الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الروم
الآية الأولى
منها - قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا)(الروم: 9)، وفي سورة فاطر:(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ)(فاطر: 44)، وفي سورة غافر:(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ)(غافر: 21)، وفي آخرها:(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(غافر: 82)، للسائل أن يسأل عن اختلاف هذه الآيات مع اتفاقها في المعنى المقصود بها؟ وعن (وجه) اختصاص كل موضع من مواضعها بما خص به منها؟ والجواب عن السؤالين معاً: أن هذه الآيات لم يختلف المقصود بها وهو التنبيه على الاعتبار بحال من تقدم من القرون ما يلائم ما جرى في تلك السورة قبل ذلك الموضع أو بعده من إشارة أو تعريف إخباراً من غير تنبيه أو تحريك إلى الاعتبار بهم، فحين جيء بالتنبيه بقوله:(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ) روعي ما ورد قبل أو بعد من إخبار أو إشارة، لذلك فبني ما عرض عليهم وحركوا به من التنبيه ثم أفصح به في آية التنبيه (تأكيداً لموجب يستدعيه، فلرعي هذا اختلف التنبيه) الوارد في هذه المواضع، لا لاختلاف في المعنى. بيان ذلك أن آية الروم، وهي أولى تلك الآيات، فقد ورد فيما بعدها من تلك السورة قوله تعالى:(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(الروم: 47)، فهذا تعريف منه سبحانه بما فعل بأولئك الذيم كانوا من قبل هؤلاء وجاءتهم البينات، فذكر في أول السورة من حالهم هذا، ولم يذكر ما فعل بمن كذب منهم ولا بمن آمن، فعرفت الآية الأخيرة بذلك، وأنه سبحانه انتقم منهم لاجترامهم بالتكذيب، وعرف
بنصر مؤمنيهم ونجاتهم، فحصل من الآيتين التعريف التام بما جرى منهم ابتداء وانتهاء، وصار مجموع الآيتين من الالتحام كأن قد قيل: ألوم يسيروا في الأرض فينظرا كيف كام عاقبة الذين من قبلهم مع زيادة قوتهم وانتشارهم وطول أعمارهم أكثر من هؤلاء، فجاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوا فانتقمنا ممن أجرم وكذب، ونصرنا من آمن، وكان حقاً علينا نصر المؤمنين، وما ظلمنا من انتقمنا منه: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ
…
) (الروم: 9)، فتأمل وضوح هذا كله وتناسبه والتئامه.
فإن قيل: فلم لم يرد ذكر أخذهم بالانتقام منهم لما أجرموا متصلاً بما تقدم من التذكير بالاعتبار بهم وكان يحصل ذلك كله في كلام متصل بعضه ببعض؟ ولم وقع ذكر أخذهم بالانتقام منهم لما كذبوا متأخراً عن الوارد من حالهم أولاً (التي) أمر هؤلاء ونهوا عن الاعتبار بها؟ قلت: جرى ذلك على المعتاد منه سبحانه في دعاء الخلق إلى الإيمان من التطلف والرفق في الدعاء، وبذلك أمر رسله، عليهم السلام، فقال لنبينا صلى الله عليه وسلم:(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل: 125)، وقال لموسى، عليه السلام:(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ)(إبراهيم: 5) أي بنعمة وآلائه قبلهم، وقال لبني إسرائيل:(اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)(البقرة: 47)، وقال:(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ)(طه: 80)، وهذا في القرآن كثير، فلما أمر هؤلاء وذكروا بالاعتبار بمن تقدم من القرون، ولم يتقدم قبل الآية إلا التلطف والتأنيس، لم يكن ليناسب ذلك من أخذالمكذبين إلا ما يكون إيماء وإشارة لا إفصاحاً، فلذلك اكتفى أولاً من الإشارة إلى أخذهم بقوله سبحانه:(فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ)(الروم: 9)، وترك الإفصاح بالانتقام إلى أن ورد إخباراً منه سبحانه لنبيه، عليه السلام، في غير معرض الدعاء إلى الإيمان فقال تعالى:(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا)(الروم: 47)، وحصل التعريف بغاية حال المذكورين قبل في تكذيبهم، فهذا موجب تفريق هذا الإخبار، والله أعلم.
فإن قلت: فقد ورد في آية غافر من هذه الآي مجموع التنبيه والأخذ متصلاً على غير ما قصدت الآية، قلت: ذلك لسبب اقتضاه يذكر بعد، فآيات الدعاء إلى الله تعالى إنما ترد في الأغلب على ما ذكرنا من التطلف والإبقاء على العباد وذكر الإحسان والرفق، وقد ترد على غير هذا لداع وحامل، والأكثر ما ذكرته. وأا آية فاطر فقد تقدمها قوله تعالى إخباراً لنبيه وتأنيساً:(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ * ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا)(فاطر: 25 - 26)، فقيل بعد هذه
فيما هو منها ومرتبط بمعناها: ((أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً)(فاطر: 44) فأخذتهم يا محمد بتكذيبهم وكفرهم، ولم يفت منهم أحد لأني عليم بأحوالهم القدير الذي لا يعجز في شيء ولا يفوتني هارب، وتأمل التحام هذا كله وتناسبه وكيف تم الاختبار وكمل انتهاء وابتداء، وتأمل كيف وقع الاكتفاء في آية الاعتبار بالإيمان إلى أخذهم بقوله:(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ)(فاطر: 44) إحالة على ما تقدم في إخبار نبيه، عليه السلام، بأخذهم في قوله:(ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا)(فاطر: 26)، والتحم هذا كله وتناسب.
وأما الآية الأولى من سورة غافر فوردت على الجمع بين التنبيه للاعتبار بمن تقدم وبين أخذهم، ولم يرد فيها التفصيل الوارد فيما تقدم، فقال تعالى:(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ)(غافر: 21)، ثم اتبع الآية بما يؤكد أخذهم، وذكرت العلة في ذلك من كفرهم، واجتمع في هذه الآية ما افترق في غيرها فقال تعالى:(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(غافر: 22)، فتحصل منها التعريف بأخذهم وذكر العلة الموجبة لذلك من تكذيبهم وكفرهم متصلاً ذلك كله بعضه ببعض، ولم تجر هذه الآية في التلطف في الدعاء والتنبيه على ما جرت نظائرها مما تقدم ونبه عليه، وسبب ذلك أنه تقدم في أول هذه السروة من الإخبار بسوء مراجعتهم وقبيح معاملتهم مع أنبيائهم ما يوجب سريع الأخذ وينافر التلطف، وذلك قوله تعالى:(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)(غافر: 5)، فلما تقدم هذا من جوابهم بالباطل وما هموا به من أخذ رسلهم وامتحانهم زائداً إلى التكذيب ناسب هذا تعجيل أخذهم، فوردت آية التنبيه على ذلك، ولهذا اختصت من التأكد ما لم يرد مثله فيما تقدمها:(كَانُوا هُمْ أَشَدَّ)، فوكد بالضمير تخصيصاً وتعييناً للمذكورين قبل من قوم نوح والأحزاب، ثم اتبع ذلك بقوله في قراءة ابن عامر بتخصيص من وعظ بذلك وخوطب فقيل:(منكم)، فتقابل التأكيد في الطرفين تأكيداً يناسب ما بنيت عليه الآية ويشهد له، ولرعي ما تقدم من السبب الأول وردت الآية الأخيرة من قوله في آخر السورة: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
…
) (غافر: 82) إلى قوله: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(غافر: 82)، ثم أعقب هذا بقوله:(لَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)(غافر: 83) إشارة إلى ما كانوا يظنونه علماً ويجادلون به من قولهم:
(أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، وقولهم:(مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى)(القصص: 36)، وقولهم:(لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا)(الأنفال: 31)، إلى ما ورد من متعلقاتهم ومجاوباتهم المشار إليه في قوله:(وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)(الكهف: 56)، فسماه سبحانه علماً في قوله:(فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)(غافر: 83) بحسب اعتقادهم وظنهم، كما قال تعالى:(أَيْنَ شُرَكَائِيَ)(القصص: 62) أي في زعمهم، وهو سبحانه المنزه عن الشريك والنظير، أو يكون (عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (غافر: 83) المراد به ما كان لدى من تعاطى النظر منهم فلم يوفق، من استبعاد العودة الأخراوية، وإنكار حشر الأجساد بعد تفرق الأشلاء والأجزاء وصيرورة بعضها غذاء لحيوان آخر ولتفرقها وفنائها، قالوا:(قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)(يس: 78)، وقالوا:(أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)(الإسراء: 49)، وهو نظر مبني على قاعدتين واهيتين، وهما: إنكار القدرة، وإنكار علمه تعالى بالجزيئات وعليهما بنى منكرو حشر الأجساد من الفلاسفة، وهو قول زعيمهم أرسطوا ومن تبعه من المشائين ومن قال بقولهم، وليس مما اتفقوا عليه، فقد نقلوا عن أفلاطون وغيره من زعمائهم مخالفة هذا القول وموافقة المتشرعين في حشر الأجساد، وقد نقلوا عن جالينوس التوقف، وقد رام بعض متفلسفة الإسلام الجمع بين المرتكبين فقال: تحشر الأجساد على تأويل لا يعمله المتشرعون وذلك لما أرغمه من براهين الشريعة. ولما بنى المنكرون مذهبهم على إنكار القدرة والعلم بالجزيئات اطراد في الكتاب العزيز، مهما ذكرت العودة الأخراوي، أن يناط بها وصفه سبحانه بالعلم والقدرة إفصاحاً أو إشارة بينه إطراداً لا ينكسر إرغاماً للمنكر الجاحد وحجة قاطعة بالمعاند، وقال تعالى:(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) إلى قوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(الروم: 27)، فوصفه سبحانه بالعزيز إشارة إلى القدرة وأشار قوله:(الحكيم) إلى العلم، وقال تعالى:(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)(يس: 78) ثم قال: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)(يس: 79) فقوله: (يحْيِيهَا) و (أَنْشَأَهَا) إشارة إلىى القدرة، وقد وقع الإفصاح بها بعد في قوله:(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)(يس: 81) وبسط هذا ورد أقوال هؤلاء الكفرة مستوفي في مضانه، وقد شفي في أئمتنا، رضي الله عنهم، وكتاب الله سبحانه (وتعالى) واف لمن وافق لتدبره وأعتباره بالبراهين القاطعة وبخصومنا، فما كان بأيدي من قدم ذكره من الشبهات فيها ذكرنا هو الذي فرحوا به وأعتقدوه علما، فورد التعبير على معتقدهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فقد وضع وجه مناسبة هذا لقوله تعالى:(مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) وتبين ما أوجب خصوص كل آية من هذه الأربع ومواضعها، والله أعلم.