الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والذي يظهر لي أنّ ((رفع الحاجب)) هو الشرح الثاني للتاج السبكي على ((مختصر ابن الحاجب))، حيث كان التاج السبكي قد وضع تعليقاً على ((مختصر ابن الحاجب)) وصفه التاج بقوله: ((فإنّ لنا تعليقاً على مختصر الإمام أبي عمرو بن الحاجب مبسوطاً ومجموعاً، يصبح قَدْرُ الأقران - وإن تعالى عنه - محطوطاً، وكتاباً لم يغادر لمتعنِّت مطلباً، وعجبا عجاباً، وردَّ مناهل الأصول، وصدَّر بهذا النبأ، وفِهْرستاً فجمع فأوعى، وفاق كتب هذا الفن جنساً ونوعاً، جمعنا فيه أكثر ما حوته كتب هذا الفن، وأودعناه مباحث كنا نستعمل الفكر فيها إذا ما الليل جن، وذكرنا آرائنا، وناضلنا عليها،
…
وأوضحنا اختياراتنا.)) (1)
وبهذا ترى أنّ ((التعليقة)) إنّما هي شرح أخر أوسع من ((رفع الحاجب))، وأما
…
((رفع الحاجب)) هذا فهو الشرح الثاني للمختصر، وهو أخصر من الأول وفي ذلك يقول التاج:
…
((بَيْدَ أنّا لم نستوعب فيه [أي ((التعليقة))] ما في ((المختصر))، وإن كنا لم نَدَع إلا واضحاً لا يَفتقر إلى النظر، فبدأنا في شرحٍ غاية في الاختصار، آية في جمع الشوارد والإكثار، يأتي على تقرير ما في الكتاب كلّه مع مباحث مِن قِبَلنا.)) (2)
وقال أيضاً في وصفه صنيعه في هذا الشرح: ((وهو شرحٌ إذا رآه المنصف عرف أنّا أتينا فيه بالعجب العجاب ودعونا قصي الإجادة فأجاب، ورُضْنا عصيّ المراد، فزال شماسه وانجاب، ودرى أهو الجدير أن يبيدَ بالقِرى وهَجَر هجْر واصل الكرام، أم الحقيق بأن يَضرب له آباط المطي أهل الآراء، فإنّا وفّينا بحق مختصر حَلّت فيه العقد، وقام مصنفه - يرحمه الله - بوظيفة الإيجاز التي قصّر دونها كل بليغ، وقعّد ورمى المعاني من أمد بعيد،
…
صَدَح على غصون البلاغة ذوات الأفنان، ومنح الطالبين جنَّةً قطوفها دانية لكل قاصٍ ودان
…
[إلى أن قال]: فقمنا حقّ القيام، ورُضْنا مصاعب النظر بالجدِّ
…
والاهتمام، وتَرقَّينا فجر الحقائق حتى تبلج صبحه والناس نيام، وأعملنا الأفكار، واستخرجنا من الخبايا الأبكار، واستنزلنا المعاني الطائرة من الأوكار.)) (3)
قلت: وقد تكون ((التعليقة)) هي ذاتُها ((الشرح الكبير)) الذي عزا إليه التاج السبكي في غير موضع من كتابه هذا، فإذا ثبت ذلك؛ يكون ((رفع الحاجب)) هو الكتاب الثالث للتاج في علم الأصول وليس الرابع على اعتبار أنّ ((التعليقة)) والشرح الكبير اسمان لمسمّىً واحد، والله تعالى أعلم.
المطلب الأول: التعريف ((بمختصر ابن الحاجب)):
إنّ مختصر الإمام جمال الدين أبي عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر الإسنائي المعروف بابن الحاجب، والمتوفى سنة 646 هـ، هو من المختصرات ذات الشأن العظيم والأهمية الكبرى في علم الأصول على طريقة المتكلمين، حيث أَوْدع فيه ابن الحاجب زُبدة أفكاره وآرائه الأصولية والمنطقية
…
والجدلية، المتأثِّر في أكثرها بطريقة شيخه وأستاذه الإمام سيف الدين الآمدي المتوفى سنة 631 هـ.
(1) التاج السبكي، رفع الحاجب (1/ 230)
(2)
التاج السبكي، رفع الحاجب (1/ 230)
(3)
التاج السبكي، رفع الحاجب (4/ 647 - 648) بتصرف.
هذا ويُعدّ الإمام الآمدي صاحب مدرسة أصولية مستقلة ومتميزة، وأهم ما يميزها هو الميل إلى تحقيق المذاهب، والإكثار من تفريع المسائل، وكان الآمدي قد فعل مثل معاصره الإمام فخر الدين الرازي؛ حيث جمع الكتب الأربعة التي عليها المدار عند الأصوليين (1) في كتابه الضخم ((الإحكام في أصول الأحكام)) إلا أنّه امتاز عن الرازي بأنّه أكثرُ تحقيقاً للمذاهب والمسائل (2).
ثم إنّ الآمدي قام باختصار كتابه ((الإحكام)) إلى ((منتهى السول في علم الأصول)) (3)، وجاء من بعده تلميذه الإمام ابن الحاجب فاختصر كتابيّ شيخه ((المنتهى في الأصول))، و ((غاية الأمل في علم الجدل)) وجمعهما في كتاب واحد أسماه ((منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل)) (4).
ولكنّ ابن الحاجب لما رأى ضعف الهمم وقصور الفهم؛ قام باختصار ((المنتهى)) إلى ((مختصر المنتهى)) وإلى ذلك يشير ابن الحاجب في مقدمة ((المختصر)) حيث يقول: ((فإنّي لما رأيت قصور الهمم عن الإكثار وميلها إلى الإيجاز والاختصار؛ صنَّفتُ مختصراً في أصول الفقه، ثم اختصرته على وجه بديع، وسبيل منيع، لا يَصدُّ اللبيب عن تعلمه صادٌّ ولا يَردُّ الأريب عن تفهُّمه رادّ.)) (5)
(1) راجع ما ذكرناه عن هذه المصنفات عند الحديث عن منهاج البيضاوي.
(2)
انظر: مقدمة ابن خلدون (2/ 817)
(3)
هذا ما تذكره أكثر المراجع، وقد حقق الدكتور حسن الشافعي ذلك وقام بإجراء مقارنة بين الإحكام والمنتهى توصل من خلالها إلى أن المنتهى مختصر فعلا للإحكام. انظر حسن الشافعي، الآمدي وآراؤه الكلامية ص 70.
(4)
انظر: مقدمة ابن خلدون (2/ 817) وحسن الشافعي، الآمدي وآراؤه الكلامية ص 65. هذا وقد اختلفت المصادر في اسم هذا المختصر فبعضهم يسميه منتهى السول بدل منتهى الوصول، غير أن الذي وجدته في النسخة المطبوعة أن اسمه منتهى الوصول كذا ذكره ابن الحاجب نفسه في مقدمته وقد سماه بذلك أيضا الدكتور حسن الشافعي. انظر: منتهى الوصول ص3، حسن الشافعي ص 70. قلت: لعل تسميته منتهى الوصول أوجه، وذلك للتفرقة بينه وبين منتهى الآمدي وهو الذي نص عليه ابن الحاجب نفسه في مقدمة كتابه المطبوع، والله أعلم.
(5)
ابن الحاجب، مختصر المنتهى (1/ 29)
وبذلك يكون ((مختصر المنتهى الأصولي)) المشهور باسم ((مختصر ابن الحاجب)) قد جمع فيه ابن الحاجب زُبدة مدرسة الآمدي، فجاء مختصراً بديعاً، وامتاز بما امتاز به الآمدي إلا أنه جاء أكثر تحقيقاً وأدقّ عبارة، مما جعله في مقدمة المتون المعتمدة في هذا الفن، وقد وصفه المحقق عضد الدين الإيجي المتوفى سنة 756هـ بقوله: ((إنّ مختصر الإمام العلامة قُدوة المحقِّقين جمال الملة والدين أبي عمرو عثمان ابن الحاجب المالكي تغمَّده الله بغفرانه يجري منها [أي من المختصرات] مجرى الغُرَّة من الكُمْت
…
والقرحة (1) من الدهم والواسطة من العقد، وقد رُزق حظاً وافياً من الاشتهار، فاشْتُهر به الأذكياء في جميع الأمصار أي اشتهار، وذلك لصغر حجمه، وكثرة علمه، ولطافة نظمه، ولكنّه مستعصي على الفهم لا يُذلُّ صعابه ولا تسمح قرونته لكل ذي علم.)) (2)
ووصفه الشمس الأصفهاني قائلاً عنه أنّه: ((كتابٌ صغير الحجم، وجيز النظم، غزير العلم، كبير الاسم، مُشتَمِلٌ على محض المهم.)) (3)
وقد رُزق ((مختصر ابن الحاجب)) من الشهرة ما لم يٌرزق أيّ متن أخر سواه (4)، فاهتمّ به العلماء شرقاً وغرباً، وتناولوه بالتدريس والشرح والتقرير، وتصدّى لشرحه عدد كبير من أكابر الأصوليين حيث وُضع عليه ما يزيد على ستةٍ وسبعين مصنفاً (76)(5) منها ما هو شرح له وتعليق عليه وأخرى تخريج لأحاديثه أو حاشية عليه أو على أحد شروحه، كما نظمه عدد من العلماء واختصره عدد آخر.
ومن أهم هذه الشروح: -
الشروح المعروفة بالسبع السيارة وذلك لشهرتها واهتمام العلماء بها والنقل عنها وهي:-
1.
شرح قطب الدين الشيرازي (6).
2.
شرح بدر الدين التستري (7).
3.
شرح شمس الدين الأصفهاني، المسمى ((بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب)). وهو شرح مطبوع في ثلاثة أجزاء كبار بتحقيق الدكتور محمد مظهر بقا.
(1) هي بياض في وجه الفرس دون الغرة. انظر: طاهر بن أحمد، تهذيب القاموس المحيط (3/ 515)
(2)
الإيجي، عضد الدين، شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 5)
(3)
الأصفهاني، محمود بن عبد الرحمن، بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 5)
(4)
اللهم إلا أن يكون جمع الجوامع قد فاقه في ذلك.
(5)
انظر في ذلك: حاجي خليفة، مصطفى بن عبد الله، كشف الظنون (2/ 1853 – 1857) ومقدمة تحقيق رفع الحاجب، علي محمد معوض وعادل عبد الموجود (1/ 191 – 225)، كارل بروكلمان، تاريخ الأدب العربي (5/ 335 – 340)
(6)
هو العلامة قطب الدين أبو الثناء محمود بن مسعود بن مصلح الفارسي الشيرازي، كان غاية في الذكاء وإمام عصره في المعقولات، توفي سنة 710هـ، من مصنفاته: شرح الكليات، شرح مفتاح السكاكي. انظر ترجمته في: ابن شهبة، طبقات الشافعية (2/ 311)
(7)
هو الإمام العلامة بدر الدين محمد بن أسعد التستري، كان فقيها ضليعا وإمام زمانه في الأصلين والمنطق والحكمة، توفي سنة 733هـ، من مصنفاته: شرح طوالع البيضاوي، شرح الغاية القصوى. انظر ترجمته في: ابن شهبة، طبقات الشافعية (2/ 374)