الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعجيزهم فربط فيه بالفاء، أي عجبوا من البعث بعد الموت فقالوا كذا، فجيء لكل بما يحرزه، ولم تكن الفاء لتقع هناك، ولا الواو لتقع هنا، بل ورد كل على ما يجب، والله أعلم.
الآية الثانية
من سورة ص - قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ) (ص: 12 - 13)، وفي سورة ق:(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ) (ق: 12 - 14)، للسائل أن يسأل عن وجه ورود هاتين الآيتين في السورتين على خلاف الترتيب المتقرر من ذكر الرسل وأممهم وما جرى بين الرسل والأمم في سورة الأعراف وهود والشعراء؟ ثم عن وجه الخلاف الوارد في سياق آيتي صاد وقاف من جهة الترتيب في السورتين؟ ووجه اختصاص كل واحدة منهما بما ورد فيها؟ وتعقيب آية ص بقوله:(فَحَقَّ عِقَابِ)(ص: 14) وآية ق بقوله: (فَحَقَّ وَعِيدِ)(ق: 14)؟ فهذه أربعة أسئلة.
والجواب عن ذلك - والله أعلم: عن الجملة أن الوارد في السور الثلاث مقصود فيه إخبار الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بما كان من الرسل المذكورين مع أممهم تثبيتاً لفؤاده صلى الله عليه وسلم وتأنيساً، قال تعالى:(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)(هود: 120)، فذكر أنباءهم، عليه السلام، على الترتيب في أزمنتهم وإرسالهم، أما سورة ص وسورة ق فلم يُبين ما ورد فيهما على ذلك القصد، وإنما بناء ما في السورتين من ذلك على تسليته صلى الله عليه وسلم فيما كان يكابده من عتاة قريش وكفار العرب في توقفهم عن الإيمان، فجرد لهذا القصد ذكر عتاة قريش وكفار العرب في توقيفهم عن الإيمان، فجرد لهذا القصد ذكر عتاة المكذبين وأخذه سبحانه إياهم، وقيل له، عليه السلام، تعريفاً بمآل كفار قريش:(وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ)(ص: 15) مخالفاً لإيراد ما في هاتين السورتين ما تقدم في غيرهما لاختلاف المقاصد، وجاء في كل واحدة منهما من الترتيب ما يلائم ويناسب على ما تبين بحلول الله تعالى.
فإن قيل: فإن سورة الحج ورد فيها ذكر الأمم السالفة المكذبين في قوله تعالى: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ .... ) (الحج: 42 - 44) فجرد ذكرهم عن ذكر الرسل إخباراً بمجرد تكذيبهم وأخذهم كما في سورة ص وسورة ق، وقد وردت
علي الترتيب الوارد في السور الثلاث، فقد خالفت مقصود ما في تلك السور، ثم جرت على ما فيها من الترتيب، فما الفرق بينهما وبين هاتين السورتين؟ قلت: الفرق بينهما أن مقصد آية سورة الحج الإخبار بتكذيب أولئك الأمم وأخذهم تسلية لنبينا صلى الله علية وسلم من غير زيادة لما تعرضت لة آية ص وآية ق، وأما هاتان الآيتان فقد انجز فيهما مع ذكر التكذيب والأخذ التعريف بتعزز عتاة قريش ومن وافقهم وذكر شقاقهم. وقبيح ردهم وتعاميهم عن النظر في الآيات والاعتبار بما نصب منها في الأرض والسماوات، فلهذا المنجر هنا انفردت سورة ص وسورة ق بالوارد فيهما من الترتيب عن سورة الحج.
فإن قلت: فإذا اجتمعت السورتان فيما ذكر فما وجه اختصاص كل واحدة منهما بما خصت به عن أختها من الترتيب؟ قلت: أما آية ص فوجه اختصاصها بما ورد ترتيبها عليه أنه سبحانه لما وصف كفار قريش والعرب بالاعتزاز والشقاق في قوله: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ)(ص: 2)، ثم أعقب بذكر القرون المهلكة في قوله:(كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ)(ص: 3)، ثم أعاد ذكرهم مفصلا قرنا قرنا وأمة أمة، كان الأنسب لما قدم من ذكر عتو كفار العرب وشقاقهم ذكر أعتى القرون من الأمم وأجرمهم، فذكر قوم نوح من حيث لم يجد عليهم نكرار الإنذار مع طول الأمد، قال تعالى مخبرا عن طول مدتهم وبعد إجابتهم قال نوح:(رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا) (نوح: 5 - 6)، إلى قوله:(وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا)(نوح: 7)، إلى دعائه، عليه السلام، عليهم عند قطع رجائه منهم بقولة:(رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) (نوح: 26 - 27)، إلى ما وصفهم سبحانه به وأنه لم يؤمن منهم مع نوح إلا القليل، فوجود ما تحلت به عتاه قريش ومتمردو كفار العرب من العزة والشقاق في قوم نوح أوضح شيئ، ثم اتبع ذكرهم بدعاء عاد الموصوفين بالقوةوالطغيان القائلين: من أشد منا قوة، والقائلين لنبيهم عليه السلام:(سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ)(الشعراء: 136)، إلى قوله:(وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(الشعراء: 138)، ثم اتبع بذكر فرعون ذي الأوتاد، والمراد هو وآله وقومه. وقد تكرر في القرآن مع ذكر فرعون وعلوه في الأرض وطغيانه مع ما أوضح شنيع مرتكبة وبعد شقاقه، ثم اتبع بمن ذكر بعدهم مراعي في ذلك مناسبة ما قدم، ثم ذكر اجتماعهمفي موجب تمردهموعتوهم وهو تكذيبهم للرسل، فقال تعالى:(إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ)(ص: 14) ثم أعاد الكلام إلى كفار قريش والعرب المبدو بهم والمنبهين لو تنبهوا بأخذ من عاند وكذب ممن تقدمهم فقال: (وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ)(ص: 15)،
أي إنهم إن تمادوا على شقاقهم فلا فرق بينهم وبين ما تقدمهم من هؤلاء القرون (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ)(الرعد: 6)، (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) (يونس: 102)، ثم أتبع سبحانه بذكر شنيع مرتكبهم في استعجالهم العذاب وقولهم:(عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ)(ص: 16)، فأنبأ تعالى باستحكام كفرهم وتكذبيهم واستهزائهم الموجب لتعجيل أخذهم، ثم أنصرف الكلام إلى أمره سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على معاندتهم وردي مقالتهم، وتذكر أخيه داود والاعتبار بأمره، وتسخيره سبحانه له الجبال، وحشره له الطير منقادة إلى أمره، وإلانته له الحديد، وقلوب الآدميين أهين وأقرب، فلو شاء لهدى هؤلاء كما سخر الجبال لداود (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) (السجدة: 13) وهذا وجه ذكر داود، عليه السلام، هنا، لا ما قاله الزمخشري، وقد تقدم (الإيماء) إليه عند قوله تعالى في سورة طه:(فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)(طه: 130) ويستوفي عقب هذا بحول الله، فهذا وجه اختصاص آية ص بما ورد فيها من الترتيب في ذكر القرون المهلكة بتكذيبها.
وأما آية ق فوجه الوارد فيها من إتباع ذكر قوم نوح بذكر أصحاب الرس ومخالفة الوارد في سورة ص، إن آية ق قد انفردت عن آية ص بما قصد فيها مفصحاً به، من ذكر تعامي كفار قريش والعرب عن النظر في خلق السماوات والأرض، والاعتبار بمن تقدمهم من الأمم، وأخذهم بتكذيبهم، ففي آية ص ذكر تجبرهم وشقاقهم وطغيانهم، وفي ق ذكر تعاميهم عم الاعتبار والنظر، فبدأ سبحانه بتذكيرهم بذكر حال السماء وإتقانهم فقال:(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا)(ق: 6) إلى قوله: (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)(ق: 11)، والمراد أنهم لو وقفوا فأمعنوا النظر في بناء السماء، وتزيينها بما جعل تعالى فيها من نجومها، وسلامتها من فطور أو فروج، وفي امتداد الأرض وإرسائها بالجبال، وإنبات ما فيها من كل زوج بهيج، وإنزال الماء من السماء، وإنبات الجنات وحب الحصيد والنخل الباسقات ذات الطلع النضيد، وإحياء البلاد الميته، وتكرر ذلك عليها، فلو اعتبروا بهذا لاستوضحوا العودة والبعثة، الأخراوية (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) (ق: 11)، (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (الأنبياء: 104)، فلما ذكرهم سبحانه بخلق السماوات والأرض أعقب ذلك تتميماً جارياً على التذكير المتكرر في الكتاب بذكر القرون السالفة المهلكة بتكذيبها فقال:(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ)(ق: 12)، ولما (بني)(ما) تقدم من الاعتبار على الإشارة إلى الاستيفاء (في عجائب الأرض والسماء، ناسب ذلك بناء ذكر من نبه عليه ممن هلك
(بتضييع) نظره واعتباره على الاستيفاء)، فذكر طرفان ليحصل حصر من بينهما أمة ممن تقدم وهم قوم نوح وأمة ممن تأخر وهم أصحاب الرس، ليحصل ما بينهما بإشارة الطرفين كما قال سبحانه في سورة الفرقان:(وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا)(الفرقان: 38)، وهذه الآية وآية ق مشيرتان إلى تأخير أصحاب الرس عن كل من ذكر في الفرقان من الأمم المهلكين بتكذيبهم ممن عين ذكره، والله أعلم.
وقد اختلف المفسرون في أصحاب الرس، والواقع في مختلف أقوالهم في ذلك ثمانية أقوال، ومن جملتها أنهم أصحاب الأخدود، وقيل كانوا قوماً قتلوا نبيهم ورموه في بئر لهم، زاد بعضهم أنه كان اسم نبيهم حنظلة، وقيل هم من قوم شعيب، عليه السلام، وقيل غير ذلك، والمقطوع به ما نطق به القرآن من وجود قرون كثيرة بين قوم نوح وأصحاب الرس، ويظهر من هذا الوارد في سورة ق أن مقصود الآية من استيفاء القرون المأخوذين بتكذيبهم غير وارد في غيرها، ألا ترى أنه قد أفصح فيها بثمانية قرون منصوص عليها، وهم قوم نوح، وأصحاب الرس، وثمود، وعاد، وفرعون، وأخوان لوط، وأصحاب الأيكة، وقوم تبع والمراد هو وقومه، ولم يرد في أوفى المتكرر من الكتاب العزيز غير سبعة. والأكثر ستة، فدل على قصد الاستيفاء في هذه السورة على كل حال، فقد ورد قوم نوح وأصحاب الرس طرفين لمن بينهما من القرون، ومقصود بهما - والله أعلم - استيفاء ما بينهما، إشعاراً، (في هذه الورة وإفصاحاً بكثرة من بيمهما بقوله في سورة الفرقان (وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا) (الفرقان: 38).
وأما الوارد بعد الطرفين في سورة ق من ذكر ثمود وعاد ومن ذكر بعد، فقد يكون - والله أعلم - من قبيل ما ورد في القرآن ممن شمله لفظ متقبل غير مصرح ثم نص عليه اعتناء واهتمام مع كونه قد ضمه ذلك اللفظ المتقدم، كقوله تعالى:(وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ)(البقرة: 98) بعد دخولها تحت لفظ الملائكة، وعلى كل حال فأصحاب الرس متأخرون عن قرون كثيرة بعد قوم نوح بنص القرآن، والله سبحانه أعلم.
فلما ورد هنا ما يشير إلى الاستيفاء بالاعتبار بهم جرياً مع ما تقدم من استيفاء الاعتبار بعجائب الأرض والسماء قدم ما يحصل بتقديمه ما اشير إليه من الاستيفاء، ولم يكن القصد هنا ما قصد في آية ص، فجاء كل على ما يجب، والله أعلم.
وأما المعقب به كل واحدة من الآيتين من قوله في سورة ص: (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ)(ص: 14)، وقوله بعد آية ق:(فَحَقَّ وَعِيدِ)(ق: 14)، مراعي في