الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأحد أن يتلقى حكماً إلا منه، عليه السلام بعد تلقيه هو ذلك من جبريل، فهو، عليه السلام، أول مؤمن وأول مسلم، ولا تمكن تلك الأولية لغيره، ولا نسبة إليها لأحد فقد وضح وجه دخول هذه اللام في قوله له:(لِأَنْ أَكُونَ).
الآية الثالثة
من سورة الزمر قوله تعالى: (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا)(الزمر: 21)، وفي سورة الحديد:(كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا)(الحديد: 20)، فورد هنا:(ثم يكو) وفي الأولى: (ثم يجعله) مكان (ثم يكون) فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك؟ وهل كان يمكن أن يرد في الأولى: (ثم يكون) وفي الثانية (ثم يجعله)؟
والجواب، والله أعلم: أنه لا يناسب كلا من الموضعين إلا ما ورد فيه، ولا يجوز على رعي التناسب اللازم رعيه في الكتاب العزيز غير ما ورد عليه الموضعان، ووجه ذلك أن آية الزمر وردت مورد التنبيه على الاعتبار، وبالنّصية على ذلك افتتحت الآية فقال تعالى خطاباً لنبيه صلى الله عليه وسلم، والمراد هو وأمته:(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)(الزمر: 21)، والمراد به المطر، فسلكه ينابيه في الأرض أي أنقذه وأراه في الأرض فبرزت عيونها وجرت مياهها من تلك المادة السماوية (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ) (البقرة: 74)، فيخرج به سبحانه الزرع المختلف الألوان والطعوم المتباينة:(يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ)(الرعد: 4)، (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا) (الزمر: 21) فنسب سبحانه كل حالة من تقلبات الزرع إلى نفسه، وتنقلاته من لدن خروجه ونباته وما بعد ذلك إلى تخلصه إلى نفسه، إذ لا طمع لمخلوق في إعادة شيء من ذلك، ثم قال تعالى:(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ)(الزمر: 21)، فافتتحت الآية واختتمت بالتنبيه على الاعتبار، فلما كان مبناها على ذلك ناسب نسبة الفعل إليه تعالى فقال:(ثُمَّ يَجْعَلُهُ).
وأما آية الحديد فوردت مثالاً للدنيا وابتداء غرورها، وصغو الكافر الغافل إلى ذلك، وإرعاضه عن سرعة تقلبها وزوارها وفنائها، فلما قصد هنا المثال ناسب هذا المقصود قوله:(ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا)، إذ لم يتقدم في أول الآية النسبة للفاعل اكتفاء بما هو غير خاف على كل ذي عقل سليم، فجرى آخرها على ما يجري عليه أولها، كما جرى في آية الزمر (من آخرها من التنبيه على ما جرى عليه أولها، وتناسب ذلك كله، وورد على ما يجب، ولم يكن بناء على ما صدرت به كل آية منهما أن يكون في آية الزمر): (ثم يكون) ولا في آية الحديد: (ثم يجعله)، بل ورد كل على ما يناسب، والله أعلم.
الآية الرابعة
من سورة الزمر قوله تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الزمر"48)، وفي سورة الجاثية:(وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا)(الجاثية: 33)، للسائل أن يسأل عن وجه اختصاص آية الزمر بقوله:(ما كسبوا) وآية الجاثية بقوله (ما عملوا) مع أن المقصد في الموضعين واحد وهو أنه لم يغب من أعمالهم السيئة شيء؟
والجواب عنه، أن العمل أعم من الكسب لأن الكسب واقع على ما للإنسان فيه تعمل وعلاج، وقد يطلق على غير الإنسان إذا كان الواقع منه ذلك حيواناً يصح منه القصد كالجوارح المعلمة وشبهها، ومنها قوله:
وتجر مجرية لها لحمى إلى أجر حواشب
وأجر جمع جرو، وأما العمل فيقع على ذلك وعلى ما جرى من فاعله وإن لم يكن منه قصد ولا تعمل ولا هو فاعل حقيقة، فيطلق على ما لا يطلق فيه الكسب، ومنه بيت الكتاب:
حتى شآها كليل موهناً عمل باتت طراباً وبات الليل لم ينم
فوصف البرق بأنه عمل، ومقصود الآية أنه بدا لهم كل ما كان منهم على الاستيفاء، لأنه إخبار موعظة وتهديد وإشعار بالوعيد، فيناسبه ما يجري في المناقشة. وإذا كان المعنى على ما ذكرنا فالمطابق لهذا ما ورد في الجاثية من التعبير ببدأ والعمل، وعلى هذا ورد قوله في سورة النحل وعيد للمقول فيهم: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
…
) (النحل: 33) ثم قال: (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا)(النحل: 34)، ولم يرد هنا:(ما كسبوا) لأنه من قصد التوسعة (والاستيفاء)(مما يبدون من أعمالهم ويظهر الاستيفاء لذلك)، وكذلك الوارد في الجاثية، وإذا وضح هذا بفينبغي السؤال عما ورد في سورة الزمر، ولم عدل به عن هذا فقيل:(ما كسبوا)؟
والجواب عنه، والله أعلم: أنه إنما ورد تتمة لما تقدمه من قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)(الزمر: 47)، فقوله:(مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) يتناول ما قدموه من سيئ أعمالهم غافلين عنه وناسين إياه، كان مما قصدوه فيه أنفسهم أو دون ذلك فقد حمل من هذا مع بعده ما تحصل من قوله:(وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا)، وكان قوله مع ذلك:(وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا) كالتتمة المؤكدة ومتناولاً ما قصدوه وأعملوا أنفسهم