الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثالث
(التوحيد (3) - الإيمان بالقدر (1))
الأدلة النفسية أو الداخلية على توحيد الله
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
هذه الأدلة النفسية أو الداخلية هي التي تعتمد في انتزاع الدليل على الوحدانية من داخل الإنسان، لا من خارجه، ومن أعماق شعوره الداخلي ووجدانه الباطني، لا من مدركات حواسه المعروفة.
وهذا الدليل بالغ الأهمية للإنسان، وفي قضية الإيمان بالذات حتى يحاط به من خارجه ومن داخله جميعًا، فتمتلئ نفسه يقينًا لا يتسرب إليه ريب ولا قلق، وكم من إنسان امتلأ عقله بالمعارف والأرقام وفنون الإحصاء، وامتلأ عقله بعجائب هذا الكون، ولكنه يمضي متلبّد الإحساس، والسبب في ذلك تعطل وجدانه الداخلي، كما قال تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46).
ومن هنا اهتم القرآن العظيم ببيان هذا الدليل النفسي، وساق الآيات تذكيرًا للناس بهذا الجانب الفذ، الذي أهملوه وعطلوه وطمروه تحت ركام من الشبهات والشهوات، التي رانت على قلوبهم فأظلمتها وأماتتها.
يخبرنا الله تعالى أن المشركين الذين يعطلون التوحيد، ويشركون مع الله آلهة أخرى في كل شئون حياتهم، ويجادلون غاية الجدل دفاعًا وحمية عن أوثانهم، يخبرنا الله تعالى أن هؤلاء يحملون في أعماق نفوسهم دليل الوحدانية، ويمضون صمًّا وعميانًا عنه في الرخاء، حتى إذا مستهم شدة جائحة انتفض الدليل في صدورهم حيًّا نابضًا، حين لا تغني الأصنام أو الأوهام عن أصحابه شيئًا، هم في أشد الحاجة إليه، وفي ذلك يقول تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ} (الإسراء: 67).
يسألهم القرآن سؤال تقرير عن حقيقة يعلمونها وإن كابروا فيها، ثم يكررها لهم زيادة في التقرير والتأكيد، فيقول تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُون} (الأنعام: 40، 41).
وينتزع لهم القرآن من حياتهم صورة واقعة حية، تعتمد على هذا المعنى الذي تتجه فيه النفوس إلى مالك القوى والقدرة، اتجاه شعور وفطرة وخضوع ودعاء، وتنسى ما عداه سبحانه حين تكتنفها الأخطار الماحقة. قال تعالى:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} ماذا بعد ذلك؟ لا أحد أمامهم سوى الله {دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِين} (يونس: 22).
النوع الثالث الذي استخدمه القرآن في الدلالة على توحيد الله: الأدلة العقلية:
وهي الأدلة التي تعتمد على عمليات نظرية وفكرية، كترتيب المقدمات واستخراج نتائجها، حسب ضوابط وقوانين وراء بداهة الحسّ ومشاعر النفس، وإن كان الإدراك في الجميع راجعًا إلى العقل، والأدلة العقلية أوسع مدى من أشكال المنطق اليوناني ودروبه المنتجة، لذلك لم يتقيد القرآن العظيم بهذا النمط الفكري، وإنما جاء على نمط خاص في الاستدلال العقلي، وهو ضرب من إعجازه الذي تفرد به.
وقد استخرج العلماء منه أنواعًا كثيرة؛ منها:
أولًا: الدليل البدهي: وهو الذي يقوم على استخدام الحقائق المشهورة والبديهات المستقرة، في ابتناء الدليل عليها، فيذعن الخصم للدليل إذعانًا إن كان
منصفًا. ومن ذلك قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ} (الأنعام: 101).
فحيث تقرر الآية أن الولد لا يكون من غير أم، فقد بنى القرآن على هذه الحقيقة المسلَّمة دليل بطلان ما نسبوه إليه من الولد؛ لأنه ليس له صاحبة، فمِن أين يأتي الولد؟! والدليل كما ترى سهل واضح، يشبه الدليل الحسي في كونه يدل على المطلوب مباشرة، ولا يحتاج إلى مقدمات تنظم على وجه مخصوص، ولا بد من دليل على النظري منه، وغير ذلك من التعقيدات التي تصرف الذهن عن المطلوب الأصلي، بكثرة الوسائط، والاشتغال بالمقدمات، والاستدلال عليها، ثم على نتائجها أحيانًا.
ثانيًا: دليل التمانع: وهو مأخوذ من قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22).
وتقرير هذا الدليل أن يُقال: لو كان للعالم صانعان لكان تدبيرهما لا يجري على نظام، ولكان العجز يلحقهما أو أحدهما؛ وذلك لأنه لو أراد أحدهما إحياء جسم وأراد الآخر إماتته، فحينئذٍ إما أن تنفذ إرادتهما معًا، فيتناقض النظام لاجتماع الضدين. وإما ألا تنفذ إرادتهما معًا، فيؤدي إلى عجزهما، أو لا تنفذ إرادة أحدهما، فيؤدي إلى عجزه، والإله لا يكون عاجزًا، فبطل ما أدى إليه، وهو افتراض التعدد، وثبت نقيضه وهو الوحدانية.
ثالثًا: دليل التسليم: وهو الذي يُسلَّم فيه بوقوع المستحيل جدليًّا، ثم يستدل على عدم فائدة هذا المحال على تقدير وقوعه. ومثاله قوله تعالى:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (المؤمنون: 91).
ومعنى الآية الكريمة: ليس معه تعالى من إله، ولو سُلِّم جدلًا أن معه إلهًا لزم من ذلك التسليم ذهاب كل إله من الاثنين بما خلق، واستعلاء بعضهم على بعض؛ فلا يتم في العالم أمر، ولا ينفذ حكم، ولا تنتظم أحواله، والواقع المشاهد خلاف ذلك، ففرض الإلهين صاعدًا محال؛ لما يلزم عليه من المحال.
رابعًا: الشرك ظنون وأوهام: في ختام هذا الاستدلال على صحة التوحيد، يبرز القرآن العظيم وجهًا آخر من وجوه الاستدلال، حين يُطالب المشركين ويتحدَّاهم أن يقيموا دليلًا واحدًا مِن أي نوع، على صحة عقيدتهم، فلا يستطيعون، بل لا يملكون إلا التعلق بالظنون والأوهام، والاحتجاج بفعل آبائهم الذين قال عنهم القرآن:{أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُون} (البقرة: 170).
ومن هذا التحدي الشامل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} (الأحقاف: 4). أي أن الآلهة التي تعبدونها لم تخلق شيئًا في الكون، وليس عليها دليل من كتب الله المنزلة، ولا بقية من أثر على صاحبها، وإن ادعيتم شيئًا من ذلك فأتوا به إن كنتم صادقين، ولما كانوا عاجزين على إتيان ذلك، بيّن القرآن الكريم حقيقة عقائدهم، وأنها مجرد ظنون فاسدة. قال تعالى:{يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} (آل عمران: 154).
ويقول عن أصنامهم: {إِنْ هِيَ إِلَاّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} (النجم: 23).