الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالأبناء الرجال، لا الأطفال، لأن لفظ الأبناء هنا جعل في مقابلة النساء، والنساء هن البالغات.
والذي نرجحه هو القول الأول لما ذكرنا، ولأنه أتم في إظهار نعمة الإنجاء، حيث كان آل فرعون يقتلون الصغار قطعا للنسل، ويسترقون الأمهات استعبادا لهن، ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا على سبيل التدرج، وبقاء الرجال على هذه الحالة أشد عليهم من الموت.
وبهذا تكون الآيات الكريمة قد ردت على بنى إسرائيل فيما طلبوا أبلغ رد وأحكمه، ووصفتهم بما هم أهله من سوء تدبير، وسفاهة تفكير. فقد بدأت بإثبات جهلهم بربهم وبأنفسهم، حيث طلبوا من نبيهم أن يجعل لهم إلها كما لغيرهم آلهة، ثم ثنت بإظهار فساد ما طلبوه في ذاته، لأن مصيره إلى الزوال والهلاك، وما كان كذلك لا يصلح أن يكون الها، ثم بينت بعد ذلك بأن العبادة لغير الله لا تجوز بأى حال، لأنه هو وحده صاحب الخلق والأمر، ثم ذكرتهم في ختامها بوجوه النعم التي أسبغها الله عليهم، لتشعرهم بأن ما طلبوه من نبيهم، هو من قبيل مقابلة الإحسان بالجحود والنكران، ولتحملهم على أن يتدبروا أمرهم، ويراجعوا أنفسهم، ويتوبوا إلى خالقهم توبة صادقة نصوحا. ان كانوا ممن ينتفع بالعظات ويعتبر بالمثلات.
ثم حكت لنا السورة الكريمة بعد ذلك مشهد تطلع موسى- عليه السلام للقاء ربه، ووصيته لأخيه هارون قبل ذهابه لهذا اللقاء العظيم فقالت:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 142 الى 144]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
والمواعدة مفاعلة من الجانبين، وهي هنا على غير بابها، لأن المراد بها هنا أن الله- تعالى- أمر موسى أن ينقطع لمناجاته أربعين ليلة تمهيدا لإعطائه التوراة، ويؤيد ذلك قراءة أبى عمرو ويعقوب «وعدنا» .
وقيل المفاعلة على بابها على معنى أن الله- تعالى- وعد نبيه موسى أن يعطيه التوراة وأمره بالحضور للمناجاة فوعد موسى ربه بالطاعة والامتثال.
وقوله ثَلاثِينَ مفعول ثان لواعدنا بحذف المضاف، أى: إثمام ثلاثين ليلة أو إتيانها.
والضمير في قوله وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ يعود على المواعدة المفهومة من قوله واعَدْنا أى:
وأتممنا مواعدته بعشر، أو أنه يعود على ثلاثين:
وحذف تمييز عشر لدلالة الكلام عليه، أى: وأتممناها بعشر ليال.
وأَرْبَعِينَ منصوب على الحالية أى: فتم ميقات ربه بالغا أربعين ليلة.
ثم حكى- سبحانه- ما وصى به موسى أخاه هارون فقال: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي أى: قال موسى لأخيه هارون حين استودعه ليذهب لمناجاة ربه: كن خليفتي في قومي، وراقبهم فيما يأتون ويذرون فإنهم في حاجة إلى ذلك لضعف إيمانهم، واستيلاء الشهوات والأهواء عليهم وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ الذين إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا.
وإننا لنلمح من هذه الوصية أن موسى- عليه السلام كان متوقعا شرا من قومه، ولقد
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 151.
صح ما توقعه، فإنهم بعد أن فارقهم موسى استغلوا جانب اللين في هارون فعبدوا عجلا جسدا له خوار صنعه لهم السامري.
ثم حكى القرآن ما كان من موسى عند ما وصل إلى طور سيناء لمناجاة ربه فقال: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ أى: وحين حضر موسى لموقتنا الذي وقتناه له وحددناه، وكلمه ربه، أى: خاطيه من غير واسطة ملك قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أى: قال موسى حين كلمه ربه وسمع منه: رب أرنى ذاتك الجليلة. والمراد مكنى من رؤيتك. أو تجل لي أنظر إليك وأراك.
وأَرِنِي فعل أمر مبنى على حذف الياء. وياء المتكلم مفعول، والمفعول الثاني محذوف أى: ذاتك أو نفسك ولم يصرح به لأنه معلوم، وزيادة في التأدب مع الخالق- عز وجل.
وجملة قالَ لَنْ تَرانِي مستأنفة استئنافا بيانيا، كأنه قيل: فماذا قال الله- تعالى- حين قال موسى ذلك، فكان الجواب قالَ لَنْ تَرانِي أى: لن تطيق رؤيتي، وأنت في هذه النشأة وعلى الحالة التي أنت عليها في هذه الدنيا فنفى الرؤية منصب على الحالة الدنيوية، أما في الآخرة فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن المؤمنين يرون ربهم في روضات الجنات.
ثم قال- تعالى- وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي أى: لن تطيق رؤيتي يا موسى وأنت في هذه الحياة الدنيا، ولكن انظر إلى الجبل الذي هو أقوى منك، فإن استقر مكانه أى ثبت مكانه حين أتجلى له ولم يتفتت من هذا التجلي، فسوف تراني أى تثبت لرؤيتى إذا تجليت لك وإلا فلا طاقة لك برؤيتى.
وفي هذا الاستدراك وَلكِنِ انْظُرْ
…
إلخ، تسلية لموسى- عليه السلام وتلطف معه في الخطاب، وتكريم له، وتعظيم لأمر الرؤية، وأنه لا يقوى عليها إلا من قواه الله بمعونته.
ثم بين- سبحانه- ما حدث للجبل عند التجلي فقال: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا أى: فحين ظهر نوره- سبحانه- للجبل على الوجه اللائق بجلاله جَعَلَهُ دَكًّا أى مدقوقا مفتتا، فنبه- سبحانه- بذلك على أن الجبل مع شدته وصلابته مادام لم يستقر عند هذا التجلي، فالآدمى مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر. والداك والدق بمعنى، وهو تفتيت الشيء وسحقه وفعله من باب رد.
قال الآلوسى: وهذا كما لا يخفى من المتشابهات التي يسلك فيها طريق التسليم وهو أسلم وأحكم، أو التأويل بما يليق بجلال ذاته- تعالى-.
وقوله وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً أى: سقط من هول ما رأى من النور الذي حصل به التجلي مغشيا عليه، كمن أخذته الصاعقة.
يقال: صعقتهم السماء تصعقهم صعقا فهو صعق أى: غشى عليه.
وقوله: فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أى: فلما أفاق موسى من غشيته، وعاد إلى حالته الأولى التي كان عليها قبل أن يخر مغشيا عليه، قال تعظيما لأمر الله سُبْحانَكَ أى تنزيها لك من مشابهة خلقك في شيء تُبْتُ إِلَيْكَ من الإقدام على السؤال بغير إذن وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بعظمتك وجلالك أو أنا أول المؤمنين بأنه لا يراك أحد.
قال أبو العالية: قد كان قبله مؤمنون: ولكن يقول أنا أول المؤمنين أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة. قال ابن كثير: وهو قول حسن.
هذا، وقد توسع بعض المفسرين عند تفسيره لهذه الآية في الحديث عن رؤية الله- تعالى- وعلى رأس هذا البعض الإمام الآلوسى، فقد قال- رحمه الله: «واستدل أهل السنة المجوزون لرؤيته- سبحانه- بهذه الآية على جوازها في الجملة، واستدل بها المعتزلة النفاة على خلاف ذلك، وقامت الحرب بينهما على ساق، وخلاصة الكلام في ذلك أن أهل السنة قالوا:
إن الآية تدل على إمكان الرؤية من وجهين:
الأول: أن موسى- عليه السلام سألها بقوله رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ولو كانت مستحيلة فإن كان موسى عالما بالاستحالة فالعالم- فضلا عن النبي مطلقا، فضلا عمن هو من أولى العزم- لا يسأل المحال ولا يطلبه. وإن لم يكن عالما بذلك، لزم أن يكون آحاد المعتزلة أعلم بالله وما يجوز عليه وما لا يجوز من النبي الصفي، والقول بذلك غاية الجهل والرعونة وحيث بطل القول بالاستحالة تعين القول بالجواز.
والثاني: أن فيها تعليق الرؤية على استقرار الجبل وهو ممكن في ذاته وما علق على الممكن ممكن» .
ثم قال ما ملخصه: واعترض الخصوم على الوجه الأول بوجوه منها أنا لا نسلم أن موسى سأل الرؤية وإنما سأل العلم الضروري به- تعالى- إلا أنه عبر عنه بالرؤية مجازا. أو أنه سأل رؤية علم من أعلام الساعة بطريق حذف المضاف، أى: أرنى أنظر إلى علم من أعلامك الدالة على الساعة. أو أنه سأل الرؤية لا لنفسه ولكن لدفع قومه القائلين أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً وإنما أضاف الرؤية إليه دونهم ليكون منعه أبلغ في دفعهم وردعهم عما سألوه تنبيها بالأدنى على الأعلى.
واعترضوا على الوجه الثاني بأنا لا نسلم أنه علق الرؤية على أمر ممكن، لأن التعليق لم يكن على استقرار الجبل حال سكونه وإلا لوجدت الرؤية ضرورة وجود الشرط، لأن الجبل حال سكونه كان مستقرا، بل على استقراره حال حركته وهو محال لذاته.