الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 113]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَاّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
والمعنى: ولو أننا يا محمد لم نقتصر على إيتاء ما اقترحه هؤلاء المشركون من آيات كونية، بل أضفنا إلى ذلك أننا نزلنا عليهم الملائكة يشهدون بصدقك وأحيينا لهم الموتى فشهدوا بحقيقة الإيمان، وزدنا على ذلك فجمعنا لهم جميع الخلائق مقابلة ومعاينة حتى يواجهوهم بأنك على الحق، لو أننا فعلنا كل ذلك ما استقام لهم الإيمان لسوء استعدادهم وفساد فطرهم، وانطماس بصيرتهم، فإن قوما يمرون على تلك الآيات الكونية التي زخر بها هذا الكون والتي استعرضتها هذه السورة فلا تتفتح لها بصائرهم، ولا تتحرك لها مشاعرهم، ليسوا على استعداد لأن يخالط الإيمان شغاف قلوبهم، والذي ينقصهم إنما هو القلب الحي الذي يتلقى ويتأثر ويستجيب وليس الآيات التي يقترحونها فإن أمامهم الكثير منها، واقترحاتهم إنما هي نوع من العبث السخيف، والتعنت المرذول الذي لا يستحق أن يهتم به.
وقُبُلًا- بضم القاف والباء- حال من «كل شيء» وفيه أوجه:
الأول: أنه جمع قبيل بمعنى كفيل مثل قليب وقلب، أى: وحشرنا عليهم كل شيء من المخلوقات ليكونوا كفلاء بصدقك.
والثاني: أنه مفرد كقبل الإنسان ودبره فيكون معناه المواجهة والمعاينة ومنه آتيك قبلا لا دبرا أى آتيك من قبل وجهك والمعنى. وحشرنا عليهم كل شيء مواجهة وعيانا ليشهدوا بأنك على الحق.
والثالث: أن يكون قبلا جمع قبيل لكن بمعنى جماعة جماعة أو صنفا صنفا والمعنى: وحشرنا
عليهم كل شيء فوجا فوجا ونوعا نوعا من سائر المخلوقات ليشهدوا بصدقك.
وجملة ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ جواب لو.
أى: لو فعلنا لهم كل ذلك ما كانوا ليؤمنوا في حال من الأحوال بسبب غلوهم في التمرد والعصيان، إلا في حال مشيئة الله إيمانهم فيؤمنوا، لأنه- سبحانه- هو القادر على كل شيء.
وقوله وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ.
أى: ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أنهم لو أوتوا كل آية لم يؤمنوا فهم لذلك يحلفون الأيمان المغلظة بأنهم لو جاءتهم آية ليؤمنن بها. أو يجهلون أن الإيمان بمشيئة الله لا بخوارق العادات.
وقيل الضمير يعود على المؤمنين فيكون المعنى. ولكن أكثر المؤمنين يجهلون عدم إيمان أولئك المشركين عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئة الله- تعالى- لإيمانهم، فيتمنون مجيء الآيات طمعا في إيمانهم.
قال الشيخ القاسمى: في قوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ حجة واضحة على المعتزلة لدلالته على أن جميع الأشياء بمشيئة الله- تعالى- حتى الإيمان والكفر. وقد اتفق سلف هذه الأمة وحملة شريعتها على أنه «ما شاء الله كان وما لم يشأ لهم يكن» . والمعتزلة يقولون «إلا أن يشاء الله مشيئة قسر وإكراه» «1» .
ثم سلى الله- تعالى- نبيه عن تعنت المشركين وتماديهم في الباطل ببيان أن كل نبي كان له أعداء يسيئون إليه ويقفون عقبة في طريق دعوته فقال:
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.
والمعنى: ومثل ما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعاندونك جعلنا لكل نبي من قبلك- أيضا- أعداء، فلا يحزنك ذلك، قال- تعالى- ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ
«2» .
وقال- تعالى- وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً «3» .
والمراد بشياطين الإنس والجن، والمردة من النوعين. والشيطان: كل عات متمرد من الإنس والجن.
(1) تفسير للقاسمى ج 7 ص 2471.
(2)
سورة فصلت الآية 43.
(3)
سورة الفرقان الآية: 31.
وجملة وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا إلخ مستأنفة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما يشاهده من عداوة قريش له، والكاف في محل نصب على أنها نعت لمصدر مؤكد لما بعده.
وجعل ينصب مفعولين أولهما عَدُوًّا وثانيهما لِكُلِّ نَبِيٍّ وشَياطِينَ بدل من المفعول الأول، وبعضهم أعرب شَياطِينَ مفعولا أولا وعَدُوًّا مفعولا ثانيا، ولِكُلِّ نَبِيٍّ حالا من عَدُوًّا.
وقوله: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً.
الوحى: الإعلام بالأشياء من طريق خفى دقيق سريع. زخرف القول: باطله الذي زين وموه بالكذب. وأصل الزخرف. الزينة المزوقة، ومنه قيل للذهب: زخرف، ولكل شيء حسن مموه: زخرف.
والغرور: الخداع والأخذ على غرة وغفلة.
والمعنى: يلقى بعضهم إلى بعض بطرق خفية دقيقة القول المزين المموه الذي حسن ظاهره وقبح باطنه لكي يخدعوا به الضعفاء ويصرفونهم عن الحق إلى الباطل.
والجملة مستأنفة لبيان إحكام عداوتهم، أو حال من الشياطين وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أتباعه أن يستعيذوا بالله من شياطين الإنس والجن، فعن أبى ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس. قد أطال فيه الجلوس فقال: «يا أبا ذر هل صليت؟ قلت: لا يا رسول الله. قال: قم فاركع ركعتين قال: ثم جئت فجلست إليه فقال: يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس؟ قال: قلت لا يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم، هم شر من شياطين الجن» .
وقد ساق الإمام ابن كثير عدة روايات عن أبى ذر في هذا المعنى، ثم قال في نهايتها: فهذه طرق لهذا الحديث ومجموعها يفيد قوته وصحته» «1» .
وقوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ.
أى: ولو شاء ربك ألا يفعل هؤلاء الشياطين ما فعلوه من معاداة الأنبياء ومن الإيحاء بالقول الباطل لتم له ذلك، لأنه- سبحانه- هو صاحب المشيئة النافذة، والإرادة التامة ولكنه- سبحانه- لم يشأ أن يجبرهم على خلاف ما زينته لهم أهواؤهم باختيارهم، لكي يميز الله
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 166.
الخبيث من الطيب. فدعهم يا محمد وما يفترون من الكفر وغيره من ألوان الشرور، فسوف يعلمون سوء عاقبتهم.
وقوله: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. معطوف على غُرُوراً فيكون علة أخرى للإيحاء، والضمير في إِلَيْهِ يعود إلى زخرف القول.
وأصل الصغو: الميل. يقال: صغا يصغو ويصغى صغوا، وصغى يصغى صغا أى: مال، وأصغى إليه مال إليه يسمعه، وأصغى الإناء: أماله. ويقال: صغت الشمس والنجوم صغوا: مالت إلى الغروب.
والمعنى: يوحى بعضهم إلى بعضهم زخرف القول ليغروا به الضعفاء، ولتميل إلى هذا الزخرف الباطل من القول قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة لموافقته لأهوائهم وشهواتهم.
وخص عدم إيمانهم بالآخرة بالذكر- مع أنهم لا يؤمنون بأمور أخرى يجب الإيمان بها- لأن من لم يؤمن بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب يمشى دائما وراء شهواته وأهوائه ولا يتبع إلا زخرف القول وباطله.
ثم بين- سبحانه- تدرجهم السيئ في هذا العمل الأثيم فقال: وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ.
أى: وليرضوا هذا الفعل الخبيث لأنفسهم بعد أن مالت إليه قلوبهم، وليقترفوا ما هم مقترفون أى: وليكتسبوا ما هم مكتسبون من الأعمال السيئة فإن الله- تعالى- سيجازيهم عليها بما يستحقونه.
وأصل القرف والاقتراف. قشر اللحاء عن الشجر، والجلدة عن الجرح. واستعير الاقتراف للاكتساب مطلقا ولكنه في الإساءة أكثر. فيقال: قرفته بكذا إذا عبته واتهمته.
قال أبو حيان: وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة، لأنه أولا يكون الخداع، فيكون الميل، فيكون الرضا، فيكون الاقتراف، فكل واحد مسبب عما قبله «1» .
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصارح المشركين بأن الله وحده هو الحكم الحق، وإن كتابه هو الآية الكبرى الدالة على صدقه فيما يبلغه عنه فقال- تعالى-:
(1) تفسير أبى حيان ج 4 ص 408.