الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلها، فإن الله تعالى أوسع وأعظم [من] أن يحصره عقد دون عقد، فإنه يقول:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 1 [البقرة: 115] ".
ثم قال: "فقد بان لك عن الله تعالى أنه في أينية2 كله وجهة3، وما ثم إلا الاعتقادات، فالكل مصيب، وكل مصيب مأجور، وكل مأجور سعيد، وكل سيعد مرضي عنه4، وإن شقي زمانا ما في الدار الآخرة، فقد مرض، وتألم أهل العناية -مع علمنا بأنهم سعداء وأهل الحق- في الحياة الدنيا".
الوحدة عند ابن الفارض
وإلى هذه الجهالة والضلالة رمز ابن الفارض في هذه المقالة:
فلا تك مفتونا بحسك معجبا
…
بنفسك موقوفا على لبس غرة
وفارق ضلال الفرق فالجمع5 منتج
…
هدى فرقة بالاتحاد تحدت
وصرح بإطلاق الجمال، ولا تقل
…
بتقييده ميلا لزخرف زينة
فكل مليح حسنه من جمالها
…
معار له، أو حسن كل مليحة
1 ص113 فصوص.
2 نسبة إلى الأين، هو حال تعرض للشيء بسبب حصوله في المكان.
3 في الأصل: وجه.
4 إيمان الزنديق بوحدة الأديان نتيجة إيمانه بوحدة الوجود، وتراه هنا يقرر الأولى، فيزعم أن من تدين بأي دين -سواء كان وضعيا أم سماويا- فهو سعيد مرضي عنه من الله.
5 في الأصل: والجمع.
بها قيس لبنى هام، بل كل عاشق
…
كمجنون ليلى، أو كثير عزة
فكل صبا منهم إلى وصف لبسها
…
لصورة حسن لاح في حسن صورة
وما ذاك إلا أن بدت بمظاهر
…
فظنوا سواها، وهي فيها1 تجلت
بدت باحتجاب، واختفت بمظاهر
…
على صبغ التلوين في كل برزة2
ففي النشأة الأولى تراءت لآدم
…
بمظهر حوا قبل حكم الأمومة
فهام بها كيما يصير بها أبا
…
ويظهر بالزوجين حكم3 النبوة
وما برحت تبدو وتخفى لعلة
…
على حسب الأوقات في كل حقبة
وتظهر للعشاق في كل مظهر
…
من اللبس في أشكال حسن بديعة
ففي مرة لبنى، وأخرى بثينة
…
[25] وآونة تدعى بعزة عزت
ولسن سواها، لا. ولا كن غيرها
…
وما إن لها في حسنها من شريكة4
كذاك بحكم الاتحاد بحسنها
…
كمالي بدت في غيرها، وتزيت
بدوت لها في كل صب متيم
…
بأي بديع حسنه، وبأيت5
1 في الأصل: فيهم، والتصويب من الديوان.
2 البرزة: المرة من البروز، أو المرأة العفيفة تبرز للرجال، وتتحدث معهم وإخاله يريد بها هذا، إذ هو بصدد ذكر تجلي الحقيقة الإلهية في صور النساء.
3 في الأصل: سر.
4، 5 يفتري سلطان الزنادقة أن الذات الإلهية تتجلى -أتم وأجمل مما تتجلى- في صور النساء الجميلات، ويفتري أنها تجلت في صور ليلى وبثينة وعزة، وقد رمز بهن عن كل امرأة جميلة عاشقة معشوقة، ولما كان من طبيعة هذا الرب الصوفي العشق، كان لا بد له من التجلي في صور عشاق، ليعشق، ويعشق، فتجلى في صور قيس وجميل وكثير عشاق أولئك الغانيات. وقد رمز بهم عن كل فتى اختبله الحب وتيمته الصبابة، ثم يفتري أيضا الزعم بأن العاشق ليس غير العشيقة بل هو هي، فالرب الصوفي عشق وعاشق وعشيقة. فليلى وقيس مثلا عند ابن الفارض هما الرب تعينت ذاته في صورة امرأة تعشق وتعشق هي ليلى، وفي صورة رجل يعشق ويعشق هو قيس. وليتأمل القارئ معي. فابن الفارض حين يتحدث عن الذات الإلهية باعتبارها حقا يحكم بأنها تظهر في صور نساء، وإذا تحدث عنها باعتبار تعينها فيه يحكم بأنها تظهر في صور رجال، يريد بهذا أن يفضل الرب المتعين فيه على الرب المتعين في غيره، أو بتعبير أبين صراحة، يفضل نفسه على الرب الذي يظهر في صورة امرأة، ويجعل من نفسه قيما عليه، فالرجال -كما لا يخفى- قوامون على النساء.
وليسوا بغيري1 في الهوى لتقدم
…
على لسبق في الليالي القديمة
وما القوم غيري في هواها2 وإنما
…
ظهرت [لهم] للبس في كل هيئة
ففي مرة قيسا، وأخرى كثيرا
…
وآونة أبدو جميل بثينة
تجليت فيهم ظاهرا واحتجبت با
…
طنا بهم فاعجب لكشف بسترة
أسام بها كنت المسمى حقيقة
…
وكنت لي البادي بنفس تخفت
وما زلت إياها، وإياي لم تزل
…
ولا فرق، بل ذاتي لذاتي أحبت3
1 في الأصل: سواي.
2 في الأصل: هواي.
3 هذا وما قبله بين الدلالة على إيمان ابن الفارض بالوحدة، لا بالاتحاد، فإنه حين عبر بقوله: وما زلت إياها خشى أن يقال عنه أنه ما زال يستشعر اثنينية ما، لوجود محمول وموضع في تعبيره -وإن كان الحمل صوريا، إذ المحمول عين الموضع- أقول: خشى أن يقال عنه هذا فعقبه بقوله: ولا فرق، حتى لا تفهم أن الذات المعبر عنها بضمير المتكلم، وهو التاء في "ما زلت" غير المعبر عنها بضمير الغائب في إياها، وإنما هي هي. وزاد ابن الفارض إيغالا في كفره، فقال: بل ذاتي لذاتي، ليجرد الذات الإلهية من وجودها الخاص، وليؤكد أن ليس لها من وجود إلا هذا الوجود المقيد المتعين في هذا أو ذاك من أفراد الخلق، ولإثبات الوحدة التامة بين الحق والخلق -لا في الباطن فحسب- بل في الظاهر، ثم لغرض آخر، وهو أن الذات الإلهية، نالت كمالها بتعينها في صورة ابن الفارض. هذا هو دين من لا يزال كبار الشيوخ -بله الزنادقة الصوفية- يلقبونه: سلطان العاشقين.