المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 93] - التفسير الوسيط لطنطاوي - جـ ٥

[محمد سيد طنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الخامس]

- ‌سورة الأنعام

- ‌تمهيد بين يدي السورة

- ‌1- متى نزلت سورة الأنعام

- ‌2- طبيعة الفترة التي نزلت فيها سورة الأنعام:

- ‌3- أين نزلت سورة الأنعام:

- ‌4-لماذا سميت بسورة الأنعام

- ‌5- مناسبتها لما قبلها:

- ‌6- عرض عام لسورة الأنعام:

- ‌7- من فضائل سورة الأنعام ومزاياها:

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 3]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 4 الى 6]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 7 الى 11]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 16]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 17 الى 21]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 22 الى 26]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 32]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 36]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 37 الى 39]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 45]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 49]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 50 الى 53]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 54 الى 56]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 57 الى 59]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 60 الى 64]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 65 الى 69]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 70 الى 73]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 79]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 80 الى 82]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 83 الى 90]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 91 الى 94]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 99]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 103]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 104 الى 110]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 113]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 114 الى 117]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 118 الى 122]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 123 الى 126]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 127 الى 130]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 131 الى 135]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 136 الى 140]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 144]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 145 الى 147]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 148 الى 150]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 154 الى 157]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 158 الى 160]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 161 الى 165]

- ‌تفسير سورة الأعراف

- ‌مقدّمه

- ‌تمهيد بين يدي السورة

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 9]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 10 الى 11]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 12]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 13]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 14 الى 18]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 19]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 20 الى 25]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 26]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 27]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 28]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 29 الى 30]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 31]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 32]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 33]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 34]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 36]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 37]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 38]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 39]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 41]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 42 الى 43]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 51]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 52 الى 53]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 54]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 57]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 58]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 64]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 72]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 79]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 87]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 93]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 102]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 126]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 127 الى 129]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 130 الى 137]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 141]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 142 الى 144]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 145]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 146 الى 147]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 153]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 154]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 156]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 157 الى 158]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 159]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 160 الى 162]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 163 الى 166]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 167 الى 168]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 169 الى 170]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 171]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 177]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 178 الى 179]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 180]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 181 الى 186]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 187 الى 188]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 190]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 191 الى 198]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 199]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 200 الى 202]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 203]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 204]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 205 الى 206]

- ‌فهرس إجمالى لتفسير سورة «الأنعام»

- ‌فهرس إجمالى لتفسير سورة «الأعراف»

الفصل: ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 93]

كانت متفشية فيهم، فيأمرهم بإيفائهم الكيل والميزان، وينهاهم عن بخس الناس أشياءهم وعن الإفساد في الأرض، وعن القعود في الطرقات لتخويف الناس وتهديدهم، وعن محاولة صرفهم عن طريق الحق، بإلقاء الشبهات، وإشاعة الأباطيل. مستعملا في وعظه التذكير بنعم الله تارة. وبنقمه من المكذبين تارة أخرى.

ولقد كان من المنتظر أن يتقبل قوم شعيب هذه المواعظ تقبلا حسنا، وأن يصدقوه فيما يبلغه عن ربه، ولكن المستكبرين منهم عموا وصموا عن الحق، واستمع إلى القرآن وهو يحكى موقفهم فيقول:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 93]

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَاّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92)

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)

أى: قال الأشراف المستكبرون من قوم شعيب له ردا على مواعظه لهم: والله لنخرجنك

ص: 323

يا شعيب أنت والذين آمنوا معك من قريتنا بغضا لكم، ودفعا لفتنتكم المترتبة على مساكنتنا ومجاورتنا، أو لتعودن وترجعن إلى ملتنا وما نؤمن به من تقاليد ورثناها عن آبائنا ومن المستحيل علينا تركها. فعليك يا شعيب أنت ومن معك أن تختاروا لأنفسكم أحد أمرين: الإخراج من قريتنا أو العودة إلى ملتنا.

هكذا قال المترفون المغرورون لشعيب وأتباعه باستعلاء وغلظة وغضب.

وجملة قالَ الْمَلَأُ إلخ. مستأنفة استئنافا بيانيا، كأنه قيل: فماذا كان رد قوم شعيب على نصائحه لهم؟ فكان الجواب: قال الملأ

إلخ.

وقد أكدوا قولهم بالجملة القسمية للمبالغة في إفهامه أنهم مصممون على تنفيذ ما يريدونه منه ومن أتباعه.

ونسبوا الإخراج إليه أولا وإلى أتباعه ثانيا، للتنبيه على أصالته في ذلك، وأن الذين معه إنما هم تبع له، فإذا ما خرج هو كان خروج غيره أسهل.

وجملة: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا معطوفة على جملة لَنُخْرِجَنَّكَ وهي- أى جملة أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا المقصود الأعظم عندهم، فهؤلاء المستكبرون يهمهم في المقام الأول أن يعود من فارق ملتهم وديانتهم إليها ثانية.

والتعبير بقولهم: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا يقتضى أن شعيبا ومن معه كانوا على ملتهم ثم خرجوا منها، وهذا محال بالنسبة لشعيب- عليه السلام فإن الأنبياء معصومون- حتى قبل النبوة- عن ارتكاب الكبائر فضلا عن الشرك.

وقد أجيب عن ذلك بأن المستكبرين قد قالوا ما قالوا من باب التغليب، لأنهم لما رأوا أن أتباعه كانوا من قبل ذلك على ملتهم ثم فارقوهم واتبعوا شعيبا، قالوا لهم: إما أن تخرجوا مع نبيكم الذي اتبعتموه وإما أن تعودوا إلى ملتنا التي سبق أن كنتم فيها، فأدرجوا شعيبا معهم في الأمر بالعودة إلى ملتهم من باب تغليبهم عليه هنا، هذا هو الجواب الذي ارتضاه كثير من العلماء وعلى رأسهم صاحب الكشاف، فقد قال: فإن قلت: كيف خاطبوا شعيبا عليه السلام بالعود في الكفر في قولهم: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا وكيف أجابهم بقوله: إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها والأنبياء- عليهم السلام لا يجوز عليهم من الصغائر إلا ما ليس فيه تنفير، فضلا عن الكبائر، فضلا عن الكفر؟ قلت: قالوا:

لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا فعطفوا على ضميره الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم قالوا: لتعودن فغلب الجماعة على الواحد، فجعلوهم عائدين جميعا، إجراء للكلام على حكم التغليب. وعلى ذلك أجرى شعيب- عليه السلام جوابه فقال:

ص: 324

إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وهو يريد عودة قومه، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئا من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب «1» .

هذا هو الجواب الذي اختاره الزمخشري وتبعه فيه بعض العلماء، وهناك أجوبة أخرى ذكرها المفسرون ومنها:

1-

أن هذا القول جار على ظنهم أنه كان في ملتهم، لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم.

2-

أنه صدر عن رؤسائهم تلبيسا على الناس وإيهاما لهم بأنه كان على دينهم وما صدر عن شعيب- عليه السلام كان على طريق المشاكلة.

3-

أن قولهم: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا بمعنى: أو لتصيرن، إذ كثيرا ما يرد «عاد» بمعنى «صار» فيعمل عمل كان. ولا يستدعى الرجوع إلى حالة سابقة، بل عكس ذلك، وهو الانتقال من حال سابقة إلى حال مؤتنفة، وكأنهم قالوا لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتصيرن كفارا مثلنا» .

قال الإمام الرازي: تقول العرب: قد عاد إلى فلان مكره، يريدون: قد صار منه المكر ابتداء.

وقال صاحب الانتصاف: إنه يسلم استعمال «العود» بمعنى الرجوع إلى أمر سابق، ويجاب عن ذلك بمثل الجواب عن قوله- تعالى-: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ. والإخراج يستدعى دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه. ونحن نعلم أن المؤمن الناشئ في الإيمان لم يدخل قط في ظلمة الكفر، ولا كان فيها. وكذلك الكافر الأصلى، لم يدخل قط في نور الإيمان ولا كان فيه، ولكن لما كان الإيمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله العبد متيسرا لكل واحد منهما متمكنا منه لو أراده، فعبر عن تمكن المؤمن من الكفر ثم عدوله إلى الإيمان، إخبارا بالإخراج من الظلمات إلى النور توفيقا من الله له، ولطفا به، وبالعكس في حق الكافر وفائدة اختياره في هذه المواضع، تحقيق التمكن والاختيار لإقامة حجة الله على عباده» «2» .

هذه بعض الأجوبة التي أجاب بها العلماء على قول قوم شعيب أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ولعل أرجحها هو الرأى الذي اختاره صاحب الكشاف «لبعده عن التكلف، واتساقه مع رد شعيب عليهم» . فقد قال لهم:

(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 129.

(2)

الانتصاف على الكشاف ج 2 ص 129.

ص: 325

أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ. أى: أتجبروننا على العودة إلى ملتكم حتى ولو كنا كارهين لها، لاعتقادنا أنها باطلة وقبيحة ومنافية للعقول السليمة والأخلاق المستقيمة لا. لن نعود إليها بأى حال من الأحوال. فالهمزة لإنكار الوقوع ونفيه، والتعجيب من أحوالهم الغريبة حيث جهلوا أن الدخول في العقائد اختياري محض ولا ينفع فيه الإجبار أو الإكراه.

ثم صارحهم برفضه التام لما يتوهمونه من العودة إلى ملتهم فقال: قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها.

أى: قد اختلقنا على الله- تعالى- أشنع أنواع الكذب إن عدنا في ملتكم الباطلة بعد إذ نجانا الله بهدايتنا إلى الدين الحق وتنزيهنا عن الإشراك به- سبحانه-.

قال صاحب المنار: وهذا كلام مستأنف لبيان أهم الأمرين بالرفض والكراهية، وهو إنشاء في صورة الخبر. فإما أن يكون تأكيدا قسميا لرفض دعوة الملأ إياهم إلى العودة في ملتهم، كما يقول القائل: برئت من الذمة إن فعلت كذا، فيكون مقابلة لقسمهم بقسم أعرق منه في التوكيد وإما أن يكون تعجبا خرج لا على مقتضى الظاهر، وأكد بقد والفعل الماضي، والمعنى ما أعظم افتراءنا على الله- تعالى- إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وهدانا إلى صراطه المستقيم» «1» .

ثم كرر هذا الرفض بأبلغ وجه فقال: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أى ما يصح لنا ولا يتأتى منا أن نعود في ملتكم الباطلة في حال من الأحوال أو في وقت من الأقوات إلا في حال أو في وقت مشيئة الله- المتصرف في جميع الشئون- عودتنا إليها، فهو وحده القادر على ذلك ولا يقدر عليه غيره لا أنتم ولا نحن، لأننا موقنون بأن ملتكم باطلة وملتنا هي الحق والموقن لا يستطيع إزالة يقينه ولا تغييره وإنما ذلك بيد مقلب القلوب، الذي وسع علمه كل شيء.

وهذا اللون من الأدب العالي، حكاه القرآن عن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- في مخاطبتهم، فأنت ترى أن شعيبا- عليه السلام مع ثقته المطلقة في أنه لن يعود هو وأتباعه إلى ملة الكفر أبدا، مع ذلك هو يفوض الأمر إلى الله تأدبا معه، فلا يجزم بمشيئته هو، بل يترك الأمر لله، فقد يكون في علمه سبحانه ما يخفى على البشر، مما تقتضيه حكمته وإرادته.

قال صاحب الانتصاف: «وموقع قوله: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة، والاطلاع على الأمور الغائبة، فإن العود إلى الكفر جائز في قدرة الله أن يقع من العبد: ولو وقع فبقدرة الله ومشيئته المغيبة عن خلقه. فالحذر قائم، والخوف لازم، ونظيره

(1) تفسير المنار ج 9 ص 5.

ص: 326

قول إبراهيم- عليه السلام «ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون» ، لما رد الأمر إلى المشيئة وهي مغيبة، مجد الله- تعالى- بالانفراد بعلم الغائبات» «1» .

ثم يترك شعيب- عليه السلام قومه وتهديدهم ووعيدهم، ويتوجه إلى الله بالاعتماد والدعاء فيقول: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ.

أى: على الله وحده وكلنا أمرنا، فهو الذي يكفينا أمر تهديدكم ووعيدكم، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، ربنا احكم بيننا وبين قومنا الذين ظلمونا بالحق وأنت خير الحاكمين، لخلو حكمك عن الجور والحيف.

فقوله: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا إظهار للعجز من جانب شعيب، وأنه في مواجهته لأولئك المستكبرين لا يعتمد إلا على الله وحده، ولا يأوى إلا إلى ركنه المكين، وحصنه الحصين.

والجملة الكريمة تفيد الحصر لتقديم المعمول فيها.

وقوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا إعراض عن مجادلتهم ومفاوضتهم بعد أن تبين له عنادهم وسفههم، وإقبال على الله- تعالى- بالتضرع والدعاء.

والفتح: أصله إزالة الأغلاق عن الشيء، واستعمل في الحكم، لما فيه من إزالة الأشكال في الأمر. ومنه قيل للحاكم: فاتح وفتاح لفتحه أغلاق الحق، وقيل للحكومة: الفتاحة- بضم الفاء وكسرها.

أخرج البيهقي عن ابن عباس قال: ما كنت أدرى قوله- تعالى-: رَبَّنَا افْتَحْ حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها وقد جرى بينها وبينه كلام: تعال أفاتحك، تريد أقاضيك وأحاكمك.

وقوله: بِالْحَقِّ بهذا القيد إظهارا للنصفة والعدالة.

والخلاصة أنك إذا تأملت في رد شعيب- عليه السلام على ما قاله المستكبرون من قومه، تراه يمثل أسمى ألوان الحكمة وحسن البيان، فهو يرد على وعيدهم وتهديدهم بالرفض التام لما يبغون، والبغض السافر لما يريدونه منه، ثم يكل الأمور كلها إلى الله، مظهرا الاعتماد عليه وحده، ثم يتجه إليه- سبحانه- بالدعاء متلمسا منه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق الذي مضت به سنته في التنازع بين المرسلين والكافرين، وبين سائر المحقين والمبطلين.

وهنا نلمح أن الملأ من قوم شعيب قد يئسوا من استمالة شعيب وأتباعه إلى ملتهم، فأخذوا

(1) الانتصاف على الكشاف لابن المنير ج 2 ص 130.

ص: 327

يحذرون الناس من السير في طريقه، ويحكى القرآن ذلك بأسلوبه الحكيم فيقول: وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ، لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ.

أى: قال الأشراف الكافرون من قوم شعيب لغيرهم: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ لشرفكم ومجدكم، بإيثار ملته على ملة آبائكم وأجدادكم، وخاسرون لثروتكم وربحكم المادي. لأن اتباعكم له سيحول بينكم وبين التطفيف في الكيل والميزان وهو مدار غناكم واتساع أموالكم.

وقولهم هذا يقصدون به تنفير الناس من دعوة شعيب، وتثبيطهم عن الإيمان به، وإغرائهم بالبقاء على عقائدهم الباطلة، وتقاليدهم البالية التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، فهم لم يكتفوا بضلالهم في أنفسهم، بل عملوا على إضلال غيرهم. وقولهم هذا معطوف على قوله- تعالى- فيما سبق: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ. وليس ردا على شعيب، لأنه لو كان كذلك لجاء مفصولا بدون عطف، وقد أكدوا قولهم بعدة مؤكدات منها اللام الموطئة للقسم، والجملة الاسمية المصدرة بإن. وذلك لكي يخدعوا السامعين بأنهم ما يريدون إلا خيرهم وعدم خسرانهم.

وحذف متعلق الخسران ليعم كل أنواعه الدينية والدنيوية.

قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أين جواب القسم الذي وطأته اللام في قوله: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ وجواب الشرط؟ قلت: قوله: إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ ساد مسد الجوابين» «1» .

وبعد هذه المحاورات والمجادلات التي دارت بين شعيب وقومه، جاءت الخاتمة التي حكاها القرآن في قوله: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ. أى: فأخذتهم الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم هامدين صرعى لا حراك بهم.

قال ابن كثير ما ملخصه: أخبر- سبحانه- هنا بأنهم أخذتهم الرجفة، كما أرجفوا شعيبا وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء، كما أخبر عنهم في سورة هود بأنهم أخذتهم الصيحة، والمناسبة هناك- والله أعلم- أنهم لما تهكموا به في قولهم: يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ فجاءت الصيحة فأسكتتهم. وقال في سورة الشعراء: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ فأخبر- سبحانه- أنهم أصابهم عذاب يوم الظلة، وقد اجتمع عليهم ذلك كله، أصابهم عذاب يوم الظلة. وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب، ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض

(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 131.

ص: 328

شديدة من أسفل منهم، فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام» «1» .

ثم يعقب القرآن على مصرعهم بالرد على قولتهم: إن من يتبع شعيبا خاسر، فيقرر على سبيل التهكم أن الخسران لم يكن من نصيب من اتبع شعيبا، وإنما الخسران كان من نصيب الذين خالفوه وكذبوه، فيقول: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ.

أى: الذين كذبوا شعيبا وتطاولوا عليه وهددوه وأتباعه بالإخراج من قريتهم، كأنهم عند ما حاقت بهم العقوبة لم يقيموا في ديارهم ناعمى البال، يظلهم العيش الرغيد، والغنى الظاهر.

يقال: غنى بالمكان يغنى، أقام به وعاش فيه في نعمة ورغد.

والجملة الكريمة استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا فكأن سائلا، قال: فكيف كان مصيرهم؟ فكان الجواب: الذين هددوا شعيبا ومن معه وأنذروهم بالإخراج كانت عاقبتهم أن هلكوا وحرموا من قريتهم حتى لكأنهم لم يقيموا بها، ولم يعيشوا فيها مطلقا، لأنه متى انقضى الشيء صار كأنه لم يكن.

والاسم الموصول الَّذِينَ مبتدأ، وخبره جملة كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا.

ثم أعاد القرآن الموصول وصلته لزيادة التقرير، وللإيذان بأن ما ذكر في حيز الصلة هو الذي استوجب العقوبتين فقال: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ.

أى: الذين كذبوا شعيبا وكفروا بدعوته كانوا هم الخاسرين دينيا ودنيويا، وليس الذين اتبعوه كما زعم أولئك المهلكون.

وبهذا القدر اكتفى القرآن عن التصريح بإنجائه هنا، وقد صرح بإنجائه في سورة هود فقال: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ.

قال صاحب الكشاف: وفي هذا الاستئناف والابتداء، وهذا التكرير، مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم، وتسفيه لرأيهم، واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم» .

وأخيرا تطوى السورة الكريمة صفحتهم مشيعة إياهم بالتبكيت والإهمال من رسولهم وأخيهم في النسب فتقول: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ.

الأسى: الحزن. وحقيقته اتباع الفائت بالغم. يقال: أسيت عليه- أسا، أى: حزنت عليه.

(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 232.

ص: 329

والمعنى فأعرض عنهم شعيب بعد أن أصابهم ما أصابهم من النقمة والعذاب وقال مقرعا إياهم يا قوم: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي التي أرسلنى بها إليكم من العقائد والأحكام والمواعظ وَنَصَحْتُ لَكُمْ بما فيه إصلاحكم وهدايتكم «فكيف أحزن على قوم كافرين» بذلت جهدي في سبيل هدايتهم ونجاتهم، ولكنهم كرهوا النصح، واستحبوا العمى على الهدى.

لا، لن آسى عليهم. ولن أحزن من أجل هلاكهم، لأنهم لا يستحقون ذلك.

وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا عن جانب من قصص نوح وهود، وصالح، ولوط، وشعيب مع أقوامهم. بعد أن بدأت بقصة آدم وإبليس وسنراها بعد قليل تحدثنا حديثا مستفيضا عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل.

ويلاحظ أن سورة الأعراف قد اتبعت في حديثها عن هؤلاء الرسل الكرام التسلسل التاريخى، وذلك لأهداف من أهمها:

1-

إبراز وحدة العقيدة في دعوة الأنبياء جميعا، فأنت رأيت أن كل رسول أتى قومه ليقول لهم: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، يقولها ثم يسوق لهم بأسلوبه الخاص أنصع الدلائل، وأقوى الحجج، وخير البراهين ومختلف وجوه الإرشاد، لكي يقنعهم بأنه صادق فيما يبلغه عن ربه.

2-

تصوير وحدة طبيعة الإيمان ووحدة طبيعة الكفر في نفوس الناس على مدار التاريخ، فالمؤمنون يلتفون حول رسولهم يصدقون قوله، ويتأسون به في كل أحواله ويدافعون عن عقيدتهم بقوة وشجاعة، والكافرون يستكبرون أن يرسل الله رسولا من البشر، ويأبون بدافع الحقد والعناد والتطاول الاستجابة لرجل منهم، ويلقون التهم جزافا لكي يصرفوا الناس عنه.

وهكذا نرى أن نفوس المؤمنين تتشابه في إخلاصها ونقائها وصفائها وحسن تقبلها للخير.

بينما نفوس الكافرين تتشابه- أيضا- في ظلامها وقسوتها وفجورها وسوء تقبلها للهداية.

3-

بيان العاقبة الطيبة التي انتهى إليها المؤمنون بسبب إيمانهم وصبرهم وعملهم الطيب، والعاقبة السيئة التي حاقت بالكافرين المستكبرين، بسبب إعراضهم عن الحق، واستهزائهم بأصحابه، فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.

وبعد هذا الحديث الزاخر بالعظات والعبر عن بعض الأنبياء مع أقوامهم تمضى السورة الكريمة في سرد هداياتها، فتسوق للناس ألوانا من سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل، لعل قلوبهم

ص: 330