الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اليوم. قال أبى: سبعة ستة في الأرض وواحدا في السماء قال. فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك.
قال: الذي في السماء.
فالله- تعالى- فطر الخلق كلهم على معرفة فطرة التوحيد، حتى من خلق مجنونا لا يفهم شيئا ما يحلف إلا به. ولا يلهج لسانه بأكثر من اسمه المقدس «1» .
ثم ضرب- سبحانه- مثلا لمن لا يعمل بعلمه فقال- تعالى-:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 177]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)
قال صاحب المنار: هذا مثل ضربه الله- تعالى للمكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها حافظا لقواعدها وأحكامها قادرا على بيانها والجدل بها، ولكنه لم يؤت العمل مع العلم، بل كان عمله مخالفا تمام المخالفة لعلمه فسلب هذه الآيات، لأن العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول فأشبه الحية التي تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض، أو كان في التباين بين علمه وعمله كالمنسلخ من العلم التارك له، كالثوب الخلق يلقيه صاحبه، والثعبان يتجرد من جلده حتى لا تبقى له به صلة على حد قول الشاعر:
خلقوا، وما خلقوا لمكرمة
…
فكأنهم خلقوا وما خلقوا
رزقوا، وما رزقوا سماح يد
…
فكأنهم رزقوا وما رزقوا
(1) تفسير القاسمى ج 7 ص 2902.
فحاصل معنى المثل: أن المكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله مع إيضاحها بالحجج والدلائل كالعالم الذي حرم ثمرة الانتفاع من علمه، لأن كلا منهما لم ينظر في الآيات نظر تأمل واعتبار وإخلاص» «1» .
وقوله- تعالى- وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها أى: اقرأ على قومك يا محمد ليعتبروا ويتعظوا خبر ذلك الإنسان الذي آتيناه آياتنا بأن علمناه إياه، وفهمناه مراميها، فانسلخ من تلك الآيات انسلاخ الجلد من الشاة، أو الحية من جلدها.
والمراد أنه خرج منه بالكلية بأن كفر بها، ونبذها وراء ظهره، ولم ينتفع بما اشتملت عليه من عظات وإرشادات.
وحقيقة السلخ كشط الجلد وإزالته بالكلية عن المسلوخ عنه، ويقال لكل شيء فارق شيئا على أتم وجه انسلخ منه. وفي التعبير به ما لا يخفى من المبالغة وقوله: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ أى: فلحقه الشيطان وأدركه فصار هذا الإنسان بسبب ذلك من زمرة الضالين الراسخين في الغواية، مع أنه قبل ذلك كان من المهتدين:
وفي التعبير بقوله فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ مبالغة في ذم هذا الإنسان وتحقيره، جعل كأنه إمام للشيطان والشيطان يتبعه، فهو على حد قول الشاعر:
وكان فتى من جند إبليس فارتقى
…
به الحال حتى صار إبليس من جنده
قال الجمل: أتبعه فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعد لواحد بمعنى أدركه ولحقه، وهو مبالغة في حقه حيث جعل إماما للشيطان.
وثانيهما: أن يكون متعديا لاثنين لأنه منقول بالهمزة من تبع، والمفعول الثاني محذوف تقديره: فأتبعه الشيطان خطواته، أى جعله تابعا لها:
وقوله وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها كلام مستأنف مسوق لبيان ما ذكر من الانسلاخ وما يتبعه.
والضمير في قوله لَرَفَعْناهُ يعود إلى الشخص المعبر عنه بالاسم الموصول الَّذِي والضمير في قوله بِها يعود إلى الآيات. ومفعول المشيئة محذوف.
أى: ولو شئنا رفعه بسبب تلك الآيات إلى درجات الكمال والعرفان لرفعناه لأننا
(1) تفسير المنار ج 9 ص 405.
لا يستعصى على قدرتنا شيء، ولكننا لم نفعل ذلك لأن سنتنا جرت أن نرفع من عنده الاستعداد لذلك أما الذين استحبوا العمى على الهدى فنذرهم في ضلالهم يعمهون.
وقد بين القرآن هذا المعنى في قوله: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ أخلد إلى الأرض: أى ركن إليها. وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود.
أى: ولو شئنا لرفعنا هذا الإنسان إلى منازل الأبرار بسبب تلك الآيات ولكنه هو الذي ركن إلى الدنيا، واطمأن بها، واستحوذت بشهواتها على نفسه، واختار لنفسه طريق التسفل المنافى للرفعة، واتبع هواه في ذلك فلم ينتفع بشيء من الآيات التي آتيناه إياه.
أى: أن مقتضى هذه الآيات أن ترفع صاحبها إلى أعلى عليين، ولكن هذا المقتضى عارضه مانع وهو إخلاد من أوتى هذه الآيات إلى الأرض واتباعه للهوى، فتغلب المانع على المقتضى، فهو كما قال القائل:
قالوا فلان عالم فاضل
…
فأكرموه مثلما يقتضى
فقلت: لما لم يكن عاملا
…
تعارض المانع والمقتضى
قال الآلوسى: وما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه- تعالى- ونسبة الانسلاخ والإخلاد إلى العبد، مع أن الكل من الله- تعالى-، إذ فيه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه. ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك» «1» .
وقوله فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ.
اللهث: إدلاع اللسان بالنفس الشديد. يقال: لهث الكلب يلهث- كسمع ومنع- لهثا ولهاثا، إذا أخرج لسانه في التنفس.
والمعنى: فمثل هذا الإنسان الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها وأصبح إيتاء الآيات وعدمها بالنسبة له سواء، مثله كمثل الكلب إن شددت عليه وأتبعته لهث، وإن تركته على حاله لهث- أيضا-، فهو دائم اللهث في الحالين. لأن اللهث طبيعة فيه، وكذلك حال الحريص على الدنيا، المعرض عن الآيات بعد إيتائها، إن وعظته فهو لإيثاره الدنيا على الآخرة لا يقبل الوعظ، وإن تركت وعظه فهو حريص- أيضا- على الدنيا وشهواتها.
والإشارة في قوله ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ إلى وصف الكلب أو إلى المنسلخ من الآيات، أى:
(1) تفسير الآلوسى ج 9 ص 114. [.....]
ذلك المثل البعيد الشأن في الغرابة مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا من الجاحدين المستكبرين المنسلخين عن الهدى بعد أن كان في حوزتهم.
وقوله فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أى: إذا ثبت ذلك، فاقصص على قومك أيها الرسول الكريم المقصوص عليك من جهتنا لعلهم يتفكرون فينزجرون عما هم عليه من الكفر والضلال.
والفاء في قوله فَاقْصُصِ لترتيب ما بعدها على ما قبلها. والقصص مصدر بمعنى اسم المفعول، واللام فيه للعهد، وجملة الترجي في محل نصب على أنها حال من ضمير المخاطب أو في موضع المفعول له. أى فاقصص القصص راجيا لتفكرهم، أو رجاء لتفكرهم.
وقوله: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا استئناف مسوق لبيان كمال قبحهم بعد البيان السابق. وساءَ بمعنى بئس وفاعلها مضمر. ومَثَلًا تمييز مفسر له، والمخصوص بالذم قوله- تعالى- الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا.
أى: ساء مثلا مثل أولئك القوم الذين كذبوا بآياتنا حيث شبهوا بالكلاب إما في استواء الحالتين في النقصان وأنهم ضالون وعظوا أم لم يوعظوا، وإما في الخسة، فإن الكلاب لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة، فمن خرج عن خير الهدى والعلم وأقبل على هواه صار شبيها بالكلب، وبئس المثل مثله ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«ليس لنا مثل السوء. العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه» .
وقوله وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ معطوف على كَذَّبُوا داخل معه في حكم الصلة بمعنى أنهم جمعوا بين أمرين قبيحين: التكذيب وظلمهم أنفسهم أو منقطع عنه بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم وحدها بارتكابهم تلك الموبقات والخطيئات. فإن العقوبة لا تقع إلا عليهم لا على غيرهم.
هذا، والذي ذهب إليه المحققون من العلماء أن هذه الآيات الكريمة المثل فيها مضروب لكل إنسان أوتى علما ببعض آيات الله، ولكنه لم يعمل بمقتضى علمه، بل كفر بها ونبذها وراء ظهره وصار هو والجاهل سواء.
وقيل: إن الآيات الكريمة واردة في شخص معين، واختلفوا في هذا المعين.
فبعضهم قال إنها في أمية بن أبى الصلت، فإنه كان قد قرأ الكتب، وعلم أن الله مرسل رسولا وتمنى أن يكون هو هذا الرسول، فلما أرسل الله- تعالى- نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم حسده ومات كافرا.