الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الكافرين
للسائل أن يسأل عن تكرير ما ورد فيها؟ والجواب أنها لم تتكرر فيها آية واحدة إذا اعتبرت أن كل آية منها تفيد من المعنى وتحرر ما لا تفيده الأخرى بذلك التحرير، فكأنها متباينة الألفاظ لتباين معانيها مع جليل التشاكل وعلي التلاؤم والتناسب.
بيان ذلك أنه ورد في سبب نزول هذه السورة أن قريشاً قالوا لرسول الله صلي الله عليه وسلم: أعبد آلهتنا سنة ونعد إلهك سنة، وروي أنهم قالوا: تعالى فلنشترك في عبادة ألهتنا وإلهك فنأخذ الخير حيث كان، فتبرأ صلي الله عليه وسلم من مقالهم وأنزل الله السورة فتلاها عليهم وهم مجتمعون في المسجد. فقوله:(لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ)(الكافرين: 2) أي لا أفعل ذلك يما أستقبله من زماني ولا أنتم تفعلونه فيما يستقبل، وهذا إخبار منه سبحانه عن أولئك العصبة أنهم لا يؤمنون، وهم الذين قتلهم (الله) يوم بدر، فهو إخبار بغيب. ثم قال تعالى:(وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ)(الكافرين: 4) أي ولا أنا متصف فيما مضى من عمري إلى الآن بعبادة ألهتكم ولا كنتم أنتم فيما مضى متصفين بعبادة الله سبحانه، فحصل من ذلك الإخبار عن حال ما يستقبل منه صلي الله عليه وسلم ومنهم وعن حال ما مضى وتقدم منه صلي الله عليه وسلم ومنهم، فعبر عن أربعة أحوال متباينة وهي: احله، عليه السلام، فيما يستقبل وحالهم، وحاله فيما تقدم قبل وحالهم، فعبر عن هذه الأربعة بأربع آيات، فلا تكرار.
فإن قلت: فكيف تنزيل آي السورة على هذا؟ قلت: إن لا النافية إذا دخلت على المضارع المبهم مجردة عن قرينة من لفظ () خلصته للاستقبال، وقد دخلت في أول آية على قوله:" أعبد " فتخلص هذا الإخبار لما يستقبل، ثم بنيت الجملة من قوله:" ولا أنتم عابدون ما أعبد " على ما قبلها ليتقابل الإخبار ويلتئم نظم الكلام، وجئ فيه بالجملة الاسمية لأنها تحرز من حيث تسلط النفي على الصفة أنها لا توجد فيهم ولا يتصرفون بها في شئ مما يستقبلونه، ففي الصفة أحرز بتعميم ما يستقبل من نفي الفعل.
فإن قيل: فإذا كان نفي الصفة على ما ذكر فلم لم يأت كذلك أولاً فكأن يقال: لا
أنا عابد ما تعبدون (أو ما أنا عابد) ما تعبدون؟ قلت: لم يكن كذلك لأمرين: أحدهما أنه جواب لقولهم: أعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فلما كان جوابا لفعل أتي فيه بالفعل نفياً لعين ما طلبوه ولو نفي الاسم لما كان مطابقاً لقولهم، والثاني أن الجملة الأسمية إنما نفيها بما لا بلا، وما ليست بمخلصة للاستقبال، ونفي المستقبل مقصود، فلم يكن بد مما يحرزه، فهذا ما حمل أولاً على ما عليه الكلام. وأما الجملة المنفية على هذه وهي قوله:(ولآ انتم عابدون ما أعبد) فتنبيه لما قصد تعريفهم به، إذ هي طرف معرف بحالهم بناء على ما تقدمها من بيان حاله، عليه السلام، فهي جملة جوابهم، وبناؤها على ما تخلص استقباله مغن عن الأداة المخلصة لأن حكمها حكم ما بنيت عليه، وتم بها أنه قد وقع الفعل المبهم في صلة ما وهي معمولة لاسم الفاعل المجموع الواقع خبراً عن " أنتم " ولا يعمل إلا بمعنى الحال والاستقبال، ولكن المعتمد الجوابية على ما تقرر فقد تبين أن قوله:(لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد) إخبار عما يستقبل من الزمان وعن حاله، عليه السلام، فيه وحالهم فيه أيضا. ثم قال:(ولا أنا عابد ما عبدتم) فهذا نفي لما تقدم ومضى على كفاية الحال الماضية ولهذا عمل اسم الفاعل في " ما". ولما كان الإفصاح هنا بالماضي يحرز المقصود جاءت الجملة اسمية لتحصل الماضي والحال. أما الماضي فمهوم ببنية الفعل وهو قوله (ما عبدتم) ولو لم يقع الإفصاح بالفعل لأفهم السياق ما ذكر لأنه قد تقدم ما يستقبل في حق الفريقين فلم يبق إلا ما مضى، ولا مانع من اللفظ، فتعين المقصود.
أما الحال فإن الجملة الاسمية إذا دخل عليها النفى حملت على الحال ما لم يقع في الكلام ما يقيدها بغيره، فإن قيل: التقييد بقوله: (ما عبدتم) قلت: قوله: (ما عبدتم) من صلة ما بعد حصول المبتدأ الذي هو أنا وهو اسم الفاعل، فحصل من قوله:(ولا أنا عابد) نفي اتصافه صلي الله عليه وسلم في الحال بعباده آلهتهم، وإنما الحال عندنا الماضي غير المنقطع، قال سيبويه، رحمة الله، معرفاً بما يطلق عليه اسم الحال فقال:، وهو كائن لم ينقطع، فحصل عن المبتدأ والخبر من قوله:(ولا أنا عابد ما عبدتم) الإخبار عن حالة المستمرة على ذلك فيما تقدم متصلة غير منفصلة، وحصل من الجملة الخبرية الواقعة صلة وهي:" عبدتم " أنهم لم يفعلوا ذلك فيما مضى، وقد حصل فيما تقدم استمرارهم على ذلك حال الإخبار، وزيد بياناً وتأكيداً لقوله بعد:(ولا أنتم عابدون ما أعبد) وقد حصل أيضا فيما تقدم أن تلك حالهم فيما يستقبلونه، فيحصل المجموع أنه صلي الله عليه وسلم تبرأ من عبادة آلهتهم فيما مضى وفي الحال وما يأتي، (وأنهم ما عبدوا الله كما يجب له سبحانه فيما مضى ولا في الحال ولا يفعلون ذلك فيما يأتي)،
وهو الحاصل من قوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ)(يونس: 96). ثم قال سبحانه على لسان نبيه صلي الله عليه وسلم: (ولا أنتم عابدون ما أعبد)، هذا في مقابلة قوله:(ولا أنا عابد ما عبدتم) فهو إخبار عن حالة صلي الله عليه وسلم فيما مضى وتقدم من عمره صلي الله عليه وسلم، وقد تبين ما قيل.
فإن قيل: لم لم يقل هنا: ولا أنتم عابدون ما عبدت فكان يجرى جري ما بني عليه وقوبل (به)؟ قلت لو قيل: " ما عبدت " لأوهم انقطاعاً، لأن قول القائل: فعلت لا يقتضى الدوام والإتصال، ولكن وإن كان هناك مفهوماً فيما تقدم من مقصود الكلام بالجملة فإن الأولى رفع الاحتمال من اللفظ كما أحرز المعنى، وهو الجاري في الكتاب العزيز. ثم قال (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرين: 6) فحصل التبري، وتوضح التفصيل المتقدم.
*****