الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع
(الإيمان بالقدر (2))
أصل القدر، والنزاع بين الناس في القدر، وحكم التكذيب به
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعد:
أ- أصل القدر:
أصل القدر سر الله في خلقه، وهو كونه أوجد وأفنى وأفقر وأغنى وأمات وأحيى وأضل وهدى. قال علي رضي الله عنه:"القدر سر الله". فالقدر سر الله في خلقه، لم يُطلع على ذلك ملكًا مقربًا ولا نبيًّا مرسلًا، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة إلى الخذلان ومُسَلِّم للحرمان، وكذلك أيضًا هو سلم الحرمان ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرًا وفكرًا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر من أنامه ونهاهم عن مراده، كما قال تعالى في كتابه:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23).
فمن سأل لما فعل فقد رَدَّ حكم الكتاب، ومن ردَّ حكم الكتاب كان من الكافرين. انظر (شرح العقيدة الطحاوية) ص 320 مؤسسة الرسالة.
ب- النزاع بين الناس في مسألة القدر: هذا النزاع مشهور، والذي عليه أهل السنة والجماعة أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد. قال تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49). وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (الفرقان: 2). وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه ولا يرضاه ويحبه، فيشاؤه كونًا ولا يرضاه دينًا.
وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر، فَروا إلى هذا لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر وعذَّبه عليه.
ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار، فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شر منه، فإنه يلزمهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله، فإن الله قد شاء الإيمان منه على قولهم، والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة
الله تعالى، وهذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه، بل هو مخالف للدليل.
جـ- التكذيب بالقدر شرك:
عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن رجلًا قدم علينا يكذب بالقدر فقال: دلوني عليه، وهو يومئذٍ أعمى فقالوا له: ما تصنع به؟ فقال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضنَّ أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدفنها؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وكأني بنساء بني فهد يطفن بالخزرج، تصطك ألياتهنّ مشركات، وهذا أول شرك في الإسلام، والذي نفسي بيده لا ينتهي بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يُقدّر الخير، كما أَخرجوا من أن يقدر الشر". شرح (أصول اعتقاد أهل السنة) جزء 4 625 وإسناده ضعيف.
وهذا يوافق قوله: "القدر نظام التوحيد، فمن وحّد الله وكذّب بالقدر نقض تكذيبه توحيده".
وروى عمر بن الهيثم قال: "خرجنا في سفينة وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم. قال المجوسي: حتى يريد الله، فقال القدري: إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد. قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان فكان ما أراد الشيطان، هذا شيطان قوي، وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما".
ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد فقال: "يا هؤلاء إن ناقتي سُرقت فادعوا الله أن يردّها علي، فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تُسرق ناقته فسُرقت فارددها عليه، فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك. قال: ولِم؟ قال: أخاف كما أراد ألا تُسرق فسُرقت، أن يريد ردّها فلا تردّ".
وقال رجل لأبي عصام القسطلاني: "أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال
ثم عذبني، أيكون منصفًا؟ فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئًا هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء".
وأما الأدلة من الكتاب والسنة في أن أفعال العباد لله تعالى فقد قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين} (السجدة: 13). وقال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِين} (يونس: 99). وقال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَاّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} (التكوير: 29). وقال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَاّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (الإنسان: 30). وقال تعالى: {مَن يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} (الأنعام: 39). وقال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} (الأنعام: 125).
ومنشأ الضلال من التسوية بين المشيئة والإرادة وبين المحبة والرضا، فسوّى بينهم الجبرية والقدرية، ثم اختلفوا فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره فيكون محبوبًا مرضيًّا. وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية لله، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه.
وقد دلَّ على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنة والنظرة الصحيحة.
أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب فقد تقدم ذكر بعضها، وأما نصوص المحبة والرضا فقال تعالى:{وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَاد} (البقرة: 205). وقال تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (الزمر: 7). وقال تعالى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (الإسراء: 38).
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)) أخرجه البخاري حديث رقم 1477، ومسلم حديث
رقم 1593. وفي المسند: ((إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)) أخرجه أحمد، الجزء الثاني 108 من طريق قتيبة بن سعيد.
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك)).
فتأمَّل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة، فالأول للصفة، والثاني لأثرها المترتب عليها، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره.
فما أعوذ به أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئت أن ترضى من عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذتي مما أكره ومنعه أن يحل بي هو بمشيئتك أيضًا، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك.
فعياذي بك منك، وعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك، ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك، بل هو منك، فلا يُعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية إلا الراسخون في العلم بالله، ومعرفته، ومعرفة عبوديته.
فإن قيل: كيف يُريد الله أمرًا ولا يرضاه ولا يحبه، وكيف يشاؤه ويُكوّنه، وكيف يجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟
قيل: هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقًا، وتباينت طرقهم وأقوالهم.