الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمن ذلك قوله في الطبقات: ((هو مختصر جمعناه في الأصلين؛ جمع فأوعى. . . فيه زيادة على ما في مختصرات أصول الفقه. . . وهذا شأن كتابنا ((جمع الجوامع)) نفع الله به، غالب ظننا أنّ في كل مسألة فيه زيادات لا توجد مجموعة في غيره مع البلاغة في الاختصار)) (1).
وأما في ((منع الموانع)) فقد أشاد به في أكثر من موضع مبيناً في ذلك الجهد الذي استفرغه في هذا المتن فقال في ذلك: ((وكان مما دعوت له الجفلى (2)، ولم أُلْفِ غير ملبٍّ يبادر ويسارع، ورقيت به إلى سماء التحقيق فأنشد '' لنا قمراها والنجوم الطوالع'' وحشدت فيه فكري حتى فاض على الإناء، وناداه لسان الفكر ((جمع الجوامع)).
طويت فكري فيه على همةٍ سائراً في نشر العلم سيراً حثيثاً، وملأت داري منه بمُسوَّدات أرى قديمها لكثرة ما أعاوده حديثا، وشغلته أو شغلت نفسي فيه بما تنوع كلاماً وأصولاً وفقهاً وحديثاً،
…
وأيم الله لقد استوعب مني كثيراً من أوقات الفراغ، وأخذ من أقلامي وأفكاري ما كاد يستفرغ مدد المداد والدماغ ومُسمِع مِن كلمي وحِكَمي ما ليس عند ذوي البلاغ بلاغ.
فلو كان ذا لسان لادّعى أنّه نفيس عمري ونخبة فكري، والذي شمرت فيه عن ساق الجد، وقد عُدِمت في الديجور (3) أعواناً على سهري)) (4).
المطلب الأول: مناقشة الفكرة القائلة بأنّ ((جمع الجوامع)) من الكتب التي جمعت بين طريقتي الحنفية والمتكلمين:
لقد شاع بين أهل العلم، أنّ ((جمع الجوامع)) من المتون التي جمعت بين طريقتي الحنفية
…
والمتكلمين، وهي الطريقة التي سار عليها أكثر العلماء المتأخرين وبخاصة الحنفية منهم.
وقد بحثت عن مصدر هذه المقولة؛ فلم أهتد إلى أول من فاه بها وعلى ماذا اعتمد في ذلك؛ غير أنّه من المقرر لدي ما يأتي:
أولا: أنّ من ذكر هذه المقولة هم من العلماء المُحْدَثين والمعاصرين.
ثانيا: أنّ ابن خلدون - المؤرخ المشهور - الذي دوّن تاريخ أصول الفقه، لم يذكر ((جمع الجوامع)) ضمن الكتب التي جمعت بين الطريقتين، مع شهرة ((جمع الجوامع)) في ذلك الوقت وانتشاره بين الكثير من العلماء (5).
ثالثا: أنّي لم أجد أحداً من الذين ترجموا للتاج السبكي سواء من الذين عاصروه أو من بعدهم - اللهم إلا المعاصرين - قد ذكر أنّ ((جمع الجوامع)) من الكتب الجامعة بين الطريقتين.
وبناءً على ما سبق فإنّه يترجَّح لدي أنّ هذه المقولة إنّما هي من صنيع العلماء المُحدثين فقط؛ وممن صرّح منهم بذلك: الشيخ محمد الخضري بيك (6)، والشيخ عبد الوهاب خلاف (7)، والشيخ محمد أبو زهرة (8)، والدكتور زكي الدين شعبان (9) وغيرهم.
ولعل مبنى هذه الدعوى يعود إلى ما يأتي:-
(1) التاج السبكي، طبقات الشافعية (2/ 21) بتصرف.
(2)
دعاهم الجفلى أي دعاهم بجماعتهم وعامتهم. انظر: تهذيب القاموس المحيط، مادة جفل (1/ 432)
(3)
أي الظلام. انظر: الجوهري، الصحاح (2/ 319) مادة دجر
(4)
التاج السبكي، منع الموانع ص 84 - 85.
(5)
انظر ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون (2/ 818)
(6)
في كتابه أصول الفقه ص 11.
(7)
علم أصول الفقه ص 19.
(8)
أصول الفقه ص 21.
(9)
أصول الفقه الإسلامي ص 23.
أولاً: ما صرّح به التاج السبكي من أنّه قد جمع كتابه هذا من زُهاء مئة مصنف فظنوا من ذلك أنّه قد جمع فيها طريقة الحنفية.
ثانياً: أنّه قد ذكر بعض آراء الحنفية في عدد من مسائل هذا الكتاب.
ثالثاً: أنّه قد ذكر بعض الفروع الفقهية التي استدل بها على القاعدة الأصولية كما هو في طريقة الحنفية.
رابعاً: الترتيب الذي اتبعه التاج السبكي، والنسق الذي صنف عليه كتابه ظنوا أنّه ليس على طريقة المتكلمين ولا على طريقة الحنفية فهو إذاً جامع بينهما.
وعندي في ذلك كله وجهة نظر حاصلها ما يأتي:-
أولها: أنّ التاج السبكي قد صرّح نفسه أنّ كتابه هذا [أي ((جمع الجوامع))] قد أودع فيه زُبدة ما في شَرْحَيه على ((المنهاج)) و ((المختصر)) (1)، ومعلوم أنّ كلاً من ((المنهاج)) و ((المختصر)) من الكتب التي سار بها مصنفوها على طريقة المتكلمين وأنّ التاج السبكي قد اتبع في شرحه لهما الطريقة نفسها، مع ما امتاز به المتأخرون من الشرّاح – ومن بينهم التاج السبكي – من ذكر الفروع الفقهية المبنية على المسائل الأصولية، ومع ذلك فلا يصح القول بأنّها كتبٌ جامعةٌ.
ثانيها: أنّ المصادر المئة التي استمد التاج السبكي منها كتابه هذا، إنّما هي مصادره التي اعتمد عليها في شرحيه على ((المنهاج)) و ((المختصر)) بدليل قوله:((المحيط بزُبدة ما في شرحي على ((المختصر))
…
و ((المنهاج)).))
ثالثها: وأما إيراده لبعض آراء الحنفية وذكره لعدد من الفروع الفقهية؛ فأقول: أنّ ذكره لها قليل أولا، وثانيا: أنّ أمثال ((منهاج)) البيضاوي، و ((مختصر)) ابن الحاجب؛ وهما من كتب المتكلمين اتفاقا، قد ذكر فيهما مثل ذلك، فإن كان ذكر آراء الحنفية والفروع الفقهية ذريعة لاعتباره من الكتب الجامعة، فلمَ لم يقولوا عن ((المنهاج)) و ((المختصر)) نحو ذلك، بجامع ذكر الفروع الفقهية وآراء الحنفية.
وبالمقارنة بين ((جمع الجوامع)) و ((التوضيح)) لصدر الشريعة (2)، المتفق على كونه من الكتب الجامعة، تجد بوناً واسعاً جداً في هذا المجال.
فصدر الشريعة أولاً: لا تكاد تخلو مسألة إلا ويذكر فيها رأيَي الحنفية والشافعية، مع اعتباره مذهب الحنفية في ذلك، انظر على سبيل المثال الصفحات: 1/ 63، 66، 67، 114، 115) وهذا بخلاف التاج السبكي فهو لا يذكر آراء الحنفية في كل مسألة بل في المسائل المهمة التي للحنفية رأي مخالف له أثر فيها، وهي المسائل التي يذكرها المتكلمون غالبا.
(1) انظر: التاج السبكي، جمع الجوامع ص 124.
(2)
هو الإمام العلامة الأصولي الفقيه الحنفي صاحب شرح الوقاية عبيد الله بن مسعود بن تاج الدين محمود بن صدر الشريعة أحمد بن جمال الدين المشهور بصدر الشريعة، توفي سنة 747هـ، من مصنفاته: النقاية، المقدمات الأربعة. انظر ترجمته في اللكنوي، الفوائد البهية ص 183
وبالنسبة للفروع الفقهية فإنّ صدر الشريعة كان يكثر من ذكر هذه الفروع مستدلا بها على القاعدة الأصولية، بل لقد وجدته يسهب في شرح وبيان هذه الفروع مبيّناً ما فيها من اختلافات بين علماء مذهبه، وكيفية انطباقها على القاعدة الأصولية، بحيث يعدّ كتابه غزيراً بالمسائل الفقهية، وهذا أقرب إلى طريقة الحنفية، انظر على سبيل المثال الصفحات (181 - 253) فلا تكاد تخلو صفحة من بيان هذه الفروع.
رابعها: وأما بالنسبة لنسق كتابه: فأقول:
أولاً: إنّ التاج السبكي ملتزم بالإطار العام لنسق المتكلمين، وإنّما الخلاف فقط في ترتيب المسائل
…
وتقديم بعضها على بعض، وهذا يعود إلى نظر كل مؤلِّف الخاص وطريقته في التأليف وبحسب ما يراه مقدماً في الأهمية، وغيرها من الظروف التي تمليها حالة التأليف.
فالتاج السبكي مقارنة ((بمنهاج البيضاوي)) تجد أنّ كلاً منهما افتتح كتابه بعد تعريف أصول الفقه، بمباحث الحكم، ومن ثمّ مباحث الكتاب وما يتعلَّق بالألفاظ من الوضع والاشتقاق والحقيقة والمجاز. . .، وبعدها ذَكَر مباحث السنة وما فيها من أبحاث، ومن ثمّ الإجماع ومباحثه، فالقياس
…
والأدلة الأخرى منها ما هو مقبول ومنها ما هو مردود، إلا أنّ البيضاوي قد ذكر أولا الأدلة المقبولة في باب خاص، ومن ثمّ المردودة منها في باب آخر، بخلاف التاج السبكي، فقد ذكر كلا النوعين تحت باب الاستدلال، وبعدها ذكر باب التعادل والتراجيح وأخيراً الاجتهاد والتقليد.
والتاج السبكي قد التزم بذلك كله، وذكر أغلب مسائل ((المنهاج))، وخالفه فقط في ترتيب المسائل وتقديم بعضها على الآخر داخل الباب الواحد.
وأما أسلوبه فبالمقارنة بين أسلوب التاج السبكي وأسلوب المتكلمين؛ تجد أنّ التاج السبكي يتكلم بنفَسِ المتكلمين، وأستطيع القول أنّ أغلب عبارات التاج السبكي في ((جمع الجوامع)) هي: إما ذاتها عبارات البيضاوي وابن الحاجب، وإما أنّه قد غير فيها لفظة أو زاد عليها قيداً أو أنقص مثل ذلك (1).
وبعد: فإنّي أقول: إنّ هذه الدعوى لا تسلم من الانتقاد، ولا تخلو من الاعتراض؛ ومع ذلك فإنّي أزعم أنّ هذه القضية لا زالت بحاجة إلى دراسة خاصة ومستفيضة، تُدرس فيها معالم الطريقة الجامعة، وتُدرس مؤلفاتها كل مؤلف على حدة مع بيان منهجها في ذلك، ومن ثمّ يُدرس ((جمع الجوامع)) بناءً على ما توصلت إليه تلك الدراسة من نتائج؛ وبعدها تستطيع الحكم عليه؛ وحتى ظهور مثل تلك الدراسة؛ فإنّي أميل إلى القول: بأنّ ((جمع الجوامع)) إنّما هو متن من متون المتكلمين، ولا علاقة له لا بطريقة الحنفية، ولا بالطريقة الجامعة؛ والله أعلم بالصواب.
(1) قارن بين المسائل التالية في جمع الجوامع ونظائرها في المنهاج والمختصر: تأخير العبادة عن أول الوقت مع ظن الموت جمع (128) والمنهاج (22)، والأصح أن المباح ليس بجنس للواجب جمع (127)، المختصر (2/ 5 - 11)، ولا تكليف إلا بفعل جمع (130) والمختصر (2/ 54).