الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقد أخرج ابن أبى الشيخ أن الآية نزلت فيهما، وقيل نزلت في عمار بن ياسر وأبى جهل، وقيل في حمزة وأبى جهل.
والذي نراه أن الآية عامة في كل من هداه الله إلى الإيمان بعد أن كان كافرا، وفي كل من بقي على ضلاله مؤثرا الكفر على الإيمان ويدخل في ذلك هؤلاء المذكورون دخولا أوليا.
ثم سلى الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم ببيان أن المترفين في كل زمان ومكان هم أعداء الإصلاح، وأن ما لقيه صلى الله عليه وسلم من أكابر مكة ليس بدعا بل هو شيء رآه الأنبياء قبله على أيدى أمثال هؤلاء المترفين فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 123 الى 126]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَاّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
أكابر: جمع أكبر، وهم الرؤساء والعظماء في الأمم. والمجرمون: جمع مجرم، من أجرم إذا اكتسب أمرا قبيحا، ومنه الجرم والجريمة للذنب والإثم.
والمعنى: وكما جعلنا في قريتك مكة رؤساء دعاة إلى الكفر وإلى عداوتك جعلنا في كل قرية
من قرى الرسل من قبلك رؤساء من المجرمين مثلهم ليمكروا فيها، ويتجبروا على الناس، ثم كانت العاقبة للرسل، فلا تبتئس يا محمد مما يصيبك من زعماء مكة فتلك طبيعة الحياة في كل عصر، أن يكون زعماء الأمم وكبراؤها أشد الناس عداوة للرسل والمصلحين.
قال الجمل: وقوله: أَكابِرَ مفعول أول لجعل، وأكابر مضاف ومجرميها مضاف إليه، وفِي كُلِّ قَرْيَةٍ المفعول الثاني لجعل، ووجب تقديمه ليصح عود الضمير عليه، فهو على حد قوله:
كذا إذا عاد عليه مضمر
…
مما به عنه مبينا يخبر
هذا أحسن الأعاريب «1» وهناك أوجه أخرى للأعراب لا تخلو من مقال.
وخص الأكابر بالمكر، لأنهم هم الحاملون لغيرهم على الضلال، وهم الذين يتبعهم الضعفاء في كفرهم وفجورهم.
قال ابن كثير: والمراد بالمكر هنا دعاؤهم غيرهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال كقوله- تعالى- إخبارا عن قوم نوح وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً، وكقوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً
…
الآية «2» . وقوله- سبحانه- وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ.
أى وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل والمصلحين في كل وقت إلا بأنفسهم، حيث يعود ضرره عليهم وحدهم في الدنيا والآخرة ولكنهم لانطماس بصيرتهم، لا يشعرون بأن مكرهم سيعود عليهم ضرره، بل يتوهمون أنهم سينجون في مكرهم بغيرهم من الأنبياء والمصلحين.
فالجملة الكريمة بيان لسنة من سنن الله في خلقه، وهي أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يصيبه منهم، وبشارة له، ولأصحابه بالنصر عليهم، ووعيد لأولئك الماكرين بسوء المصير.
وجملة وَما يَشْعُرُونَ حال من ضمير يمكرون، وهي تسجل عليهم بلاهتهم وجهالتهم حيث فقدوا الشعور بما من شأنه أن يعترف به كل عاقل.
(1) حاشية الجمل ج 2 ص 86.
(2)
تفسير ابن كثير ج 2 ص 173.
ثم حكى القرآن لونا من ألوان مكرهم فقال: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ.
أى: وإذا جاءت أولئك المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم «لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها» حجة قاطعة تشهد بصدقك يا محمد فيما تبلغه عن ربك، قالوا حسدا لك، لن نؤمن لك يا محمد حتى نعطى من الوحى والرسالة مثلما أعطى رسل الله، وأضافوا الإيتاء إلى رسل الله، لأنهم لا يعترفون بما أوتيه صلى الله عليه وسلم من الوحى والرسالة.
روى أن الوليد بن المغيرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك لأنى أكبر منك سنا وأكثر مالا فأنزل الله هذه الآية» .
وقال مقاتل: نزلت في أبى جهل وذلك أنه قال: زاحمنا بنو عبد المطلب في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحى كما يأتيه، فأنزل الله هذه الآية» «1» .
وقد رد الله- تعالى- على هؤلاء الحاسدين ردا حاسما فقال: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أى: الله- سبحانه- أعلم منهم ومن كل أحد بالموضع الصالح للرسالة فيضعها فيه فهو- سبحانه- يختار لها بحكمته وعلمه من يستحقها وينهض بها. ويهب نفسه لها، وينسى في سبيلها ذاته.
قال الإمام الرازي: وقوله- تعالى- اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أى: أن للرسالة موضوعا مخصوصا لا يصلح وضعها إلا فيه، فمن كان مخصوصا موصوفا بتلك الصفات لأجلها يصلح وضع الرسالة فيه كان رسولا وإلا فلا، والعالم بتلك الصفات ليس إلا الله- تعالى- ثم قال: وفي هذه الجملة الكريمة تنبيه على دقيقة أخرى وهي أن أقل ما لا بد منه في حصول النبوة والرسالة البراءة عن المكر والغدر والغل والحسد، وقوله لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ عين المكر والغدر والغل والحسد، فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات» » .
وهذه الجملة حجة لأهل الحق على أن الرسالة هبة من الله يختص بها من يشاء من عباده، ولا ينالها أحد بكسبه ولا بذكائه ولا بنسبه.
ولذا قال الإمام الآلوسى: وجملة اللَّهُ أَعْلَمُ
…
إلخ. استئناف بيانى، والمعنى: أن
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 86.
(2)
تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 142.
منصب الرسالة ليس مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال والولد، وتعاضد الأسباب والعدد، وإنما ينال بفضائل نفسانية، ونفس قدسية أفاضها الله- تعالى- بمحض الكرم والجود على من كمل استعداده» «1» .
هذا. وقد وردت أحاديث كثيرة تحدث النبي صلى الله عليه وسلم فيها عن اصطفاء الله له وفضله عليه، ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم عن وائلة ابن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله- عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بنى إسماعيل بنى كنانة، واصطفى من بنى كنانة قريشا، واصطفى من قريش بنى هاشم، واصطفى من بنى هاشم محمدا صلى الله عليه وسلم» «2» .
وروى الإمام أحمد عن المطلب بن أبى وداعة عن العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين، فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا» «3» .
ثم بين- سبحانه- عاقبة أولئك الماكرين الحاسدين للنبي صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله فقال: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ.
قال القرطبي ما ملخصه: الصغار: الضيم والذل والهوان. والمصدر الصغر بالتحريك- وأصله من الصغر دون الكبر فكأن الذل يصغر إلى المرء نفسه وقيل: أصله من الصغر وهو الرضا بالذل. والصاغر: الراضي بالذل. وأرض مصغرة: نبتها صغير لم يطل. ويقال: صغر- بالكسر- يصغر صغرا وصغارا فهو صاغر إذا ذل وهان» «4» .
والمعنى: سيصيب الذين أجرموا بعد تكبرهم وغرورهم وتطاولهم ذل عظيم وهوان شديد ثابت لهم عند الله في الدنيا والآخرة، وبسبب مكرهم المستمر، وعدائهم الدائم لرسل الله وأوليائه.
والجملة الكريمة استئناف آخر ناع على أولئك الماكرين ما سيلقونه من ألوان العقوبات بعد ما نعى عليهم حرمانهم مما أنكره من إيتائهم مثل ما أوتى رسل الله، والسين للتأكيد.
والعندية في قوله «عند الله» مجاز عن حشرهم يوم القيامة، أو عن حكمه سبحانه- وقضائه
(1) تفسير الآلوسى ج 8 ص 21.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الفضائل.
(3)
المسند للإمام أحمد ج 1 ص 210 طبعة الحلبي.
(4)
تفسير القرطبي ج 7 ص 80.
فيهم بذلك، كقولهم: ثبت عند فلان القاضي كذا أى: في حكمه، ولذا قدم الصغار على العذاب لأنه يصيبهم في الدنيا.
قال ابن كثير: ولما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا، وهو التلطف في التحيل والخديعة، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقا ولا يظلم ربك أحدا. وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة فيقال:
هذه غدرة فلان بن فلان» والحكمة في ذلك أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس، فيوم القيامة يصير علما منشورا على صاحبه بما فعل» «1» .
ثم بين- سبحانه- حال المستعد لهداية الإسلام، وحال المستعد للضلال فقال:
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ.
أى: فمن يرد الله أن يهديه للإسلام، ويوفقه له، يوسع صدره لقبوله، ويسهله له بفضله وإحسانه.
وشرح الصدر: توسعته، يقال: شرح الله صدره فانشرح، أى: وسعه فاتسع، وهو مجاز أو كناية عن جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها. مصفاة عما يمنعه وينافيه.
روى عبد الرازق أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية: كيف يشرح صدره؟ فقال: «نور يقذف فينشرح له وينفسح، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» «2» .
وقوله: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً أى ومن يرد أن يضله لسوء اختياره، وإيثاره الضلالة على الهداية يصير صدره ضيقا متزايد الضيق لا منفذ فيه للإسلام.
والحرج: مصدر حرج صدره حرجا فهو حرج، أى: ضاق ضيقا شديدا. وصف به الضيق للمبالغة، كأنه نفس الضيق، وأصل الحرج مجتمع الشيء ويقال: للحديقة الملتفة الأشجار التي يصعب دخولها حرجة.
وقرئ حرجا- بكسر الراء- صفة لقوله ضَيِّقاً.
روى أن جماعة من الصحابة قرءوا أمام عمر- رضى الله عنه- «ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا» بكسر الراء فقال عمر: يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية. فقال عمر: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير» «3» .
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 174. [.....]
(2)
تفسير ابن كثير ج 2 ص 174.
(3)
تفسير الآلوسى ج 8 ص 2.