الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السادس عشر
(الصوم والزكاة والحج في القرآن الكريم)
الصوم في القرآن الكريم، وأثره في النفوس والأبدان
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
أولا: الصوم في القرآن الكريم وأثره في النفوس والأبدان:
الصوم هو العبادة الدينية الثانية، وهو الامتناع عن الأكل والشرب والملابسة الجنسية طول النهار، من الفجر إلى غروب الشمس، بقصد امتثال أمر الله، وقد فرضه الله فرضًا عامًّا على جميع القادرين في شهر رمضان من كل عام.
آيات الصوم في القرآن الكريم:
لقد جمع القرآن آيات الصوم في مكان واحد، وفي إطار واحد، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 183 - 185).
الصوم الذي يريده الله ما هو؟
لقد جرى على ألسنة الناس أن الصوم هو الإمساك عن الطعام والشراب والملابسة الجنسية، وبهذا يظن كثير من المسلمين أن الإنسان متى أمسك عن هذه الأمور الثلاثة طوال يومه فقد صام، وخرج عن عهدة التكليف، وأدى ما فرضه
الله عليه، والواقع أن هذا بيان للصوم بالنسبة إلى مظهره، وإلى الجانبالسلبي منه فقط، وكلا الأمرين -المظهر والجانب السلبي- لا يُكونان حقيقة الصوم، الذي كلف الله به عباده وفرضه عليهم، فإن الله سبحانه بدأ آية الصوم بقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وختمها بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وبقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وفيما بين البدء والختام أمر بالصوم {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} .
وليس من ريب في أن النداء بوصف الإيمان أولًا، وهو أساس الخير، ومنبع الفضائل، وفي ذكر التقوى آخرًا -وهي روح الإيمان وسر الفلاح- إرشاد قوي، ودلالة واضحة على أن الصوم المطلوب ليس مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، وإنما هو الإمساك عن كل ما ينافي الإيمان، ولا يتفق وفضيلة التقوى والمراقبة.
وإذًا فالذي يتجه إلى غير الله بالقصد والرجاء لا صوم له، والذي يفكر في الخطايا ويشغل نفسه بتدبير الفتن والمكائد ويحارب الله ورسوله في جماعة المؤمنين لا صوم له، والذي يطوي قلبه على الحقد والحسد والبغض لجمع كلمة الموحدين، والعمل على تفريقهم وإضعاف سلطانهم -لا صوم له، والذي يحابي الظالمين ويجامل السفهاء، ويعاون المفسدين لا صوم له، والذي يستغل مصالح المسلمين العامة، ويستعين بمال الله على مصالحه الشخصية، ورغباته وشهواته، لا صوم له، وكذلك من يمد يده أو لسانه، أو جارحة من جوارحه بالإيذاء لعباد الله، أو إلى انتهاك حرمات الله لا صوم له.
فالصائم ملاك في صورة إنسان، لا يكذب ولا يرتاب ولا يرشي، ولا يدبر في اغتيال أو سوء، ولا يخادع، ولا يأكل أموال الناس بالباطل، هذا هو معنى
الصوم الذي يجمع صورته، وهي الإمساك عن المفطرات ومعناه، وهو تقوية روح الإيمان بالمراقبة، وبهذا جمع الصائم بصومه بين تخلية نفسه، وتطهيرها من المدنسات، وتحليتها وتزكيتها بالطيبات.
- أثر الصيام في النفوس والأبدان:
الصوم طاعة لله تعالى، يثاب عليها المؤمن ثوابًا مفتوحًا لا حدود له؛ لأنه لله سبحانه، وكرم الله واسع، وينال بها رضوان الله، واستحقاق دخول الجنة من باب خاص، أُعد للصائمين يقال له الريان. روى البخاري ومسلم والنسائي والترمذي عن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن في الجنة بابًا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخله منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)).
والصائم بصومه هذا يبعد نفسه عن عذاب الله؛ بسبب ما قد يرتكبه من معاصي، فهو كفارة للذنوب من عام لآخر، وبالطاعة يستقيم أمر المؤمن على الحق، الذي شرعه الله عز وجل وذلك لأن الصوم يُحقق التقوى، التي هي امتثال الأوامر الإلهية واجتناب النواهي، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183).
والصوم مدرسة خُلقية كبرى، يتدرب فيها المؤمن على خصال كثيرة، فهو جهاد للنفس، ومقاومة للأهواء ونزغات الشيطان التي قد تلوح له، ويتعود به الإنسان خلق الصبر على ما قد يُحْرَم منه، وعلى الأهوال والشدائد التي قد يتعرض لها، إذ يجد الطعام الشهي يُطبخ أمامه، والروائح تُهيِّج عصارات معدته، والماء العذب البارد يترقرق في ناظريه، فيمتنع منه، منتظرًا وقت الإذن الرباني بتناوله.
والصوم يُعلِّم الأمانة ومراقبة الله تعالى في السر والعلن؛ إذ لا رقيب على الصائم في امتناعه عن الطيبات إلا الله وحده، والصوم يقوِّي الإرادة، ويشحذ العزيمة ويعلم الصبر، ويساعد على صفاء الذهن واتقاد الفكر، وإلهام الآراء الثاقبة، إذ تخطى الصائم مرحلة الاسترخاء، وتناسى ما قد يطرأ له من عوارض الارتخاء والفتور أحيانًا.
قال لقمان لابنه: "يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة".
والصوم يعلم النظام والانضباط؛ لأنه يجبر الصائم على تناول الطعام والشراب في وقت محدد، وموعد معين. والصوم يُشعِر بوحدة المسلمين الحسية في المشارق والمغارب، فهم جميعًا يصومون ويفطرون في وقت واحد؛ لأن ربهم واحد وعبادتهم موحدة.
وينمي الصوم في الإنسان عاطفة الرحمة والأخوة، والشعور برابطة التضامن والتعاون، التي تربط المسلمين فيما بينهم، فيدفعه إحساسه بالجوع والحاجة إلى صلة الآخرين، والمساهمة في القضاء على غائلة الفقر والجوع والمرض، فتتقوى أواصر الروابط الاجتماعية بين الناس، ويتعاون الكل في معالجة الحالات المرضية في المجتمع، والصوم فعلًا يجدد حياة الإنسان بتجدد الخلايا، وطرح ما شاخ منها، ويعمل الصوم على إراحة المعدة وجهاز الهضم، وحِمْية الجسد، والتخلص من الفضلات المترسبة والأطعمة غير المهضومة والعفونات، أو الرطوبات التي تتركها الأطعمة والأشربة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صوموا تصحوا)) رواه ابن السني وأبو نعيم في الطب عن أبي هريرة، وهو حديث حسن. وقال طبيب العرب الحرث بن كلدة:"المعدة بيت الداء، والحِمْية رأس كل دواء".
والصيام جهاد للنفس، وتخليصها مما علق بها من شوائب الدنيا وآثارها وآثامها، وكسر حدة الشهوة والأهواء، وتهذيبها وضبطها في طعامها وشرابها، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) رواه الجماعة عن ابن مسعود.
وقال الكمال بن الهمام: "الصوم ثالث أركان الإسلام بعد لا إله إلا الله محمد رسول الله والصلاة، شرعه سبحانه لفوائد؛ أعظمها: كونه موجبًا أشياء؛ منها: سكون النفس الأمارة، وكسر سَوْرتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح، مِن العين واللسان والأذى والفرج، فإن بالصيام تَضعف حركة النفس في محسوساتها، ولذا قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، وإذا شبعت النفس جاعت الأعضاء كلها.
والصوم أيضًا موجب للرحمة والعطف على المساكين، فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات، ذَكر مَن هذا حاله في عموم الأوقات، فتسارع إليه الرقة عليه والرحمة به، فينال بذلك ما عند الله تعالى من حسن الجزاء.
وأيضًا الصوم يفيد في الرحمة بالفقراء، ويفيد موافقة الغني للفقير، بتحمل ما يتحمل أحيانًا؛ لأنه يجوع في الصيام فيتحمل ما يتحمله الفقراء".
وقال في (الإيضاح): "اعلم أن الصوم من أعظم أركان الدين، وأوثق قوانين الشرع المتين، به قهر النفس الأمارة بالسوء، وأنه مركب من أعمال القلب، ومِن المنع عن الأكل والمشارب والمناكح عامة يومه، وهو أجمل الخصال، غير أنه أشق التكاليف على النفوس".