المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قال: «فمَنْ»؟ ! (1) ولأمر آخر: الهزيمة النفسية عند المسلمين؛ فإن - منهج الدميري في كتابه حياة الحيوان

[إبراهيم بن عبد الله المديهش]

فهرس الكتاب

- ‌أما قبل

- ‌ثقافةُ كُلِّ أمَّةٍ مُستمَدَّةٌ من دِينَها»

- ‌«اختراع الخُراع

- ‌«التقليد والتبعية

- ‌ نهاية المقدمة

- ‌1) حياته الشخصية:

- ‌اسمه:

- ‌أسرته:

- ‌وفاته:

- ‌2) حياته العلمية:

- ‌أبرز شيوخه:

- ‌أبرز تلاميذه:

- ‌مكانته العلمية، وثناءُ الأئمة عليه:

- ‌مؤلفاته:

- ‌عقيدته:

- ‌مذهبه الفقهي:

- ‌ التعريف بالكتاب:

- ‌اسم الكتاب:

- ‌سبب التأليف:

- ‌مضمون الكتاب:

- ‌ثناء العلماء على الكتاب:

- ‌عدد المفردات التي تكلَّم عنها في الكتاب:

- ‌عدد مصادره:

- ‌ترتيبه:

- ‌من المخالفات النادرة في الترتيب:

- ‌التعريف بالحيوان:

- ‌الآيات القرآنية

- ‌الأحاديث المرفوعة والموقوفة

- ‌المسائل الحديثية في الكتاب

- ‌ طريقة إيراده للحديث

- ‌ طريقة تخريجه للحديث

- ‌من الملاحظات على المؤلف في تخريجه:

- ‌من أوهامه في التخريج:

- ‌ذكره الأخبار والقصص:

- ‌الشعر

- ‌الاستطرادات

- ‌العناوين الجانبية

- ‌الخواص الطبية

- ‌الصوفية أكبر من روَّج للسِّحْرِ والدَّجَل

- ‌تأويل الرؤى

- ‌ الوزغ في الرؤيا: رجلٌ معتزلي، يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف

- ‌نموذج من الكتاب:

- ‌الكتاب بحاجة إلى إعادة تحقيق

- ‌ الدراسات حول الكتاب

- ‌الخاتمة، والتوصيات

- ‌خلاصة الرأي في الكتاب:

الفصل: قال: «فمَنْ»؟ ! (1) ولأمر آخر: الهزيمة النفسية عند المسلمين؛ فإن

قال: «فمَنْ» ؟ ! (1)

ولأمر آخر: الهزيمة النفسية عند المسلمين؛ فإن لها أثراً في شتى المجالات: العلمية والعملية، والمغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب. (2)

قال العلامة: محمود شاكر رحمه الله: (ومن بلاء الأمم الضعيفة بنفسها أن انبعاثها إلى التقليد ـ تقليد القوي ـ أشد من انبعاثها لتجديد تاريخها بأسباب القوة التي تدفع في أعصابها عنفوان الحياة؛ والضعف يجعل محاكاة القوي أصلاً في كل أعماله

). (3)

قال الأديب: إبراهيم المويلحي رحمه الله (ت 1324 هـ): (ومن

(1) متفق عليه، أخرجه: البخاري في «صحيحه» ، حديث رقم (3456) ، و (7320)، ومسلم في «صحيحه» ـ واللفظ له ـ، حديث رقم (2669).

وانظر: ‌

‌«التقليد والتبعية

وأثرهما في كيان الأمة الإسلامية» أ. د. ناصر العقل

(مهم) ، «التقليد في باب العقائد وأحكامه» د. ناصر الجديع (ص 192 ـ 197)، و

«التشبه المنهي عنه في الفقه الإسلامي» د. جميل اللويحق (ص 81 ـ 170)،

(2)

ينظر: «مقدمة ابن خلدون» (2/ 510)، «اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية

(1/ 80)، «رسائل الإصلاح» للخضر حسين (1/ 148)، «الهزيمة النفسية عند المسلمين» د. عبدالله الخاطر رحمه الله.

(3)

«جمهرة مقالاته» (1/ 65 ـ 66)، وانظر:«من وحي القلم» للرافعي (2/ 41).

ص: 41

عجيب ما ورد في التقليد الأعمى أننا لا ننتبه إلى محاسن صنائعنا وجميل استعمالها إلا بعد أن يأخذها الأجنبي عنا، فيدعونا تقليده إياه إلى الرجوع إليها، فصرنا لانهتدي إلى ما عندنا إلا بعد أن ينتقل إلى الغربي؛ لنكون وراءه حتى فيما يعترف بتقدمنا عليه فيه

). (1)

قال العلامة علي الطنطاوي رحمه الله عن تاريخنا: (إنه أخصب تاريخ في الدنيا، وأحفله بالعظماء، ولكن عيبنا أننا لا نعرف تاريخنا، ولا نقدر عظماءنا؛ ونتسابق إلى اقتناء الزجاج من عند غيرنا، ونزهد بالألماس الذي تفيض به خزائننا.

فيا أيها الشباب، لايخدعكم زجاج غيركم، عن حُرِّ جواهركم). (2)

وأما مغالاة الغربي بانحطاط الشرقي فكما قال الزيات في عبارة بليغة موجزة: (فكيف يُرجى من هؤلاء وأولئك الإقرار بفضل العرب على الثقافة، والاعتراف بجميلهم على الحضارة، وفي النفوس من غلبة الفاتح وتر، ومن عظمة الحاكم حقد، ومن دين المجاهد إحنة، ومن سلطان الدخيل نفور). (3)

(1)«الشرق والغرب» (ص 66)، وانظر:«من وحي القلم» للرافعي (2/ 41).

(2)

«ذكريات الطنطاوي» (2/ 216).

(3)

«في أصول الأدب» للزيات (ص 82).

ص: 42

ومع تميز التراث الإسلامي، وتأثيره في الحضارات الأخرى؛ ومع تعالي وغرور الإفرنجيين (1) وإنكارهم التأثر والاستفادة وقيام حضارتهم ـ سابقاً ـ من حضارة المسلمين؛ نجد عدداً من الإفرنج المنصفين أدركوا هذه الحقيقة، واعترفوا بها، قال العلامة عبدالسلام هارون رحمه الله:

«فاعترف العلماء الأوربيون بقيمة التراث العربي، واستولت عليهم الدهشة إزاء ظهورهم على ما صنع أسلافنا في مختلف زوايا العلم والمعرفة، فالتراث العربي غني في الكيفية، وغني في الكمية، ولا تزال آثار هؤلاء الأسلاف في التشريع، والعلوم الفلسفية، والرياضية، والفنية، وغيرها معدودةً في قمة الإنتاج الفكري العالمي، ولا تزال النظريات الفلسفية (2) والاجتماعية لعلماء العرب وفلاسفتهم أصلاً وجذراً من جذور علم الاجتماع والفلسفة المعاصرة» . (3)

«لقد اضطلع الأدب العربي بتغيير ذوق الأوربيين في فترة العصر

(1) انظر: «أباطيل وأسمار» لمحمود شاكر (ص 229 ـ 230).

(2)

فائدة: انظر تجربة الطنطاوي في دراسة الفلسفة: «ذكرياته» (1/ 341).

(3)

«قطوف أدبية» لعبدالسلام هارون (ص 29)، وانظر:«علوم العرب والمسلمين وأثرها في حضارة الغرب» لعبدالكريم نصر (ص 346 ـ 355)، وما سبق في (ص 40) من هذا البحث.

ص: 43

الوسيط، كما اضطلعت العلوم العربية بتغيير عقليتهم، ويتفق مؤرخو الأدب الأوربي عامة على التأثير الحاكم الذي أحدثه الأدب الأندلسي في تطور القصة الأوربية في العصر الوسيط؛ فلم يعرف الغرب الأوربي من فنون الآداب قبل احتكاكه بالعرب إلا القصص الخرافية، والملاحم الحماسية

». (1)

قال البشير الإبراهيمي الجزائري (ت 1385 هـ) رحمه الله: (إن كثيراً من العلوم التي بنيت عليها الحضارة الغربية لم تصلها إلا عن طريق اللغة العربية بإجماع الباحثين منا ومنهم، وإن المنصفين منهم ليعترفون للغة العربية بهذا الفضل على العلم والمدنية، ويوفونها حقَّها من التمجيد والاحترام، ويعترفون لعلماء الإسلام بأنهم أساتذتهم في هذه العلوم، عنهم أخذوها، وعن لغتهم ترجموها، وإنهم ليحمدون للدهر أن هيأ لهم مجاورة المسلمين بالأندلس، وصقلية، وشمال أفريقيا، وثغور الشام؛ حتى أخذوا

(1)«حركة الترجمة من اللغات الشرقية إلى اللغة اللاتينية» د. إيمان سقيو (ص 297)، وقد أحالت إلى:«المدنية الإسلامية» لسعيد عاشور (ص 77)، و «أثر الأدب الأوربي على القصة الفرنسية في العصر الوسيط» للشوباشي (ص 70)، و «بحوث في تاريخ وحضارة الإسلام» للسيد عبدالعزيز (ص 309).

ص: 44

عنهم ما أخذوا، واقتبسوا عنهم ما اقتبسوا، ولا زال هؤلاء المنصفون يذكرون فضل معاهد الأندلس العربية، ومعاهد شمال أفريقيا، ومعاهد الشام على الحضارة القائمة، ولا يزالون ينتهجون بعض المناهج الدراسية الأندلسية في معاهدهم إلى الآن، ولايزالون يردون كل شئ إلى أصله، ويعترفون لكل فاضل بفضله). (1)

وقال رحمه الله: (وقد كان احتكار المدنية لأمم خاصة تقليداً شائعاً متعاصياً عن التمحيص والنقد، ومن هذا الباب احتكار الغربيين للمدنية القائمة اليوم، وما هي في الحقيقة إلا عصارات الحضارات القديمة التي ورثها الغربيون عمن تقدمهم، وقاموا عليها بالتزيين والتحسين والتلوين، وطبعوها بالطوابع التي اقتضاها الوقت، وانتحلوها لأنفسهم أصلاً وفرعاً، ولا تزال التنقيبات عن مخلفات الحضارات القديمة تكشف كل يوم عن جديد يفضح هؤلاء المحتكرين، ويقلل من غرورهم). (2)

(1)«آثاره» (1/ 377). وانظر: «تقرير عن شؤون التعليم والقضاء» لأحمد شاكر

(ص 41 ـ 42).

(2)

«آثاره» (1/ 374).

ص: 45

هذا، وقد أشار الدكتور: محمد محمد حسين رحمه الله قبل أكثر من ستين سنة إلى أن الانكباب المشاهد مظهر من مظاهر الاستيلاء الغربي على الثقافة وتغلغلها في صفوف المسلمين؛ ليحدث التغيير من الداخل في قولبة الإسلام وفق الأهداف والرغبات الغربية. (1)

وأسوأ ما يدعيه أولئك المثقفون المستغربون: التجديد في الثقافة! وليتهم عرفوا الثقافة؛ ليجددوها، مع أن تجديدهم يقوم على أمرين:(هدم «القديم»، وبناء ما يتوهمونه من «الجديد» (2) وهم ماضون في الهدم، لايرضيهم إلا أن يأتوا على بنياننا من القواعد بما يتضمنه من دين، وتقاليد، وفنون، وآداب؛ ولكنهم سوف يعجزون عن البناء، سيهدمون مجتمعنا ثم يتركونه وسط أنقاض نظامه القديم فوضى، لاسكن فيه ولا قرار.

وبوادر هذه الفوضى وأعراضها ظاهرة لكل ذي عينين؛ ذلك لأن المجتمعات لاتُبنى في يوم وليلة، ولكنها تبنى في مئات السنين، ولاتبنى في صحفٍ منشَّرة أو قاعات مغلَّقة، ولكنها عملية معقَّدة أشد التعقيد،

(1)«الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» د. محمد محمد حسين (2/ 207، 209).

(2)

وانظر: «مقالات الطناحي» (2/ 689)، و «تحت راية القرآن» للرافعي.

ص: 46

تتفاعل فيها قوى المجتمع كله، ويستمر هذا التفاعل أجيالاً تتمخض عن هذه القواعد وهذه الأشكال، بما تتضمنه من التقاليد، والقوانين، وأساليب الذوق والتفكير). (1)

وقد حذَّر البشير الإبراهيمي رحمه الله من ظاهرة التجديد في الأدب لأجل التجديد، وإنما العناية بالحقائق

وذكر أنَّ من الأهداف الخفية للاستعمار: إفساد الأدب وتمييعه، وتحطيم خصائصه، وهدم قواعده. (2)

ومن الفروق بين ثقافة المسلمين والثقافات الأخرى أن التراث الإسلامي امتاز بالحفظ والضبط والإتقان، قال الرافعي: (تاريخ العرب امتاز بسعة مادة المحفوظ وتنوعها، وبالأسباب الدينية التي بعثتهم على الحفظ، مما أومأنا إليه في محله.

(1)«حصوننا مهددة من الداخل» د. محمد محمد حسين ـ ط. الأولى سنة 1387 هـ (ص 101)، وانظر كلاماً رائعاً لمحمود شاكر في كتابيه:«رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» (ص 154 ـ 159)، و «المتنبي» (22 ـ 23). ولناصر الدين الأسد في بحثه:«التراث والمجتمع الجديد» ، وقد نشره في كتابه «تحقيقات في اللغة والأدب» (ص 187، 190).

(2)

ينظر: «آثار الإبراهيمي» (5/ 213).

ص: 47

ومن القواعد المطردة التي تبيناها من البحث في التاريخ العربي: أن كل شئ للعرب إذا تعلق به سبب من الدين جاءوا فيه بالمعجزات التي يبزون فيها الأمم كافة، ويجعلونها من أنفسهم طبقة التاريخ وحدها، ولم نر هذه القاعدة تخلفت في أمر من أمورهم، وهي بعض ما خص به هذا الدين الحنيف الذي وجد العالم في كتابه الكريم معجزته الخالدة). (1)

أما بعد

فإنه لا غنى للمسلم عن تراثه، فكما أنه لا انفكاك بين المسلم ودينه، فإنه أيضاً لا انفكاك بينه وبين علوم دينه، ولغته، وتاريخه، وآدابه، وحضارة أمته .... وكلها تراث عظيم؛ لعظمة الدين، وحملته، والمهتمين بلغته وآدابه، وتاريخه، وسائر علومه.

وقد نقل العلامة: محمود شاكر رحمه الله عن أحد الغربيين كلمة جيدة، وأيده عليها، قال:(إن ثقافة الشعب، ودين الشعب؛ مظهران لشئ واحد؛ وإن الثقافة في جوهرها تجسيد لدين الشعب). (2)

(1)«تاريخ آداب العرب» للرافعي ــ ط. الأولى، سنة 1329 هـ ــ (1/ 303).

(2)

«جمهرة مقالات محمود شاكر» (2/ 1083)، وانظر «أباطيل وأسمار» (ص 497، 500، 504، 518).

وانظر في بيان أن المذاهب الأدبية عند جميع الأمم مرتبطة بعقائدها، وليست آراء أدبية مجرَّدة. «المذاهب الأدبية الغربية رؤية فكرية وفنية» د. وليد القصَّاب (ص 271 وما بعدها).

ص: 48

قال البشير الإبراهيمي الجزائري (ت 1385 هـ) رحمه الله في خطاب ارتجالي عميق في ثقافته وإدراكه وبيانه، ومما قال: (يقول المستعمرون عنَّا: إننا خياليون، وإننا ــ حين نعتز بأسلافنا ــ نعيش في الخيال، ونعتمد على الماضي، ونتَّكلُ على الموتى، يقولون هذا عنَّا في معرض الاستهزاء بنا، أو في معرض النصح لنا، وأنا لا أدري متى كان إبليس مُذكِّراً؟ !

ما يرمون إليه أنهم يريدون أن ننسى ماضينا، فنعيش بلا ماضٍ، حتى إذا استيقظنا من نومنا أو من تنويمهم لنا؛ لم نجد ماضياً نبني عليه حاضرنا! وهو كلُّ ما يرمون إليه. وسلوهم

هل نسوا ماضيَهم؟

إنهم يبنون حاضرهم على ماضيهم، إنهم يعتزون بآبائهم وأجدادهم، إنهم يخلدون عظماءهم في الفكر، والأدب، والفلسفة، والحرب، والفن؛ إنهم لاينسون الجندي ذا الأثر، فضلاً عن القائد الفاتح، وهذه تماثيلهم

ص: 49

تشهد، وهذه متاحفهم تردد الشهادة ..... إلى آخر كلامه الأخَّاذ، والمبكي رحمه الله). (1)

وإنه ليتكلم رحمه الله عن عملهم الدؤوب في فصل أمتنا عن ماضيها، وملئها بتاريخهم المهين، كل ذلك كان بأيديهم وألسنتهم الأعجمية.

كانت تلك الكلمة في منتصف عام (1371 هـ)، وأما الآن فجعلوا لهم وكلاء، من بني جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا، ويبينون طعناً وهدماً وتغريباً بما لا يستطيعه الغربي نفسه، وقد يستحي منه، أو يتعالى على مغالطة بعض الحقائق، فجاء الوكيل وأتى بما لم يأت به الأوائل، فامتلأت بهم صحف البلاد الإسلامية، وقنواتها (2)

ودين الله غالب منصور، ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله، ويخشى المسلم على نفسه إن لم يجاهد المنافقين بلسانه وبيانه، ويغلظ عليهم ـ كما أمر الله تعالى في آيتين من كتابه ـ.

(1)«آثاره» (2/ 467 ـ 472).

(2)

انظر نماذج من ذلك في: «التطرف المسكوت عنه» د. ناصر الحنيني، و «الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها» د. سعيد الغامدي (3) مجلدات ـ ط. دار الأندلس الخضراء ـ، وانظر:«رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» لمحمود شاكر (ص 156).

ص: 50

قال العلامة: محمود شاكر رحمه الله: (ثقافةُ كلِّ أمةٍ، وكُلِّ لُغَةٍ؛ هي حصيلةُ أبنائها المثقفين، بقدر مُشتركٍ من أصول وفروع، كلُّها مغموس في الدين المتلقَّى عند النشأة؛ فهو لذلك صاحب السلطان المطلق الخفي على اللغة وعلى النفس وعلى العقل جميعاً، سلطان لاينكره إلا من لايبالي بالتفكُّر في المنابع الأُوَل التي تجعل الإنسان ناطقاً وعاقلاً ومبيناً عن نفسه، ومستبيناً عن غيره.

فثقافةُ كلِّ أمّةٍ مِراءةٌ جامعةٌ في حيِّزها المحدود كلَّ ما تشعَّبَ وتشتّت وتباعد من ثقافة كلِّ فرد من أبنائها على اختلاف مقاديرهم ومشاربهم ومذاهبهم ومداخلهم ومخارجهم في الحياة.

وجوهر هذه المرآة هو «اللغة» ؛ و «اللغة» و «الدين» ـ كما أسلفت ـ متداخلان تداخلاً غير قابل للفصل البتَّةَ.

فباطلٌ كلَّ البطلان أن يكون في هذه الدنيا على ما هي عليه، «ثقافة» يمكن أن تكون «ثقافة عالمية» ، أي ثقافةٌ واحدةٌ يشترك فيها البشر جميعاً، ويمتزجون على اختلاف لغاتهم ومِلَلهم ونِحَلهم وأجناسهم وأوطانهم. فهذا تَدلِيسٌ كبيرٌ، وإنما يُراد بشيوع هذه المقولة بين الناس والأمم؛ هدفٌ آخرُ يتعلّق بفرض سيطرة أمّةٍ غالبة على أمم مغلوبة، لتبقى تبعاً لها.

ص: 51

فالثقافات متعددة بتعدد «المِلل» ، ومتميزة بتميُّز «الملل» ، ولكل ثقافة أسلوب في التفكير والنظر والاستدلال مُنتَّزَعٌ من «الدين» الذي تدين به لامحالة.

فالثقافات المتباينة تتحاور، وتتناظر، وتتناقش؛ ولكن لا تتداخل تداخلاً يُفضي إلى الامتزاج البتَّةَ، ولايأخذ بعضها عن بعض شيئاً، إلا بعد عرضِهِ على أسلوبها في التفكير والنظر والاستدلال، فإن استجاب للأسلوب أخذَتْهُ وعَدَّلَتْهُ وخلَّصَتْهُ من الشوائب، وإن استعصى نبذَتْهُ واطَّرحَتْهُ. وهذا باب واسع جداً، ليس هذا مكان بيانه، ولكني لا أفارقه حتَّى أُنبِّهَكَ لشئ مهم جداً، هو أنْ تفصل فصْلاً حاسماً بين ما يُسمَّى

«ثقافة» وبين ما يسمّى «علماً» ــ أعني: العلوم البحتة ــ (1)؛ لأن لكل منهما طبيعةً مباينةً للآخر، فالثقافة مقصورةٌ على أمةٍ واحدةٍ تدين بدين واحد؛ والعلم مُشاعٌ بين خلق الله جميعاً، يشتركون فيه اشتراكاً واحداً مهما اختلفت الملل والعقائد). (2)

(1) ينظر: «من وحي القلم» للرافعي (3/ 155).

(2)

«رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» لمحمود شاكر (ص 74 ـ 75)، وانظر أيضاً (ص 31).

ص: 52

قلتُ: والناظر في حياتنا اليوم، يجد الانكباب التام على الكتب الغربية الأدبية والتاريخية، بل والعقدية والفلسفية، هذا في جانب القراء.

وأما في جانب الغالبية التي تتابع «اللهو» و «اللعب» ؛ فأصبح اهتمامهم بفرق الغرب الكروية، ومسلسلاتهم، وبرامجهم الحوارية؛ أمراً ينذر بخطر.

وهذا غاية مطمع الكفار في استحواذهم عقول المسلمين، وتفريغها من ثوابتها، وتاريخها، وعظمائها، وملئها بهذه التفاهات المخالفة لديننا في كثير منها، والمنافية لقيمنا ولغتنا وثقافتنا، فإلى الله المشتكى وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قال العلامة: عبدالسلام هارون رحمه الله: (أي انفكاك بين المرء وتراثه، أو بين المرء ووطنه؛ يخلق منه أمراً تتجاذبه أطراف الضياع وفقدان النفس؛ وضياعُ النفس مدعاة إلى التفكك والتخلخل، والشعور بالبؤس والمذلة اللتين لاتطيب معهما الحياة.

وإذا ذهبت في المقابلة بين جيلنا الذي نشأنا فيه، وبين هذا الجيل الذي يعيشه أبناؤنا؛ وجدنا الفرق شاسعاً بين شعورنا بكياننا العزيز الوثيق، وكيان بعض أبنائنا الذين انفصلوا عن المتعة بالتراث العربي

ص: 53

متمثِّلاً في ضروبه المختلفة). (1)

قلت: كلامه هذا قبل (27 سنة تقريباً)، (نشر بتاريخ 1987 م)، وللعلامة الشيخ: محمد الخضر حسين رحمه الله كلام نحو هذا قبل (60 سنة)، وللأديب: محمد عبدالله عنان رحمه الله، كلام رائع قبل (80 سنة)! وبعدهم للإبراهيمي الجزائري، ولمحمود شاكر، وغيرهم.

رحم الله أولئك الأعلام الكبار، وأعظم مثوبتهم؛ إذا كانت وقفتهم بهذه القوة، ووصفهم للبدايات بهذه الشناعة، فكيف لو رأوا زماننا هذا! ؟ وما فيه من التهاتف العجيب، والصدوف عن التراث، بل ودعوة العامة إلى النهل من كتب الفلسفة الأوربية، والروايات الأجنبية، والمذكرات الفارغة! نسأل الله العفو والعافية، والسلامة في الدين والدنيا والآخرة ـ.

قال الأستاذ: ناصر الدين الأسد: (إن تراث الأمة هو روحها، ومقوماتها، وتاريخها؛ والأمة التي تتخلى عن تراثها تميتُ روحها، وتهدم

(1)«قطوف أدبية» للعلامة: عبدالسلام هارون (ص 79)، وانظر:«من وحي القلم» للرافعي (3/ 393 ـ 394).

ص: 54

مقوماتها، وتعيش بلا تاريخ.

والأمم كلها مهما تكن فلسفتها الاجتماعية والاقتصادية، تحرص أشد الحرص على تراثها، وتبذل جهوداً كبيرة لإحيائه ونشرِه، وبثِّه في نفوس أبنائها؛ بل إن بعض الأمم الحديثة تفتعل لنفسِها تراثاً تجمع أجزاءَه تجميعاً، وتنفخ فيه نفخاً؛ لتتم له صورة تفئ إليها الأمة، وتنطلق منها.

فليس صحيحاً أن الأخذ بأسباب الحضارة يستلزم هدم التراث، وقد انخدعت بعض الأمم بهذه الدعوى، فأصبحت كالمُنْبَتِّ لا أرضاً قطعَ، ولا ظهراً أبقى!

وإنما الصحيح أنَّ تَقدُّمَ الأمةِ ــ حين تبدأ الحياة تنسابُ فيها ــ إنما يكون من داخل نفسها، وينطلق من تراثها). (1)

ويتساءل بعض الناس عن امكانية نقل ثقافة الغرب كلِّها مادام أننا نقلنا منهم الصناعة؟ كأنه يرى التلازم بينهما، وما علم أن ثقافتهم وعاداتهم تضايق منها مثقفوهم وعقلاؤهم؛ لأنها قائمة على معاكسة الفطرة. (2) وأن هناك فرقاً بين «الثقافة» و «العلوم البحتة» فالأولى من

(1)«تحقيقات في اللغة والأدب» (ص 187 ـ 188).

(2)

ينظر: «حصوننا مهددة من الداخل» د. محمد محمد حسين ـ ط. الأولى، سنة 1387 هـ (ص 106، 107). وقارن بمقالة متينة للعلامة محمود شاكر في «جمهرة مقالاته» (1/ 383 ـ 388)، و (2/ 810 ـ 812). وانظر:«آثار الإبراهيمي»

(3/ 449 ـ 451)، و «تحت راية القرآن» للرافعي (ص 274)، «تقرير عن شؤون التعليم والقضاء» لأحمد شاكر (ص 44)، و «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» لمحمود شاكر (ص 52 ـ 53).

ص: 55

خصائص كل أمة، والثانية مشاعة بين الأمم ـ كما سبق في كلام العلامة: محمود شاكر ـ.

وقد استعرض المويلحي رحمه الله (ت 1324 هـ) العلوم والآداب بين الشرق والغرب، استعراضاً أخَّاذاً، ثم قال: (

خرجنا من هذا كلِّه إلى أن الغربيين لم يمتازوا عن أهل المشرق اليوم إلا بالصناعة وآلاتها الميكانيكية، وهم فيما عدا ذلك أضعف من الشرقيين في العلوم العقلية والنظرية). (1)

(1)«الشرق والغرب» لإبراهيم المويلحي (ص 41).

أقول: والفرق الحقيقي بينهما في الصناعة: أنه لم يُتَحْ للشرقي العمل بعلمه، ولم يشجع على تطوير تجارِبه

؛ بخلاف الغربي، فتقدموا، وتأخر غيرهم في الصناعة فحسب، ومهما قيل؛ فإنه لاعقل لمن لم يعرف الله ويوحِّده. قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} سورة الأعراف.

ص: 56

والحديث عن ضوابط النقل والاستفادة من ثقافة الأجانب، والجواب عن إشكالية التوهم في التناقض بين الاستفادة من صناعاتهم المتطورة (1)، وترك آدابهم وتاريخهم، كل هذا تجده مبسوطاً في كتاب لطيف متين، عنوانه:

«الانفتاح الفكري، حقيقته وضوابطه» د. عبدالرحيم بن صمايل السلمي ـ جزاه الله خيراً ـ.

(1) فائدة: انظر مقالة رائعة حول «موقفنا من الحضارة الغربية» للطنطاوي، نشرها في «مجلة الرسالة» ، (العدد الثالث/ شوال/ 1356 هـ)، ثم نُشِرت في كتاب «صور وخواطر» (ص 56) ضمن رسالته إلى أخيه المبتعث إلى باريس، وذكرجزءاً منها في

«الذكريات» (4/ 109).

وانظر: «التقليد والتبعية» د. العقل (ص 37)، «رسائل الإصلاح» للخضر حسين

(1/ 150)، وللدكتور: محمد محمد حسين رحمه الله كتاب من أجود الكتب في موضوعه «الإسلام والحضارة الغربية» .

ص: 57

ومع ماسبق، فإن مرام الحديث هنا: بيان غناء التراث وتميزه في شتى الفنون، وليس القصد بهذه الإلماحة السريعة بعث الغرور، والكسل؛ والاكتفاء بمخازن التراث العظيمة، والركون إلى النتائج المبهرة؛ دون مسابقة الحضارات الأخرى في مجالات التجارة والصناعة، والتقدم في شتى المجالات، قال الأستاذ: إبراهيم المويلحي رحمه الله (ت 1324 هـ) في مقال نشره في جريدته الأسبوعية «مصباح الشرق» بتاريخ (24/ 8/ 1317 هـ / 1899 م) تحت عنوان «حرصهم وتفريطنا» قال: (إن أجمع ما يتسلَّى به الشرقي في انحطاطه أمام الغربي في ارتفاعه، مزعمه بأن ما وصل إليه الغربي لم يكن إلا من فضل الشرقي، وأنه هو الأصل الذي تفرعت عنه العلوم، والمَنْبت الذي ازدهرت منه المعارف، فيتغطى بملاءة من الفخر مطرَّزةٍ ببهرج الفخفخة.

ثم يستمر غافلاً في رقدته، غريقاً في نومته، لايتحرك منها إلا ساعة مفتخره ومباهاته بأن أصل هذه العلم كان من وضع أجداده الشرقيين، وتلك المعارف إنما كان مطلعها من أفقه، غير آخذ مأخذ الغربي في الانتفاع بما لديه؛ ليبلغ شأوه في تقدمه، بل تراه يستعظم ما في رأسه من خيال المجد الماضي، ويستهين بما في يده من البقية الموجودة التي ورثها عنه، فيتخفها

ص: 58

الأجنبي من جوانبه، وهو ممسك بأهداب ما تغطى به من ثياب الفخر، مسترسلاً في خوده ورقوده، دائباً في ركوده وهموده.

وربما كان يلتمس الملتمس عذراً للشرقيين في كثير من الأزمان التي دهمتهم فيه الخطوب بدهيائها

وكانوا يجهلون عاقبة إهمالهم، فلم ينتفعوا بتلك العلوم، ولم يسعوا في التحفظ على تلك البقية، ولكن ما وجه العذر لهم اليوم (1) في البقاء على حالهم الأول؟ ! وقد كشف لهم أدوار الحوادث أسباب تأخرهم، وأعلمتهم بنتائج فتورهم، وهم يعيشون في زمن سَهُلَ لهم فيه التواصل، وتوفرت لديهم معدات الانتفاع بما بقي في حوزتهم، ولكن طاب لهم الرقاد كما عذب للأجانب السهاد، فترى الأجنبيين يتغالون في اقتناء تلك البقية من كتب العلوم الشرقية، ويغارون عليها، ولا غيرة مؤلفيها). (2)

(1) يقول ذلك في سنة (1317 هـ)! !

(2)

«الشرق والغرب» لإبراهيم المويلحي، وهو مقالاته في جريدته «مصباح الشرق» ، جمعها واعتنى بها: أحمد حسين الطماوي (ص 134).

ص: 59