الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرأفة في توقيع ذلك العذاب عليه، وشهود طائفة من المؤمنين وهو يوقّع عليه ذلك الحدّ، لا زاجران قويان لكلِّ من تحدثه نفسه بهذه الفاحشة الممقوتة.
5 -
أن تكون العقوبة مناسبة للجريمة، ولمن توقَّع عليه في جرائم التعازير، قال تعالى:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (النساء: 123)، وذلك أنّه ربط الجزاء بالعمل، فيعظّم الجزاء بعظم العمل، ويقلّ بضآلة العمل.
6 -
أن تكون العقوبة عادلة، قال تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (النحل: 126)، فالعقوبة لا بُدّ أن تكون عادلة، فلا تشدّد لأمر تافه، ولا تقلّل في جريمة بشعة.
أنواع العقوبات في الشريعة
العقوبات في الشريعة الإسلامية نوعان:
1 -
عقوبة مقدّرة، وهي التي أوجبت حقًّا لله وحقًّا للعباد، مثل: حد الزنا وشرب الخمر والسرقة وغير ذلك.
2 -
عقوبة غير مقدّرة، وهو ما يسمّى بالتعزير، فإنه يكون في كل معصية لا حدَّ فيها ولا كفارة، أو سقط أحد الشروط الموجبة لإقامة الحدّ، أو التي لم تأتِ الشريعة فيه بنوع معين، ولا قدر محدود من العقوبات، وإنما تُرِكَ أمره إلى رأي الحاكم حسب المصلحة التي يراها.
والصحيح أنه يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ويجوز أن يقدِّر فيه الحاكم عقوبة الحبس، إذا رأى أنّ المصلحة في ذلك.
حد الزنا:
قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النور: 2). هذا إذا كان الزاني بكرًا لم يتزوج، أما إذا تزوّج فحدُّه الرجم، ويثبت هذا بأربعة شهود من الرجال، أو بالإقرار بأنه زنى.
حد القذف:
عقوبة القذف الجلد ثمانون جلدة، ولا توقّع العقوبة إلّا حين يكون القذْف كذبًا، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور: 4، 5). ولا شَكَّ أن القاذفَ يبغي بكذبه إيلامَ المقذوف نفسيًّا، وإسقاط الناس للمقذوف من حساباتهم، فلا حرج أنْ عوقِبَ القاذف بالألم البدني، والتحقير الأبدي بإسقاط شهادته، وبالتالي تسقط قيادته، ثم وصفه بالفسق، إلّا أن تاب وأصلح ما أفسده باقترافه.
بعد ذلك الخمر:
مصدر تحريمها القرآن، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 90) وقد ثبتت العقوبة عليها بالسنّة، ففي الحديث:((كان يجاء بشارب الخمر فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: اضربوه، فمنّا الضارب بيده، ومنّا الضارب بثوبه، ومنا الضارب بنعله)) البخاري.
أمّا تقدير تلك العقوبة: فقد ثبتت بالإجماع عند قوم، أو بقول الصحابي عند
قوم، ففي الأثر:"أنّ عمر استشار أصحابه في شارب الخمر، فقال علي رضي الله عنه: "أنه إذا شرب سكر، وإن سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد الفِرية ثمانون جلدة". ويرى الشافعي أنّ أربعين حدًّا، وأربعين تعزيرًا، ويرى البعض أن العقوبة تعزيرية تخضع للمصلحة. والعلاقة بين عقوبة شرب الخمر والجريمة هي المقابلة بين اللذة والألم، فلمّا كان الباعث على الشرب إشباع لذة غير مشروعة، فقد عُوقِبَ عليها بالألم المشروع وهو الجلد.
بعد ذلك السرقة:
عقوبتها القطع، قال تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (المائدة: 38)، وعقوبة السرقة تكون لمَنْ أخذ المال في خَفَاء في حرز مثله، والمال يكون في حدود عشرة دراهم أو ربع دينار، ويكون السارق بالغًا عاقلًا، وليس هناك له شبهة في هذا المال، فعقوبة السارق القطع، وذلك أنّ السارق يبتغي الزيادةَ من كسب غيره الذي جدَّ للحصول عليه، فعوقب بالقطع الذي ينقص كسبه ويضيّق رزقه، وإنه لعقاب بنقيض ما كان يبتغيه، فلما طلب الزيادة بغير حقٍّ عوقب بالنقصان بحقٍّ، وكان علي رضي الله عنه يقطع نصف الرجل اليسرى، وغيره يقطعه كله، أمّا في المرة الأولى فتقطع يده اليمنى.
بعد ذلك الحرابة، وعقوبتها:
أ- القتل.
ب- الصلب.
ج- قطع اليد والرجل.
د- النفي من الأرض.
الروابط بين العقوبة والجريمة، وتعليل ذلك:
قاطع الطريق عندما يعتدي على غيره بالقتل فقط، إنما يفعل ذلك مدفوعًا بتنازع البقاء وتغلُّب الأنانية، فهو يحرص على عدم مزاحمة القتيل له في الأرض الواسعة، وكأنه يريد أن ينفرد بالكون وحده، هذا الذي يدفع بتنازع البقاء يعاقب بقطع بقائه من الوجود، أو بنقيض ما كان يبتغيه، قال تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المائدة: 33، 34).
عقوبة الصلب:
عقوبة لمن سرق وقتل، وقد سرق طغيانًا على غيره، وقتل اعتداءً على غيره، فيعاقب بالصلب بعد الموت كما قال الشافعي وأحمد؛ لينزجر غيره، أو يصلب قبل الموت كما قال أبو حنيفة ومالك؛ ليزداد ألمه جزاءً على ذلك الاعتداء الصارخ، وهو ميت لا محالة بعد الصلب جزاءً وفاقًا.
قطع اليد والرجل:
لأنّ نجاة قاطع الطريق ربما تشجعه وتشجّع غيرَه، وجريمته مزدوجة، فهو مخيف للمارة، وهو كذلك سارق، فكان العقاب عليه مضاعفًا، تقطع يدُه التي تقَوّى بها على السرقة، ورجله التي خطى بها لقطع السبيل.
عقوبة النفي:
وهي تكون لمن وقف يقطع السبيل ولم يسرق ولم يقتل، فكان عمله هذا دليلًا على ابتغائه الشهرة الباطلة الزائفة، فإذا نُفِيَ من الأرض بالحبس -كما قال أبو
حنيفة- فقد تحطّم ما كان يبتغيه من شهرة، وهي عقوبة غير محددة المدة، حتى يظهر صلاح حاله.
حد الردة:
الردة تقع بالقول أو بالفعل أو الاعتقاد، فَمَن سبّ الله أو أحدَ رسله -عليهم الصلاة والسلام- أو سجَدَ لغير الله، أو وضع القرآنَ في القاذورات، أو شكك في نص القرآن، أو فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، أو اعتقد حِلّ ما حرّم اللهُ، فهو مرتَد حلال الدم، وكذلك من يقوم بترويج أقوال الكفار والمشركين والملاحدة، التي هي ضدّ الدين وتعاليمه، ومعتقدًا صحتها، بأن حكاها للاستشهاد. والمرأة المرتدة حكمها في ذلك كالرجل عند جمهور الفقهاء؛ لما روي عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له:((أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن عاد وإلّا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت وإلّا فاضرب عنقها)) وعن جابر رضي الله عنه: ((أن امرأة يقال لها: أم مروان، ارتدت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عليها الإسلام، فإن تابت وإلّا قتلت، فأبت أن تسلم فقُتِلَت)) أخرجه الدارقطني والبيهقي.
وروي أنّ أبا بكر رضي الله عنه استتاب امرأة يُقَال لها: أم قرفة، كفرت بعد إسلامها فلم تتب فقتلها، وذلك خلافًا لما ذهب إليه أبو حنيفة رضي الله عنه أنّ المرأة إذا ارتدت لا تُقْتل، ولكن تحبس، وتخرج كل يوم فتستتاب، ويُعرَض عليها الإسلام، وتظل هكذا حتى تعود إلى الإسلام أو تموت.
وهذه العقوبة بالنسبة للمرتد تعتبر إجراءً وقائيًّا؛ لكي لا يتخذ الدين مهزلة، يدخل فيه الإنسان متى شاء، ثم يخرج منه متى أراد، أو استخفافًا بالله وبرسوله وبالمجتمع المسلم، والمرتد عن الإسلام طائعًا مختارًا تُعرَض عليه التوبة، ويمهَل
ثلاثة أيام ليراجع فيها نفسه، وتزال شبهته، وتقام له خلالها الأدلة والبراهين التي من شأنها أن تعِد الإيمان إلى قلبه، وتذهب عنه وساوس الشيطان، فإن اقتنع وعاد إلى الإسلام وتاب، وإلى الله أناب، قبلت توبته، وسقط عنه الحد، وإن أصرّ على الردة، وصمّم على التمسك بما انتقل إليه، أقيم عليه حد الردة، وهذا القتل ضربًا بالسيف؛ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من بدل دينه، فاقتلوه)) البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى لابن عباس: ((مَن خالف دينه دين الإسلام، فاضربوا عنقه)) الطبراني.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه، فاقتلوه)) البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى لابن عباس ((من خالف دينه دين الإسلام فاضربوا عنقه)) الطبراني، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كُفر بعد إيمان، وزنًا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس)).
والمرتد لا يغسَّل، ولا يصلَّى عليه، ولا يدفَن في مقابر المسلمين، ويمنع من التصرف في مآله حال رِدته، وتقضى عليه ديونُه، وينفق منه عليه وعلى عياله، فإن أسلم رجع إليه مالُه، وإن مات مرتدًّا فصار ماله فيئًا فور موته.
جناية البغي:
أولًا: البغي عقوبته القتال؛ لأنه يقوّض نظامَ الحكم، على أنه لا يُبدأ به إلّا بعد إظهار عناده، وأيضًا النصح، قال تعالى:{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9).
القصاص:
لقد قرر القرآن الكريم أنّ القصاص هو الحياة الآمنةُ، قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179)، وقال تعالى:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (المائدة: 45)، ولقد برهن الواقع الذي لا يستطيع أحدٌ إنكارَه، أنّ للقصاص حكمًا عديدةً، وفوائدَ جمّةً، فكم سُفِكَت دماء باسم الثأر، وكم اشتد العداء إلى حدِّ الحرب، لكن بالقصاص قد شفي صدور الحانقين، وأغناهم عن مؤنة لا يعرفون مداها، ثم هو بعد ذلك تقدير لقيمة الفرد المفقود، فقد كان عضوًا في مجتمعه، فمن قتله يقتل.
ومن الحِكم التي يتضمنها القصاص: ارتكاب الجرائم واقتلاعها من أذهانهم، وكلٌّ يعلم أن عصبي المزاج يكون هادئًا حين يعلم أن خَصمه أقوى منه، فالقصاص مقابلة بالمثل ممن يملك القوة، والقصاص حقّ الفرد، فللمجني عليه أو أوليائه العفوُ عنه ببدل أو بغير بدل، ومن دقائق القرآن أن عمم القصاص، فهو في النفس وفيما عَدَا النفس، قال تعالى:{وَالْجُرُوحَ قِصَاص} (المائدة: 45).
هذا وبالله التوفيق.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.