الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: 20)، وإنما ورد جواباً لقولهم:(مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ)(الفرقان: 7)، ولا داعي في هذا للقسم إذ هو جواب لقولهم، فلا داعي لورود ((من))، فورد هذا كله على أبدع نظام وأعلى تناسب، وإذا اعتبر الناظر استوضح أن كلاً من هذه الآي لا يمكن إتيانه في موضوع غيره والله أعلم.
الآية الرابعة
من سورة يوسف، عليه السلام، قوله تعالى:(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا)(يوسف: 109)، قلت: تكرر هذا الضرب من الاعتبار بأحوال من تقدم من الأمم وما أعقب المكذبين تكذيبهم في عدة مواضع، منها ما ورد فيه بعد همزة التقرير وفاء التعقيب، ومنها ما ورد بواو النسق، فأما تقديم الهمزة قبلها فلما لها من الصدرية، فلا يتقدم حرف العطف عليها، ولما جرت في هذه الآي على ما ذكرنا من تخصيص بعض هذه المواضع بالفاء المقتضية مع التشريك الترتيب والتعقيب، وبعضها بالواو المقتضية مجرد التشريك والجمع، كان ذلك مظنة سؤال، فللسائل أن يسأل عن تخصيص كل واحد من هذه المواضع بما اختص به في عطفه على ما قبله؟ فمن الوارد بالفاء آية يوسف المذكورة آنفاً وفي سورة الحج:(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا)(الحج: 46)، وفي آخر سورة غافر: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ
…
) (غافر: 82)، وفي سورة القتال:(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)(محمد: 10)، فهذه أربع آيات مما ورد بالفاء. ومن الوارد بالواو قوله في سورة الروم:(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا)(الروم: 9)، وفي سورة الملائكة:(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً)
…
(فاطر: 44)، وفي سورة المؤمن:(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ)(غافر: 21)، فهذه ثلاث آيات.
والجواب عن الضرب الأول: أما آية يوسف فقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)(يوسف: 109) مربوط بما قبله ومبني على ما تقدم كحال في جواب مبني على ما قبله، ألا ترى أن قبل الآية آيات تخويف وترهيب، كقوله تعالى:(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)(يوسف: 105)، ثم قال تعالى:(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(يوسف: 106)، ثم قال تعالى: (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ
غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) (يوسف: 107)، ثم قال تعالى:(لْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)(يوسف: 108)، ثم قال:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)(يوسف: 109) فالكلام (بجملته في قوة أن لو قيل: ما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً من البشر أمثالك فكذبوا فهلك مكذبوهم وأخذوا كل مأخذ، فإن شاء هؤلاء فليسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة (الذين من قبلهم) ممن تقدمهم، فالكلام من حيث معناه في قوة الشرط والجزاء فورد بالفاء، وليس موضع الواو، ويشهد لهذا الغرض ويبينه قوله تعالى:(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)(النحل: 36)، (أي) فإن شككتم فسيروا في الأرض، وعلى هذا المعنى كل ما ورد من هذا. ومن هذا القبيل آية سورة الحج، ألا ترى أن قبلها قوله تعالى:(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ)(الحج: 42 - 44)، ثم قال:((فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)(الحج: 45 - 46)، أي فهلا ساروا في (الأرض) قاصدين الاعتبار فعقلوا بقلوبهم وانتفعوا بأسماعهم وأبصارهم، فعلى هذا المعنى لا مدخل لواو العطف هنا، وإنما الملائم الفاء لما تعطيه من السببيه والارتباط.
وأما الوارد في (آخر) سورة المؤمن فقد تقدم قبلها قوله تعالى: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ)(غافر: 81)، ثم قال تعالى:(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)(غافر: 82) أي فهلا ساروا في الأرض (فاعتبروا بما) في الأرض من الآيات، قال تعالى:(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)(الذاريات: 20)، فالمعنى على هذا وليس المعنى على العطف المجرد من معنى التسبب، فالموضع للفاء ولا لواو النسق.
وأما الوارد في سورة القتال فإن قبل الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) (محمد: 7 - 9)، ثم قال:(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)(محمد: 10)، فالملائم هنا الفاء لما في الكلام من معنى التسبب والتخصيص المحرزين هنا ما يلائم ويناسب مرتكبهم من التوبيخ، فالموضع للفاء المقصود بها ربط الكلام بما قبله.
وأما الضرب الثاني مما ورد بالواو فلعطف ذلك (على) ما قبله تشريكاً لا سببية فيه ولا معنى جوابيه ولا مقصود تعقيب ولا ربط مقصزدها من المعاني بما قبله سوى التشريك خاصة، ففي سورة الروم ورد متقدماً قبل الآية في قوله تعالى:(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى)(الروم: 8)، فعطف على هذه عطف تشريك لا سببية فيه قوله تعالى:(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)(الروم: 9)، فتشاركت الآيتان في الحض على الاعتبار ومقصودهما واحد، فعطفت إحداهما على الأخرى بما يقتضي ذلك وليس إلا الواو، وأما الفاء وثم فلا مدخل لواحدة منهما هنا، والله أعلم.
وأما سورة الملائكة فتقدم فيها قوله: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ)(فاطر: 43)، فأحيلوا على ما اطرد في من قبلهم من سنته تعالى فيهم، من أخذهم بتكذيبهم سنة الله التي خلت من قبل، ثم أعقب بإحالتهم على قرب منهم ممن شاهدوا آثاره وتعرفوا على قرب أخباره فقيل:(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)(فاطر: 44)، فقوله:(فَهَلْ يَنْظُرُونَ) وقوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا) مسلك واحد في الاعتبار، فصل لهم بحسب بعد ما أمروا باعتبار حاله (أو قربه)، فعطف أحد السببين على الآخر مع اتحاد النوع المعتبر به، ولا يعطف مثل هذا إلا بالواو خاصة، وما سوى الواو لا يلائم ولا يناس، والله أعلم.
وأما الآية الأولى من سورة المؤمن فملحوظ فيها من نيطت به في معناها من قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ)(غافر: 13)، وليس بعد هذه الآية من معناها إلا قوله تعالى:(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)(غافر: 21)، فمن آياتته تعالى التي رآها عباده ما أجراه من سنته فيمن خلا من الأمم، فوقعت الإحالة على ذلك بعطف الآية من قوله:(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) على ما به نيطت حسبما تقدم، ولا يناسب ذلك غير الواو.
***