الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتعبير بقوله- تعالى- فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ يرسم صورة بليغة لإقبال الدنيا عليهم من جميع أقطارها بجميع ألوان نعمها، وبكل قوتها وإغرائها، فهو اختبار لهم بالنعمة بعد أن ابتلاهم بالبأساء والضراء.
وعبر- سبحانه- عن إعطائهم النعمة بقوله: بِما أُوتُوا بالبناء للمجهول لأنهم يحسبون أن ذلك بعلمهم وقدرتهم وحدهم، كما قال قارون من قبل إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي.
وأضاف- سبحانه- الأخذ إلى ذاته في قوله فَأَخَذْناهُمْ لأنهم كانوا لا ينكرون ذلك، بل كانوا ينسبون الخلق والإيجاد إلى الله- تعالى-.
وكان الأخذ بغتة ليكون أشد عليهم وأفظع هولا، أى أخذناهم بعذاب الاستئصال حال كوننا مباغتين لهم. أو حال كونهم مبغوتين، فقد فجأهم العذاب على غرة بدون إمهال.
وإذا في قوله فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فجائية، والمبلس: الباهت الحزين البائس من الخير، الذي لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال.
روى الإمام أحمد بسنده عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وإذا رأيت الله يعطى العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج» ، ثم تلا قوله- تعالى- فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ. الآية.
ثم قال- تعالى-: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
الدابر: الآخر، والمعنى: فأهلك الله- تعالى- أولئك الأقوام عن آخرهم بسبب ظلمهم وفجورهم، والحمد لله رب العالمين الذي نصر رسله وأولياءه على أعدائهم، وفي ختام هذه الآية بقوله وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ تعليم لنا، إذ أن زوال الظالمين نعمة تستوجب الحمد والثناء على الله- تعالى-.
ثم ذكرهم- سبحانه- بنعمه عليهم في خلقهم وتكوينهم، وبين لهم إذا سلبهم شيئا من حواسهم فإنهم لا يتجهون إلا إليه فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 49]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَاّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الجاحدين: أخبرونى إن سلب الله عنكم نعمتي السمع والبصر فأصبحتم لا تسمعون ولا تبصرون، وختم على قلوبكم فصرتم لا تفقهون شيئا، من إله غيره يقدر على رد ما سلب منكم وأنتم تعرفون ذلك ولا تنكرونه فلماذا تشركون معه آلهة أخرى؟ ثم التفت عنهم إلى التعجيب من حالهم فقال- تعالى- انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ أى: انظر كيف ننوع الآيات والحجج والبراهين فنجعلها على وجوه شتى ليتعظوا ويعتبروا ثم هم بعد ذلك يعرضون عن الحق، وينأون عن طريق الرشاد.
والاستفهام في قوله- تعالى- أَرَأَيْتُمْ للتنبيه أى: إن لم تكونوا قد رأيتم ذلك فتبينوه وتأملوا ما يدل عليه.
والضمير في بِهِ يعود إلى المأخوذ وهو السمع والبصر والفؤاد.
وفي قوله انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ تعجيب من عدم تأثرهم رغم كثرة الدلائل وتنوعها من أسلوب إلى أسلوب.
وجملة ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ معطوفة على جملة نصرف الآيات وداخلة في حكمها، وكان العطف بثم لإفادة الاستبعاد المعنوي، لأن تصريف الآيات والدلائل يدعو إلى الإقبال، فكان من المستبعد في العقول والأفهام أن يترتب عليه الإعراض والابتعاد.
قال القرطبي: يَصْدِفُونَ أى: يعرضون. يقال: صدف عن الشيء إذا أعرض صدفا وصدوفا فهو صادف. فهم مائلون معرضون عن الحجج والدلالات «1» .
ثم وجه عقولهم إلى لون آخر من ألوان الإقناع فقال- تعالى-:
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً، هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ. بغتة:
أى مفاجأة، وجهرة: أى جهارا عيانا.
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 428.
والمعنى: قل لهم أيها الرسول الكريم أخبرونى عن مصيركم إن أتاكم عذاب الله مباغتا ومفاجئا لكم من غير ترقب ولا انتظار، أو أتاكم ظاهرا واضحا بحيث ترون مقدماته ومباديه، هل يهلك به إلا القوم الظالمون؟.
والاستفهام في قوله هَلْ يُهْلَكُ بمعنى النفي، أى: ما يهلك به إلا القوم الظالمون، الذين أصروا على الشرك والجحود، فهلاكهم سببه السخط عليهم والعقوبة لهم، لأنهم عموا وصموا عن الهداية.
ثم بين- سبحانه- وظيفة الرسل فقال: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، أى: تلك سنتنا وطريقتنا في إهلاك المكذبين للرسل، والمعرضين عن دعوتهم، فإننا ما نرسل المرسلين إليهم إلا بوظيفة معينة محددة هي تقديم البشارة لمن آمن وعمل صالحا، وسوق الإنذار لمن كذب وعمل سيئا.
فالجملة الكريمة كلام مستأنف مسوق لبيان وظيفة الرسل- عليهم الصلاة والسلام- ولإظهار أن ما يقترحه المشركون عليهم من مقترحات باطلة ليس من وظائف المرسلين أصلا.
ثم بين- سبحانه- عاقبة من آمن وعاقبة من كفر فقال: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ.
والمعنى: فمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأصلح في عمله. فلا خوف عليهم من عذاب الدنيا الذي ينزل بالجاحدين، ولا من عذاب الآخرة الذي يحل بالمكذبين، ولا هم يحزنون يوم لقاء الله على شيء فاتهم.
والمس اللمس باليد، ويطلق على ما يصيب المرء من ضر أو شر- في الغالب- وفي قوله يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ استعارة تبعية، فكأن العذاب كائن حي يفعل بهم ما يريد من الآلام والعذاب.
ثم لقن الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم الأجوبة الحاسمة التي تدمغ شبهات الكافرين، وتبين ضلال مقترحاتهم فقال: