الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة التساؤل
قوله تعالى: (كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون)، يسأل عن تكرر التهديد وفائدته؟
والجواب عن ذلك: قد تقدم أن العرب متى تهممت بشئ أرادته لتحققه وقرب وقوعه أو قصدت الدعاء عليه كررته توكيداً، وكأنها تقيم تكرارها مكان القسم عليه والاجتهاد في الدعاء عليه حيث يقصد الدعاء، وإنما نزل القرآن بلسانهم وكأن مخاطباتهم جارية فيما بين بعضهم وبعض، وبهذا المسلك تستحكم الحجة عليهم في عجزهم عن المعارضة، وقد تقدم هذا وتقرر، وعلى ذلك يجري ما ورد في هذا الوعيد. ومنه قوله تعالى:(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (المدثر: 19 - 20) وقوله: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) (القيامة: 34 - 35) ومنه: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) (التكاثر: 6 - 7) وهو كثير.
الآية الثانية
- قوله تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا) (النبأ: 24 - 26)، (وقال في أهل الجنة) (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا) (النبأ: 31 - 32) إلى قوله: (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا)(النبأ: 36)، للسائل أن يسأل عن موجب الفرق بين الفريقين حتى قيل في أهل النار:(جزاء وفاقاً) وفي أهل الجنة (جزاءً من ربك عطاء حساباً) مع أن كل ذلك جزاء؟
والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن الله سبحانه أعلمنا أنه يجازي على الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، على ما لا عين رأي ولا أن سمعت ولا خطر على قلب بشر، قال تعالى:(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)(الأنعام: 160)، وقال تعالى:(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ)(البقرة: 261)، وقال تعالى (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة: 17)، وقال:(وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)(فصلت: 31) وقال تعالى في الجزاء على السيئات: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)(الشورى: 40)، وقال تعالى:(إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(الطور: 16)، فحصل من هذا أن حكم السيئات المقابلة بأمثالها، وذلك فيمن نفذ عليه الوعيد ولم يغفر له، إذ المعتقد أنه تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، وأنه لا يخلد في النار إلا الكافر،
فإذا تقرر ما ذكرنا فاعلم أن تسميه ما يمنحه الله سبحانه أهل الجنة جزاء إنما ذلك فضل منه سبحانه، إذ الجزاء لهم على أعمالهم أكثر من أعمالهم بوعده سبحانه، فإذا إنما حاصلة عطاء وإحسان وإنعام، وإنما سمى جزاء من حيث قوبل به عمل وارتبط به بحسب الإنعام، إذ لا يجب عليه شئ، فهذا حال الجزاء والإحسان.
وأما الطرف الآخر فاسم الجزاء عليه أوقع وأطبق من حيث المقابلة، فلهذا قيل في هذا (جزاء وفاقاً) كما قال تعالى:(لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ)(غافر: 17)(إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(الطور16)، وأما الجزاء الإحسانى فقد فاق الوفاق وعجز عنه التقدير، فلهذا أعقب قوله تعالى:(جزاء) بما يشعر بجريانه على حكم الإنعام والإحسان فقال تعالى (من ربك)، وفي هذه الإضافة ما يشعر بعظيم الرحمة وزلفى القرب بقوله:(من ربك)، ثم قال:(عطاء) فاعلم أنه لا يماثل ما ارتبط به من عمل العبد بل يفوق رجاء العبد وتقديره، ثم قال تعالى:(حسابا) فأشار إلى التضعيف المتقدم، ولم يكن ليلائم جزاء السيئة أن يقال فيها:(من ربك)، ولا لتسمى عطاء ولا حسابا لما بيناه، فورد كل على ما يناسب، ولا يمكن فيه العكس، والله أعلم
فإن قيل: قد ورد التصنيف فى جزاء السيئات قال تعالى: (أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ)(هود: 20).
فالجواب أن التضعيف هنا ليس على الحد المتقدم في تضعيف جزاء الحسنة، فإن المراد هناك أن الحسنة الواحدة يتضاعف عليها الجزاء بعشر أمثالها إلى أكثر كما تقدم، وأما المراد بتضاعف عليها الجزاء بعشر أمثالها إلى أكثر كما تقدم، وأما المراد بتضعيف العذاب بتكثيره بحسب تكثير المجترحات، لأن السيئة الواحدة لا يضاعف الجزاء عليها بدليل قوله تعالى:(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)(الشورى: 40)، وقد تمهد هذا، وتقدم بقبل قوله في أهل الامتحان:(يضاعف لهم العذاب) ما يشهد بما ذكرته يبين المراد وهو قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) (هود: 18 - 19)، فهؤلاء كذبوا على ربهم وصدوا عن سبيله وبغوها عوجاً، وكفروا بالجزاء، فهذه مرتكبات عذبوا بكل مرتكب (منها) فتضاعف عليهم العذاب لتضاعف مرتكباتهم، لكل مرتكب منها عذاب يخصه فليس ما ذكر من التضعيف في هذا الطرف على حد ما في الطرف الآخر، وقد بين القرآن ذلك بغير الجواب عن تخليدهم وكيف نبه عليه أنه وفاق لكفرهم.
*****