الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسطورة الكشف:
ويروجون تلك السفسطة بإحالتها إلى الكشف، ويتفيهقون بأن مرتبة
= الذات فنيت فيها الكائنات؟ ولكن لعل البخاري وأضرابه يفترون أنهم يصلون إلى ما لم يستطع أن يصل إليه خير البشرية وخاتم النبيين، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أخبرنا خبر صدق وحق أن أحدا لن يرى ربه حتى يموت. وكان صلى الله عليه وسلم يتجاوب قلبه الطهور المشرق بنور الإيمان الأسمى مع كل حق عليه، فيؤديه أتم وأكمل وأوفى أداء، حق الله سبحانه، حق النفس، حق الحياة، حق الأهل والولد، فيا ترى هل لم يبلغ الرسول الأعظم في الدين والمعرفة مرتبة البخاري وأحلاس الصوفية؟ فما أبان لنا عن البقاء، والفناء وفناء الفناء والوحدة وما في عمله ولا قوله ما يحدد مفاهيم هذه الأساطير الصوفية. والله سبحانه يذكر لنا أن خليله إبراهيم رأى -منة من الله- ملكوت السماوات والأرض، فأين البيان من الخليل عن الفناء وفناء الفناء والوحدة المطلقة؟، وداود عليه السلام في تسابيحه كانت الطير تئوب معه، والجبال سخرها الله له يسبحن معه بالعشي والإشراق فما جاءنا عنه أنه كان في فناء، أو فناء فناء، أو شهود ذات فنيت فيها الكائنات، بل كان مع ذلك في الحديد يعمل. وربنا العليم بذات الصدور يثني على خير رسله في أسمى مقاماتهم بأنهم عباده المخلصون المتقون المؤمنون الأوابون، لا الذين يشهدون الذات فنيت فيها الكائنات! ويثني على الملائكة بأنهم عباد مكرمون، لا الذائقون حال الوحدة المطلقة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الإحسان، أسمى مراتب الإخلاص في العبودية:"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك" والبخاري وأضرابه يقولون أسمى مرتبة: أن تشهد الذات فنيت فيها الكائنات، وحقيقة التوحيد أن تعبد الله وحده، وأن لا تعبده إلا بما شرعه، ولكن البخاري يقول: أن تشهد الذات فنيت فيها الكائنات، وقد أجهد الصوفي البخاري نفسه في الرد على باطل الصوفية حتى لهثت أنفاسه. فما بلغ إلا تأييد باطل كان يتمنى الصوفية مثل قلم البخاري للدفاع عنه، ولو أنه لجأ إلى الكتاب والسنة لاستطاع بحجة واحدة منهما أن يأتي بنيانهم من القواعد، بل لو لجأ إلى العقل مؤمنا لدك على الطاغوت هيكله، ولدمر أصنامه، ولكنه صوفي.
الكشف وراء طور العقل، وأنت خبير بأن مرتبة الكشف نيل ما ليس له العقل ينال، لا نيل ما هو ببديهة العقل محال، وذلك أن الله تعالى خلق العباد وبين لهم سبيل الرشاد، وزينهم بالعقل نورا يهتدون به إلى معرفته، وحجة توصلهم إلى محجته بالاستدلال على وجود الصانع بالمصنوعات1، والنظر فيما يجوز ويستحيل [56] عليه من الأفعال والصفات، وأن إرسال الرسل من أفعاله الجائزة، وأنه قادر على تعريف صدقهم بالمعجزة، وعند ذلك ينتهي بصرف العقل2 لعدم استقلاله بمعرفة المعاد، وبما يحصل السعادة والشقاوة هنالك للعباد، وإنما يستقل بمعرفة الله تعالى3، وصدق الرسول، ثم يعزل نفسه، ويتلقى من النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول، في أحكام الدنيا والآخرة بالقبول4، إذ لا ينطق
1 لم لا يقال: الخالق بالمخلوقات؟!
2 الله سبحانه هو العليم الخبير حقا بما يجب لربوبيته وإلهيته. وقد بين لنا عز شأنه تفضلا منه ورحمة هذا في كتابه الحكيم أجلى وأتم وأكمل بيان. فما يجوز لامرئ الزعم بأن للعقل التصرف في إثبات ما يجب وما يجوز وما يستحيل على الله سبحانه، والمؤمن الحق هو من يؤمن صادقا بكل ما وصف الله به نفسه إثباتا ونفيا. فيثبت خاشعا ما أثبت الله سبحانه لنفسه. وينفي منزها ما نفاه عنها جل وعلا. هو من يوحد الله توحيدا قوليا. وعمليا وعلميا واعتقاديا في الربوبية والإلهية بما ورد في الكتاب والسنة.
3 فرية فلسفية، وإفك صوفي، فالعقل حينما استقل بمعرفة الله سماه سبحانه ووصفه بما لا يحب الله أن يسمى أو أن يوصف به، أثبت له ما أوجب الله نفيه، ونفى عنه ما أوجب الله إثباته، نفى عنه كونه خالقا مدبرا يعلم كل خافية، وأثبت له ما عربد من الشهوة، وما ضل من العاطفة، فسماه عاشقا ولاذا وملتذا، ألا فليؤمن العقل دائما بأنه دائما في قبضة من خلقه، وأنه الفقير دائما إلى الغني الخلاق العليم الخبير.
4 بل يجب عليه قبل هذا أن يتلقى مؤمنا مخلصا ما جاء في الكتاب والسنة عن صفات الله وأسمائه، دون لمسة من ريب تدفعه إلى التأويل، أو همسة من فكر تلوذ به إلى التعطيل، أو تجاوب مع الحس يهيم به في التجسيم أو التمثيل.
بما يحيل العقل بالبديهة والبرهان، لامتناع ثبوت ما تحكم حجة الله عليه بالبطلان فلا مجال في مورد الشرع، ولا في طور الولاية والكشف لما يحكم العقل عليه بأنه محال، بل يجب أن يكون كل منهما في حيز الإمكان والاحتمال، غير أن الشرع يرد بما لا يدركه العقل بالاستقلال، وبالكشف يظهر ما ليس له العقل ينال1 لأن الطريق إليه الكشف والعيان؛ دون بديهة العقل والبرهان، لكن إذا عرض عليه لا يحكم عليه بالبطلان، لكونه في حيز الإمكان، ولا ينبغي متوهم أن ما يتستر به الوجودية من دعوى الكشف من قبيل ما ليس له العقل ينال، بل هو مستحيل وللعقل في إبطاله تمكن ومجال؛ إذ الطريق إليه التصور ثم التصديق بالبطلان، وذلك وظيفة العقل بالبديهة أو البرهان، وأما الأمور الممكنة الكسبية، فيجعلها العقل في حظيرة الإمكان، ولا يحكم عليها بالبطلان ثم إن ما يناله الكشف، ولا يناله العقل الممكن الذي الطريق إليه العيان2، دون البرهان، لا المحال الممتنع الوجود في الأعيان؛ إذ الكشف لا يجعل الممتنع متصفا بالإمكان موجودا في الأعيان؛ لأن قلب الحقائق بين الامتناع والبطلان فلو تخايل حصول المحال بالكشف ككون الوجود المطلق واحدا شخصيا، وموجودا خارجيا، وكون الواحد الشخصي منبسطا في المظاهر، متكررا عليها
1 جعل من الشرع قسما لا يناله العقل، بل الكشف، فمن قال هذا؟ وسيعلم أن الطريق إليه كذلك معاينة الذات؟ فمن أين جاء بهذا؟ وهل في مقدور كل مسلم الكشف والمعاينة؟ يجيبون هم بأن هذا لخواص الخواص، وهذا يستلزم أن الخواص والعوام لا يمكن أن يصلوا إلى معرفة أهم حقائق الشرع، ثم ما هذا الذي لا يظهر إلا بالكشف؟ إن كان هو عين ما في الشريعة، فما للكشف فائدة إذا. وإن كان غير ما فيها، قالوا بجواز عبادة الله بغير ما شرعه الله، وتلك هي الطاعة الكبرى، فما صنع البخاري شيئا سوى أن فر إلى ما فر منه، وحارب ما يحارب هو من أجله.
2 يريد الصوفية بها معاينة الذات الإلهية، ومشاهدة أسرار الربوبية والإلهية.
بلا مخالطته، متكثرا مع النواظر بلا انقسام، فذلك شعوذة الخيال، وخديعة الشيطان وقال بعد ذلك:"إنهم صرحوا بأن التكثر في الموجودات ليس بتكثر وجوداتها، بل تكثر الإضافات والتعينات" ثم قال: "فقالوا: معنى قولنا: الواجب موجود، أنه1 وجود، ومعنى قولنا: الإنسان، أو الفرس موجود، أنه ذو وجود، بمعنى أن له نسبة إلى الوجود، لا أنه متصف بالوجود، على ما هو معنى الوجود لغة وعرفا وشرعا، احترازا عن شفاعة التصريح بكون الواجب صفة الممكن، وأنت خبير بأن جواز الإطلاق فرع صحة الاشتقاق، ولو سلم فما ذكروا في بيان معناه في الواجب والممكن ليس معناه، لا لغة، ولا عرفا، ولا شرعا ومنشأ الغلط فيما يكشفه الشرع بما يقصر عنه العقل، وما يدعيه هؤلاء مما يحيله [57] عدم التفرقة بين ما أحاله العقل كهذه المذكورات، وبين ما لا يناله العقل كاطمحلال وجود الكائنات عند سطوع أنوار التجليات، وإنما ينال ذلك بجذبة الإلهية2، أو رياضة في متابعة الحضرة النبوية في الوظائف العلمية والعملية
1 في الأصل: موجوداته، بدل: موجود أنه.
2 عجيب أن يجعل البخاري هذا مما لا ينال إلا بجذبة، فالمؤمن الحق يدرك باللمحة الهافية من الفكر والوجدان والشعور، أن بين وجود الله، ووجود العالم فرق ما بين رب السموات والأرض، وبين عبد خلق من طين، بيد أن البخاري يريد بالاطمحلال عند التجلي فناء وجود السوى، فلا يشهد العارف ثم إلا وجودا واحدا هو الواجب، أو المطلق، يعني يرى الكثير واحدا، والظاهر عين المظاهر فإن يك هذا، فقد هوى في غيابة صوفية، إذ ينفي الوحدة من جهة، ويثبتها من جهة أخرى، فالصوفية يريدون بالتجلي ما ينكشف للقلب من أنوار الغيوب، أو ظهور الذات في عين المظاهر، وفي الأول ادعاء معرفة الغيب وقول على الله بغير علم، وفي الآخر الإقرار بوحدة الوجود، فأيهما يريد البخاري؟! ثم ما هذه الجذبة؟ ما سبيلها؟ ما دليلها؟ ما مثالها في الماضي المؤمن؟ لا يقال: سبيلها العبادة، فإنه جعل العبادة قسما آخر غير الجذبة، وليس في الكتاب ولا في السنة عليها دليل، وما سمعنا عن صحابي أو تابعي، أو مؤمن صادق أنه نال هذه الجذبة.
والنيل هو الحصول الاتصافي، والعلم هو الحصول الإدراكي، ثم إن كلا مما لا يدركه العقل بالاستقلال، وما ليس له العقل ينال، لما كان مستوقفا على الإعلام والإرشاد من رب العالمين، بعث الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ لبيان الأول، وهو علم الشريعة صريحا، والإشارة إلى الثاني، وهو علم الحقيقة رمزا وتلويحا1، كما يلوح من القرآن المجيد {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] إلى درجة الفناء في الفناء في التوحيد".
1 يدين البخاري كغيره من الصوفية أن الدين حقيقة وشريعة، وأن الأولى غير الأخرى، بل أسمى منها وأفضل، وأن الشريعة لا تتضمن الحقيقة، وأن البيان عنها في القرآن جلي صريح. أما عن الحقيقة، فرمز وتلويح، وبذا أركس البخاري فيما أركس فيه الصوفية. الله سبحانه يصف كتابه بأنه بيان للناس، ويمن علينا بأنه بعث في الأميين رسولا يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، والبخاري يزعم أن القرآن أشار إلى علم الحقيقة عن طريق الرمز والتلويح، وما كل الناس يفهمون الدلالة الرمزية، أو التلويحية، وما كل أمي يفهمها، وهذا يستلزم طامتين، الأولى: اتهام القرآن بالعجز في البيان عن الحقيقة، فلم يستطع الإفصاح عنها إلا عن طريق الرمز والتلويح، وهما أغمض وأعجز أنواع الدلالات، الأخرى: اتهام الأكثرية الغالبة من هذه الأمة بأنها لا تعلم الحقيقة من دينها الحق، ولا يعبدون الله على بصيرة من الحق، بل ينسحب هذا الاتهام على الصحابة أجمعين، وإذا كانوا فلاسفة لا صوفيين، فإن قيل: كانوا يعرفون علم الحقيقة في زعم الصوفية، قلت: أين الدليل؟ أجاء عن أحد منهم افتراء أن الدين حقيقة وشريعة مغايرا بين القسمين؟ أتكلم واحد منهم عن الفناء، وفناء الفناء، والوحدة المطلقة، وهذه هي معارف علم الحقيقة عند الصوفية؟ بل أقول: إن في قول البخاري ومن دان دينه من الصوفية اتهاما للرسول ببهتانين، أولهما: كتمان علم الحقيقة في الدين، أو الجانب الأسمى منه، إذ لم يرد فيما بلغ إلينا عن الله هذا العلم الذي يدعيه البخاري: علم الفناء، وفناء الفناء، ومعاينة الذات!! وآخرهما: أنه كان صلى الله عليه وسلم لا يعلم الحقيقة، ولم يهتد إلى ما اهتدى إليه البخاري وغيره. واتهام الرسول صلى الله عليه وسلم بوهم من هذا =