الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما موقفه مما يَصدُرُ عن الصوفية من ألفاظٍ مُوهمٌ ظاهرها الخروج عن رِبْقَةِ التوحيد فهو موقف معتدل وسط، فهو يرى أنّه ينبغي النظر أولاً إلى لزوم الشخص لأوامر الله تعالى، فإن كان كذلك وجب حسن الظن به ويقول: ((وتلك الأمور قَلَّ أن يفهما من يَعِيبُها، والواجب تسليم أحوال القوم
…
إليهم، وإنا لا نؤاخذ أحداً إلا بجريمة ظاهرة ومتى أمكننا تأويل كلامهم وحمله على محمل حسن لا نعدل من ذلك لا سيّما من عرفناه منهم بالخير ولزوم الطريقة، ثم إن بَدَرتْ لفظة من غلطة أو سقطة فإنّها عندنا لا تهدم ما مضى)) (1).
واعلم أنّ التصوف الذي يتحدث عنه التاج السبكي، هو التصوف الصافي النقي على طريقة إمام الطائفة الجنيد (2) رحمه الله تعالى، وأبو القاسم القشيري (3)، وليس كل من تزيّى بزي الصوفية ونسب نفسه إليهم ممن يسيئون إلى التصوف وأهله الذين يقول فيهم التاج:((اعلم أنّهم [أي الصوفية] قد تشبه بهم أقوام ليسوا منهم، فأوجب تشبه أولاء بهم سوء الظن، ولعل ذلك من الله تعالى قصداً لخفاء هذه الطائفة التي تؤثر الخمول على الظهور)) (4).
المبحث الثامن
مظاهر من شخصيته
إنّ من يطالع مصنفات التاج السبكي يرى واضحاً بروز شخصيته المميَّزة، ويستطيع أن يدركَ بعض الجوانب المهمة في شخصية هذا الرجل الفذ، وها أنا اذكر لك بعض هذه الجوانب ومنها:
1 - قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
إنّ وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أَولى أولويات العلماء العاملين المخلصين، فالعالم الحق لا يسكت على منكر يراه بل تراه يُجنِّد كل طاقاته لمحاربته والكف عنه، ولا يخشى في ذلك لومة لائم.
والإمام تاج الدين السبكي طرازٌ فريدٌ من نوعِهِ غير قابل لأن تلينه المؤثرات، وقد كان رحمه الله تعالى سَليطَ اللّسان والبنان في محاربة المنكرات أيا كان نوعها وأيا كان فاعلها، فهو دائماً ما يصحّح ويشدّد النكير إما على عامّي فاسق، أو حاكم مارق، أو عالمٍ أو قاضٍ أو مُفتٍ أو صوفي جاهل.
(1) المصدر السابق
(2)
هو الإمام العلامة أبو القاسم النهاوندي الأصل، البغدادي القواريري، الخزاز، سيد الطائفة، مقدم الجماعة وإمام أهل الخرقة، وشيخ طريقة التصوف وعلم الأولياء في زمانه، اخذ الفقه على أبي ثور، وكان يفتي بحلقته وله من العمر عشرون سنة، توفي رحمه الله سنة 298هـ أنظر ترجمته في التاج السبكي، طبقات الشافعية (2/ 260)
(3)
هو الإمام الشيخ العارف أبو القاسم زين الدين عبد الكريم بن هوازن عبد الملك بن طلحة النيسابوري القشيري صاحب الرسالة التي سارت مغربا ومشرقا، أحد أئمة المسلمين علما وعملا، وأركان الملة فعلا وقولا إمام الأئمة، توفي سنة 465هـ، أنظر ترجمته في التاج السبكي، طبقات الشافعية (5/ 153)
(4)
التاج السبكي، معيد النعم ص 123
فمن ذلك نقده لحكام زمانه الذين يكثرون من بناء الجوامع بلا حاجة لها، مع العلم بأنّ تعدّد الجمعة فيها غير جائز عند أكثر العلماء فيقول التاج في حق هؤلاء: ((ولقد رأينا منهم من يَعمُرُ الجوامع ظانّاً أنّ ذلك من أعظم القرب
…
فينبغي أن يُفهّمَ هذا الملك أنّ إقامة جمعتين في بلد لا تجوز عند الشافعي وأكثر العلماء؛ فإن قال: قد جوزها قوم منهم قلنا له: إذا فعلت ما هو واجب عليك عند الكل فذاك الوقت إفعل الجائز عند البعض، وأما أنّك ترتكب ما نهى الله عنه وتترك ما أمر به، ثم تريد أن تَعمُرَ الجوامع بأموال الرعايا ليقال: هذا جامع فلان، فلا والله لن يتقبله الله أبداً، وإنّ الله سبحانه طيّب لا يَقبلُ إلا طيباً)) (1).
ويقول في موضع آخر منتقداً أحكام الولاة: ((وبعض من طبع الله على قلبه من الولاة يأمر الرجلَ أن يُجّرد، فإذا شرع الجلاد في ضربه قام الوالي للصلاة وأطال ـ سمعت ذلك عن بعض ولاة القاهرة ـ فيستمرُّ المضروب تحت العصي والمقارع ما دام الوالي في الصلاة فقبحه الله، آلله أمره بهذا، وأي صلاة هذه؟!)) (2).
ويقول عن عوائد نظّار الجيش القبيحة: ((أنّهم يقولون هذا شرع الديوان، والديوان لا شرع له، بل الشرع لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا الكلام يُنهي إلى الكفر، وإن لم تنشرح النفس لتكفير قائله، فلا أقلَّ من ضربه بالسياط؛ ليكفَّ لسانه عن هذا التعظيم الذي هو في غنىً عنه)) (3).
وبعد أن ذكر جملةً من القبائح والمنكرات التي ينغمس فيها أصحاب الساسة والأمراء قال:
…
((ولكنهم احجتروا (4) وفعلوا هذه القبائح، وطلبوا من الله تعالى أن ينصرَهم، ومنا أن ندعوَ لهم، ولو أنّهم اتقوا الله حقّ تقاته، لما افتقروا إلى دعائنا)) (5).
هذا وقد استرسل الإمام تاج الدين السبكي في بيان قبائح الولاة والحكام، وبيّن ما يجب عليهم أن يفعلوه، ومن ثم تناول جميع فئات الشعب، مبيّناً لكل فئة ما يجب عليها فعله وما ينبغي عليها الكفَّ عنه، بأسلوب سهل مبسط مقبول، فهو يشدد حيث تعيَّنَ التشديد وبخاصة عند توجيه النقد للحكام والولاة، ويمارس الرفق واللين عند مخاطبته العامّة والدهماء من الناس (6).
(1) التاج السبكي، معيد النعم ص 20
(2)
المصدر السابق ص 45
(3)
التاج السبكي، معيد النعم ص 34
(4)
أي التجئوا واستعاذوا، طاهر الزاوي، ترتيب القاموس المحيط (1/ 510) مادة حجر
(5)
انظر التاج السبكي، معيد النعم ص 50
(6)
قلت وحري علماء زماننا أن يسلكوا سنن التاج السبكي رحمه الله تعالى وأن لا يداهنوا في دين الله أحدا وأن لا يزينوا لحكامهم الباطل في زينة شرعية، فكم عانت الأمة من جراء مجاملتهم لحكامهم، فالله تعالى وحده حسيبهم، وانظر للمزيد من هذه المواقف في مؤلف التاج السبكي العظيم القدر الكثير النفع معيد النعم ومبيد النقم.