الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: الحياة الاجتماعية
إنّ الحياة الاجتماعية في أي بلد إنّما هي الانعكاس الحقيقي، والتمثيل العملي للوضع السياسي في ذلك البلد، إذ كلما كانت الحياة السياسية طبيعية ومستقرة كانت الحياة الاجتماعية مستقرة مزدهرة والناس في رَغَدٍ وهناء، وكلما اضطربت الحياة السياسية تَبِع ذلك اضطراب في الحياة الاجتماعية؛ فتسود الفوضى، ويَعم الظلم والجور والانحلال والفساد، إذ أنّ قوّة البلد سياسياً تستلزم قوّة المجتمع وترابط أفراده واستقرار نظامِهِ، وكلما كانت البلد ضعيفة سياسياً انعكس ذلك سلبياً على الحياة الاجتماعية في ذلك البلد.
وقد كان الوضع السياسي في القرن الثامن الهجري في مصر والشام وضعاً كثير الاضطراب والانقلاب؛ مما يعني ضعف المجتمع وضعف الحياة الاجتماعية في مصر والشام في تلك الفترة.
لقد كان المجتمع المملوكي في تلك الفترة مجتمعاً طبقياً تَميَّز بكَثْرَة طبقاته، إذ أنّ طبيعةَ حكم المماليك الأغراب عن تلك البلاد، وانعزالهم عن أهل البلاد وعن انخراطهم في سلكهم، أدى إلى ظهور طبقة مُتمَيّزة في المجتمع، تمتلكُ زِمامَ الحكم فيه وهي طبقة المماليك أصحاب السيادة والنفوذ (1).
بناءً على ذلك يمكن تقسيم المجتمع المملوكي في تلك الفترة إلى الطبقات الآتية (2):
الطبقة الأولى: أهلُ الدولة من السلاطين والمماليك، وهؤلاء كانوا يعيشون حياة الترف واللهو،
…
وكَثُرت الأموال في أيديهم، مما جعلهم طبقة مُتَميّزة منعزلة عن بقية الشعب (3).
الطبقة الثانية: أهلُ اليَسار من التجار وأولي النِّعمة من ذوي الرفاهة، وكان هؤلاء من المقرّبين إلى السلاطين، ذلك أنّ السلاطين كانوا قد أحسّوا أنّ هذه الطبقة هي المصدر الأساسي الذي يَمُدُّ الدولة بالمال لا سيّما في ساعات الحرج والشدة (4).
الطبقة الثالثة: المُعَمّمون، وهم أَرباب الوظائف الديوانية والفقهاء والعلماء والأدباء والكُتّاب، وهؤلاء كانوا موضعَ احترامٍ وتقدير من السلاطين؛ ذلك أنّ المماليك كانوا يَرغبون بالعلماء والفقهاء لأنّهم قوّةٌ لها وزنُها في اكتساب الرأي العام في البلاد، وبذلك يكون لهم دِعامة قوية يستندون إليها في حكمهم، ويستعينون بها على إرضاء عامّة الشعب (5).
الطبقة الرابعة: طبقة الصناع والعمال وأصحاب المهن والأُجَراء، وهم ما يطلق عليهم بالاصطلاح المعاصر بطبقة (العامّة)، وهؤلاء كالعادة كانوا يعيشون حياة البؤس والفقر بالنسبة لطبقة المماليك وغيرهم من المُنَعّمين؛ لذا كانوا كثيراً ما يلجئون إلى السلب والنهب والتسول للحصول على ما يسد رَمَقَهُم في أوقات الفتن والاضطرابات (6).
(1) عاشور، سعيد عبد الفتاح، المجتمع المصري، ص24، مصر في عصر دولة المماليك ص 175.
(2)
انظر: المقريزي، إغاثة الأمة بكشف الغمة ص98. عاشور، المجتمع المصري، ص11.
(3)
عاشور، المجتمع المصري، ص19.
(4)
عاشور، المجتمع المصري، ص34.
(5)
عاشور، المجتمع المصري، ص29.
(6)
عاشور، المجتمع المصري، ص38.
الطبقة الخامسة: الفلاحين وهم أهل الزراعات والحرث سكان القرى والريف (1) الذين يمثّلون السَّواد الأعظم من السكان، وهؤلاء لم يكن لهم نصيب في هذا العصر سوى الإهمال والاحتقار حتى أصبح لفظ فلاح في ذلك العصر مرادفاً للشخص المُستضعف المغلوب على أمره، وزاد من سوء حالهم كَثْرَة المغارم والمظالم التي حلّت بهم من الولاة والحكام (2).
الطبقة السادسة: ذوي الحاجة والمسكنة، وهم الذين يتكفَّفون الناس ويعيشون منهم، وهؤلاء كما يقول المقريزي:((فَنِي معظمهم جوعاً وبرداً ولم يَبقَ منهم إلا أقلَّ من القليل.)) (3)
هذه هي تركيبة المجتمع في ذلك العصر، والملاحظ عليها أنّ أكثَرَ هذه الطبقات كانت تعيش حياة البؤس والظلم والفقر، ولم يقف الحد عند ذلك فحسب، بل وجدتُ أنّ هذه الفترة التاريخية قد ابْتُلِيَت بالعديد من الأمراض والأوبئة الفتاكة، فيَذْكُر المُؤَرّخون أنّ الأَوبئة كانت تجتاح أكثَرَ المدن
…
والإمارات المملوكية، ولكنّ أخطر هذه الأوبئة والأمراض والتي أودت بحياة الآلاف من الناس
…
والحيوانات، ثلاثة أوبئة اجتاحت الأمّة في تلك الفترة وهي:-
01 وباء سنة 748هـ (4): اجتاح هذا الوباء والذي ابتدأ في أواخر سنة 748هـ بلاد المسلمين قاطبة بما فيها مصر والشام، بل إنّ المؤرخين يَذْكُرون أنّ هذا الوباء قد عم الأرض كلها، وكان يَحصُدُ الآلاف من النفوس، واستمر هذا الوباء نحو سنتين حتى عام 750هـ، وفَنِيَ فيه من الناس نحو ثلثيهم تقريباً (5).
02 وباء سنة 761هـ (6): وقع هذا الوباء سنة 761هـ، واستمر إلى أوائل سنة 762هـ، ومات فيه جماعة كثيرة من الأعيان، وقد سماه المؤرخون ((الوباء الوَسَطيّ))، لكونه وقع بين وباءين.
03 وباء سنة 769 هـ (7): وقع هذا الوباء في القاهرة والديار المصرية واستمر أربعة شهور، انحصر بعدها بعد أن خلف عددا كبيرا من الموتى.
(1) المقريزي، إغاثة الأمة، ص98.
(2)
عاشور، مصر في عصر المماليك، ص162.
(3)
المقريزي، إغاثة الأمة ص 102
(4)
انظر تفاصيل هذا الوباء في: ابن حبيب، تذكرة النبيه (3/ 110 – 113)، الحسيني، ذيل العبر (4/ 149). ابن كثير، البداية والنهاية، (14/ 650 – 654). المقريزي، السلوك (4/ 78 – 93)، ابن قاضي شهبة، تاريخ ابن قاضي شهبة (2/ 541 – 552). ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة (10/ 155 – 168)، وجميع كتب التاريخ التي أرخت لتلك الفترة تذكر هذا الوباء ويسميه المؤرخون " الفناء العظيم "؛ وذلك لكثرة ما أفنى من البشر والحيوانات والأسماك.
(5)
ابن حبيب، المرجع السابق، (3/ 111).
(6)
انظر عن هذا الوباء في: ابن كثير، البداية والنهاية، (14/ 704)، ابن قاضي شهبة، تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 164). ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، (10/ 243).
(7)
انظر تفاصيل هذا الوباء في: ابن حبيب، تذكرة النبيه (3/ 312)، المقريزي، السلوك (4/ 319)، ابن إياس، بدائع الزهور (1 قسم 2/ 65 – 66)، ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة (10/ 42).