الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقد جعلت الآية الكريمة التوحيد رأس الأمر فيما بعده من الأوامر والنواهي، فتقرر إذن اختصاص الله تعالى وحده بالطاعة في التشريع، كما اختص بالعبادة وحده، وهذا هو معنى التوحيد في شموله وسعة مدلوله.
يقول الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله بعد كلام طويل عن سورة البقرة: "الخطوة الأولى: تقرير وحدة الخالق المعبود. الخطوة الثانية: تقرير وحدة الأمر المطاع، وهي ركن من عقيدة التوحيد في الإسلام، فكما أن من أصل التوحيد ألا تتخذ في عبادتك إلهًا من دون الرحمن، الذي بيده الخلق والرزق، كذلك مِن أصل التوحيد ألا تجعل لغيره حكمًا في سائر تصرفاتك، بل لا تعتقد ألا حكم إلا له، وأن بيده وحده الأمر والنهي، والحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، ومن استحل حرامًا أو حرم حلالًا فقد كفر". انظر (النبأ العظيم) ص 217.
أساليب القرآن الكريم في الحديث عن الوحدانية والتوحيد
جاءت أساليب القرآن في هذا الباب على غاية التفنن والإبداع، تلطفًا في استدعاء الناس إلى التوحيد، وتأليفًا لقلوبهم، ولفتًا لأسماعهم وأبصارهم، وإقامة للحجة عليهم بكل الأساليب، ومن ذلك:
أولًا: أسلوب الخبر المجرد بيانًا للحق وإعلامًا للخلق، كما قال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة: 2) وكما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (البقرة: 163).
ثانيًا: أسلوب الخبر المؤكد، والمؤكدات التي جاء بها القرآن الكريم في شأن الوحدانية والتوحيد كثيرة ومتنوعة؛ ومنها:
أولًا: التأكيد بإن.
ثانيًا: التأكيد باللام.
ثالثًا: التأكيد بالقسم.
ومثالها جميعًا قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * الزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * التَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} (الصافات: 1 - 5).
رابعًا: التأكيد بأساليب القصر، كأسلوب النفي والاستثناء في قوله تعالى:{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} (طه: 14). وأسلوب القصر بإنما: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 19).
وأسلوب القصر بالتقديم والتأخير. مثل قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) فتقديم المفعول إياك أفاد قصر العبادة على الله وحده، وأصل الجملة: نعبدك.
وكذلك أيضًا أسلوب القصر بتعريف طرفي الجملة: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (الشورى: 10) فتعريف الخبر ربي أفاد أنه مقصور على المبتدأ، أي: الربوبية مقصورة على الله تعالى.
كذلك أيضًا أسلوب الطلب كالاستفهام التقريري أو الإنكاري. قال تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل: 63). ومن هذا النوع الطلبي فعل الأمر. مثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) فإن نظرت إلى أول الجملة كانت إنشائية طلبية لصدارة فعل الأمر قل، وإن نظرت إلى مضمون الجملة أو مقول القول كانت خبرية، وفي الحالين هي إثبات للوحدانية، وأمر بالتوحيد على أبلغ الوجوه وأوفاها. ولذلك كانت السورة المُصدَّرة بهذه الآية الكريمة تعدل ثلث القرآن، كما جاء في الحديث الصحيح.
كذلك أسلوب الأمثال، وهو باب واسع في القرآن الكريم، يقصد به تقرير المعاني في نفس السامع، وتصويرها في صورة محسوسة ملموسة، عن طريق التشبيه أو الاستعارة أو غيرهما من أساليب البيان.
ومن ذلك قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت:41 - 43).
فقد ضرب الله تعالى مثلًا للذين يستنصرون بآلهة غير الله، صورهم فيه بأنهم يستنصرون بأضعف شيء، وكأنهم العنكبوت في بيتها الهش الذي تمزقه الريح، وتقتحمه الحشرات، ويعبث به الصبيان، فلا يغني عن أهله شيئًا.
وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 29) فهذان مثلان للمشرك في تخبطه وحيرته، وللموحد في راحته وسلامته، ولا يستويان أبدًا، كما لا يستوي عبد مملوك يسومه سادته لسوء أخلاقهم سوء العذاب، وعبد مملوك لمالك واحد لطيف لا يشق عليه بكثرة الأوامر، واختلاف المذاهب والمشارب.
كذلك استخدم القرآن أيضًا أسلوب المحاورة، وهو الذي يورد فيه الحديث عن التوحيد، من خلال حوار يجري بين طرفين أو أكثر، فيتقرر في النفس أكثر من الخبر المجرد. قال تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (مريم: 42).
فالآيات الكريمة لم تأت على طريق الخبر المجرد، وإنما جاءت على سبيل المناقشة بين طرفين، وهي تورد حوارًا بين إبراهيم عليه السلام وبين أبيه المشرك، فيسأل إبراهيم أباه: لِم تعبد آلهة صماء عمياء لا تغني عنك شيئًا؟! هو سؤال يبين حقيقة هذه الآلهة الباطلة، ويتضمن صفات الله وحده بالعبادة، فهو السميع البصير الغني المغني عز وجل.