الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أهمية ((جمع الجوامع)) ومميزاته:
تكمن أهمية ((جمع الجوامع)) في النواحي الآتية:
1.
أنّه المتن الذي استَقَرَّت فيه أهم الآراء الأصولية حتى عصر التاج السبكي، وقد تدارك فيه التاج السبكي ما في مَتْني ((المنهاج)) و ((المختصر)) من نقص وخلل، وذلك لأنّه تولى شرحهما قبل هذا المتن.
2.
أنّه الكتاب الذي استَقَرَّت فيه آراء التاج السبكي الأصولية المُحَرَّرة، فهذا المتن يُوضِّح لنا فعلاً آراءه الأصولية بشكل واضح لا لُبْس فيه.
3.
أنّه قد دون فيه أراء والده - الشيخ تقي الدين - الأصولية والتي قد لا تجدها عند أحد سواه.
4.
أنّه قد جمع فيه إضافة إلى علم الأصول أهم مسائل الاعتقاد والتصوف، في بادرة حميدة لم يُسبق إليها.
5.
أنّه المتن الذي اعتمد عليه أكثر العلماء المتأخرين منذ ظهوره وحتى العصر الحاضر، لذا كثرت عليه الشروح والحواشي والتعليقات، كما أنّه كان مُقرّراً لطلاب الدراسات الشرعية في الأزهر حتى وقت ليس بالبعيد.
مميزات ((جمع الجوامع)):
1.
اختصار المسائل واختزال الأقوال: أهم ما يميز ((جمع الجوامع)) هو الاختصار الشديد للمسائل الأصولية المطروحة، فهو في هذا ((المختصر)) لم يُسهِب ولم يُطِل العبارات؛ بل كان يختزل كثيراً من المسائل والأقوال في مسألة واحدة بليغة العبارة دالّةٍ على المقصود بأقل الكلمات.
فمن ذلك قوله: ((والأصح أنّ المباح ليس بجنس للواجب، وأنّه غير مأمور به من حيث هو، والخُلْف لفظي، وأنّ الإباحة حكم شرعي وأنّ الواجب إذا نُسِخ بقي الجواز)) (1).
فها هنا ترى أنّ التاج السبكي قد دمج أربعة مسائل في مسألة واحدة بعبارات قليلة دالة على الغرض؛ بخلاف غيره كابن الحاجب الذي جعل كل واحدة منها مسألة مستقلة برأسها (2).
ومنها قوله في باب النسخ في مسألة ما يجوز أن يكون ناسخاً: ((وبالقياس، وثالثها: إن كان جليا، والرابع: إن كان في زمنه عليه الصلاة السلام والعلّة منصوصة)) (3).
ففي هذا المثال ترى أنّ التاج السبكي قد صرّح بذكر قولين وترك آخرين وهما جواز النسخ بالقياس القول الأول، والثاني: منع النسخ بالقياس.
2.
دقة العبارة وحسن السبك: مما يميز ((جمع الجوامع)) هو دِقَّةُ عباراته وحُسْنُ سَبكها، بحيث أنّه يفوق على عبارات غيره.
فمن ذلك: قوله في تعريف الصحابي أنّه: ((من اجتمع مؤمناً بمحمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يروِ ولم يُطل)) (4).
قال التاج السبكي في ((منع الموانع)) مبيناً دقة هذا التعريف: ((وإنّما غيرنا لفظ رأى الواقع في ((مختصر)) ابن الحاجب وغيره، لأنّك إن نصبت النبي صلى الله عليه وسلم في قولك: من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأظهر لم يطّرد لورود ابن أم مكتوم وأبيّ وغيرهما من عميان الصحابة؛ فإنّهم لم يروه، ولم ينعكس لأنّ من رآه في النوم فقد رآه حقاً وليس بصحابي، وإن رفعت لزم أن يكون من وقع بصر محمد صلى الله عليه وسلم صحابيا، وإن لم يقع بصره هو على محمد صلى الله عليه وسلم. . .)) (5).
(1) التاج السبكي، جمع الجوامع ص 127 - 128
(2)
انظر ابن الحاجب، مختصر المنتهى (1/ 5 - 11)
(3)
التاج السبكي، جمع الجوامع ص 154
(4)
التاج السبكي، جمع الجوامع ص 163
(5)
التاج السبكي، منع الموانع ص 194 - 195
3.
خلوّه من الخلاف الجدلي والمنطقي الذي اتبعه الكثير من الأصوليين وبخاصة ابن الحاجب
…
والبيضاوي: فالتاج السبكي أراد إخراج المسائل الأصلية في المنطق من كتابه هذا، وأبدله بعلم الكلام وأما المباحث الجدلية؛ فكان كتابه هذا شبه خال منها، ذلك لأنّه أراد وضع متن مختصر مشتمل على محض المهم من علمي الأصول، وأما التقرير والدفاع عن هذه المسائل فهو من وظيفة الشّراح لا من وظيفة الماتن.
بخلاف ابن الحاجب الذي افتتح كتابه أولا بمقدمة في علم المنطق، ومن ثمّ اتبع الطريقة الجدلية في أغلب مباحث كتابه، فهو يورد المسائل وما فيها من خلاف، مستدلاً على مختاره ودافعاً ما يَرِد على مختاره من نقوض وإيرادات.
إلا أنّ التاج السبكي قد ضَمَّن بعض المباحث الجدلية في مسالك العلل وقوادحها، ذلك لأنّ أكثر هذه المباحث - والقوادح خاصة - إنّما هي من علم الجدل وآداب البحث والمناظرة، كالنقض والمنع وغيرها.
4.
أنّه مشتمل على آراءٍ تَميَّز وتَفرَّد بها بحيث لا تجدها عند أحد غيره من السابقين له: ذكرنا سابقاً أنّ التاج السبكي قد أودع زُبدة آرائه واختياراته في هذا ((المختصر))، ومنها آراء كانت مثار الأصوليين فيما بعد بحيث انفرد بها التاج السبكي عن غيره، فمن ذلك قوله في تعريف الأصولي:((العارف بها [أي دلائل الفقه الإجمالية] وبطرق استفادتها ومستفيدها)) (1).
فهو بذلك جعل المعرفة بطرق الاستفادة جزءاً من مدلول الأصولي ولم يجعلها من مدلول الأصول، وهذا أمر لم يُسبَق إليه فهو من انفراداته (2).
واعلم أنّ هذا التعريف قد أثار الكثير من النقاش والجدل ما بين موافق له وناقد معترض عليه (3)، بل لقد وضعت مؤلفات خاصة على هذا التعريف، منها:
((الكلم الجوامع في بيان مسألة الأصولي بجمع الجوامع)) للجوهري إسماعيل بن غنيم (4)
و ((تقيدات على مسألة الأصولي)) لعبد الله بن حجازي الشرقاوي (5).
5.
الاهتمام ببيان الخلاف اللفظي: التاج السبكي – وكعادته – ينبّه القارئ إلى حقيقة الخلاف سواءً أكان معنوياً أو لفظياً، وهذه مِيزة قلّما تجدها عند غيره، فمن ذلك قوله:((والفرض والواجب مترادفان، خلافاً لأبي حنيفة وهو لفظي)) (6).
(1) التاج السبكي، جمع الجوامع ص 124
(2)
انظر: المحلي، شرح جمع الجوامع (1/ 54)
(3)
لقد تعرض لهذه المسألة كل من تصدى لجمع الجوامع فانظر منهم: المحلي، شرح جمع الجوامع (1/ 54)، الزركشي، تشنيف المسامع (1/ 128 - 130)، العطار، حاشية العطار (1/ 55)
(4)
هو العلامة اسماعيل بن غنيم الجوهري عالم مشارك في بعض العلوم له مصنفات كثيرة منها: بلوغ المرام في شرح ديباجة شرح القطر، وإعراب كلمة التوحيد، كان حيا ُ 1165هـ. انظر: كحالة، معجم المؤلفين (1/ 374)
(5)
هو العلامة شيخ الأزهر عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشرقاوي الأزهري الشافعي، توفي سنة 1227هـ، من مصنفاته التحفة البهية في طبقات الشافعية، وحاشية على التحرير وغيرها. انظر ترجمته في المراغي، الفتح المبين (3/ 139)
(6)
التاج السبكي، جمع الجوامع ص 125
هذه أهم الميزات التي امتاز بها ((جمع الجوامع))، ومع ذلك فقد وُجِّه إليه الكثير من النقد
…
والاعتراض عليه؛ قديماً وحديثاً، حتى في عصر المؤلف نفسه، حيث وُجِّهت إليه بعض الإيرادات مما دعاه إلى الإجابة عليها في مصنف خاص سماه ((منع الموانع عن جمع الجوامع))، حل فيه كثيراً من الإشكالات التي وُجِّهت إليه، وأزال الغموض عن كثير من العبارات التي خفي معناها على البعض، ومن هنا فإنّي أقول: إنّه لا بد من الاستعانة ((بمنع الموانع)) في قراءة وفهم ((جمع الجوامع)) إذ هو كالمكمّل والتتمّة له.
وأقول بالنسبة لما وُجِّه إلى ((جمع الجوامع)) من اعتراضات؛ أنّ التاج السبكي لم يجزم بنفي الخطأ والوهم عن كتابه هذا فهو يقول عنه: ((وقد دار على ألسنة الناس، وصار في كل محفل كمضغة تلوكها الأشداق، وتَتَردَّدُ تَرَدُّدَ الأنفاس، وطار بناؤه، وأنا أنادي ’’ما في وقوفك ساعة من باس‘‘، ولست أدعي أنّه جمع سلامة، ولا أُبَرِّيه كلما تَوجَّهت نحوه الملاءه، ولا أتعصَّبُ له، فبئست الخصلة إذا قُلتُ لكلّ من اعترضه في الملامة كَلا.
ولا أبيعهُ بشرط البراءة من كل عيب؛ بل أقول: يؤخذ من قوله ويترك، والله العليم بالغيب، ويُنظَر فيه مع تجويز اعتراض الشك له والريب)) (1).
وقد تصدّى غير واحد من العلماء للدفاع عن ((جمع الجوامع)) ورد الاعتراضات والإشكالات الواردة عليه، ومن أبرزهم في ذلك الإمام العلامة ابن قاسم العبادي (2)، الذي ألف كتاباً ضخماَ أسماه ((الآيات البينات على اندفاع أو فساد ما وَقفتُ عليه مما أُورِد على جمع الجوامع وشرحه للمحقق المحلي من اعتراضات)) (3).
وبيّن ابن قاسم الدافع لهذا المصنَّف قائلا: ((حملني عليه أنّي لما رأيت جمعاً من شيوخنا
…
وغيرهم قد ألِفوا التحامل عليهما [أي التاج السبكي والجلال المحلي]، وإضافة ما لا يليق ببعض الطلاب إليهما، وأوردوا أنواع الاعتراضات، وبالغوا بصنوف التشنيعات مما هو في الأغلب كسرابٍ بقيعة يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً)) (4)
هذا وقد وضّح ابن قاسم أنّ المعترضين على ((جمع الجوامع)) وشرحه للمحلي لا يَخرُج الدافع لهم عن ثلاثة أسباب هي (5):-
الأول: ما يرجع حاصله إلى مجرد المناقشات اللفظية التي اشتُهِر أنّها ليست من دأب المحصلين.
ثانيها: ما لا منشأ له إلا الأغلاط الفاحشة والأوهام الساقطة.
(1) التاج السبكي، منع الموانع ص 85 - 87
(2)
هو الإمام العلامة الحبر الفهامة صاحب الحواشي المشهورة شهاب الدين احمد بن قاسم العبادي القاهري المصري، أوحد زمانه وفاق جميع أقرانه وساد عليهم، توفي سنة 994هـ، من مصنفاته: حاشية على شرح الورقات، وحاشية على مختصر في المعاني والبيان. انظر ترجمته في: ابن العماد، شذرات الذهب (8/ 550)
(3)
والكتاب مطبوع في أربعة مجلدات ضخام
(4)
ابن قاسم، الآيات البينات (1/ 5)
(5)
المصدر السابق (1/ 6)