الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويؤيده أيضاً: ما جاء في رد الصفدي على رسالة التاج حيث قال: ((ولو لم يكن مولانا في هذا الكمال ما حُسِدَ على ما حازه من غنائم المعالي، ولا ودّتْ النفوس الظالمة أن تَسلُبه ما وهبه الله، وهو أبهى وأبهر من عقود اللآلي، ولا تمالئوا على اهتضام قدره، وكم هذا التمادي في التمالي
…
فالحمد لله على النُّصرة
…
وما يُغلَق باب إلا ويُفتَح دونه من الخيرات أبواب، وعلى كل حال: أبو نَصْرٍ أبو نَصْر، وعبدُ الوهاب عبدُ الوهاب)) (1)
قلت: هذه أهم الأسباب التي ذُكِرت وقيلت حول هذه المحنة، وأرى أنّ الجمع بين هذه الأسباب أمر ممكن، وتكون كلها مجتمعة سبباً لهذه المحنة، بعضها بالمباشرة والأخرى بالتسبب، فأقول: إنّ هناك أسباباً حقيقية لهذه المحنة وأخرى مباشرة، فالسبب الحقيقي لها إنّما هو الحقد والحسد الذي كان بسبب المكانة العلية والمناصب الرفيعة للتاج السبكي، وأما الحقد فبسبب ما انتقده التاج السبكي من أحوال عصره مما يَمَسُّ الساسة والحكام وأصحاب النفوذ، إضافة إلى شدة التعصب المذهبي الذي كان يموج في ذلك العصر الذي دفع بهؤلاء المتعصبين إلى البحث عن قضايا وأسباب يجعلونها طريقاً للوصول إلى أهدافهم والإيقاع بالتاج السبكي، فوجدوا في قضية الوصولات دافعاً لهم لاتهامه والطعن في أمانته، مما دفع إلى عقد المجالس له، والتي أدت إلى مقولته ((فبطل دين الإسلام)) التي حكم بها عليه بالكفر والفسق ومن ثم بالسجن والله أعلم.
المبحث السابع
عقيدته وتصوفه
لقد كان الإمام تاج الدين السبكي يدين الله تعالى بعقيدة أهل السنة والجماعة وعلى طريقة إمام أهل السنة أبي الحسن علي بن إسماعيل بن بشر الأشعري البصري (260هـ ـ 324هـ)(2)
وعقيدة الشيخ أبي الحسن هي العقيدة التي تلقتها الأمّة سلفاً وخلفاً بالقبول وارتضوها لهم معتقداً، وفي ذلك يقول التاج السبكي:((وهؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة، ولله الحمد في العقائد يد واحدة، كلهم على رأي أهل السنة والجماعة، يدينون الله تعالى بطريق الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله، لا يَحيد عنها إلا رِعاع من الحنفية والشافعية لحقوا بأهل الاعتزال، ورِعاع من الحنابلة لحقوا بأهل التجسيم، وبَرّأ الله المالكية فلم نَرَ مالكياً إلا أشعرياً عقيدة، وبالجملة عقيدة الأشعري هي ما تضمنته عقيدة أبي جعفر الطحاوي، التي تلقاها علماء المذاهب بالقبول ورضوها عقيدة)) (3).
وعقيدة الأشاعرة قائمة على أساس التنزيه لله تعالى عن مشابهة الحوادث، والإيمان بكل ما وصف الله تعالى به نفسه من صفات الكمال، ونفي كل ما نفاه عن ذاته العلية من صفات الحوادث والنقص، فالأشاعرة يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، ولهم موقف وسط في معمعة متشابه الصفات قائم على أمرين:
(1) نقل ذلك التاج السبكي في طبقات الشافعية (10/ 32)
(2)
انظر ترجمة الإمام الأشعري وأخباره في كتاب الحافظ ابن عساكر تبيين كذب المفتري في ما نسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري، فقد جمع فيه ترجمة حافلة وافية لهذا الإمام العظيم تستحق القراءة، وانظر التاج السبكي، طبقات الشافعية (3/ 347 - 445)
(3)
التاج السبكي، معيد النعم ص 75
أولاهما: أنّه لا يُتَكلّم في معناها؛ بل يقولون يجب علينا أن نُؤمنَ بها، ونَعتقدَ لها معنىً يَليقُ بجلال الله تعالى وعظمته، مع اعتقادنا الجازم أنّ الله تعالى ليس كمثله شيء، وأنّه منزّه عن التجسيم والانتقال والتحيّز في جهة وعن سائر صفات المخلوق، وهذا هو قول أئمة السلف، وأكثر المتقدمين.
ثانيهما: أنّها تُأول على ما يليق بها على حسب مواقعها، بما ويتفق مع مقتضى لغة العرب وينسجم مع سياقها في النص، وهو مذهب أكثر المتكلمين ومعظم المتاخرين (1).
وقد نظم هذين المذهبين الشيخ إبراهيم اللقاني (2) في ((جوهرة التوحيد)) وهي من أشهر المتون المعتمدة لدى الأشاعرة فقال:
وكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبيها
…
أَوِّلْهُ أو فَوِّضْ ورُمْ تَنْزِيها (3)
ويرى الإمام تاج الدين السبكي: أنّ أبا الحسن الأشعري لم يُنْشئ مذهباً ولم يبتدع رأياً، وإنّما هو مقرر لمذاهب السلف مناضل عما كانت عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّ الانتساب إلى الأشعري إنّما هو باعتبار أنّه عقد على طريق السلف نطاقاً وتمسك به، وأقام الحجج والبراهين عليه؛ فصار المقتدى به في ذلك السالك سبيله في الدلائل يسمى أشعرياً (4).
وعلى ذلك فلا يمكن أن يعد الأشاعرة ضمن المبتدعة، ولا يجوز ذمهم ولا الطعن عليهم، بل الابتداع كل الابتداع في مخالفة نهجهم وطريقتهم، يقول التاج السبكي مؤكداً على ذلك:((وهذه المذاهب الأربعة ولله الحمد في العقائد يد واحدة إلا من لحق منها بأهل الاعتزال أو التجسيم، وإلا فجمهورها على الحق، يُقِرّون عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها العلماء سلفاً وخلفاً بالقبول، ويدينون الله برأي شيخ السنة أبي الحسن الأشعري، الذي لم يعارضه إلا مبتدع)) (5).
والإمام تاج الدين السبكي، يصرّح في أكثر من موضع في كتاباته بانتسابه إلى الأشعري عقيدة، وهو كثير الإجلال والتعظيم له، فمن الأدلة على ذلك قوله في حق الشيخ أبي الحسن في ترجمة حافلة له خَرّجَها التاج في الطبقات الكبرى: ((شيخنا وقدوتنا إلى الله تعالى،
…
شيخ طريقة أهل السنة والجماعة، إمام المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين والذاب عن الدين، والساعي في حفظ عقائد المسلمين، سعياً يَبْقى أَثَرهُ إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين)) (6).
كما أنّه عقد فصلاً خاصاً في بداية كتابه الطبقات، بيّن فيه مسائل الإيمان والإسلام، وهل يزيد الإيمان وينقص أم لا، مقرراً في ذلك كله معتقد الأشاعرة (7).
(1) انظر النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم (3/ 21)، اللقاني، شرح جوهرة التوحيد ص 99
(2)
هو الشيخ أبو الأمداد برهان الدين إبراهيم بن حسن اللقاني المصري، أحد الأعلام وأئمة الإسلام المشار إليهم بسعة الإطلاع وطول الباع في علم الحديث والتوحيد، توفي سنة 1041هـ، من مصنفاته: ثلاثة شروح على جوهرة التوحيد، نصيحة الإخوان في شرب الدخان، انظر: مخلوف، شجرة النور الزكية ص 291
(3)
اللقاني، جوهرة التوحيد ص 6
(4)
انظر التاج السبكي، طبقات الشافعية (3/ 365)
(5)
التاج السبكي، معيد النعم ص 22
(6)
التاج السبكي، طبقات الشافعية (3/ 347)
(7)
انظر المصدر السابق (1/ 42 - 151)