المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 3] - التفسير الوسيط لطنطاوي - جـ ٥

[محمد سيد طنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الخامس]

- ‌سورة الأنعام

- ‌تمهيد بين يدي السورة

- ‌1- متى نزلت سورة الأنعام

- ‌2- طبيعة الفترة التي نزلت فيها سورة الأنعام:

- ‌3- أين نزلت سورة الأنعام:

- ‌4-لماذا سميت بسورة الأنعام

- ‌5- مناسبتها لما قبلها:

- ‌6- عرض عام لسورة الأنعام:

- ‌7- من فضائل سورة الأنعام ومزاياها:

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 3]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 4 الى 6]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 7 الى 11]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 16]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 17 الى 21]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 22 الى 26]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 32]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 36]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 37 الى 39]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 45]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 49]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 50 الى 53]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 54 الى 56]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 57 الى 59]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 60 الى 64]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 65 الى 69]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 70 الى 73]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 79]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 80 الى 82]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 83 الى 90]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 91 الى 94]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 99]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 103]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 104 الى 110]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 113]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 114 الى 117]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 118 الى 122]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 123 الى 126]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 127 الى 130]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 131 الى 135]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 136 الى 140]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 144]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 145 الى 147]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 148 الى 150]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 154 الى 157]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 158 الى 160]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 161 الى 165]

- ‌تفسير سورة الأعراف

- ‌مقدّمه

- ‌تمهيد بين يدي السورة

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 9]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 10 الى 11]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 12]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 13]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 14 الى 18]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 19]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 20 الى 25]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 26]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 27]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 28]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 29 الى 30]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 31]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 32]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 33]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 34]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 36]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 37]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 38]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 39]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 41]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 42 الى 43]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 51]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 52 الى 53]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 54]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 57]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 58]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 64]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 72]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 79]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 87]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 93]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 102]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 126]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 127 الى 129]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 130 الى 137]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 141]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 142 الى 144]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 145]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 146 الى 147]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 153]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 154]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 156]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 157 الى 158]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 159]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 160 الى 162]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 163 الى 166]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 167 الى 168]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 169 الى 170]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 171]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 177]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 178 الى 179]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 180]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 181 الى 186]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 187 الى 188]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 190]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 191 الى 198]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 199]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 200 الى 202]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 203]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 204]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 205 الى 206]

- ‌فهرس إجمالى لتفسير سورة «الأنعام»

- ‌فهرس إجمالى لتفسير سورة «الأعراف»

الفصل: ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 3]

التفسير قال الله تعالى:

[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 3]

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)

افتتحت سورة الأنعام بتقرير الحقيقة الأولى في كل دين، وهي أن المستحق للحمد المطلق، والثناء الكامل هو رب العالمين.

والحمد: هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها.

وأل في الْحَمْدُ للاستغراق، بمعنى أن المستحق لجميع المحامد ولكافة ألوان الثناء هو الله تعالى، وإنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة على الله، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ومرجعه إليه، إذ هو الخالق لكل شيء، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم، فهو في الحقيقة حمد لله، لأنه- سبحانه- هو الذي وفقهم لذلك، وأعانهم عليه.

وقد بين بعض المفسرين الحكمة في ابتداء السورة الكريمة بقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ كما بين الفرق بين المدح والحمد والشكر فقال: «اعلم أن المدح أعم من الحمد، والحمد أعم من الشكر، أما بيان أن المدح أعم من الحمد، فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله، وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام والإحسان فثبت أن المدح أعم من الحمد، وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل

ص: 27

ما صدر عنه من الإنعام سواء كان ذلك الإنعام واصلا إليك أو إلى غيرك، وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد وهو أعم من الشكر. إذا عرفت هذا فنقول: إنما لم يقل المدح لله لأننا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره. أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار، فكان قوله الحمد لله تصريحا بأن المؤثر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة. وإنما لم يقل الشكر لله، لأنا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه ووصل إليك، وهذا مشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة، فحينئذ يكون المطلوب الأصلى له وصول النعمة إليه وهذه درجة حقيرة فأما إذا قال الحمد لله فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه- تعالى أوصل النعمة إليه، فيكون الإخلاص أكمل، واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت» «1» .

هذا وفي القرآن الكريم خمس سور مكية اشتركت في الافتتاح بتقرير أن الحمد لله وحده، ولكن كان لكل سورة منهج خاص في بيان أسباب ذلك الحمد.

أما السورة الأولى فهي سورة الفاتحة التي تقول في مطلعها الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.

أى: أن الحمد لله وحده، الذي ربي هذا العالم تربية خلقية أساسها الإيجاد والتصوير، ورباه تربية عقلية أساسها منح قوى التفكير والإدراك، كما أنه رباه تربية تشريعية قوامها الأحكام التي أوحى بها إلى رسله فتربط استحقاق الحمد لله بربوبيته للعالمين، والربوبية المطلقة تنتظم التربية الخلقية جسمية وعقلية، عن طريق الإيجاد والتصوير، كما تنتظم التربية التشريعية التي أساسها الأحكام التي أوحاها الله إلى أنبيائه ورسله.

وتجيء بعد سورة الفاتحة في الترتيب المصحفى سورة الأنعام فأثبتت أيضا استحقاق الحمد لله وحده، لأنه «خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، فهي تهتم بالحديث عن نوع خاص من التربية، وهو التربية الخلقية التي أساسها الخلق والإيجاد والتسوية والتصوير الحقيقي.

ثم تجيء بعدهما سورة «الكهف» فتثبت أن الحمد لله، لأنه أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً فتراها تهتم بإبراز التربية التشريعية التي تهذب الروح، وتهدى الفكر.

والسورة الرابعة التي افتتحت بإثبات أن الْحَمْدُ لِلَّهِ هي سورة سبأ، لأنه- سبحانه- لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، ثم تراها بعد ذلك

(1) تفسير مفاتيح الغيب ج 4 ص 3 للفخر الرازي المطبعة الشرفية سنة 1324 هـ.

ص: 28

زاخرة بالحديث عن أنواع التربية المطلقة التي تنجلي في إرساء مظاهر علم الله الشامل، وملكه المطلق، وتدبيره المحكم وقدرته النافذة التي تجعله أهلا لكل حمد وثناء.

أما السورة الخامسة فهي سورة فاطر، فقد أثبتت في مطلعها أن الحمد لله، لأنه فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا، أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ والذي يقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر يراها تهتم بإبراز إثبات أن الحمد لله وحده عن طريق الجمع بين التربيتين الخلقية والتشريعية فهي تذكر خلق السموات والأرض والجبال وتصريف الليل والنهار والشمس والقمر. كما تذكر أنواع الناس في الانتفاع بوحي الله، وبهدى أنبيائه ورسله.

وهكذا نجد أن السور الخمس قد اشتركت في أنها افتتحت بجملة الْحَمْدُ لِلَّهِ وفي قصر الحمد والثناء عليه وحده. إلا أن كل واحدة منها قد سلكت منهجا خاصا في تقرير هذه الحقيقة، وفي إقامة الأدلة على صدقها.

وقد أحسن القرطبي عند ما قال: «فإن قيل: قد افتتح غيرها- أى سورة الأنعام- بالحمد لله فكان الاجتزاء بواحدة يغنى عن سائره فيقال: لأن لكل واحدة منه معنى في موضعه، لا يؤدى عن غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة، وأيضا فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون» «1» .

ثم بين القرآن بعد ذلك الأسباب التي تحمل العقلاء على أن يجعلوا حمدهم كله لله- تعالى- فقال:

الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ.

والمعنى: الحمد كله لله الذي أنشأ بقدرته هذه العوالم العلوية والسفلية، وأوجد ما فيها من مخلوقات ناطقة وصامتة، وظاهرة وخافية، وأحدث ما يتعاقب عليها من تحولات وتقلبات ونور وظلمات. فالجملة الكريمة قد اشتملت على صفتين من صفات الله- تعالى- تثبتان وجوب استحقاق الحمد الكامل لله- عز وجل وهما خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور.

وعبر- سبحانه- في جانب السموات والأرض بخلق، وفي جانب الظلمات والنور يجعل، لأن الخلق معناه هنا الإنشاء والإيجاد الابتدائى من العدم، أما الجعل فيتضمن معنى تكوين شيء من شيء أو من أشياء، فالظلمات تتولد من اختفاء الشمس عن الأرض، والنور يتكون من بزوغ الشمس على الأرض، وهذه التقلبات الكونية هي بتقدير الله العزيز العليم.

(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 384 طبعة دار الكاتب العربي سنة 1967 م.

ص: 29

قال صاحب الكشاف: «والفرق بين الخلق والجعل. أن الخلق فيه معنى التقدير، وفي الجعل معنى التضمين، كإنشاء شيء من شيء، أو تصيير شيء شيئا، أو نقله من مكان إلى مكان، ومن ذلك وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار» «1» .

وقال الفخر الرازي: «وإنما حسن لفظ الجعل هنا، لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كل واحد منهما كأنما تولد من الآخر» «2» .

وقال أبو السعود: «والجعل هنا هو الإنشاء والإبداع كالخلق، خلا أن ذلك- أى الخلق- مختص بالإنشاء التكويني وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في الآية الكريمة والتشريعي أيضا كما في قوله- تعالى- ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ «3» .

وقد وردت نصوص تصرح بأن الأرض سبع طبقات كالسماوات. إلا أنها في كثير من المواضع القرآنية تفرد- أى الأرض- وتجمع السماء كما هنا، لعظم السماء. ولإحاطتها بالأرض، ولأنه لم يعرف أن الله- تعالى- قد عصى فيها، ولأن طبقاتها متمايزة ينفصل بعضها عن بعض، بخلاف طبقات الأرض فإنها متصلة.

والمراد بالظلمات هنا الظلمات الحسية، كما أن المراد بالنور النور الحسى لأن اللفظ حقيقة فيهما، ولأنهما إذا جعلا مقرونين بذكر السموات والأرض فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان، ولأن القرآن يستشهد عليهم بمقتضى ما يعلمونه من تفرده بالخلق وهم يعلمون تفرده- سبحانه- بخلق هذه الأشياء.

ويرى بعض المفسرين أن المراد بالظلمات، ظلمات الشرك والكفر والنفاق، وأن المراد بالنور، نور الإيمان والإسلام واليقين، وعلى هذا الرأى يكون المراد بهما معنويا لا حسيا.

قال صاحب المنار: قال الواحدي: والأولى حمل اللفظين عليهما، واستشكله الرازي لأنه مبنى على القول بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، والمختار عندنا جوازه، وجواز استعمال المشترك في معنييه أو معانيه إذا احتمل المقام ذلك بلا التباس كما هنا، والتعبير بالجعل دون الخلق يلائم هذا فإن الجعل يشمل الخلق والأمر- أى الشرع- كما تقدم، فيفسر جعل كل نور بما يليق به «4» .

(1) الكشاف ج 2 ص 3 للزمخشري. طبعة دار الكاتب العربي ببيروت.

(2)

تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 5.

(3)

تفسير أبو السعود ج 2 ص 77 طبعة صبيح.

(4)

تفسير المنار ج 7 ص 295 للشيخ رشيد رضا. طبعة دار المنار سنة 1367 هجرية.

ص: 30

وعبر القرآن في جانب الظلمات بصيغة الجمع، وفي جانب النور بالإفراد لأن النور واحد ومن نتائجه الكشف والظهور، وتعدد أسبابه لا يغير حقيقته. أما الظلمة فإنها متنوعة بتنوع أسبابها، فهناك ظلمة الليل، وهناك ظلمة السجون، وهناك ظلمة القبور، وهناك ظلمة الغمام، وهي تتغير حقائقها بتغير أسبابها. ثم ثمة إشارة إلى أمر معنوي وهي أن ظلمة الإدراك تتعدد حقائقها، فهناك ظلمة الانحراف، وظلمة الأهواء، والشهوات وطمس القلوب.

والنور واحد وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ فالنور في هذا واحد «1» .

ثم بين- سبحانه- الموقف الجحودى الذي وقفه المشركون من قضية الألوهية فقال ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.

العدل: المراد به هنا التسوية، فقال: عدل الشيء بالشيء إذا سواه به والمعنى: أن الله- تعالى- هو الذي خلق السموات والأرض، وهو الذي جعل الظلمات والنور، فهو لذلك من حقه على خلقه أن يعبدوه وحده وأن يخصوه بالحمد والثناء، ولكن المشركين مع كل هذه الدلائل الدالة على وحدانية الله وقدرته يساوون به غيره في العبادة، ويشركون معه آلهة أخرى لا تنفع ولا تضر.

وهذه الجملة الكريمة معطوفة على جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ على معنى أن الله- تعالى- حقيق بالحمد على ما خلق من نعم، وأوجد من كائنات ثم الذين كفروا يجحدون كل ذلك فيشركون معه آلهة أخرى.

ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة «خلق السموات والأرض» على معنى أن الله- تعالى- قد خلق الأشياء العظيمة التي لا يقدر عليها أحد سواه، ثم إن المشركين بعد ذلك يعدلون به جمادا لا يقدر على شيء أصلا.

وجاء العطف «بثم» لإفادة استبعاد واستقباح ما فعله الكافرون. فإنهم رغم البراهين الواضحة والدالة على وحدانية الله وقدرته، قد نزلوا بمداركهم إلى الحضيض فسووا في العبادة بين الخالق والمخلوق.

قال القرطبي: قال ابن عطية: فثم دالة على قبح فعل الكافرين لأن المعنى أن خلق السموات والأرض قد تقرر، وآياته قد سطعت، وإنعامه بذلك قد تبين، ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم، فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني! ولو وقع

(1) مجلة لواء الإسلام العدد 5 السنة 23: تفسير سورة الأنعام لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبى زهرة.

ص: 31

العطف بالواو في هذا ونحوه لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم» «1» .

ثم ساق القرآن في الآية الثانية دليلا آخر على أن الله- تعالى- هو المستحق للعبادة والحمد، وعلى أن يوم القيامة حق، فتحدث عن أصل خلق الإنسان، بعد أن تحدث في الآية الأولى عن خلق السموات والأرض فقال:

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ قَضى أَجَلًا، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ.

أى: هو الذي أنشأكم من طين، ثم تعهدكم برعايته في مراحل خلقكم بعد ذلك، كما قال- تعالى-: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ، فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ.

وفي ذكر خلق الإنسان من طين، دليل على قدرة الله وعظمته، لأنه- سبحانه- هو الذي حول هذا الطين إلى بشر سوى مفكر، يختار الخير فيهتدى ويختار الشر فيردى، كما أن فيه تذكيرا له بأصله حتى لا يستكبر أو يطغى، وحتى يوقن بأن من خلقه من هذا الأصل قادر على أن يعيده إليه.

قال تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى.

قال أبو السعود: (وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث، مع أن ما ذكر من خلق السموات والأرض من أوضحها وأظهرها. لما أن محل النزاع بعثهم، فدلالة بدء خلقهم على ذلك أظهر، وهم بشئون أنفسهم أعرف، والتعامي عن الحجة البينة أقبح)«2» .

وقال الجمل: (وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطبين لا إلى آدم- عليه السلام وهو المخلوق منه حقيقة. لتوضيح منهاج القياس، والمبالغة في إزاحة الاشتباه والالتباس، مع ما فيه من تحقيق الحق، والتنبيه على حكمة خفية هي أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه- عليه السلام منه. حيث لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه، بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر آحاد البشر انطواء إجماليا، فكان خلقه- عليه السلام من الطين خلقا لكل أحد من فروعه)«3» .

(1) تفسير القرطبي ج 2 ص 387.

(2)

تفسير أبى السعود- ج 2 ص 78.

(3)

حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 4. [.....]

ص: 32

ثم قال- تعالى- ثُمَّ قَضى أَجَلًا، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ. الأجل في اللغة عبارة عن الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانتهاء عمره. والمعنى: أنه سبحانه- قدر لعباده أجلين: أجلا تنتهي عنده حياتهم بعد أن عاشوا زمنا معينا، وأجلا آخر يمتد من وقت موتهم إلى أن يبعثهم الله من قبورهم عند انتهاء عمر الدنيا ليحاسبهم على أعمالهم، هذا هو الرأى الأول في معنى الأجلين.

وقيل: المراد من الأجل الأول آجال الماضين من الخلق، ومن الثاني آجال الباقين منهم.

وقيل المراد من الأول النوم ومن الثاني الموت. وقيل: المراد من الأول ما مضى من عمر الإنسان ومن الثاني ما بقي منه.

والذي نرجحه هو الرأى الأول لأسباب منها.

1-

أن من تتبع ذكر الأجل المسمى في القرآن في سياق الكلام عن الناس يراه قد ورد في عمر الإنسان الذي ينتهى بالموت، ومن ذلك قوله تعالى وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ «1» .

وقوله- تعالى-: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ «2» .

2-

أن الآية الكريمة مسوقة لإثبات وحدانية الله ولتقرير أن البعث حق، فالمناسب أن يكون المراد بالأجل الثاني هو انتهاء عمر الدنيا وبعث الناس من قبورهم.

ولذا قال أبو السعود في تضعيفه للآراء المخالفة للرأى الأول: «ومن هاهنا تبين أن ما قيل من أن الأجل الأول هو النوم والثاني هو الموت، أو أن الأول أجل الماضين والثاني أجل الباقين، أو أن الأول مقدار ما مضى من عمر كل أحد والثاني مقدار ما بقي منه مما لا وجه له أصلا، لما رأيت من أن مساق النظم الكريم استبعاد امترائهم في البعث الذي عبر عن وقته بالأجل المسمى. فحيث أريد به أحد ما ذكر من الأمور الثلاثة ففي أى شيء تمترون؟» «3» .

3-

أن الرأى الأول هو الرأى المأثور عن بعض الصحابة، وبه قال جمهور المفسرين، وقد عزاه ابن كثير في تفسيره إلى عشرة من التابعين «4» .

(1) سورة النحل: الآية 61.

(2)

سورة نوح الآية 4.

(3)

تفسير أبى السعود ج 2 ص 80.

(4)

راجع تفسير ابن كثير ج 2 ص 23 طبعة عيسى الحلبي.

ص: 33

وعطفت الجملة الكريمة بثم، للإشارة إلى أطوار خلق الإنسان المختلفة، فهو في أصله من سلالة من طين، ثم يصيره الله- تعالى- نطفة، فعلقة، فمضغة، فعظاما، ثم يكونه- سبحانه- وتعالى خلقا آخر. فتبارك الله أحسن الخالقين» .

ووصف الأجل الثاني بأنه (مسمى عنده)، لأن وقت قيام الساعة من الأمور التي لا يعلمها إلا الله قال- تعالى-: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ «1» .

وجاء قوله تعالى وَأَجَلٌ مُسَمًّى مقدما على (عنده) لأنه مبتدأ، والذي سوغ الابتداء به مع كونه نكرة تخصصه بالوصف فقارب المعرفة لذلك، فهو كقوله- تعالى- وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ.

ومعنى (عنده) أى: في علمه الذي لا يعلمه أحد سواه، فهي عندية تشريف وخصوصية.

ثم ختمت الآية الكريمة بتوبيخ الشاكين في البعث والحساب فقال- تعالى-:

ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ. الامتراء: هو التردد الذي ينتهى إلى محاجة ومجادلة وقد ينتهى إلى شك ثم إلى إنكار. مأخوذ من مرى الضرع إذا مسحه للدر ووجه المناسبة في استعماله في الشك، أن الشك سبب لاستخراج العلم الذي هو كاللبن الخالص من بين فرث ودم.

والمعنى: ثم إنكم بعد كل هذه الأدلة الدالة على وحدانية الله، وعلى أن يوم القيامة حق، تشكون في ذلك، وتجادلون المؤمنين فيما تشكون فيه «بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير» .

وجاء العطف بثم لبيان التفاوت الكبير بين الحقائق الثابتة الناصعة، وبين ما سولته لهم أنفسهم من المجادلة فيها.

قال الآلوسى: «والمراد استبعاد امترائهم في وقوع البعث وتحققه في نفسه مع مشاهدتهم في أنفسهم من الشواهد ما يقع مادة ذلك بالكلية فإن من قدر على إفاضة الحياة على مادة غير مستعدة لشيء من ذلك، كان أوضح اقتدارا على إقامته على مادة قد استعدت له وقارنته مدة» «2» .

وبعد أن أقام- سبحانه- الأدلة في الآيتين السابقتين على أنه هو المستحق للعبادة والحمد، وعلى أن يوم القيامة حق، جاءت الآية الثالثة لتصفه- سبحانه بأنه هو صاحب السلطان المطلق

(1) سورة الأعراف الآية 187.

(2)

تفسير روح المعاني للآلوسى ج 7 ص 88 طبعة منير الدمشقي.

ص: 34