الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولم يقف الأمر عند الأمراض والأوبئة الفتاكة فحسب، بل فشت في أهل ذلك العصر العديد من الأمراض الاجتماعية والمتمثلة باشتداد الانحلال الخلقي الذي عم الكثير من طبقات ذلك المجتمع، وخاصة طبقة السلاطين، وأهل الدولة، فانتشر فيهم الزنا والبغاء وشرب الخمور والمخدرات التي كانت تفتك بالمجتمع ذلك العصر (1)
وكان السلاطين كلما دَاهمَ البلاد وَباءٌ لجؤوا إلى الله تعالى، وحاربوا تلك المنكرات، وأغلقوا بيوت الخواطيء وحانات الخمر (2)، حتى يفرج الله تعالى عنهم؛ فإذا رفع الله تعالى البلاء عادوا إلى ما كانوا عليه سابقا ً، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.
إلا أنّه وفي ظل هذا الوضع السيء لا بُدّ أن نُسَجّل بعض الملاحظات الهامّة عليه:
الأولى: الاهتمام بالعلم والعلماء، وانتشار العلم الذي أنتج العديد من العلماء الذين كان لهم دور بارز في ذلك العصر (3)، كما سيأتي بيانه في المبحث الثاني.
الثانية: انتشار التصوف بشكل كبير ملحوظ في ذلك العصر، حتى غدا التصوف سِمة بارزة للحياة في مصر والشام في ذلك الوقت (4).
هذه حال المجتمع في ذلك العصر، مجتمع غريب التكوين، يجمع بين طياته عدداً من المتناقضات؛ فهو مجتمع كَثُر فيه الانحلال الخلقي والاجتماعي، وبالمقابل كَثُر فيه العلم والعلماء، وانتشر فيه الزهد المتمثّل بالحركة الصوفية؛ مما أعطى له أهمية كبيرة في تاريخ العالم الإسلامي، ولولا وجود هذا الكم الهائل من العلماء وانتشار العلم مع التصوف لما كان لهذا العصر أيُّ مِيزة يُحمد عليها.
موقف الإمام تاج الدين السبكي من الوضع الاجتماعي في عصره:
ذَكَرتُ سابقا (5) أنّ الإمام تاج الدين السبكي لم يكن قَطُّ منعزلاً عن أمته؛ بل كان قريباً جداً منها، يتلمّسُ نواحيَ الضعف فيها، فيشخّصُ الداء، ويصفُ له أنجع دواء.
(1) انظر: ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة (9/ 39، 112)، الذهبي، العبر (4/ 56)، ابن شهبة، تاريخ ابن شهبة (2/ 204)، عاشور، المجتمع المصري ص 229 - 233
(2)
مثل ما فعله السلطان محمد بن قلاوون، حيث أبطل العديد من هذه المنكرات في فترة حكمه، وكذلك كان يفعل بقية السلاطين إبان الأزمات، انظر: ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة (9/ 39). السيوطي، حسن المحاضرة، (2/ 259).
(3)
انظر: سليم، عصر سلاطين المماليك، (3/ 16). عباس، تاريخ بلاد الشام ص161 - 162. عاشور، المجتمع المصري ص141.
قلت: وانظر للمزيد من المعلومات عن علماء ذلك العصر كتاب الحافظ ابن حجر العسقلاني المعنون بـ " الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة " فقد استوعب فيه ذكر علماء ذلك العصر فأجاد وأفاد.
(4)
عباس، تاريخ بلاد الشام ص148 - 149. عاشور، مصر في عصر سلاطين المماليك ص186.
(5)
صفحة 7 من هذه الرسالة
ومر معنا كيف وصلت الحال بالمجتمع الإسلامي في ذلك الوقت، ومن هنا فقد كان الإمام تاج الدين السبكي صاحبُ دعوةٍ إصلاحيةٍ للمجتمع، فهو لم يرضَ أبداً عن حال الأمّة في ذك الوقت، ذلك أنّ التاج السبكي وكما وصفه الأستاذ محمد صادق حسين: ((من أولئكم الرجال ذوي الشخصيات الضخمة والنفوس القوية والأخلاق المتينة، أولئكم الذين يَسمُون بأنفسهم فوق منافعهم الخاصة، ويأبون - وإن تهيأت لهم كل أسباب الراحة - أن يصبروا على فساد بيئة أو طغيان قوّة أو موت حق وقيام باطل، فلم يكن من أولئكم الأنذال أشباه الرجال الذين يرحّبون بالفساد يستغلّونه لمآربهم
…
ويُسَخّرونه لمنافعهم)) (1).
هكذا كان تاج الدين السبكي، ومن هنا جاء تأليفه لكتابٍ يُعدّ من أعظم ما أُلِّف في بابه ألا وهو كتابه ((معيد النعم ومبيد النقم)) (2)، هذا الكتاب الذي حاول فيه التاج السبكي الدعوة إلى إصلاح المجتمع الإسلامي من أعلى طبقة فيه ألا وهو السلطان إلى أدنى طبقاته المتمثّلة بالشحاذين، فقد بيّن التاج في هذا الكتاب ما يجب على كل أحد من أفراد الأمّة - حكاماً كانوا أو محكومين - أن يفعله، وما يجب عليه أن يَجتَنبه، وبيّن الكثير من نواحي الضعف في هذه الأمّة مبيّناً سببها، وواصفاً لها علاجاً ناجعاً يقوم على أساس شكر النعمة، وقيام كُلٍّ بما يجب عليه (3).
وبهذه التوجيهات التي ضمنها التاج السبكي كتابه ((معيد النعم)) يعدّ التاج مصلحاً اجتماعياً ومربياً فاضلاً قلّما تجد له نظيراً، وبذلك عدّه الأستاذ محمد الصادق مصلحاً لم تعرف مصر من أبنائها آخر من طرازه حتى ظهر الشيخ محمد عبده (4).
قلت: وليس الأمر مقتصراً على مصر وحدها، بل توجيهات تاج الدين السبكي ودعوته الإصلاحية شاملة كل أنحاء البلاد الإسلامية، وأكثَرُها ينطبق على حال أمتنا اليوم، فلو أنّ علماءنا اتّخذوا من توجيهات التاج السبكي التربوية منهاجاً وساروا عليها ودعوا الناس إليها لانقلب حالنا إلى أحسن حال، وأصبحنا أمّة قوية منيعة مهابة الجانب بدلاً من الضعف والذل والخنوع الذي نعيشه اليوم صباح مساء (5).
(1) محمد الصادق حسين، البيت السبكي ص 14
(2)
طبع هذا الكتاب عدة طبعات منها طبعة بتحقيق محمد علي النجار وآخرون، وإني لأنصح كل واحد أن يقتني هذا الكتاب ويقرأه جيدا فإن فيه الكثير من التوجيهات التربوية التي نحن في أمس الحاجة إليها
(3)
أنظر أمثلة على ذلك في المبحث التاسع مظاهر من شخصية التاج السبكي من هذه الرسالة
(4)
محمد حسين، البيت السبكي ص 13
(5)
قلت: قام الأستاذ عبد الرحمن النحلاوي بعمل دراسة عن المبادئ الإصلاحية عند التاج السبكي سماها ((الإصلاح التربوي والاجتماعي والسياسي من خلال المبادئ والاتجاهات التربوية عند التاج السبكي)) بين فيها قيمة هذه التوجيهات وأهميتها في عملية الإصلاح التربوي والاجتماعي، مبينا في الوقت ذاته قيمة التاج السبكي من حيث كونه مصلحا اجتماعيا وتربويا.