المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الجن غ - قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى - ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل - جـ ٢

[ابن الزبير الغرناطي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة هود

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌الآية الرابعة

- ‌الآية الخامسة

- ‌الآية السادسة

- ‌الآية السابعة

- ‌الآية الثامنة

- ‌الآية التاسعة

- ‌الآية العاشرة

- ‌الآية الحادية عشر:

- ‌الآية الثانية عشر

- ‌الآية الثالثة عشر

- ‌الآية الرابعة عشر

- ‌الآية الخامسة عشر

- ‌سورة يوسف عليه السلام

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌الآية الرابعة

- ‌سوة الرعد

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌الآية الرابعة

- ‌الآية الخامسة

- ‌الآية السادسة

- ‌الآية السابعة

- ‌الآية الثامنة

- ‌سورة إبراهيم عليه السلام

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة:

- ‌الآية الرابعة:

- ‌سورة الحجر

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية:

- ‌الآية الثالثة:

- ‌الآية الرابعة

- ‌الآية الخامسة:

- ‌الآية السادسة

- ‌الآية السابعة:

- ‌سورة النحل

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌الآية الرابعة

- ‌الآية الخامسة

- ‌الآية السادسة:

- ‌الآية السابعة

- ‌الآية الثامنة

- ‌الآية التاسعة

- ‌الآية العاشرة

- ‌الآية الحادية عشرة:

- ‌الآية الثانية عشرة:

- ‌الآية الثالثة عشر:

- ‌الآية الرابعة عشر

- ‌الآية الخامسة عشرة

- ‌سورة بني إسرائيل (الإسراء)

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌الآية الرابعة:

- ‌الآية الخامسة:

- ‌سورة الكهف

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌الآية الرابعة

- ‌الآية الخامسة

- ‌الآية السادسة

- ‌الآية السابعة:

- ‌سورة مريم عليها السلام

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة:

- ‌الآية الرابعة:

- ‌الآية الخامسة

- ‌سورة طه

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌الآية الرابعة

- ‌الآية الخامسة

- ‌الآية السادسة

- ‌الآية السابعة

- ‌سورة الأنبياء

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌الآية الرابعة

- ‌الآية الخامسة

- ‌الآية السادسة

- ‌الآية السابعة

- ‌الآية الثامنة

- ‌سورة الحج

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌الآية الرابعة

- ‌الآية الخامسة

- ‌الآية السادسة

- ‌الآية السابعة

- ‌سورة المؤمنون

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌الآية الرابعة

- ‌الآية الخامسة

- ‌سورة النور

- ‌الآية الأولى

- ‌ الآية الثانية

- ‌سورة الفرقان

- ‌الآية الأولى

- ‌سورة الشعراء

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌الآية الرابعة

- ‌سورة النمل

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌سورة القصص

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌سورة العنكبوت

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌الآية الرابعة

- ‌الآية الخامسة

- ‌سورة الروم

- ‌الآية الأولى

- ‌الآيةالثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌الآية الرابعة

- ‌الآية الخامسة

- ‌سورة لقمان

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌سورة السجدة

- ‌(الآية الأولى

- ‌سورة الأحزاب

- ‌الآية الأولى

- ‌ الآية الثانية

- ‌سورة سبأ

- ‌سورة الصافات

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌الآية الرابعة

- ‌سورة ص

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌سورة الزمر

- ‌الآية الأولى

- ‌ الآية الثانية:

- ‌الآية الثالثة

- ‌الآية الرابعة

- ‌الآية الخامسة

- ‌سورة المؤمن

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌سورة السجدة

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌الآية الرابعة

- ‌سورة الشورى

- ‌الآية الأولى

- ‌سورة الزخرف

- ‌الآية الأولى

- ‌ الآية الثانية

- ‌سورة الجاثية

- ‌الآية الأولى

- ‌سورة القتال

- ‌الآية الأولى

- ‌ الآية الثانية

- ‌سورة الفتح

- ‌الآية الأولى

- ‌ الآية الثانية

- ‌سورة ق

- ‌سورة الذاريات

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌الآية الرابعة

- ‌سورة الطور

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌سورة النجم

- ‌الآية الأولى

- ‌سورة القمر

- ‌سورة الرحمن

- ‌الآية الأولى

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌الآية الثالثة

- ‌الآية الرابعة:

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة المنافقين

- ‌سورة التغابن

- ‌الآية الأولى

- ‌الآية الثانية

- ‌سورة الطلاق

- ‌الآية الأولى

- ‌سورة الملك

- ‌سورة القلم

- ‌سورة الحاقة

- ‌سورة نوح عليه السلام

- ‌سورة الجن

- ‌سورة المزمل والمدثر

- ‌الآية الثانية

- ‌سورة القيامة

- ‌الآية الثانية

- ‌سورة الإنسان

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة التساؤل

- ‌الآية الثانية

- ‌سورة النازعات

- ‌سورة التكوير

- ‌سورة الإنشقاق

- ‌سورة البلد

- ‌الآية الثانية

- ‌سورة ألم نشرح لك صدرك

- ‌سورة القلم

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة الكافرين

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة قل أعوذ برب الناس

الفصل: ‌ ‌سورة الجن غ - قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى

‌سورة الجن

غ - قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا)(الجن: 26) للسائل أن يسأل عن قوله تعالى: (على غيبه). بإعادة الظاهر مضافاً إلى الضمير، هل ذلك من قبيل ما تكرره العرب لتفخيم الأمر وتعظيمه؟ كما قال قائلهم.

لا أري الموت يسبق الموت شئ نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

وقال تعالى: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ) (الحاقة: 1 - 3)، وقال تعالى:(الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ) (القارعة: 1 - 3)، فيكون قوله:(على غيبه) واقعاً موقع: "عليه"، وتكون الآية على هذا مثل قوله:(قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)(النمل: 65) وما ورد من مثله وهو الذي يقتضيه قوله تعالى في مطلع هذه الآية: (عالم الغيب)، فلا يجب يكون بين الآي الواردة في هذا المعنى خلاف، ويكون مجمل جميعها على العموم؟ أم يراد بهذه (الآية) خصوص لم يرد بسواها من الآي الآخر وإن كان داخلاً تحت عموم تلك الآي؟

والجواب، والله أعلم: أن هذه الآية مراد بها خصوص ما انفرد سبحانه بعلمه ولم يطلع عليه أحد من خلقه ولا يظهر سبحانه عليه إلا من ارتضاه من رسله مع سلوك الرصد من الملائكة بين يديه ومن خلفه حفظاً لغيبه تعالى من مسترق سمع أو مستطلع، فهذا غيب لا سبيل لأحد من الخلق إليه على مقتضى الآية لا بتكهن ولا تنجيم ولا زجر ولا غير ذلك، وهو كوقوع الساعة وتجليها لوقتها إلى غيرها من غيوب استأثر سبحانه بها ولم يعلم أحداً بشئ منها ما هية فيتشوف مخلوق إلى تعرف وقت شئ منها أو كيفية ظهور أو غاية إذ لولا الإخبار الصدق بماهية الساعة لما وقع لأحد من العالم تشوف إلى تعرف قيامها ولا كنا لنعلم ما الساعة، وإذا لم نعلم ماهية مغيب ما لم نتشوف إلى تعرف ماهو تابع للماهية، فلهذا ضاق عنها نطاق التمثيل حتى أوهم كلام بعض الجلة أن المراد بهذا الغيب الذي استأثر سبحانه بعلمه إنما هو علم الساعة، وان ما سواها يمكن الوصول إليه بالكهانة والتنجيم والإلهام وغير ذلك، ولو أن هذا القائل أراد ظاهر ما يسبق من كلامه لما سلم له، لأنه لو لم نسمع باسم الساعة لعجزنا عن تعرف موجود مقدر الوقوع يسمي

ص: 484

بهذا الاسم، فالذي يجب أن يفهم عن هذا القائل أنه يريد أن لله غيوباً لا تحصي لا يظهر عليها أحداً من خلقه على مقتضى هذه الآية الخاصة بهذا المعنى المجردة له، ومن نحو هذا ما يشير إليه قوله تعالى:(وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)(البقرة: 255)، وإذا أظهر تعالى شيئاً من هذا الغيب فإنما يدركه الخلق أو من شاء الله منهم بعد ظهوره وكيانه، فيعلم إذ ذاك وقد كان هذا الظاهر في غيبه الذي انفرد به عن خلقه لم يعلم أحد من الخلق له ماهية إلا بعد ظهوره، وما غاب عن الخلق أكثر. هذا - والله أعلم - هو المراد بهذا الغيب المذكور هنا، وعليه يحمل ما قدم عما ذكر وإن أوهم من حيث حصر التمثيل أنه غيب الساعة خاصة، وهو ولا بد لم يرد ذلك وغنما أراد غيب الساعة وما كان مثله مما لم تذكر له ماهية، فلم يكن التمثيل كما تقدم إلا بما أعلمنا بماهيته فصح السؤال عنه.

وأما أمر الساعة فهذا - والله أعلم - ما يمكن أن يقال إنه الذي تجردت له آية سورة الجن، وأما الوارد في قوله تعالى:(قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)(النمل: 65) وما ورد من مثله فليس بخاص بل هو عام على إطلاقه وعمومه، ومصرف المنع إلى الإحاطة والاستيفاء والتيقن وحصر جزئيات المعلومات، فلا يعلم ذلك علم استيفاء وإحاطة إلا الله. فهو الذي أحاط بكل شئ علماً وأحصى كل شئ عدداً، ثم لا يمتنع إظهاره سبحانه من شاء من خلقه من غير الرسل على ما شاء مما أشير إليه ولا يتجزأ ما أطلعهم عليه مما عنده سبحانه، ويدخل تحت هذا العموم العلم الذي استأثر سبحانه بعلمه وانفرد به دون خلقه، إلا أن حكم ذلك على ما تقدم وتقرر، ومن نحو العموم الواقع هنا قوله تعالى:(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(الجاثية: 27)، فهذا كقوله:(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ)(هود: 123)، فملك السماوات والأرض له سبحانه لا شريك له في ذلك ثم قد قال تعالى:(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ)(آل عمران: 26)، وأعلمنا سبحانه أن نبيه سليمان طلب ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وأتاه الله ذلك، وليس ما أوتيه هذا النبي الكريم صلي الله عليه وسلم جزاءاً له نسبة إلى ملك الله تعالى، ولا يمكن توهم ذلك. وإذا كان ما أوتي سليمان، عليه السلام، هذه حالة فكيف ما أوتيه غيره مما لا يبلغ معشار ما أوتيه سليمان، عليه السلام؟ فكذا الأمر في الغيب، فلا يعلم غيب السماوات والأرض على ما هو علم إحاطة وتفصيل إلا هو سبحانه، يطلع من يشاء من خلقه على ما شاء من ذلك، ولا يتجزأ ما اطلع عليه الكل من نبي ومن سواه مما لم يطلعهم عليه، ثم إن ما عند من سوى الأنبياء والمصطفين من العباد لا يعلم أنهم تيقنوا ذلك، فإذا لم يكن علمهم علم تيقن وتحقيق فإطلاق اسم العلم عليه مجاز بل هو ظن وإن قوي إذ لم بصحبه اليقين ولا الاستيفاء ولا الإحاطة

ص: 485

بالجزئيات فالمتصف به ليس بعالم غيب على الحقيقة، وبهذه الصفة القاصرة هو العلم الموجود عند الكهان وغيرهم ممن لم يستمد من الوحى، وما تسلمه الشريعة، فنفى الإتصاف بعلم الغيب عمن عري عن التيقن أو من لم يحط علمه بجزئيات ما يعلمه ولم يستوفه وجه واضح، والإطلاق بأنه ليس عالماً بالغيب إطلاق صحيح، ثم إن القول بأنه مخير بغيب وبعض تفاصيل عن مغيبات غير معارض ولا متناقض، فلا يلزم على ذلك اعتراض بعلم شق وسطيح وما أخبرا به، لأنهما وإن أخبرا بعجائب وتفاصيل فقد فاتهما غير ذلك من جزئيات في معلومهما الذي أخبرا به لم يخبرا بها ولا أحاطا بعلمهما. وكذا غيرهما من الكهان والمنجمين، فقد وضح محمل آيات العموم.

وأما آية سورة الجن فمحملها على الخصوص كما تقدم، ومما يزيد ذلك وضوحاً ويعضد ما قدمنا من المفهوم في الضربين أن الله سبحانه لما ذكر المغيبات الخمس فقال:(إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ)(لقمان: 34) إلى آخرها أفرد علم الساعة بقوله: (إن الله عنده علم الساعة)، وعبارة:" عند" تقتضى بوضعها خصوصاً وقرباً وتمكنا، وكذا أورد تعالى هذا الإخبار حيث تكرر قال تعالى بعد:(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي)(الأعراف 187)، وقال تعال:(وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الملك: 25 - 26)، فجرى هذا الإخبار مقيداً بعبارة "عند" حيث تكرر ولم يشترك معها في آية لقمان ما ذكر بعدها في الدخول تحت حكم " عند" وما تقتضيه من الخصوص بل قال تعالى:(وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ)(لقمان: 34) إلى ما بعده فتفصيل هذا الإخبار والتفصيل في نظم الآية يفهم منع التساوي، ولا شك أن عدم اعتبار الجزئيات في تركيب الألفاظ يؤدي إلى عدم فهم ما انتظم منها.

فإن قيل: إنما ورد بعد ذكر الساعة من قوله تعالى: (وينزل الغيث) إلى ما بعد مفصولاً عن حكم " عند" ليفهم التكرار، إذ المعلوم أن تكرر نزول الغيث - مهما كانت الحاجة إيه - هو عين الإنعام والإحسان إلى العباد، فلهذا ورد بلفظ يقتضي التكرر وهو لفظ المستقبل من الفعل، فأحرز بذلك هذا الإنعام العظيم والتذكير به، فهو كالوارد في قوله تعالى:(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ)(ص: 18)(ولم يقل) مسبحات، وقال تعالى:(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ)(الملك: 19)، وهذا كثير فالإحراز ورد تفصيل الإخبار. قلت: قصد هذا المعنى بين الإمكان وإحراز - عند -

ص: 486

ما تقتضيه من معناها كذلك، ولا تعارض بين المقصدين، والإيجاز مقتض حصول المعنيين فجئ بما يحرزهم بأوجز لفظ وأبلغ عبارة، والله أعلم.

فإن قلت: فإن التعبير " بعند" قد ورد من الضرب العام من الغيب قال تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ)(الأنعام: 59)، وهي استعارة عبر بها عن التوصل للغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفاتح إلى المغيب عن الإنسان مما لا يصل إليه من ليست عنده مفاتحه، وقد دخل ذلك تحت حكم " عند" ومقتضاها من الاختصاص، مع أن الآية لم يرد فيها خصوص على علم الساعة على ما تقدم. فالجواب أن هذا مما يزيد ما تقدم وضوحاً إذ قد تبين قبل أن المراد من ذكر الغيب في كتاب الله ضربان. أحدهما خاص وهو المراد في سورة الجن وغنه لا مطمع لأحد من الخلق في الوصول إلى شئ منه على ما مر في ذكر الآية، والثاني عام على ما تقدم والوصول إلى علمه علم استيفاء وحصر بجزئياته مقدراً وغاية وتيقنا لذلك كله جملة وتفصيلا ممنوع، فهو لاحق من هذه الجهة بخصوص الضرب الأول، فلا يحيط بعلمه على ما تبين إلا الله تعالى، فحق لهذا الضرب إذا أريد به ما ذكرنا من الدخول تحت حكم " عند" وهو المراد بهذه الآية، ألا تري أنها مفصحة بذلك في قوله تعالى:(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)(الأنعام: 59) فقد وفت هذه الآية بتفاصيل المغيبات وحصرها والإحاطة بها بكل جهاتها ولا يعلمها على ذلك إلا الله سبحانه.

ولنتبع هذا بكلام من تعرض لبسط المراد من آية الجن فأقول: وقع في التفسير المنسوب لفخر الدين أبي الفضل بن الخطيب رحمه الله، بعد تقرير مفهوم آية سورة الجن وأن أراد وأن المراد بها ما تقدم من التخصيص، فقال في رده على الزمخشري ومن قال بقوله في إنكار كرامات الأولياء واستجراره مع ذلك إنكار التكهن والتنجيم وما يرجع إلى هذا، ودعواه أن هذا نص القرآن تعلقاً بهذه الآية، فقال أبو الفضل رداً على من ذكرت: واعلم أنه لابد من القطع بأن ليس مراد الله من هذه الآية أنه لا يطلع أحداً على شئ من المغيبات إلا الرسل، بدليل ما ثبت من الأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحاً كانا كاهنين، وإخبارهما بظهور نبينا محمد صلي الله عليه وسلم، (وتعيين زمانه، وشهرتهما بهذا العلم حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار نبينا صلي الله عليه وسلم)، فثبت أنه تعالى قد يطلع على ما يشاء من الغيب غير الرسل. ودليل ثان وهو أن جميع أرباب الملل والأديان مطبقون على صحة التعبير، وأن المعبر يخبر عن وقوع الأشياء الآتية في المستقبل فتقع كما أخبر. ودليل ثالث وهو أن الكاهنة البغدادية التى نقلها السلطان سنجر بن

ص: 487

ملكشاه من بغداد إلى خراسان سألها عن الأحوال الآتية في المستقبل، وذكر ما وقع على وفق إخبارها. قال أبو الفضل بن الخطيب: وإنا قد رأينا أناساً من المحققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة إخباراً على سبيل التفصيل وجاءت تلك الوقائع على وفق خبرها. قال وبالغ أبو البركات في كتاب المعتبر في شرح حالها وقال: تفحصت عن حالها مدة من ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً. ودليل رابع: أنا شاهدنا أصحاب الإلهامات الصادقة، وليس هذا مختصاً بالأولياء بل قد يوجد في السحرة من يكون كذلك، ونري الأخبار النجومية قد تكون مطابقة موافقة للأمور وإن كانوا قد يكذبون في كثير منها، وإذا كان ذلك مشاهداً محسوساً فالقول بأن القرآن مما يدل على خلافة مما يجر إلى الطعن في القرآن وذلك باطل، فعلمنا أن الأولى الصحيح ما ذكرناه، والله أعلم.

ونشير إلى ما قدم قبل كلامه هذا وهو أن قوله تعالى (على غيبة) ليس فيه عموم، فيكفي في مقتضاه ألا يطلع سبحانه ولا يظهر خلفه على غيب واحد من غيوبه، فيحمل على وقت وقوع القيامة، فيكون المراد من الآية عقب قوله:(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا)(الجن: 25) يعن وقوع القيامة، فإنه من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد بالجملة، فقوله:" على غيبه" لفظ مفرد مضاف فيكفي في العمل به إرادة غيب واحد، وأما العموم فليس في الآية لفظ يدل عليه. انتهى معنى كلام أبي الفضل، رحمة الله. وقد تحصل مضمنة فيما تقدم بأوفى مما أوردنا من كلامه.

فإن قلت: قد تبين ما بين الضربين من العموم والخصوص، واتضحت الحال فيهما، فما وجه انتظام ما ورد في آية لقمان مع ذكر الساعة، وظاهر ما تقدم من التأويل حاكم بالفرق، وإن أمر الساعة يخالف بخصوصه ما ذكر معها من الأربع، والحديث الصحيح قد ورد على مقتضى ظاهر الآية حين ذكر، عليه السلام، مجيباً للسائل فأتبع بقوله: في خمس لا يعلمهن إلا الله، وذلك ملحق لهذه الأربع، بحكم الساعة في خصوص غيبها؟

فأقول، وأسأل الله توفيقه: إن الحديث الصحيح مشير إلى هذه الغيوب، وإنها في استعلامها والإطلاع علي ما شاء تعالى أن يطلع عليه منها ليست على منهج واحد، ألا ترى أن منها أموراً يعظم موقعها في العالم ويعم ويخص كتقلب الدهور والدول وتغير الحالات التي تعم وما يرجع إلى هذا، وهذه هي المرادة بحديث ابن عباس الذي أخرجه الترمذى، قال: " بينما رسول الله صلي الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمى

ص: 488

بنجم فاستنار، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه؟ قالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم فإنه لا يرمي به لموت واحد ولا لحياته ولكن ربنا تبارك اسمه وتعالى إذا قضى أمراً سبح حملة العرض وسبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح إلى هذه السماء، ثم يسأل أهل السماء السادسة أهل السماء السابعة ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ثم يستخبر أهل كل سماء حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا وتختطف الشياطين السمع فيرمون - يعنى بالشهب - فيقذفون على أوليائهم فما جاؤوا به على وجه فهو حق، ولكنهم يحرفونه ويزيدون". وفي حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري، وهو أن نبي الله صلي الله عليه وسلم قال: إذا قضي الله الأمر في السماء ضربت (الملائكة) بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا؟ قال ربكم، قالوا: للذي قال الحق وهو العلي الكبير، فيسمعهما مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، وصفه سفيان بكفه فحرقها وبدد بين أصابعه، فيسمع الكلمة ويلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا وكذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التى سمعت من السماء".

قلت: وهذان الحديثان وما ورد من مثلهما معرفة بقضايا ترتج لها السماوات وتستطلعها الملائكة السبع بجملتها وتختطفها الشياطين مترصدين لتلقفها، ولا يختص بها صنف من الملائكة عن غيرهم، إما ما يتكرر في عالم الغيب من الكون والفساد، من متوالي إيجاد الآحاد، وتكرر نزول الأمطار. وشبه ذلك، فلا يستطلعها من الملائكة إلا آحاد وكلوا بها، وإن تكاثروا عدداً فليس ذلك كالمتقدم في الحديثين لعظيم عمومه، من ذلك حديث ابن مسعود: " يجمع خلق أحدكم في بطن أمة أربعين يوماً ثم يكون علقة ثم يكون مضغة، إلى قوله في الحديث: أذكر أم أنثي أشقي أم سعيد

الحديث، وكما أشار إليه حديث " " (بياض بالاصل) وقوله فيه: اسق حديقة فلان، إلى ما يرجع إلى هذا القبيل، ولا توقف في أن أربعة الغيوب المذكورة مع الساعة في سورة لقمان راجعه إلى قبيل ما ذكرنا، وذلك كله ليس من تلك المقدورات العامة، بل هى بالنسبة إلى تلك جزئيات يعلمها من وكيل بها من الملائكة، ولا يستخبرها أهل السماوات، ولا تترصدها الشياطين ترصد تلك القضايا العامة، وصحيح الحديث قاض بالفرق البين.

ص: 489

فأشارت الآيات الأربع والأحاديث المشار إليها إلى أن هذا الضرب من المغيبات كأنها تلي في حالها الغيبي ما ذكر معها من أمر الساعة وللساعة خصوص ما تقتضيه " عند" كما تقدم، فهذا - والله أعلم - وجه انتظام هذه الغيوب الأربعة مع ذكر الساعة، وتحصل بهذا الاعتبار تفصيل الغيوب إلى عام وخاص وخاص من ذلك الخاص، وهذا الخاص الأخير لا يعلمه مطلقاً إلا المنفرد بعلمه سبحانه، ثم لا يحيط بالضربين قبله على ما أشير إليه من تفصيل أحكامها على الاستيفاء والإحاطة والحصر إلا هو سبحانه، وأنه تعالى المنفرد بكل الغيوب، ولا يعلمها أحد على ما هي عنده كما وضح قبل وتبين، ولم يبق للطاعنين مدخل بوجه ولا على حال.

وأما تخصيص آية سورة الجن بما ورد فيها فوجه ذلك - والله أعلم - إما لم تقدم من قول الجن في إخبار الله تعالى عنهم: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) (الجن: 8 - 9)، فلما تقدم هذا من قولهم وإخبارهم عما كانت الحال عليه قبل بعثة رسول الله صلي الله عليه وسلم، وأن في ذلك من قولهم واطلاعهم على الغيوب أو الكثير منها، أعلم تعالى أن من الغيب ما ليس لهم ولا لغيرهم مطمع في الإطلاع عليه، وأنهم في ترصدهم ومقاعدهم للسمع ممنوعون هم ومن سواهم عما انفرد بعلمه سبحانه وحكم أن لا يطلع عليه أحد من خلقه، فهذا وجه ورود هذه الآية هنا. وهنا انتهى ما ألهم الله تعالى إليه في هذه الآية مما تعرض إليه الإمام أبو الفضل رحمه الله وبسطناه بما يدفع ما يوهمه موجز كلامه في التمثيل للغيب المخصوص، فبسطته بما أرجو أنه مراده ودافع لما يعترض عليه فيه حين أجمل في إغفاله توجيه تخصيص الغيوب الأربعة بذكرها مع غيب الساعة في سورة لقمان ووجه اختصاص سورة الجن بالوارد فيها، وأتيت في ذلك بما ألهم الله سبحانه إليه، وأرجو أنه شاف إن شاء الله، وإن تحمل غفلة أو سهواً فأسأل الله عفوه في ذلك، وعذري أنى لم أجد في ذلك من تعرض لشئ من هذا إلا ما قدمت ذكره مع إشكال الأمر في ذلك)، والله سبحانه أعلم بما أراد.

****

ص: 490