الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا ويبرز موقف التاج السبكي من والده في النواحي الآتية:-
1 - في كثرة النقل عنه والإطالة فيها
كما ذكرت آنفا.
2 -
في موافقته له في أغلب آرائه واختياراته ومن ذلك قوله في مقدمة الواجب: ((والحق عندنا وهو اختيار الشيخ الإمام وعليه الأكثر وجوبه مطلقا شرطا وغير شرط مما يلزم فعله عقلا كترك الأضداد في الواجب وفعل ضد في المحرم، وعادة نحو غسل جزء من الرأس لتحقق غسل الوجه كله.)) (1)
وقوله في مسألة التكليف: ((لا تكليف إلا بفعل، فالمكلف به في النهي الكف، أي الانتهاء وفاقا للشيخ الإمام.)) (2)
وقوله في بيان القراءة الشاذة: ((والصحيح أنه ما وراء العشرة وفاقا للبغوي والشيخ الإمام.)) (3)
3 - ذكره لآراء والده لتقوية آراء الآخرين بها
وقد نص التاج السبكي على ذلك فقال: ((فائدة التصريح بالوالد وإن خالفناه، تقوية مذهب الجمهور به، فلا يخفى أنه إمام المتأخرين عرباً وعجماً نقلاً وبحثاً حفظاً وفهما، في كل علم.)) (4)
وقال بعد نقله كلاما لوالده مفاده أن الحصر ليس هو التخصيص: ((هذا مختصر من كلام الشيخ الإمام رحمه الله، وحاصله: منع أن التخصيص الحصر، والقول بأن الحصر إنما يكون في بعض المواضع، وقد قدمت نحوه اختيارا لي، وإنما أردت الاعتضاد بكلام شيخ الإسلام في زمانه رحمه الله.)) (5)
4 - مناقشته لوالده في بعض القضايا واختيار ما يخالفه:
رغم أن التاج السبكي كان يوافق والده في أكثر المسائل إلا أنه في بعض الأحيان كان يخرج عن ذلك ويناقش والده ويرد عليه، ولكن في الأغلب كانت مناقشاته له هادئة جدا لا تشعر فيها بالقسوة الني كان يناقش فيها من كان يخالف الشافعي أو إمام الحرمين مثلا، وما هذا إلا لحق الأبوة التي بينهما ومن باب البر المأمور به، وهذه المناقشات فيها دلالة واضحة على موضوعية التاج السبكي، والتزامه بالحق وإن كان فيه خلاف لوالده. ومن الشواهد الدالة على ذلك:-
قوله في مسألة الاستثناء بعد الجمل المتعاطفة بالواو: ((وقال أبي تغمده الله برحمته: نعم ذكر البيانيون أن ترك العطف قد يكون لكمال الارتباط، فإذا كان في مثل ذلك فلا يبعد مجيء الخلاف فيه [قال التاج السبكي]: قلت: بل قد يقال: العود فيه إلى الجميع أولى لأنه إنما ترك العطف لكمال الارتباط فليقع الاشتراك في الحكم كذلك والكلام فيما وراء هذه الحالة لندورها.)) (6)
فانظر كيف رد قول والده هنا ولكنه أتى بالرد بصيغة التضعيف المنسوبة للمجهول وذلك تأدبا منه رحمه الله تعالى.
(1) التاج السبكي، رفع الحاجب (1/ 531)
(2)
التاج السبكي، جمع الجوامع ص 130
(3)
المصدر السابق ص 131
(4)
التاج السبكي، منع الموانع ص 467
(5)
التاج السبكي، رفع الحاجب (4/ 26)
(6)
التاج السبكي، رفع الحاجب (3/ 279)
وقوله في بيان أن الهم وحديث النفس لا يؤاخذ به إلا إذا اتصل به عمل فإنه يؤاخذ على الأمرين الهم والعمل: ((قال الشيخ [أي تقي الدين السبكي] في ((شرح المنهاج)) [أي منهاج النووي] في كتاب إحياء الموات: أنه ظهر له المؤاخذة من إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم العمل،
…
وكونه لم يقل أو يعمله، قال: فيؤخذ منه تحريم المشي إلى معصية، وإن كان المشي في نفسه مباحا لكن صار حراما، لانضمام قصد الحرام إليه، فكل واحد من المشي والقصد لا يحرم عند انفراده، أما إذا اجتمعا فإن كان مع الهم عملاً لما هو من أسباب المهموم به، فاقتضى إطلاق أو يعمل المؤاخذة به، كذا ذكر في ((شرح المنهاج)) ثم قال: فاشدد بهذه الفائدة يديك، واتخذها أصلا يعود نفعه عليك.
وذكر [أي التقي السبكي] في كتاب ((الحلبيات)): أن قوله صلى الله عليه وسلم: '' أو يعمل '' ليس له مفهوم حتى يقال: إنها إذا تكلمت أو عملت، يكتب عليها حديث النفس لأنه إذا كان الهم لا يكتب فحديث النفس أولى. [قال التاج السبكي معقبا على كلام والد]: وهذا خلاف ظاهر الحديث، وخلاف ما ذكرناه في ((جمع الجوامع)) ويلزم أن لا يؤاخذ عند انضمام عمل من مقدمات المهموم به بطريق أولى، لآنا إذا لم نؤاخذه بحديث النفس وإن انضم إليه عمل المهموم به، فلأنْ لا نؤاخذه وما انضم إليه إلا مقدمة من مقدماته أولى وأحرى.
[ثم قال التاج السبكي] وقد يقول الشيخ الإمام: أنا لا أؤاخذه بحديث النفس رأسا، إنما أؤاخذه بالعمل سواء أكان عملا لمقدمة من مقدمات المهموم به أو للمهموم به نفسه.
[قال التاج السبكي] ولكنا نقول له: تلك المقدمة لم تكن معصية لولا حديث النفس كما ذكرت، فلا نقطع النظر عنها، فالأرجح عندي المؤاخذة بحديث النفس عند انضمام العمل بالمهموم به نفسه.
وقول الشيخ الإمام: إذا كان الهم لا يكتب فحديث النفس أولى، ممنوع: فلسنا نسلم له أن الهم لا يكتب له مطلقا وإنما لا يكتب عند عدم انضمام العمل إليه. وأما ما ذكره في شرح ((المنهاج)) من المؤاخذة بالمقدمة إذا انضمت إلى حديث النفس لإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام أو يعمل، فحسن، لو لم يقيد في حديث آخر، لكن جاء في رواية أخرى في الصحيحين '' أو يعمل به ''، ويظهر عندي أن يقال إن رجع عن عمل السيئة بعد فعل مقدمتها لله تعالى لم يؤاخذ بما فعله لما في صحيح مسلم:{قالت الملائكة ربِّ ذلك عبدك يريد أن يعمل سيئة - وهو أبصر به - فقال: أرقبوه، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها حسنة، إنما تركها من جراي} (1) أي: من أجلي، وفي لفظ رواية أبي حاتم:{وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة}
[ثم قال التاج السبكي]: دل الحديثان، والثاني منهما صريح على أن الترك لله يوجب كتب المعصية المهموم بفعلها حسنة، فما ظنك بمقدمتها؟!
[ثم قال التاج السبكي]: وقد يقول الشيخ الإمام: المقدمة قد عملت، ولا كذلك نفس المعصية المقصودة.
[ثم أجاب عن ذلك بقوله]: أن المقدمة لم تُعمل لنفسها بل للوسيلة وهي بنفسها غير حرام.
(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس (2/ 331) حديث رقم 333