الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سوة الرعد
الآية الأولى
منها: غ - قوله تعالى: (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ)(الرعد: 1)، هنا سؤالان: أحدهما، أن السور الخمس المكتنفة لهذه افتتحت بقوله تعالى:(آلرَ) وخصت سورة الرعد وهي سادستها بزيادة الميم (فقيل آلمر)، وللسائل أن يسأل عن ذلك؟ والسؤال الثاني قوله تعالى:(وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ)(الرعد: 1)، وعطف هذه الجملة على ما قبلها يقتضي أن المعطوف مغاير لما عطف عليه وإلا لزم منه عطف الشيء على نفسه؟
والجواب عن الأول، والله أعلم: وإن كان مفهوماً مما تقدم فلهذا الوارد هنا ما يخصه وهو أن السورتين المكتنفتين لهذه السورة وهما سورة يوسف وسورة إبراهيم لم يرد فيهما من الكلم المجتمع في تركيبها الألف واللام والميم والراء (ما ورد) في سورة الرعد، أما سورة يوسف ففيها من ذلك كلمة:(الأمر) في قوله تعالى: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ)(يوسف: 41)، ولفظ:(المجرمين) في قوله تعالى: (وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)(يوسف: 110)، وأما سورة إبراهيم ففيها قوله تعالى:(لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ)(إبراهيم: 22)، وقوله:(مِنَ الثَّمَرَاتِ)(إبراهيم: 32)، وقوله:(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ)(إبراهيم: 33)، وقوله:(عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)(إبراهيم: 37)، وقوله:(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ)(إبراهيم: 49)، فهذه خمس كلمات. وأما سورة الرعد فقد (ورد) فيها من ذلك قوله تعالى:(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ)(الرعد: 2)، وقوله:(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)(الرعد: 2)، وقوله:(مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)(الرعد: 3)، وقوله:(وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ)(الرعد: 8)، وقوله:(وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ)(الرعد: 30)، وقوله:(فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا)(الرعد: 42)، فهذه ست كلمات من هذا التركيب لم ترد في مكتنفيها، فلزيادة ما ورد فيها من هذا التركيب ورد في مطلعها ما ورد من زيادة الميم، والله أعلم.
والجواب عن السؤال الثاني: بعد تمهيد، وهو أنا إن قلنا: إن المراد بالمعطوف الكتاب بجملته، (والكتاب بجملته) هو المنزل، كان من عطف الشيء على نفسه، وإن قلنا: إن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل أو أحد الكتابين ففي هذا من البعد ما لا خفاء
به، إذ لم نتعبد من هذه الكتب إلا بالإيمان، فإنزالها ووجودها على الجملة على ما تقرر في شريعتنا، فكيف تقع الإحالة في الاعتبار عليهما ولم نؤمر باعتبارهما في حكم ولا أمر ولا نهي، وإن قلنا إن المراد بآيات الكتاب آيات السورة، وبالكتاب السورة، وبالذي أنزل إليك سائر القرآن، كما قال الزمخشري كان أقرب، وفيه نحو تحريم على المقصود من غير إفصاح مخلص، فأقول ونسأل الله توفيقه: إن الدلائل الاعتبارية على تفاصيلها منحصرة في منهجين بهما حصول التوحيد وإثبات الرسالة، وعلى مضمن تفاصيلها منحصرة في منهجين بهما حصول التوحيد وإثبات الرسالة، وعلى مضمن تفاصيلها دارت الآي الاعتبارية والتذكير في كتاب الله تعالى: أحدهما، ما يدرك بالحواس، وإطالة التفكير في الموجودات وارتباطها، ولحظ الابتداءات والانتهاءات، وتقلب الأكوان، (واختلاف الألسنة والألوان، وحركات الأفلاك وكواكبها الثابتة والسيارة)، واختلاف حركاتها في السرعة والبطء، وخنوس الخمسة منها ومطارح شعاعها، ومقادير الأزمان، وتقلب النهار والليل بالطول والقصر، وإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وتعاقب الفصول بالحر والبرد، وتسخير الرياح، وما في ذلك كله من عليّ الإحكام وجليل الإتقان، إلى ما يرجع إلى ذلك مما تستقل به العقول وتجزم بدلالته، والمنهج الثاني: ما يرجع الاعتبار به إلى المأثور من أحوال الأمم والقرون المتقدمة، ودعاء الرسل إياهم وما كان من أخذ تكذيبهم حين تمردوا وعتوا، فكر أخذ بذنبه، ونجاة المؤمنين من كل أمة. فعلى هذين المنهجين دارت آي الكتاب العزيز المنطوية على تذكير العباد وتحريكهم للاعتبار، فمن الأولى قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(البقرة: 21) إلى قوله (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة: 22)، وقوله تعالى:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) إلى قوله (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(البقرة: 164)، وقوله:(إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(الجاثية: 3)، وقوله تعالى:(وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ)(الذاريات: 20 - 21)، إلى ما يجاري هذه الآي مما يشير إلى دلائل الآفاق ودلائل الأنفس وما يرجع إلى ذلك من دلائل التوحيد والتذكير به، فالربع الأول من القرآن أكثر، ثم يليه في ذلك الربع الثاني، كما يكثر التذكير في الثاني (بما ورد في المنهج الثاني)، وإنما ذلك - والله أعلم - لأن الضرب الأول معقول ومستنده ضروري لأن مباديه حسية وبه اعتبر من انتهى إلى علم من الأوائل ممن كان في الفترات، فمنهم المصيب والمخطيء، وهو معتبر منصوب للعالم من لدن وجودهم إلى قيام الساعة، لا يضطر فيه إلى نقل ناقل ولا الاعتبار به من حيث الدلائل يتنزل النظر في آيات الرسل وما جاؤوا به متحدين، وتعرف الخارق للعادة من غيره، فلهذا - والله أعلم - تقرر هذا الضرب مبدوءاً به في الترتيب الثابت عليه المصحف وأتبع بالضرب الآخر على مقتضى الاعتبار،
فمن عرف الجائز والمستحيل أمكنة الاعتراف بالبدأة والعودة، وإرسال الرسل، والثواب والعقاب، فيحصل العقل الجواز ويحصل التصديق بوقوع هذا الجائز من أخبار الرسل بالنظر في معجزاتهم، فبدئ بالضرب الأول بمقتضى الترتيب كما بينا، ولم يقع في الربع الأول من القرآن بسط اعتبار بالضرب الثاني بالإخباري، إنما أمعن بذكره في الربع الثاني وبسط الأخبار عن القرون المهلكة والأمم السالفة مع أنبيائهم وما أعقبهم التكذيب وأخذ كل قرن من المكذبين بما أخذ به، ولم ينقطع التنبيه والتحريك مع ذلك بما في الضرب الأول وما يرجع إليه.
ثم قد تجد السورة الواحدة مجرد لهذا الضرب كسورة الرعد، وللضرب الثاني كسورة الأعراف وسورة يوسف، عليه السلام، وقد تجمع السورة الضربين على السواء أو ما يقاربه كما في سورة الحجر، وأما سورة البقرة فقد تضمنت من كل (من) الضربين ما فيه شفاء على إجمال فيما أشير إليه من الضرب الثاني، إذ هذا الضرب إنما استوفى تفصيله في الربع الثاني.
ثم إن الضرب الأول وهو الذي يدرك بالعيان من آيات (اللوح) المحفوظ المتضمن لكل من الضربين، قال تعالى:(كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)(هود: 6)، وإذا قلنا إن الإشارة إلأى اللوح إنما يريد ما يستدل به ويعتبر مما نصب تعالى من الآيات الدالة على عجائب من مضمناته، إذ لولا نصب تلك الدلائل ووضوح الاعتبار بها لما أطلعنا عليه، وبلغ بحسب ما قدر الوصول إليه من مضمنه، إذ هو محتو على كل شيء، قال تعالى:(وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)(النمل: 75)، وتتباين أحوال المعتبرين، فعلى هذا يفهم المراد من قولنا:(إن الإشارة بقوله): (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) إلى اللوح المحفوظ، وهو مراد من قال بذلك في سورة البقرة من المفسرين وسورة النمل، ومن قال به أيضاً في سورة الرعد وهو الظاهر فيها، وقوله:(وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ)(الرعد: 1)، إشارة إلى الضرب الثاني وهو ما طريق تعرفه الخبر الصادق وذلك أخبار الأمم مع أنبيائهم على ما تقدم وما نبينه بعد، وهذا الضرب موصل أيضاً إلى المقصود، إلا أنه لا يوصل إليه إلا من جهة الخبر وإن كان من مضمن ما في اللوح المحفوظ، وإذا وضح هذا التفصيل لم يبق إشكال في فهم ما تقدم من أن الإشارة بقوله:(تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) إلى غير ما أشير مما عطف عليه من قوله: (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) وقوله في الحجر: (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ)(الحجر: 1)، وكذلك الوارد في النمل وإن خالف في التقديم والتأخير لقوله فيها:
(تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ)(النمل: 1)، فقدم هذا الإشارة إلى الضرب المؤخر في السورتين قبل، ويشهد لهذا ويوضحه رعي التقابل المناسب في هذه السور وبناء النظم وبيانه على ذلك، ألا ترى أن سورة الرعد لم تنطو من الضرب الثاني على قصة واحدة، وإنما دارت آيها الاعتبارية على ما به الاعتبار من الضرب (الأول خاصة، وسنعود إلى بيان ذلك بإيراد آيها، وإنما لم يذكر فيها شيء من الضرب) الثاني لأن بناء السورة إنما هو على الضرب الأول، ولهذا لم يشترك المعطوفان في اسم الإشارة إلا أن قوله تعالى:(وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ)(الرعد: 1) جملة مستقلة، وقد وقع الموصول فيها وهو الذي مبتدأ خبره الحق، وما بينها صلة، والجملة معطوفة على الجملة قبلها، وكل واحدة منهما مستقلةن ولا تسلط لاسم الإشارة على الجملة الثانية.
أما قوله في سورة الحجر: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ)(الحجر: 1) معطوف على الكتاب المضاف إلى الخبر عن اسم الإشارة وهو آيات وداخل تحت اسم الإِراة، وهو من عطف المفردات وما عطف المفردات وما عطف عليه وشرك معه بخلاف آية الرعد إذا العطف فها من عطف الجمل.
وأما الوارد في سورة النمل فمثل ما في سورة الحجر، وحكم اسم الإشارة منسحب على ما أضيف إليه خبر اسم الإشارة وما عطف (عليه)، وهو من عطف المفرادت أيضاً كآية الحجر، وكلا الآيتين مخالف لما ورد في سورة الرعد، فلما وقعت الإشارة في سورةتي الحجر والنمل إلأى الضربين معاً تضمنت كل واحدة من السورتين مما به الاعتبار ذكر الضربين معاً، ولما اختصت الإشارة في سورة الرعد بالضرب الأول لم يقع إخبار بغير ذلك الضرب، وهذا يرفع كل إشكال فيما تقدم، ومما يزيد وضوحاً فيما تقدم أن سورة الحجر لما قدم فيها ذكر الكتاب قدم فيها من الضربين الضرب المعتبر من آيات اللوح المحفوظ، فقال تعالى:(وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ)(الحجر: 16) إلى قوله: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ)(الحجر: 22) الآية، ثم بعد ذلك ذكر مما به الاعتبار من الضرب الثاني في قوله تعالى:(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ)(الحجر: 51) إلى قوله: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(الحجر: 84)، فتأخر ما ورد في هذه السورة من هذا الضرب ليطابق تأخر ذكره في قوله:(وَقُرْآنٍ مُبِينٍ). ولما تقدم في سورة النمل من الاسمين المضاف إليهما خبر اسم الإشارة القرآن وتأخر الكتاب فقال تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ)(النمل: 1) قوبل بتقديم الضرب المشار إليه أولاً، فقال تعالى:(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ) (النمل: 6 - 7). وذكر
من القصة مجملا ما إذا اعتبر وفي بأتم ما يحصل المعتبر به على أعلى مقصود موف بخلاصة وذلك إلى قوله: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(النمل: 14)، ثم أتبع بقصة داود وسليمان وما استجر ذلك من قصة بلقيس وما تلاها، ثم أعقب بعد بالضرب الآخر، فقال تعالى:(أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)(النمل: 60) إلى قوله: (بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ)(النمل: 66). ولما لم يقع في سورة الرعد الضرب الأول - كما تقدم - لم يرد فيها من آي الاعتبار إلا ما هو منه، ولم يقع في السورة غير ذلك، فقد بان بحول الله ما اعتمد جواباً عن السؤال الثاني، ووضح التناسب وجلالة النظم، (ومع وضوحه لم أقف على من استقرأه من هذه السورة منا بينته، ولا توقف فيه والحمد لله على ما ألهم إليه من ذلك).
ثم أعلم بعد أن ما اعتمدناه من هذا المأخذ لم ينفرد فيه إذا حقق بغير التمهيد وإيراد النظائر وبيان ما أجمله غير واحد ممن تقدم من المفسرين على اختلاف ترجمتهم عما تضمنه، فمنها القريب ومنها البعيد، وكل منها: إذا أمعن فيه النظر ربما أدى إلى ما تقرر، ولم أنفرد عنهم إلآ بتوجيه النظر على ما اعتمدته، وإظهار المناسبة، وإبداء شواهد ونظائر لما اعتمد. فمن ذلك ما تردد للمفسرين من قوله تعالى: في سورة البقرة: (ذَلِكَ الْكِتَابُ)(البقرة: 2)(من) مأثور ما حكوه عن من تقدمهم من أن الإشارة إلى اللوح المحفوظ، وذكر ذلك ابن عطية وغيره من غير تعرض لزيادة، ونسبوا ذلك إلى ابن جبير، وقال بعضهم في قوله تعالى في سورة النمل:(تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ)(النمل: 1)، قال: المراد بقوله: (وَكِتَابٍ مُبِينٍ)(النمل: 1) اللوح المحفوظ وذكره الزمخشري، ولا شك أن هنا إيماء (إلى) ما تقدم بسطه، وزاد الزمخشري على هذا ما ذكره في سورة الرعد من أن المراد (بآيات الكتاب العزيز) آيات السورة، (والذي أنزل إليك) سائر القرآن، وهو نحو ما قلناه، ألا ترى أن آيات السورة لم تخرج عن الضرب الاعتباري المدرك لكل ذي عقل سليم على ما تقدم وما نبنية بعد، وتلك آيات اللوح وأم الكتاب، فهذا ما قلناه وقد أطنبنا فيه (من) الوارد في سورتي الحجر والنمل ما شهد بأنه المقصود قطعاً. وقال بعضهم في قوله تعالى في سورة البقرة:(ذَلِكَ الْكِتَابُ) أنه واقع على القرآن وعلى الكتاب الذي هو اللوح المحفوظ، ثم قال بعد مستدلا: ذلك إشارة إلى غائب، يعني أن ذلك إنما يشار به إلى البعيد الغائب، ولو ضوح إدراكه صحت الإشارة إليه، ثم قال بعد واسم الكتاب غيب ولذلك حسن فيه ذلك، ثم استدل على أن الإشارة إلى اسم الكتاب الذي هو اللوح المحفوظ في القرآن الحاضر المتلو على ألسنتنا قد ارتاب
فيه من لم يرد الله هدايته فقالوا سحر وشعر وأساطير الأولين، وذهبوا به كل مذهب. واسم الكتاب يعني بما بدا منصوباً وظهر ليس كذلك، فهذا الذي لا ريب فيه إذ هو مشاهد للأبصار ومدرك للعيان لمن هدي واستبصر، قال الله جل جلاله:(المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ)(الرعد: 1)، ثم قال:(وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ)(الرعد: 1)، قال: ثم جعل جل جلاله يسرد آيات التاب) المبين فقال: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ)(الرعد: 2) إلى قوله: (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(الرعد: 4)، قلت: على هذا استمرت وتوالت آيات هذه السور لم يتخللها من غير ما هو آية منصوبة للاعتبار إلا ما استدعاه مقصود آي منها أو معناها، من غير أن يتخللها مما يدرك بالخبر كبير شيء، على هذا دار كلام من أشرنا إليه وهو ما اعتمدته وبسطته واستشهدت عليه ونظرته بما ظهر لي مماليس في كلامه. قلت ومما استشهد به من ذكرت كلامه على ما اختاره من كون الإشارة بقوله في مطلع سورة البقرة:(ذَلِكَ الْكِتَابُ) إلى اللوح المحفوظ، استحكام تنزيل ما بعده عليه، ووضوح النظم وبيانه على ذلك، ألا ترى قوله تعالى:(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)(البقرة: 2 - 3) أي بما غاب عنهم من مضمون اسم الكتاب استدلالاً بما يدل من آيته على ما غاب، فقبلوا ما أخبر الله به على ألسنة رسله مما لا يدرك مشاهداً استدلالاً بما أدركوه وشهادته لما أخبروا به فآمنوا بالله ورسله، واعتقدوا من صفاته سبحانه ما هو عليه، ونزهوه هما لا يليق به تعالى، وصدقوا ما أخبرت به الرسل من كل غائب عنهم متلقى من إخباره سبحانه، فبنوا ذلك على اهتدائهم الأول ومعتبرهم المشاهد المرئي حين وفقوا للاعتبار فآمنوا بالغيب كما أخبر تعالى عنهم، ثم قال تعالى:(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ)(البقرة: 4)، والمراد بهذا (المنزل) القرآن، وقوله:(وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ)(البقرة: 4) أي من الكتب المنزلة كاتوراة والإنجيل، وقال في الجميع:(أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(البقرة: 5). فتأمل بيان النظم على هذا فإنه أوضح شيء.
قلت: ومن البين أن (مدار هذا الجواب بجملته إنما بناؤه على أن اسم الكتاب في سروة البقرة أو حيق وقع) من فواتح هذه السور وأشير إلأه بذلك أو تلك أو وقع في غير الفواتح فيصح أن يراد به فيها أو في بعضها اللوح المحفوظ، وأن تكون الإشارة إلأيه إذا شهد له السياق ووضح عليه النظم، فإذا سلم هذا فما بنيناه عليه أوضح شيء، ولا يمكن إلا تسليمه إذ لا معارض يمنع من عقل ولا نقل، وإن اعترض معترض بالمنع فقد خالف