الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثالث عشر
(حديث القرآن الكريم عن السحر)
معنى السحر، وحقيقته، وضروبه عند المعتزلة، وحكم تعلمه
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
أولًا: معنى السحر:
السحر في اللغة: كل ما لطف مأخذه ودق. قال الأزهري: "وأصل السحر: صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، فكأن الساحر لما أرى للناس الباطل في صورة الحق، وخيل للناس الشيء على غير حقيقته، وقد سحر الشيء عن وجهه، أي: صرفه".
وقال الجوهري: "كل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر، وسحره أيضًا بمعنى خدعه".
وقال القرطبي: "السحر أصله التمويه بالحيل، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به، كالذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء، وهو مشتق من سحرتُ الصبي أو من سحرتَ الصبي إذا خدعته".
وقال الألوسي: "السحر في الأصل مصدر سحّر يسحر بفتح العين فيهما، إذا أبدى ما يدق ويخفى، وهو من المصادر الشاذة، ويستعمل بما لطف وخفي سببه، والمراد به أمر غريب يشبه الخارق".
- هل للسحر حقيقة وتأثير في الواقع؟
اختلف العلماء في أمر السحر: هل له حقيقة أم شعوذة وتخييل؟
ذهب جمهور العلماء من أهل السنة والجماعة إلى أن السحر له حقيقة وتأثير.
وذهب المعتزلة وبعض أهل السنة إلى أن السحر ليس له حقيقة في الواقع، وإنما هو خداع وتمويه وتضليل، وأنه باب من أبواب الشعوذة وأنه عندهم على ضروب.
- ضروب السحر عند المعتزلة:
أولًا: التخييل والخداع، وذلك كما يفعله بعض المشعوذين حيث يريك أنه ذبح عصفورًا، ثم يريك العصفور بعد ذبحه قد طار، وذلك لخفة حركته، والمذبوح غير الذي طار لأنه يكون معه اثنان، قد خبأ أحدهما وهو المذبوح وأظهر الآخر. قالوا: وقد كان سحر سحرة فرعون من هذا النوع، فقد كانت العصي مجوفة قد ملئت زئبقًا، وقد حفروا تحت المواضع أسرابًا وملئوها نارًا، فلما طرحت عليها الحبال والعصي وحمى الزئبق تحركت الحبال والعصي؛ لأن من شأن الزئبق إذا أصابته الحرارة أن يتمدد، فتخيل الناس أن هذه الحبال والعصي حيات تتحرك وتسير.
من ضروب السحر عند المعتزلة: الكهانة والعرافة بطريق التواطؤ، وذلك كما يفعله بعض العرافين والكهان، حيث يوكلون أناسًا بالاطلاع على أسرار الناس، حتى إذا جاء أصحابها أخبروهم بها، ويزعمون أنها من حديث الجن والشيطان لهم، وأنهم يتصلون بهم ويطيعونهم بواسطة الرقى والعزائم، وأن الشياطين تخبرهم بالمغيبات، فيصدقهم الناس، وما هي إلا مواطأة مع أشخاص قد أَعَدّوهم لذلك.
قال الجصاص في كتابه (أحكام القرآن): "كانت أكثر مخاريق الحلاج بالمواطأة، فكان يتفق مع جماعة فيضعون له خبزًا ولحمًا وفاكهة في مواضع يعينها لهم، ثم
يمشي مع أصحابه في البرية في الصحراء، ثم يأمرهم بحفر هذه المواضع فيخرج ما خبئ من الخبز واللحم والفاكهة، فيعدونها من الكرامات". (روائع البيان في آيات الأحكام) للصابوني في تفسير قوله تعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} (البقرة: 102) إلى آخر الآية.
النوع الثالث: من ضروب السحر عند المعتزلة، ضرب آخر من السحر عن طريق النميمة والوشاية والإفساد من وجوه خفيفة لطيفة، وذلك أمر عام شائع في كثير من الناس.
وقد حكي أن امرأة أرادت إفساد ما بين زوجين، فجاءت إلى الزوجة فقالت لها: إن زوجك معرض عنك وهو يريد أن يتزوج عليك، وسأسحره لك حتى لا يرغب عنك ولا يريد سواك، ولكن لا بد أن تأخذي من شعرٍ حلَقه بالموس ثلاث شعرات إذا نام، وتعطينها إياي حتى يتم سحره، فاغترت المرأة بقولها وصدقتها. ثم ذهبت إلى الرجل وقالت له: إن امرأتك قد أحبت رجلًا وقد عزمت على أن تذبحك بالموس، وقد أشفقتُ عليك، ولزمني نصحك فتيقظ لها هذه الليلة، وتظاهر بالنوم فستعرف صدق كلامي، فلما جاء الليل تناوم الرجل في بيته، فجاءت زوجته بالموس، ليحلق بعض شعرات من حلقه، ففتح الرجل عينيه فرآها وقد أهوت بالموس إلى حلقه، فلم يشك في أنها أرادت قتله فقام إليها فقتلها، فبلغ الخبر إلى أهلها فجاءوا فقتلوه، وهكذا كان الفساد بسبب الوشاية والنميمة.
رابعًا: من ضروب السحر عند المعتزلة: الاحتيال، وذلك بإطعام الإنسان بعض الأدوية المؤثرة في العقل، أو إعطائه بعض الأغذية التي لها تأثير على الفكر والذكاء، كإطعامه دماغ الحمار الذي إذا أطعمه إنسان تبلد عقله وقلت فطنته،
مع أدوية أخرى معروفة في كتب الطب، فإذا أكله الإنسان تصرف تصرفًا غير سليم، فيقول الناس: به مس أو إنه مسحور.
قال أبو بكر الجصاص -وحكمة كافية تبين لك أن هذا كله مخاريق وحيل-: "لا حقيقة لما يَدَّعون لها أن الساحر والمعزي لو قدر على ما يدعي به من النفع والضرر، وأمكنهما الطيران والعلم بالغيوب، وأخبار البلدان النائية والخبيئات والسرق، والإضرار بالناس، لقدروا على إزالة الممالك واستخراج الكنوز، والغلبة على البلدان بقتل الملوك، بحيث لا ينالهم مكروه، ولاستغنوا عن الطلب لما في أيدي الناس، فإن لم يكن كذلك، وكان المُدّعون لذلك أسوأ الناس أحوالًا، وأكثرهم طمعًا واحتيالًا، وتوصلًا لأخذ دراهم الناس، وأظهرهم فقرًا وإملاقًا، علمتَ أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك".
المعتزلة لهم أدلة على كلامهم:
استدل المعتزلة على أن السحر ليس بحقيقة بعدة أدلة؛ من أهمها:
أ- قوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} (الأعراف: 116). وقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66). فالآية الأولى تدل على أن السحر إنما كان للأعين فحسب، والثانية أن هذا السحر كان تخييلًا لا حقيقة. وقوله تعالى:{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (طه: 69).
فهذا يثبت أن الساحر لا يمكن أن يكون على حق لنفي الفلاح عنه. وقالوا: لو قدر الساحر أن يمشي على الماء أو يطير في الهواء أو يقلب التراب إلى ذَهب على الحقيقة، لبطل التصديق بمعجزات الأنبياء، والتبس الحق بالباطل، فلم ي عد يُعرف النبي من الساحر؛ لأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة، وأنه جميعه من نوع واحد.
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور من العلماء على أن السحر له حقيقة وله تأثير بعدة أدلة؛ من أهمها:
أ- قوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (الأعراف: 116). وقوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} (البقرة: 102). وقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 102). وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (الفلق: 4).
فالآية الأولى دلت على إثبات حقيقة السحر بدليل قوله تعالى: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} . والآية الثانية أثبتت أن السحر كان حقيقيًا، حيث أمكنهم بواسطته أن يفرقوا بين الرجل وزوجه، وأن يوقعوا العداوة والبغضاء بين الزوجين، فدلت على أثره وحقيقته. والآية الثالثة أثبتت الضرر للسحر، لكنه متعلق بمشيئة الله. والآية الرابعة تدل على عظيم أثر السحر، حتى أمرنا أن نتعوذ بالله من شر السحرة الذين ينفثون في العقد.
واستدلوا بما روي أن يهوديًّا سحر النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى لذلك أيامًا، فأتاه جبريل فقال:((إن رجلًا من اليهود سحرك، عقد لك عقدًا في بئر كذا وكذا، فأرسل صلى الله عليه وسلم فاستخرجها فحلها، فقام كأنما نشط من عقال)). رواه النسائي عن زيد بن أرقم، وفي الصحيحين عن عائشة:"أن الذي سحره من اليهود يسمى لبيد بن الأعصم".
يقول الصابوني: "مِن استعراض الأدلة نرى أن ما ذهب إليه الجمهور أقوى دليلًا؛ فإن السحر له حقيقة وله تأثير على النفس، فإن إحداث التنافر بين الزوجين، والتفريق بين المرء وأهله، الذي أثبته القرآن الكريم، ليس إلا أثرًا من آثار السحر، ولو لم يكن للسحر تأثير لما أمر القرآن بالتعوذ من شر النفاثات في
العقد، ولكن كثيرًا ما يكون هذا السحر بالاستعانة بأرواح شيطانية، فالسحر له أثره وضرره، ولكن أثره وضرره لا يصل إلى الشخص إلا بإذن الله، فهو سبب من الأسباب الظاهرة التي تتوقف على مشيئة مسبب الأسباب رب العالمين جل وعلا.
وأما استدلالهم بأنه يلتبس الأمر بين المعجزة والسحر إذا أثبتنا للسحر حقيقة، فنقول: إن الفرق بينهما واضح، فإن معجزات الأنبياء عليهم السلام هي على حقائقها، وظاهرها كباطنها، وكلما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها، وأما السحر فظاهره غير باطنه، وصورته غير حقيقته، يُعرف ذلك بالتأمل والبحث، ولهذا أثبت القرآن الكريم للسحرة أنهم استرهبوا الناس وجاءوا بسحر عظيم، مع إثبات أن ما جاءوا به إنما كان عن طريق التمويه والتخييل.
قال العلامة القرطبي: "لا ينكر أحد أن يظهر على يد الساحر خرقًا للعادات، بما ليس في مقدور البشر، من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضو، إلى غير ذلك، مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات البشر.
قال: ولا يبعد في السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يلج في الكوات والكوخات، والانتصاب على رأس قصبته، والجري على خيط مستدق، والطيران في الهواء، والمشي على الماء، وركوب كلب وغير ذلك، ومع ذلك فلا يكون السحر موجبًا لذلك ولا علة لوقوعه، ولا سببًا مولدًا ولا يكون الساحر مستقلًا به، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء، ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشبع عند الأكل، والري عند شرب الماء.
ثم قال: قد أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده، من إنزال الجراد والقمل والضفادع، وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق
العجماء، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله عند إرادة الساحر".
وقال أبو حيان: "واختلف في حقيقة السحر على أقوال:
الأول: أنه قلب الأعيان واختراعها بما يشبه المعجزات والكرامات، كالطيران وقطع المسافات في ليلة.
الثاني: أنه خدع وتمويهات وشعوذة لا حقيقة لها، وهو قول المعتزلة.
الثالث: أنه أمر بأخذ العين على جهة الحيلة، كما كان فعل سحرة فرعون، حيث كانت حبالهم وعصيهم مملوءة زئبقًا، فجروا تحتها نارًا فحميت الحبال والعصي فتحركت وشقت.
الرابع: أنه نوع من خدمة الجن والاستعانة بهم، وهم الذين استخرجوه من جنس لطيف فلطف ودق وخفي.
الخامس: أنه مركب من أجسام تُجمع وتُحرق، ويُتلى عليها أسماء وعزائم، ثم تستعمل في أمور السحر.
السادس: أن أصله طلسمات تُبنى على تأثير خصائص الكوكب، أو استخدام الشياطين لتسهيل ما عسر.
السابع: أنه مركب من كلمات ممزوجة بالكفر، وقد ضم إليها أنواع من الشعوذة والنارنجينات والعزائم، وما يجري مجرى ذلك.
ثم قال: وأما في زماننا الآن فكل ما وقفنا عليه في الكتب فهو كذب وافتراء، ولا يترتب علي شيء ولا يصح منه شيء ألبتة، وكذلك العزائم وضرب المندل، والناس يصدقون بهذه الأشياء ويصغون إلى سماعها.