الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الإخلاص
قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)(الإخلاص: 1)، قيل في " أحد " هنا: أنه بمعنى واحد وأصله وحد، وربما يعتضد من قال بهذا بقراءة من قرأ:" قل هو الله الواحد " فيجعل هذه القراءة مفسرة للاخرى وهي قراءة شاذة خارجة عن خط المصحف فليست مما يقطع به، وربما عضد هذا القول أيضا بأن أحداً الواقع في الجواب إنما ينبغى أن يكون بمعنى واحد ومرادفاً له لأنه قد صح عن أئمة اللسان اتفاقهم على (أن) أحداً لفظ يخص الواجب من الكلام ويقع عاماً، فتقول: ما جاءنى أحد، فيحصل منه النفى العام، ولا تقول: جاءنى أحد. قال سيبويه، رحمة الله: لوقلت كان أحد من آل فلان لم يكن كلاماً، فإذا ورد في واجب فنيبغي أن يحمل على أنه بمعنى واحد، إذ قد تبين أن أحداً المقتضى العموم والاستغراق لا يرد في واجب ولا يتكلم به فيه، وعلى هذا كلام العرب، فحصل منه أن أحداً لفظ مجمل يكون للفي العام، فهذا لا يقع في (كل) واجب، ويكون بمعنى واحد فيقع في الواجب وغيره، والواقع في سورة الإخلاص من هذا القبيل أعنى الذي أحد فيه بمعنى واحد.
فإن قلت: فكيف تري موقع هذا التفسير؟ قلت: أما القول بأن أحداً هنا مرادف لواحد وبمعناه من كل جهة فقول ليس ببدع، ولذلك جري عليه أكثر كلام المفسرين، ولكن فيه ادعاء ترادف للفظين من غير حامل قطعي أكثر من وقوع أحد في قولك أحد عشر، وواحد وعشرون وشبه ذلك، ولا ينكر من كلامهم الاستغناء بالشئ عن الشئ لتقارب ما أو نسبة واشتراك في طرف ما، وما أراك تجد في كلامهم لفظ أحد المجرد عن التركيب والإضافة والعطف وأرادا في معنى واحد ومرادفاً له على القطع أبداً. وإذا ثبت هذا وجب إجراء الكلام على إبقاء كل واحدة من اللفظتين على ما استقر لها في المعنى وإلا يعدل عن ذلك ما وجدت عنه مندوحة.
وقد أوضح الاعتبار الفرق بين أحد وواحد من جهة اللفظ وحكمه ومن جهة المعنى. أما الفارق اللفظي فإن لفظ واحد قد فرقوا فيه بين المذكر والمؤنث، قالوا: واحد وواحدة فألحقوا مؤنثة الهاء، وجمعوه فقالوا: وحدان. وأما أحد فلم يلحقوه علامة تأنيث ولا جمعوه.
وفرق ثان وهو أنهم استعملوا واحداً في الواجب وغير الواجب تقول: جاءني رجل
واحد ومررت برجل واحد، قال تعالى (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (البقرة: 163) و (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ)(النساء: 171) و (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ)(سبأ: 46) أي بخصلة واحدة أو بموعظة واحدة، ومن غير الواجب (فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ) (القمر: 24)، (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا) (ص: 5)، أما أحد فلا يقع مفرداً عن إضافة أو تركيب في كلام واجب أصلاً، فلا تقول: جاءنى أحد ولا مررت بأحد ولا ورد في كتاب الله سبحانه في كلام واجب إلا قوله سبحانه: (قل هو الله أحد) ويقع في غير الواجب وهو بابه الذي اختص به، تقول: ما جاءنى أحد وما مررت بأحد، قال تعالى:(وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)(الكهف: 26)، (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف: 110)، (وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا)(الكهف 38)، (لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ)(الجن 22)، (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) (الجن: 2) وذلك كثير جداً.
وفرق ثالث وهو أن واحداً يقع تابعاً في أكثر موارده، وهو الوجه فيه، لأنه يجري صفة وإن كان الوصف به عارضاً كما في الأعداد، كلنه (قد) أجرى صفة، وحكم ما ليس بخاص من الصفات لزوم التبعية، ولا يقع أحد تابعاً أصلاً إلا في نادر فلا تقول: جاءنى رجل أحد كما تقول: رجل واحد ولا ما شابه ذلك فهذه فروق (ثلاثة) من جهة حكم اللفظ.
وأما الفرق من جهة المعنى فإن واحداً يقع على كل مفرد كان، مما يتصف بالعقل والعلم أو لا يتصف، تقول: رجل واحد وجمل واحد، وهذا خلاف حكم أحد فإنه لا يقع إلا لأولى العلم والعقل من الملائكة والإنس والجن.
وفرق ثان، وهو أنك تقول: ما جاءني رجل (واحد) فيحتمل ذلك ثلاث معان: أحدها أن تريد ما جاءني (رجل واحد بل جاءنى) أكثر، والثاني أن تريد ما جاء رجل عناء وقوة بل جاء الضعفاء، والثالث أن تريد النفي العام أي ما جاءنى رجل واحد ولا أكثر ولا قوي ولا ضعيف. والثالث أن تريد النفي العام أي ما جاءنى رجل واحد ولا أكثر ولا قوي ولا ضعيف. فإذا قلت ما جاءنى أحد لم يتحمل غير معنى واحد وهو النفي العام وهذا أوضح فارق بين لفظ واحد (وأحد).
فإن قلت: قد تقرر فرق (ما) بين لفظ واحد وأحد (فما الحاصل المعتمد في معنى أحد) ومقتضاه؟ قلت: معناه وحدة لا غيرية معها ولا أثنينية، وإليه يشير ما فسره به أهل اللغة، قال صاحب العين: الوحد المنفرد وهو أوحد في هذا الأمر أي منفرد. وقد استشعر الفرق بين المفسرين من قال: أحد بمعنى واحد فرد من جميع جهات الوحدانية: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(الشورى: 11) وهو قول بعض جلة المفسرين وقد أحسن. أما اقتصاد الزمخشري على تزاكيه في البيان وتوفر حظه من علم اللسان على أن قال ك أحد بمعنى واحد وأصله وحد ولم يزد على هذا فغير مناسب لمسلكه. وقال بعض الأئمة
الفرق بين أحد وواحد أن الواحد المنفرد بالذات والأحد المنفرد بالمعنى ومنه في أسمائه تعالى: الواحد - الأحد. وقيل واحد اسم لمفتاح العدد ومن جنسه وأحد لنفي ما يذكر معه من العدد، وقيل أحد يدل على محض الوحدة، ألا ترى أنه ناف لما يرد معه يريد في نحو قولك: ما أتانى أحد لانتفاء الواحد وما سواه، بخلاف قولك: ما أتانى واحد إذ قد يحتمل أن يراد أنه أتاك أكثر من واحد، وقد تقدم هذا، ولا يحتمل ذلك قولك: ما أتانى أحد. ومن المعلوم المطرد أن حكم اللفظ المنفى لا يغاير موجبه في غر ما اقتضته أداة النفي ن وأن يبقي الكلام فيما عدا حكم النفي على ما كان ولا يتغير منه شئ سوي انتقاله من الإيجاب إلى النفي، وكذلك الحكم في كل أداة تدخل على لفظ الواجب من ثمن أو استفهام أو عرض أو غير ذلك، هكذا كلام العرب. ولفظ أحد لا يتناول بوضعه غير الوحدة فلو تكلم به في الواجب فقيل جاءني أحد لكان معناه: أحد لا ثاني له بوجه، ولو قلت: جاءني واحد لم يلزم فيه ذلك بل كان يحتمل أن تريد: جاءني واحد يعتد به ويعتمد، ولم ينتف أن يجيء معه من لا يعتد به أو يعتمد عليه، إذ ليس يمنع بوضعه الزائد على واحد إذا غايره من حيث ذكر. فإذا تقرر أن حكم أحد من مقتضى الوحدة ما ذكر، تبين أنه لايتصور ولا يصح بمعناه في واجب حيث يراد المخلوق المحدث، لأن كلا من المخلوقات له النظير والمثيل، حتى إن المتباعدات والمتباينات متماثلة من حيث الافتقار وانسحاب سمات الحدوث ودلائل عدم الاستقلال إلى غير ذلك من شواهد الحدوث، فكلها لا تنفك عن وجود النظراء والأنداد، فلم يصح وقوع لفظ أحد في كلام واجب يقع فيه لفظ أحد لمخلوق لما تبين، وصح ورود ذلك في حق الخالق جل جلاله لانفراده بالوحدانية وتنزيهه عن النظير والمثيل، فورد لفظ أحد حيث صح معناه من الكلام الواجب، (وأمتنع) حيث لا يصح معناه. أما غير الواجب فيصح فيه معنى أحد لصحة معنى الكلام، لأنك إذا قلت: ما أتاني أحد انتفى كل ما يمكن وصفه بالإتيان بمقتضى العموم، فانتفي ما وقع عليه لفظ أحد وانتفي النظير والمثيل، وصح هذا في المخلوق. بخلاف أن لو قلت: أتاني أحد فإنك فيه تتكلم بما لا يصح معنى ولا يعقل، إذ ليس في المخلوقات من لا مثيل له.
فلما كان لفظ أحد بالنظر إلى المخلوقين يصح معناه في غير الواجب ورد من كلامهم حيث يصح معناه وامتنع حيث لا يستقيم معناه، ووضع قول أئمة اللسان أنه لا يرد في الواجب، يريدون في محاورات المخلوقين وتخاطبهم، إذ لا يصح معناه هناك، فأما في حق الخالق جل جلاله فهو موضعه الذي يصح فيه ولا يتعداه، ولم يتعرض النحويون لعلة امتناعه في الواجب، بل اكتفوا بتقرير السماع من غير تعرض للعلة، إذ لا يبني لهم على ذلك قانون تتسع جهاته وتنتشر مسائلة. وإذ وضحت العلة تبين وجه وروده في السورة الكريمة، ولم يحتج إلى ادعاء اشتراك ولا تأويل، والله أعلم.
*****