الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربا جريمة اجتماعية خطيرة
يقول ابن كثير: لمّا ذكر تعالى الأبرار المؤدّين النفقات، المخرجين الزكوات، المتفضلين بالبر والصلات لذوي الحاجات والقرابات، في جميع الأحوال والأوقات، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل، وأنواع الشبهات، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم، وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم، فقال تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلّا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قيامًا منكرًا. وقال ابن عباس:"آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونًا يخلق" رواه ابن أبي حاتم.
روى البخاري عن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل: ((فأتينا على نَهر حسبتُ أنه كان يقول أحمرَ مثل الدم، وإذا في النهر رجل سايح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جُمِعَ عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السايح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده، فيفغر له فاه، فيلقمه حجرًا)) صحيح أخرج البخاري وغيره.
وهؤلاء أكلة الربا، جوزوا بذلك؛ لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه، ذلك بأنهم قالوا:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} قياسًا منهم للربا على البيع؛ لأن المشركين لا يعترفون بمشروعيته، بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع، وإنما قالوا:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} أي: نظيره، فلما حرِّم هذا وأبيح هذا، وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي: هذا مثل هذا، وقد أحِلّ هذا وحرّم هذا، وقد رد الله على اعتراضهم هذا بقوله:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} .
ومن بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه، فله ما سلف؛ لقوله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} (المائدة: 95) وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: ((وكلّ ربًا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول ربًا أضع رب االعباس)) هذا الحديث له شاهد من حديث جابر أخرجه مسلم.
ومن عاد إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي الله عنه، فقد استوجب العقوبة، وقامت عليه الحُجة، ولهذا قال تعالى:{فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، ثم يخبر الله تعالى أنّه يذهب الربا بالكلية من يدي صاحبه، أو يُحرمه بركة ماله، فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة.
أمّا الصدقات فإنّ الله يزيدها ويبارك فيها، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن تصدق بعدل تمرةٍ مِن كَسْب طيب، ولا يقبل الله إلّا الطيبَ، فإنّ الله يتقبّلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فَلوَّه، حتى يكون مثل الجبل)) صحيح أخرجه البخاري وأخرجه مسلم وأحمد. والله سبحانه لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل، وهو المرابي؛ لأنه لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التكسّب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم، يأكل أموال الناس بالباطل.
ثم قال تعالى مادحًا للمؤمنين بربهم، مخبرًا أنهم آمنون يوم القيامة من التبعات، وأنهم آمنون، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
ثم يأمر الله عباده أن يخافوه، وأن يتركوا ما لهم على الناس من الزيادة على رءوس الأموال بعد هذا الإنذار، فإن كان مقيمًا على الربا لا ينزع عنه، فحقٌّ على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه، فإن تبتم أيها المرابون فلكم ما أعطيتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه، ثم يأمر الله تعالى عباده بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، وبيّن لهم الخير لهم في أن يتركوا رأس المال بالكلية، ويضعوه عن المدين.
ثم أمرهم أن يخافوا يومًا يرجعون فيه إلى الله قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .
هذه الآيات الكريمة ترشد إلى أن الربا جريمة اجتماعية ودينية خطيرة.
ثانيًا: الربا من الكبائر التي يستحق صاحبها عذاب النار، القليل من الربا والكثير
في الحرمة سواء، على المؤمن أن يقف عند حدود الشرع باجتناب ما حرّم الله عليه، السلاح الذي يعصم المسلم من المخالفات إنّما هو تقوى الله سبحانه وتعالى.
أضرار الربا:
أولًا: ضرر الربا من الناحية النفسية:
فإنه يولّد في الإنسان حب الأثرة والأنانية، فلا يعرف إلّا نفسه، ولا يهمه إلّا مصلحته ونفعه، وبذلك تنعدم روحُ التضحية والإيثار، وتنعدم معاني حب الخير للأفراد والجماعات، وتحل محلها حب الذات، والأثرة، والأنانية، وتتلافى الروابط الأخوية بين الإنسان وأخيه الإنسان، فيغدو الإنسان المرابي وحشًا مفترسًا لا يهمه من الحياة إلّا جمع المال وامتصاص دماء الناس، واستلاب ما في أيديهم، ويصبح ذئبًا ضاريًا في صورة إنسان وديع، وهكذا تنعدم معاني الخير والنبل في نفوس الناس، ويحل محلها الجشع والطمع.
ضرر الربا من الناحية الاجتماعية:
أمّا ضرر الربا من الناحية الاجتماعية: فإنّه يولّد العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع، ويدعو إلى تفكيك الروابط الإنسانية والاجتماعية بين طبقات الناس، ويقضي على كل مظاهر الشفقة والحنان والتعاون والإحسان في نفوس البشر، بل إنه ليزرع في القلب الحسد والبغضاء، ويدمّر قواعد المحبّة والإخاء، ومن المقطوع به أنّ الشخص الذي لا تَسكن قلبه الشفقة والرحمةُ، ولا يعرف معنًى للأخوة الإنسانية، سوف يعدم كلَّ احترام أو عطف من أبناء مجتمعه، وتكون النظرة إليه نظرةَ ازدراء واحتقارٍ، وكفى المرابي مقتًا وهوانًا أنه عدوّ لمجتمعه ولأبناء وطنه،
بل إنه عدو للإنسانية؛ لأنه يمتص دماء البشر عن طريق استغلال حاجتهم واضطرارهم.
ضرر الربا من الناحية الاقتصادية:
أمّا ضرر الربا من الناحية الاقتصادية: فهو ظاهر كل الظهور؛ لأنه يقسّم الناس إلى طبقتين:
- طبقة مترفة تعيش على النعيم والرفاهية، والتمتع بعرق جبين الآخرين.
- وطبقة معدَمة تعيش على الفاقة والحاجة، والبؤس والحرمان.
وبذلك ينشأ الصراع بين هاتين الطبقتين، وقد ثبت أن الربا أعظم عامل من عوامل تضخّم الثروات وتكدسها في أيدي فئة قليلة من البشر، وأنه سبب البلاء الذي حلّ بالأمم والجماعات؛ حيث كثرت المِحَن والفتن، وازدادت الثورات الداخلية، ولا ننسى ما نعيشه في هذه الأيام من أزمة مالية أحاطت بالعالم كله، سببها التعامل بالربا، ولقد سبق في الناس قول الله تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} .
وبهذا نكون قد شرحنا دروس التفسير الموضوعي في هذه المادة، وأدعو الله سبحانه وتعالى أن ينتفع الطلاب بها، وأن يسيروا على ضوئها في قضايا التفسير الموضوعي.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.