الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الجاثية
الآية الأولى
منها - قوله تعالى: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(الجاثية: 3 - 5)، للسائل أن يسأل عن وجه اختصاص كل آية من هذه الثلاث بما به خصت خواتمها من صفات المعتبرين بها، فقيل في الأولى:(لِلْمُؤْمِنِينَ)، وفي الثانية:(لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، وفي الثالثة:(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)؟
والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن خلق السماوات والأرض للمعتبر المنصف كاف في التصديق بحدوثهما وافتقارهما من حيث إن وجودهما أو عدمهما من قبيل الجائز، والتخصيص بأحد الجائزين لا يكون إلا بمخصص مقتض هذا الجائز الواقع، ثم ذلك المخصص لا يكون مماثلاً وإلا لافتقر إلى مخصص، وذلك مؤد إلى التسلسل وهو محال، وأيضاً فليس أحد المتماثلين في إيجاب حكم المماصلة بأولى مما يوجبه الآخر، وهذا كله محال، فلابد من صناع متعال عنه شبه المصنوع، منزه عن المماثل والنظير وسمات الحدوث، متصف بالكمال لكمال المصنوع وإتقانه، متصف بالعلم والقدرة والإرادة، إلى ما هو سبحانه أهله، وإذا حصل الاعتراف بالصانع علم المعترف بما ذكرنا أنه تعالى قادر على خلق ما يشاء، وإلى هذا أشار قوله تعالى:(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)(يس: 81)، فمن اعتبر بالسماوات والأرض أو بخلقهما إذ يمكن في قوله:(إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أن يؤخذ على (أن) لا مضاف محذوفاً، وأن يكون على حذف المضاف، أي إن في خلق السماوات والأرض، وطريقة الاعتبار واحدة على التقديرين لمن اعتبروا، فمن اعتبر وأنصف آمن، قال تعالى:(إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ)(الجاثية: 3)، فحصل لهم الإيمان، فوسموا قبل حصوله بما يؤوله أمرهم - إذا اعتبروا - إليه، فهو من قبيل التسمية بالمآل، ومنه قوله تعالى:(إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا)(يوسف: 36).
ثم قال تعالى: (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(الجاثية: 4)، والمراد أن المعتبر بالسماوات والأرض إذا حسن اعتباره وأنصف من نفسه حصل له الإيمان بالصانع سبحانه، فإذا أضاف إلى ذلك الاعتبار بخلق الإنسان وتطوره في الأرحام من حال النطفة، إلى حال العلقة، إلى حال المضغة، إلى حال العظام وكسوتها باللحم، إلى الإبراز
إلى عالم الشهادة بشراً سوياً محكماً متناسب الأعضاء تام الخلق، إلى تدريجه بعد هذا، وكل ذلك من غير توقف شيء من صفاته وخواصه على اختيار أب أو أم، إلى اختلاف الألسنة والألوان والصور إلى ما يتعلق بذلك، واعتبر بخلق الحيوانات وما بث سبحانه في الأرض برها وبحرها من ذلك، وركون كل ذي شكل إلى شكله، وقيام أغذية الجميع بما يصلح لهم، وتسخير المسخر منها للآدمي وإيناسه، وتوحش المتوحش، وإجراء الجميع على اختلاف الأحوال في ذلك، ففي الاعتبار بذلك كله ما يثمر للمؤمن اليقين ويرقيه إلى أعالي درجات المتقين. ثم إذا اعتبر بما أشارت إليه الآية الثاثة، من اختلاف الليل والنهار، وتهيئة الليل للسكون والاستراحى والنهار للتصريف في المعاش والحاجات، وتداولهما كالمتعاوضين في الطول والقصر، وإيلاج أحدهما في الآخر إيلاجاً خفياً حتى لا يدخل أحدهما على الآخر دفعة فيضر (بأبصار) الحيوان، إلى ما يتعلق بهذا ويرجع إليه، فمن أحكم تدبر ذلك واعتبر به، واعتبر جري الرياح ومنافعخا من سوقها للسحاب والأمطار وإحياء الأرض بالماء النازل منها بعد موت الأرض وإخراجها ضروب النبات لانتعاش الحيوان ومصالحه، فإذا اعتبر المؤمن الموقن بهذا أعقبه ثبات يقينه وتمكن دينه فآمن وأيقن وعقل عن ربه، فانتفت الشبهات، وأفصحت بالبراهين الآيات، قال تعالى:(وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)(العنكبوت: 43).
فتأمل كيف جعل سبحانه تعقل الأمثال موقفاً على العالمين، وإنما تحصل لهم الاتصاف بأن كانوا عاللمين بما منحوه كم كمال عقولهم، فتبين التدريج الوارد في الآيات، وأنه لا يلائم آية منها ما ختم به غيرها، بل كان كل ختام من الأوصاف الثلاثة لا يليق بغير موضعه، وتأمل آية البقرة وهي قوله تعالى:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) إلى قوله: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(البقرة: 164) فأجمعت آية البقرة ما وقع في هذه الآيات الثلاث من سورة الجاثية منسوقاً ذلك بعضه على بعض غير مستأنف الابتداء للاعتبار به كما ورد في هذه الآي، بل ورد مجموعة في آية واحدة، كيف ختم ذلك بقوله:(لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) كما ختمت هذه الآي الثلاث بقوله: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) إعلاماً بشرف العقل الذي به - بإذن الله - يحصل الإيمان ثم اليقين ثم الثبات المحصل للكمال بحصول العلم الحاصر لذلك كله.
سورة الأحقاف، قد تقدم ما فيها
*******