الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم رجع عن هذا الرأي في ((منع الموانع)) واختار كونها امتناعية فقال: ((واعلم أنّا كتبنا هذا ونحن نوافق الوالد إذ ذاك على ما رآه، ولذلك عبّرنا عنه بلفظ الصحيح، وأما الذي أراه الآن، وأدعي ارتداد عبارة سيبويه إليه، وإطباق كلام العرب عليه، فهو قول المعرَّبين، وقول الوالد: (إنّه منقوض بما لا قبل له) مما لا يَظهَر لي،
…
إلى أن قال: ولكنا هنا نَحيد عنه؛ فإن كان خطأً فمنّا ومن الشيطان، وإن كان صواباً فمن الله وببركته رحمه الله، فأقول: مدلول (لو) الشرطية: امتناع التالي لامتناع المقدم مطلقاً)) (1).
هذا وقد امتاز التاج السبكي رحمه الله تعالى بمِيزة أخرى لا تقلّ أهمية عن كونه وقّافاً مع الحق حيث كان ومع أيّ كان، ألا وهي أنّه كان كثير الإنصاف لخصومه الذين يخالفهم في الرأي، ويوجّه النقدَ لاجتهادهم، فهو مع النقد العلمي الموجّه إليهم إلا أنّه لم يكن لينتقصَ من أقدارهم، أو يهتضم حقوقهم، بل كان ينزلهم منازلهم، ويحفظ لهم مكانتهم رغم مخالفته الشديدة لهم في كثير من أفكارهم.
وليس أدل على ذلك من موقف التاج السبكي من شيخه الذهبي، فهو رغم شدة انتقاده له بسبب تحامله على الأشاعرة؛ إلا أنّه ما كان ليذكره إلا بصفات التبجيل والتفخيم والتعظيم.
فهو يقول عنه، محدث العصر، ويقول:((اشتمل عصرنا على أربعة حفاظ بينهم عموم وخصوص: المزي والبرزالي (2) والذهبي والشيخ الإمام)) (3).
وقد رثاه بقصيدة طويلة أذكر منها:
مَن لِلْحَديثِ ولِلسَّارينَ في الطَّلَبِ
…
مِن بَعْدِ مَوتِ الإِمامِ الحافِظِ الذَّهَبي
مَن لِلرِّوايةِ للأَخْبارِ يَنْشُرُها
…
بَيْن البَريَّةِ مِن عُجْمٍ ومِن عَرَبِ
مَن لِلدِّرايةِ والآثارِ يِحْفَظُها
…
بِالنَّقْدِ مِن وَضْعِ أَهْلِ الغَيِّ والكَذِبِ
إلى أن قال:
هُو الإِمامُ الّذي رَوَّتْ رِوايَتَه
…
وطَبَّقَ الأَرْضَ مِن طُلابِهِ النُّجُبِ
مُُهَذَّبُ القَولِ لا عَيٌّ ولَجْلَجَةٌ
…
مُثَبَّتُ النَّقْلِ سامي القَصْدِ والحَسَبِ
ثَبْتٌ صَدُوقٌ خَبيرٌ حافِظٌ يَقِظٌ
…
في النَّقْلِ أَصْدَقُ أَنْباءً مِن الكُتُبِ
كَالزُّهْرِ في حَسَبٍ والزَّهر في نَسَبٍ
…
والنَّهْرِ في حَدَبِ والدَّهْرِ في رُتَبِ (4)
4 - نبذه للتعصب المذهبي:
رغم تمذهب التاج السبكي على فقه الإمام الشافعي رضي الله عنه، واعتباره مذهبه هو المذهب الحق، وأنّ من عانده فقد عاند الحق، ورغم عظيم حبه للإمام الشافعي، وأتباعه من السادة العلماء الذين دفعه حبه لهم إلى جمع أشتاتهم وتتبع أخبارهم في كتاب خاص بأئمة الفقهاء الشافعية.
(1) التاج السبكي، منع الموانع ص 155 - 156
(2)
هو الإمام العلامة الحافظ الكبير المؤرخ أحد الأربعة الذين لا خامس لهم في هذه الصناعة علم الدين أبو محمد القاسم بن محمد بن يوسف بن محمد البرزالي، توفي سنة 739هـ، انظر التاج السبكي، طبقات الشافعية (10/ 381)
(3)
المصدر السابق (9/ 100)
(4)
المصدر السابق (9/ 110)
رغم كل ذلك إلا أنّي وجدت التاج السبكي رحمه الله تعالى، كان ينبذ التعصب المذهبي والجمود على أقوال الأئمة، بحيث تُجعَل الفروع المروية عن الأئمة أصولاً، بحيث يعادي بعضهم بعضا لأجلها ويُبدّع بعضهم الآخر بسببها، ويرى التاج السبكي أنّ هذا التعصب الممقوت لا يرضى به أحد ولو كان الأئمة الفقهاء أحياء لشددوا النكير على أمثال هؤلاء، ويقول:((ومنهم من تأخذه في الفروع الحمية لبعض المذاهب ويركب الصعب والذلول في العصبية، وهذا من أسوأ أخلاقه، ولقد رأيت في طوائف المذاهب من يبالغ في التعصب بحيث يمتنع بعضهم من الصلاة خلف بعض إلى غير ذلك مما يُستَقبح ذكره، ويا ويح هؤلاء! أين هم من الله تعالى! ولو كان الشافعي وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى حَيّين لشددوا النكير على هذه الطائفة)) (1).
ويضيف التاج السبكي أنّ على العلماء أن يتجاوزوا هذه الفروع التي للخلاف فيها مدخل وللاجتهاد فيها باب واسع، وكل مجتهد مأجور وإن أخطأ، وعليهم أن يشتغلوا بما هو أهم من ذلك؛ كالرد على أهل البدع والأهواء الذين يُفسِدون على الناس دينهم وعقائدهم، ويقول: ((وليت شعري لم لا تركوا أمر هذه الفروع التي العلماء فيها على قولين، من قائل: كل مجتهد مصيب، وقائل: المصيب واحد، ولكن المخطئ يؤجر، واشتغلوا بالرد على أهل البدع والأهواء. . . ثم قال: فقل لهؤلاء المتعصبين في الفروع وَيْحكم: ذروا التعصب، ودعوا عنكم هذه الأَهْويَة، ودافعوا عن دين الإسلام، وشَمّروا عن ساق الاجتهاد في حَسْمِ مادة من يسبّ الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله
…
عنهما)) (2).
ويَعيبُ التاج على هؤلاء الفقهاء الذين شغلوا أنفسهم بالفروع ونسوا أنّ بين ظهرانيهم يعيش أهل الذمة، ولا تجد فقيها يجالس ذمياً يبيّن له هذا الدين ويدعوه إليه فيقول:((بل هؤلاء أهل الذمة في البلاد الإسلامية تتركونهم هَمَلاً. . . ولا نرى منكم فقيهاً يجلس مع ذمي ساعة واحدة، يبحث معه في أصول الدين. . . إلى أن قال: فيا أيها العلماء في مثل هذا فاجتهدوا، وتعصبوا، وأما تعصبكم في فروع الدين، وحملكم الناس على مذهب واحد؛ فهو الذي لا يقبله الله منكم ولا يحملكم عليه إلا محض التعصب والتحاسد)) (3).
(1) التاج السبكي، معيد النعم ص 74
(2)
التاج السبكي، معيد النعم ص 74
(3)
المصدر السابق ص 75