى، وهي الدالةُ على صفاته العلا.
وفي الصحيحين عن أبي هريرةَ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ للَّه تِسْعَةً وتسعين اسمًا، مئةً إلا واحِدًا، مَن أحصاها دخلَ الجنة](5).
وفي لفظ: [للَّه تِسْعةٌ وتِسْعونَ اسمًا -مئة إلا واحِدًا- مَنْ حَفِظَها دخَلَ الجنةَ، وهو وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ].
(1) حديث صحيح. أخرجهُ البخاري (10/ 324) في اللباس، ومسلم (2111) في اللباس والزينة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند. وبنحوه أبو داود في السنن (3451). انظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (2945).
(3)
برأ: أي أوجد من العدم. وذرأ: أي خلق. وانظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (74).
(4)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن النسائي (1078). ورواه مسلم بنحوه.
(5)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (2736)، كتاب الشروط. وكذلك (6410)، كتاب الدعوات. ورواه مسلم (2677)، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار.
وقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
أي: ينزهه جميع ما في السماوات والأرض، ويسجد له طوعًا وكرهًا، وهو {الْعَزِيزُ} ، أي الشديد الانتقام من أعدائه، المنيعُ الذي لا يُرامُ جنابُه، {الْحَكِيمُ} في تدبير خلقه وفي شرعه وقدره.
تم تفسير سورة الحشر بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه عصر الخميس 17 رمضان 1426 هـ الموافق 20/ تشرين الأول/ 2005 م
* * *