الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب نوعان
- توحيد في الإثبات والمعرفة.
- وتوحيد في الطلب والقصد:
فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ليس كمثله شيء في ذلك كله، كما أخبر به عن نفسه، وكما أخبر رسوله، وقد أفصح القرآن الكريم عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول سورة الحديد، وأول سورة طه، وآخر سورة الحشر، وأول الم تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص بكمالها، وغير ذلك.
النوع الثاني: مثل ما تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون} (الكافرون: 1). وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (آل عمران: 64). وأول سورة تنزيل الكتاب، وآخرها، وأول سورة يونس وأوسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام.
وسور القرآن معظمها متضمنة لنوعي التوحيد، بل كل سورة من سور القرآن، فإن القرآن إما خَبَر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يُعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده، وما فَعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده.
وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، وهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم، فـ {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} توحيد {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} توحيد {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} توحيد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} توحيد {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد، الذين أنعم عليهم {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 1 - 7) الذين فارقوا التوحيد.
وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد، وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله. قال تعالى:{شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم * إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ} (آل عمران: 18، 19).
فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد، والرد على جميع طوائف الضلال، فتضمنت أَجَلّ شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها، مِن أجلّ شاهد بأجلّ مشهود به، وعبارات السلف في شَهِدَ تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار، وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها، فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه، فلها أربع مراتب:
فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته.
وثانيها: تكلمه بذلك، وإن لم يُعلم به غيره، بل يتكلم بها مع نفسه، ويذكرها وينطق بها أو يكتبها.
ثالثها: أن يعلم غيره بها بما يشهد به، ويخبره به، ويبينه له.
رابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به.
فشهادة الله سبحانه وتعالى لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط، تضمنت هذه المراتب الأربع؛ علمه سبحانه بذلك، وتكلمه به، وإعلامه وإخباره لخلقه به، وأمرهم وإلزامهم به.
فأما مرتبة العلم فإن الشهادة تضمنتها ضرورة، وإلا كان الشاهد شاهدًا بما لا علم له به. قال تعالى:{إِلَاّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون} (الزُّخرُف: 86).
وقال صلى الله عليه وسلم: "وعلى مثلها فاشهد" هذا الحديث ضعيف لأنه في إسناده العقيلي، والعقيلي في الضعفاء.
وأما مرتبة التكلم والخبر قال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُون} (الزُّخرُف: 19).فجعل ذلك منهم شهادة، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدّوها عند غيرهم.
وأما مرتبة الإعلام والإخبار فنوعان: إعلام بالقول وإعلام بالفعل، وهذا شأن كل معْلم لغيره بأمر، تارة يُعْلمه به بقوله، وتارة بفعله، ولذلك كان من جعل داره مسجدًا وفتح بابها، وأفردها بطريقها وأَذن للناس بالدخول والصلاة فيها، معْلمًا أنها وقف وإن لم يتلفظ به، وكذلك من وُجد متقربًا إلى غيره بأنواع المسار يكون معلمًا له ولغيره أنه يحبه، وإن لم يتلفظ بقوله، وكذلك بالعكس.
وكذلك شهادة الرب عز وجل وبيانه وإعلامه، يكون بقوله تارة وبفعله أخرى، فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه، وأما بيانه وإعلامه بفعله كما قال ابن كيسان:"شهد الله بتدبيره العجيب".
والمقصود من قوله: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ} المقصود أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه، ودلالتها إنما هي بخلقه وجعله. ويستدل أيضًا بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك، كما في قوله تعالى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُون} (الحشر: 23) وأضعاف ذلك في القرآن.
هذه الطريق قليل سالكها، لا يهتدي إليها إلا الخواص، وطريقة الجمهور الاستدلال بالآيات المشاهدة؛ لأنها أسهل تناولًا وأوسع، والله سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض.
فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره، فإنه الدليل والمدلول عليه، والشاهد والمشهود له. قال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون} (العنكبوت: 51). وأكمل الناس توحيدًا الأنبياء -صلوات الله عليهم، والمرسلون منهم أكمل في ذلك، وأولي العزم من الرسل أكملهم توحيدًا؛ وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد -صلى الله عليهم أجمعين.
وأكملهم توحيدًا: الخليلان؛ محمد وإبراهيم -صلوات الله عليهما- لأنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما، علمًا ومعرفة وحالًا ودعوة للخلق.
أ- كلمة التوحيد وهي: لا إله إلا الله: هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلها، وإثبات التوحيد بهذه الكلمة باعتبار النفي والإثبات المقتضي للحصر، فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال، ولهذا -والله أعلم- لما قال تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} قال بعده: {لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم} (البقرة: 163) فإنه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني، هَبْ أن إلهنا واحد، فلغيرنا إله غيره، فقال تعالى:{لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} .
يقول شارح (العقيدة الطحاوية): "اعترض صاحب المنتخب على النحويين في تقدير الخبر: لا إله إلا هو، فقالوا: تقديره: لا إله في الوجود إلا الله. قال: يكون ذلك نفيًا لوجود الإله، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أَولى.
وأجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ريّ الظمآن) فقال: هذا كلام من لا يعرف لسان العرب؛ فإن إله في موضع المبتدأ على قول سيبويه، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين فلا بد من خبر للمبتدأ، وإلا فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد.
وأما قوله: إذا لم يُضمر يكون نفيًا للماهية، فليس بشيء؛ لأن نفي الماهية هو نفي الوجود، لا تُتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين لا ماهية ولا وجود، وهذا مذهب أهل السنة خلافًا للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهية عارية من الوجود. وإلا الله: مرفوع بدلًا مِن لا إله، لا يكون خبرًا له ولا للمبتدأ، وذكر الدليل على ذلك.
وليس المراد هنا ذكر الإعراض، بل المراد دفع الإشكال الوارد على النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة وهو فاسد، فإن قولهم في الوجود ليس تقييدًا؛ لأن العدم ليس بشيء. قال تعالى:{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} (مريم: 9).
ولا يقال: ليس قوله: غيره، كقوله: إلا الله؛ لأن غيرًا تعرب بإعراب الاسم الواقع بعد إلا، فيكون التقدير للخبر فيهما واحد، فلهذا ذكرت هذا الإشكال وجوابه هنا". انظر شرح (العقيدة الطحاوية).
ب- توحيد الصفات: إن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد، كالجهم بن صفوان ومن وافقه، فإنهم قالوا: إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب. وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة؛ فإن إثبات ذات مجردة عن جميع الصفات لا يتصور لها وجود في الخارج، وإنما الذهن قد يفرض المحال ويتخيله، وهذا غاية التعطيل. وهذا القول قد أفضى بقوم إلى القول بالحلول أو الاتحاد، وهو أقبح من كفر النصارى؛ فإن النصارى خصوه بالمسيح، وهؤلاء عمموا جميع المخلوقات.